قصة حياة : مذكرات الشيخ محمد الغزالى


تقديم : محمد جلال لاشين
 
"قصة حياة " للشيخ محمد الغزالى .. هو كتاب ذاع اسمه ولم يُعرف له أثر ، اشتهر بين الباحثين والمثقفين ولم يحظى باهتمام الناشرين ، إلا ماكان من المعهد العالمى للفكر الإسلامي من جهد فى نشره بمجلة ( إسلامية المعرفة ) العدد 7 للسنة الثانية ، بعنوان " قصة حياة .. مقتطفات من مذكرات الشيخ محمد الغزالى " (1) ، لعل هذه المقتطفات هى مسودة الكتاب المذكور الذى شرع الشيخ فى كتابته ، ثم شغلته هموم أمته وأولويات الوقت عن إتمامه ، فدفع بما أنجز منه إلى المعهد العالمى لينشره ريثما تزول الصوارف وتنتهى الشواغل ، ولم يزل مشغولا حتى عاجله القدر بماحال دون إكماله ، وربما لو طال به العمر لجعل منه سفرا حافلا بالرواية المميزة ، والنظرة التحليلية الثاقبة ، وكان شهادة هامة على أحداث تاريخية عظيمة الخطر مرت بأمتنا ..
جاءت عناوين الكتاب فى سبعة وثلاثين عنصرا هى :
1- ذكريات طفولة 2- حياة الكُتَّاب 3- التعليم الابتدائي 4- تعليم ديني ومدني 5- اضطرابات سياسية 6- عقبات 7- في المرحلة الثانوية 8- تساؤل 9- حادث طريف 10- دراسة الإسلام في أوربا 11- الدراسة الأزهرية القديمة 12- صلتنا بالمدرسين 13- رسالة من المرشد 14- طبائع بيئات 15- طلب مرفوض 16- بعض صفاتي 17- عذر مقبول 18- دعوة مستجابة 19- حول منهج الدراسة 20- البحث عن وظيفة...؟ 21- اكتشاف مهم 22- قصة مضحكة 23- زواج سعيد 24- ونهاية! 25- حال المسلمين يومئذ 26- محاولة فاشلة 27- الديمقراطية 28- الأنظمة العالمية 29- راحة الكادح الصبور 30- واعظ إخوانى 31 - الانتفاع بالحريات الديمقراطية 32- الأحوال السياسية وجماعة الإخوان المسلمين 33- نقاش حول الدساتير 34- انقلاب على الأوقاف 35- منهجي في الدعوة 36- مع الاتحاد الاشتراكي 37- مع أنور السادات
سنحاول نشر هذه العناوين السبعة والثلاثين ، تقديرا لقيمتها ، ووفاءً لصاحبها , وقياما ببعض حقه علينا .. رحم الله الشيخ الأديب ، ورفع ذكره فى العالمين ،، وسلام عليه فى الخالدين .
 
 
|■--ذكريات طفولة --■|
لا يُسأل أحدنا لِمَ في زمان كذا، أو في مكان كذا؟ فهذا قدر سابق لا خيرة لنا فيه وإنما لفت نظري أني برزت إلى الدنيا في كبوة من تاريخ الإسلام، وأيام كئيبة كان الإنجليز فيها يحتلون مصر، كما احتلوا أقطاراً فيحاء من أرض الإسلام الجريح!!
ومع الهزائم المرَّة التي أحرجت الآباء والأولاد، فإن المقاومة الشعبية كانت عامة. ورَفْض الاستسلام للغاصب الكفور كان يعمّ الأرجاء.
وأذكر أن قريتي الصغيرة "تكلا العنب -محافظة البحيرة" شاركت في الثورة العامة ضد الإنجليز، وقطعت أسلاك الهاتف وأعلنت التمرّد!
وجاءت فرقة من جيش الاحتلال وعسكرت أمام أحد المساجد واستخفى الناس في البيوت، وقتل أحد الفلاحين الذين لم يلتزموا بتعليمات منع التجول...
وقد علق بذاكرتي ما حدث في ذلك اليوم، وكانت أمي تحملني على ذراعها ونحن ننظر إلى الجيش الزاحف –من فوق سطح بعيد- أظنني يومئذ في الثالثة من عمري، فقد ولدت ف ي22 سبتمبر 1917، وكانت هذه الثورة سنة 1920 للميلاد!
هل يعني ذلك السَّرد أن ذاكرتي حسنة؟ إنني أبادر بالنفي! فإنني قد أنسى ما عرفته منذ دقائق ، وفي الوقت نفسه أذكر أموراً مرّت عليها عشرات السنين...
سألني مدرس النحو وأنا طالب في المرحلة الابتدائية : أعرب يا ولد "رأيت الله أكبر كل شيء"، فقلت على عجل: رأيت فعل وفاعل، والله منصوب على التعظيم!
وحدثت ضجة من الطلبة، ونظرت مذعوراً إلى الأستاذ ، فرأيت عينيه تذرفان!!
كان الرجل من القلوب الخاشعة، وقد هزّه أني التزمت الاحترام مع لفظ الجلالة - كما علموني - فلم أقل إنه مفعول أول ، ودمعت عيناه تأدُّباً مع الله!
كان ذلك من ستين سنة أو يزيد... رحمه الله وأجزل مثوبته!
إن هناك أشياء تفرض نفسها على ذاكرتي ، ولو اختلف الليل والنهار، وأخرى تقرع الباب فلا يؤذن لها فتمر كأن لم تكن ...
والقرن الذي ولدتُ فيه من أسوأ القرون التي مرّت بديننا الحنيف! لم أبلغ سبع سنين حتى كان المرتدّ التركي مصطفى كمال قد رمى "بالخلافة الإسلامية" في البحر! نعم كانت شبحاً لا روح له ، بيد أن هذا الشبح كان مفزعاً لأعداء الإسلام ، وإذا كان مُغمى عليه تحت هوِيّ المطارق على أم رأسه ، فمن يدري؟ قد يستيقظ فجأة ويستأنف نشاطه المخوف ، فموته أجدى على أعداء الإسلام...
وعندما كبرت وقرأت لم أشعر بالخزي لهذا الظروف التي اكتنفت ميلادي!
لقد رأيت ابن تيمية يولد وينمو في ظروف مشابهة ، فقد برز إلى الحياة مع سقوط الخلافة العباسية ، وكانت أمواج الغزو التتاري تتدافع بعنف ، وترغمه هو وأسرته على الفرار من بلد إلى بلد، والسير في طريق مليئة بصرعى الفتك والضياع والهزائم المتتابعة.
إن الشعوب الإسلامية تجني المصائب من تفريط الحكام وإضاعتهم لأمانات الله التي طوّقت أعناقهم، ما ذنبنا نحن الأطفال، وما ذنب آبائنا الذين يحبون الإسلام ويفتدونه بالنفس والنفيس؟
أشهد أن أبي رحمه الله، كان عابداً قوّاماً ومكافحاً جلداً، وقد سماني محمد الغزالي لأن أبا حامد رضي الله عنه أوصاه بذلك في رؤيا صالحة رآها وهو أعزب...
وعندما ولدت شرع يهتمُّ بي ، فما بلغت الخامسة حتى كنت في الكُتّاب ، أحفظ القرآن مع غيري من الصبية ، ولما كان هو من الحفاظ ، فقد تعاون مع فقهاء الكتاب على ألا أضيع سدى، يجب أن أستظهر القرآن الكريم في أقصر مدة!
 
|■--حياة الكتّاب --■|
لم أكن بليداً ولا نابغاً ، كنت متوسط الذكاء ، ضئيل الجسم ، قصير القامةَ وكان وقع العصا على جلدي رهيباً عندما أخطئ ، وربما أكرهتني الهيبة على التلعثم ، فإذا ارتفعت العصا أسرعتُ إلى استعادة وَعْيي وتابعت القراءة ، بعدما انتهوا من مرحلة الكتابة.
وعلى بعد مائة ذراع تسمع هدير التلاوة، تقطعه بين الحين والحين استغاثة مضروب لم يحسن الأداء، يتوجع من لذع العصا...
والآباء يوصون المعلمين بألا تأخذهم شفقة في التعليم والتأديب، فعصى الفقيه من الجنة كما يقولون...!
سألت نفسي بعدما كبرت سني عن جدوى هذه الطريقة، ولم أنته إلى إجابة حاسمة‍!
هناك من رفضها بحجة أن شحن أذهان الأولاد غير مفهومة يعطل نموهم العقلي...!
ولكني رأيت هؤلاء يشحنون عقول الأطفال بخيالات مجنونة لا أصل لها ولا جدوى منها، عن طريق الحكايات الخرافية المصورة في "التلفاز" أو المروية بوسائل الإعلام الأخرى.
قلت: لأن أملأ الذاكرة بشيء أستفيد منه في المستقبل خير من ملء الدماغ بأوهام الصور المتحركة، والأقاصيص السخيفة...
ومع هذا الرد فإن الاعتراض بقي قائما، هل يستفيد القرآن نفسه من هذه الأشرطة التي استوعبت ألفاظه، وحفظت آياته في الصدور؟ حفظاً لا تدبّر معه ولا فقه فيه؟
ربما قيل: بقي القرآن متواتراَ على حين ضاعت كتب سماوية أخرى!
وذلك حق! فإن ضمانات الخلود توفرت لهذا القرآن العظيم فما ضاع منه حرف، غير أن ذلك لا يقصد لذاته، فبقاء المبنى إنما هو من أجل حياة المعنى، وازدهاره، والعمل به، وإقامة حضارة على دعائمه، والإمساك بالألفاظ لا يحقق هذه الغايات العظام...
إن نظام الكُتّاب قد تلاشى تقريبا، وحلّت محلّه مدارس للقرآن فيها وجود يشبه العدم! وتكاد التربية الإسلامية والعربية عندنا تجف ينابيعها...!
ووَدِدْتُ لو انعقدت مؤتمرات دائمة لاستبقاء محاسن الكُتّاب واستبعاد مساوئه ووضع سياسة جديدة لربط الأجيال الناشئة بأصولها وقيمها...
بقيتُ في الكُتّاب إلى سنِّ العاشرة، فأتمَمْتُ حفظ الكتاب العزيز، وعرفت مبادئ الحساب، وشيئاً قليلاً من قواعد الإملاء، ورأى أبي أن يقدم على مرحلة تُعَدُّ عصبية بالنسبة له، لكنها مهمة بالنسبة لي!
 
|■--التعليم الابتدائي --■|
يجب أن يلحقني بالمعهد الأزهري المخصص في هذا العصر لمحافظة البحيرة، وكان ذلك المعهد في مدينة الإسكندرية...
وطفل في العاشرة من عمره لا يقدر أن يعيش وحده، لا بد إذن أن تنتقل الأسرة معه، فباع دكانه الذي يرتزق منه، واشترى في الإسكندرية مكتبة بحيّ "كرموز" كانت تبيع الأوراق والكراريس، والروايات المترجمة، والكتب المدرسية والعلمية، والقصص الشعبية، والأسفار الدينية المختلفة.
ونقل الأسرة التي أصبحت تضم معي شخصين آخرين غير من ماتوا واستقبل مرحلة شاقة من مراحل السعي واللغوب!
لم أكن يومئذ مغارم هذا التحول من القرية الهادئة إلى المدينة المائجة، ويظهر أن أبي واجه أزمات وضوائق فلم ينهزم، وخفّف عنه آلام الحياة أني نجحت في امتحان القبول، الذي عقدته مشيخة معهد الإسكندرية الديني، وكان الناجحون نحو مائتي طالب، كُلّفوا بارتداء العمامة والجبَّة المقررة.
ويظهر أن منظري وأنا في هذه السن الصغيرة كان مثيراً للضحك! مما جعلني أتنكر لهذا الزي المفروض أمداً طويلاً...
أصبحت الشيخ محمد وأنا لم أبلغ الحلم! كنت أحب اللعب ولكن كيف يلعب شيخ؟ وكنت كثير الضحك وجزائي على ذلك طول الزجر والتوبيخ...
وتطلعت إلى المكتبة التي نرتزق منها وكنت منهوماً بالقراءة، فتركني أبي أقرأ، وإن كان قد لاحظ في أسف أني آبى القراءة في الكتب الدينية، وأوثر مطالعة الرِّوايات الأجنبية، وربما فضلت قراءة ألف ليلة على ما يختار لي هو من كتب...
عرفت بعد ما كبرت أن هذه الكتب مليئة بالأحاديث الموضوعة والواهية والخرافات العلمية، ولكن الناس كانوا مقبلين عليها، مثل: دقائق الأخبار في ذكر الجنة والنار، والروض الفائق في الوعظ والرقائق، وتنبيه الغافلين، وقصص الأنبياء، والخمرة الإلهية، والفتوحات المكية...إلخ.
لقد كانت الثقافة الإسلامية –وما زالت- حافلة بالسموم والمخدرات، والحاجة ماسة إلى غربلتها ونفي الأقذاء عنها.
دخلت المرحلة الابتدائية من التعليم الأزهري مع بدايات الحادية عشر من عمري، وكان ذلك عام 1928 للميلاد، وأشعر الآن أن العقد الأول من حياتي تضمن خيراً كثيراً، يكفي أني حفظت فيه القرآن، وتهيأت لدراسة يصبو إليها الكثيرون.
وكان بطل هذه المرحلة أباً وهب ابنه لله على حدِّ التعبير الشائع! وباع ما يملك ليصلني بدراسة تخدم الإسلام، وكان الأزهر يومئذ حصن الدين واللغة، بل كان موقفه من الاحتلال الإنجليزي صورة لموقفه من الاحتلال الفرنسوي، كان قذى في عيون المستعمرين وكهفا للأحرار والمجاهدين.
 
|■--تعليم ديني ومدني --■|
دخلت معهد الإسكندرية الديني لأقضي فيه تسع سنين من أغلى أيام العمر، كانت الدراسة وفق نظام اليوم الكامل تبدأ صباحاً وتنتهي في الأصيل، وهي دراسة حسنة لا يجوز وصفها بأنها دينية خالصة، فإن العلوم المدنية كانت لها أنصبة محترمة، ولم يكن مستوانا فيها دون مستوى أندادنا من طلاب التعليم العام، إلا في اللغات الأجنبية فقد حرمنا منها، وكنا نستطيع - لو قررت علينا - أن ننجح فيها...
والمنهج الذي ارتبطنا به كان من وضع الشيخ محمد مصطفى المراغي، وهو من مدرسة الشيخ محمد عبده الإصلاحية، ولذلك لم يبق طويلاً حتى عصف القصر الملكي به، وأتى بالشيخ الأحمدي الظواهري.
وقد نفذ الشيخ الجديد برنامج سلفه بدقة، وأعتقد أن هذه الفترة من أزهى فترات التألق العلمي في الأزهر، لأن دراسة الطبيعة والكيمياء والأحياء وعلوم الحساب والجبر والهندسة، والتوسع في دراسة التاريخ المحلي والإسلامي والعالمي، ودراسة جغرافية العالم كله... إن هذا كله يصقل فكر الطالب ويعينه على تكوين حكم صائب، بل إن الحقائق الشرعية لا تفهم على واقعها الصحيح إلا بهذه المعرفة...
وقد رأيت ناساً من المشتغلين بالدين وعلومه، قرؤوا بعض المتون والمؤلفات القديمة، ثم أخذوا باسم الإسلام يُكذبّون غزو الفضاء والوصول إلى القمر، بل يكذبون كروية الأرض ودورانها، ولهم في هذا تبجح منكر!
ذلك مبلغهم من العلم!
وكانت الدراسة في معهدنا نصف داخلية، أُعِدَّت غرف فسيحة للنوم، ويُصرَف للطالب نحو ثلاثين قرشاً في الشهر يستعين بها على طعامه اليومي. وقد نفعني هذا أكبر النفع، عندما اضطربت أحوال أبي الاقتصادية، وقارب الإفلاس، واضطر بعد أربع سنين أن يعود إلى القرية من حيث جاء...
وثلاثون قرشاً ليست يوم ذاك شيئاً تافها، فإن القرش الواحد كان يشتري عشر بيضات تساوي في عصرنا الآن مائة وخمسين قرشاً...
وهذا الإنفاق كان من أوقاف المسلمين!
لقد عرفت سرّ حرص الاستعمار على إلغاء الوقف الخيري، وترك جهات البر لا مورد لها، ولأدع هذا الحديث الآن إلى وصف حياتي في المعهد...
إنني منذ نعومة أظافري أهتم بالأحوال العامة، وأكترث للمبادئ التي يعتمد عليها الحكم، وأتعشق الحرية والعزة، وأكاد أذوب إذا تورَّطت فيما يعاب، وأصادق بإخلاص، وأعادي الخصوم بنـزاهة، وأتطلع إلى الصدارة وأبذل ثمنها بطيب نفس!
 
|■--اضطرابات سياسية --■|
ولما كنت يافعاً تولّى إسماعيل صدقي باشا الحكم، فألغى الدستور القائم، وجاء بدستور آخر، وقبل ذلك كان محمد محمود باشا قد عطل الدستور مؤقتاً ومهّد للضربة القادمة...
وكانت الأمة كلها ضد هذه التصرفات، وترى أن القصر وأحزابه يعملون لمصلحة إنجلترا ضد جمهرة الشعب المصري، وكان الطلاب المصريون يقودون حركة تمرُّد لا آخر لها... فلم يكن عجباً أن يشارك معهدنا في هذه الثورات، ولم يكن مستغرباً أن أكون بين قادتها.
وقد دفعت ثمن ذلك غاليا، قٌدّتُ إحدى المظاهرات العنيفة، وحُقّق معي ثم أفرجت النيابة عني بكفالة مالية قدرها جنيهان، دفعها أبي وهو يلهث من الإعياء. ومضت القضية في طريقها العتيد، وما كنت أدري ما يفعل بي لولا أن قانوناً بالعفو العام شملها فيما شمل من أمثالها، ونجوت من السجن.
وقُدت أخرى داخل المعهد، وبعد التحقيق رُئي فصلي سنة من الدراسة، أو بعبارة أخرى رئي منعي من دخول امتحان آخر العام، وكنت في السنة الثانية الثانوية، فعزَّ عليَّ أن أتخلف سنة عن زملائي فتركت الدراسة نهائياً وانفصلت من المعهد، وقلت: أتقدم لامتحان "الشهادة الثانوية –القسم الأول" من الخارج.
وكانت مغامرة لا يقدم عليها أحد! ورأيت أبي –رحمه الله- يكاد يقتله الحزن لخيبة أمله في مستقبلي، وفي الرؤيا التي سيطرت عليه.
 
|■--عقبات --■|
غير أن علّة فادحة دهمتني سقطت بعدها طريح الفراش ثلاثة شهور، وانفتحت في جسدي عدة خرّاجات قاتلة، وكنت خلال هذه الشهور في عالم آخر، واتجهت الظنون إلى أني مائت لا محالة، وترقب أهل القرية بين الحين والحين نعيي! وعلمت بعد ما دخلت في مرحلة الشفاء أن تموين البيت كله بيع في تمريضي! وأن الأب الجلد المؤمن لم يدخر وسعاً في علاجي لأصح، ماذا أفعل؟ نهضت من هذا المرض جلداً على عظم، وأرسلت لأصدقائي في المعهد أن يبعثوا إلي بالكراسات التي يكتبون فيها مسائل الرياضة، وبعض الكتب المقررة، وكانوا عند حسن الظن، فأنجدوني بما يعينني على المذاكرة...
كان علي أن أستعد للامتحان في نحو عشرين علما، هي المقررات الرسمية للسنوات الأولى والثانية والثالثة الثانوية، وذلك وفق ما يقضي به قانون الذين يُمتحنون من منازلهم!
كان زملائي يحضرون في معمل الطبيعة والكيمياء، وكانوا يسمعون المدرس وهو يشرح الجبر والحساب والهندسة، أما أنا فكنت ممدداً على عيدان الذرة الجافة فوق سطح دارنا، أقرأ وأعاني وأستعين بالله!
إن حالتي في المعهد كانت عادية، كنت سباقاً في علوم اللغة والأدب فقط، أما في الفقه والتفسير وغيرهما فقد كان نفوري شديداً من كتب نور الإيضاح، ومتن القدوري، ومجمع الأنهر على ملتقى الأبحر، التي كانت تقدم لنا الفقه الحنفي ، كما كنت ضائقاً بتفسير النسفي وأبي السعود وغيرهما...
لا بد مما ليس منه بد! وبعد عام من فصلي ذهبت مرة أخرى إلى المعهد متقدماً من الخارج في امتحان صعب، وكان زملائي يرثون لحالي، ولكنهم لا يحبون أن يجرحوا كبريائي، فيسكتون مشفقين...
لا أدري كيف أديت الامتحان بهدوء! وكرهت أن أعود إلى أبي أنتظر النتيجة في جواره! وعشت في مساكن المعهد حتى تم إعلان النتيجة، وكانت المفاجأة: نجحت في هذا الامتحان الصعب، بل كنت من الأوائل في القطر كله والأول في معهد الإسكندرية...
وأحسست داخل نفسي أن هذه ليست مهارتي، بل كانت دعوات أبي المؤمن المتوكل الصبور!
 
|■--في المرحلة الثانوية --■|
واستأنفت الدراسة مع زملائي ملتحقاً بالسنة الرابعة، فلم يضع من عمري ما كان مفروضاً أن يضيع، وعندما راجعت نفسي لم أكن أشعر بأني أخطأت. لقد أديت واجبي، وانسقت مع عاطفة شريفة، إنني كنت أحارب الاستبداد، وأخدم أمتي وبلادي! بيد أن ذلك الشعور كان يصحبه شعور آخر بالألم الفادح الذي نالني ونال أسرتي معي، وانضم إلى ذلك إدراك بأني كنت غارقاً حتماً لولا القد الذي حنا علينا وانتشلني من اللجَّة!
نعم لقد مرت بي لحظات استوحشت فيه من كل شيء، واستبان لي عجز الخلائق أجمعين، ولم يأخذ بيدي إلا الواحد القهار.
وازدادت أزمات أبي، فأخذت أدَرِّس لبعض الأطفال نظير أجر تافه، وأحتال على البقاء في المعهد بما أتكسبه من قريشات قليلة... حتى أحرزت الشهادة الثانوية الأخيرة.
إن هذه الشهادة كانت تمثل آخر تطبيق للنظام الإصلاحي الذي وضعه رجل تتلمذ على الشيخ محمد عبده، وكانت فرقتنا آخر من حصل على هذا النوع من الشهادات، وعُدّلت البرامج بعد ذلك تعديلاً حذف كثيراً من المواد الرياضية والعلمية والإنسانية العظيمة النفق.
وكنا نتحدث فيما بيننا أن الشيخ المراغي سئم تكاليف الجهاد العلمي وآثر الراحة بالتعاون مع الأحزاب المتعاونة مع القصر، وترك الأزهر حبله على غاربه، فأخذ التعليم الديني ينحدر رويداً رويداً...

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)