كان المسرح وما يزال هو النقطة التي يبدأ منها، عادة، انطلاق الشرارة نحو الثقافة والتطور والمساعدة في تطوير المجتمعات، والوصول إلى حال أفضل. وعلى مر الأزمان خضع للتحوير والتشكيل سواء كان ذلك في شكل خشبته، أم في شكل العروض التي تمثل داخله، بل إن دور التمثيل نفسها كانت موضعاً للتغيير والتبديل، فقدم الأدب المسرحي في الميادين، وخارج المعابد، وداخل الكنائس، ومرّ بمراحل كثيرة حتى أقيمت له دور التمثيل الحالية.
نشأت الدراما، أي المسرحية، من الاحتفالات والأعياد "الديونيزية" Dionysus، ومن الطقوس والرقصات والأناشيد التي كانت تُنشد، ومن المواكب التي كان يقيمها اليونانيون القدامى، وكان المكان المُعد لتلك الحفلات يسمى مسرحاً.
المسرحية، أو الدراما العالمية الحالية، وهذا المسرح الجماعي الذي نعيش فيه من الرقص البدائي إلى التمثيلية الحديثة التي تشبه العرض الصحفي، ومن الطقوس الدينية إلى التمثيل الدنيوي، ومن المأساة اليونانية إلى خطافات الصور المتحركة، كل ذلك في مظاهره المربكة المحيرة يسجل لنا تعريفات عن المسرح وعن المسرحية أو الدراما، وإذا استطاع أحدنا أن ينشر صورة للمسارح المختلفة التي تمثل فوقها الحياة، لأدرك من فوره أنه لا يمكن أن يهتدي إلى التعريف الجامع المانع، الذي يتسع للتعبير بالكلام عن عناصر الفن وطرزه، وأحواله، وعن مظاهر الحياة المسرحية والتمثيلية واتجاهاتها. إن الفن المسرحي هو الفن الذي تلتقي عنده جميع الفنون، إذ ليس بين الفنون فن كفن المسرح استطاع أن يصل موهبة الخلق الفني الغامضة بموهبة التلقي والاستقبال.
المسرح ليس مجرد وسيلة ترفيهية، وإنما يتخطى دوره ذلك. ففي فترات عظمته جاهد كتابه وممثلوه ومخرجوه، في اكتشاف نواحي الجمال فيه؛ ففن المسرح يعتمد في جوهره على حصيلة المعرفة في شمولها العام، وعلى قدرة الإنسان على الاستكشاف والتعجب والتأمل.
كان المسرح عند الإغريق مظهراً دينياً، وعند الرومان ما يشبه المتعة الرخيصة، التي يتكفل بها الرقيق من أجل الترفيه عن مالكيهم، وكان للكنيسة في عهدها الأول شراً ينبغي استئصاله، غير أن الكنيسة عادت بعدها بعدة قرون، تحتضن مسرحيات الأسرار والمعجزات، كما بات جمهور اليوم يسترجع الأعمال الجيدة للمسرحي اليوناني "سوفوكليس Sophocles "، والإنجليزي "وليم شكسبير William Shakespeare "، والسويدي "أوجست سترندبرج August Strindberg "، بتقديس، ويظن بعض النقاد أن هؤلاء الكتاب، ليسوا بشراً عاديين.
إن المسرح بسبب إسهامه في تلبية احتياجات الإنسان الجمالية والذهنية، وبسبب نوع الجمهور الذي يرتاده، وبسبب الرابطة الوثيقة، التي تربط جمهوره بممثليه، ثم بسبب مختلف القيم الأخرى، لكل هذه الأسباب يبدو مقدراً له أن يعيش بضعة آلاف أخرى من السنين. وحتى لو كتب للمسرح المختلف أن يحقق تنبؤات المتشائمين القديمة، ويحل به الموت فسوف يبقى المسرح التربوي حقلاً طبيعياً للتدريب، ونقطة انطلاق للطالب، في أي فرع من فروع الفنون المسرحية، إذ إن المسرح الحي هو الجذر، الذي تولدت عنه بقية الفروع الأخرى.
وإذا كانت النهضة المسرحية تعتمد على البحوث والدراسات والتجارب، في مجال الفنون والآداب المسرحية فإن الثقافة المسرحية تضيف كذلك التعريف بالتراث المسرحي، بما تقدمه من مؤلفات وترجمات تهم المتخصصين والعامة، على السواء.
نشأة المسرح وتطور الفن المسرحي
عند ذكر كلمة "مسرح" نفكر في نوع خاص من الترفيه، أو في مبنى معين مُعد ومجهز لتقديم هذا النوع من الترفيه. ويأمل البعض في قضاء وقت ممتع مع الضحك، أو قصة شيقة للهروب من مشقة اليوم. والمسرح، مثله مثل كافة الفنون، ترجع نشأته إلى السحر، أي إلى محاولة التأثير على الطبيعة بقوة إرادة الإنسان، وإحالة الأفكار إلى أشياء.
وفي الأزمنة الأولى من المسرح كان كل فرد ممثلاً، ولا تفرقة بين الممثل وبقية القبيلة، والدنيا هي المسرح. وكانت منصة التمثيل مكاناً مقدساً، وكان الحاضرون نوعين: مؤدين ومريدين. وبعد ذلك كانت المنصة هي المسرح، ولا يفصل بين الممثلين والنظارة سوى خليج مجازي معنوي، يصبح أخيراً خليجاً مادياً محسوساً. وأخيراً أصبح يفصل بين الممثل ومشاهديه آلاف الأميال.
وبين بداية المسرح وما انتهى إليه شبه غريب، من حيث إن مكان التمثيل هو الدنيا. وتطورت الدراما تطوراً جبرياً في عدة مراحل، ويمكن أن يطلق عليها التاريخ الطبيعي للدراما، وهذه المراحل هي: الدراما بوصفها سحراً، والدراما بوصفها ديناً، والدراما بوصفها زخرفة، والدراما بوصفها أدباً، والدراما بوصفها علماً.
وفنون المسرح فنون متكاملة، وبالأحرى فنون يكمل بعضها بعضاً، وليس منها فن يمكن أن يقوم بنفسه، بحيث لا تربطه ببقية الفنون المسرحية الأخرى رابطة أو وشيجة، ومن ثم لا بد لمن يدرس أحد هذه الفنون، أن يلم إلماماً كافياً ببقية الفنون المسرحية الأخرى. فالممثل يجب أن يتعرف بعمق على تاريخ المسرح، منذ أن نشأ قبل العصور التاريخية حتى اليوم. وتاريخ المسرح يشمل نشأة التمثيل، منذ أن كان رقصاً بدائياً، وإنشاداً دينياً، ثم تطوره بعد ذلك مع تطور الأغنية الإنشادية الراقصة، ومصاحبة الموسيقى ودق الطبول لها، حتى ظهرت المسرحية، التي حوّلت نواة هذه الأغنية، التي كان البدائيون يتعبدون بها، لخالق الكون المحيط بكل شيء.
وإذا كان الممثل في حاجة إلى تلك المعرفة ببدايات فكرة المسرح ليجيد تمثيله، فالمخرج أشد حاجة منه؛ لأنه المهندس المسرحي الأكبر، الذي يرسم كل شيء، ويضع لكل حركة تقديرها.
إن الثقافة المسرحية الواسعة، تؤدي إلى فن مسرحي عظيم. وقد كان أعظم الكتاب المسرحيين في تاريخ المسرح، هم أولئك الكتاب الذين شبوا في كنف المسرح، وتربوا في أحضانه، ونهلوا من موارده مباشرة. كان أولئك يكتبون وفي بالهم ظروف مسارحهم وإمكاناتها وفي حسبانهم كل صغيرة وكبيرة، مما يمكن تنفيذه لما يدور في أذهانهم، وتخطه أقلامهم.
ما سبق يسّر مهمة المخرج، والممثل، ومصمم الديكور، ومهندس الإضاءة، بل يسّر مهمة عمال الأثاث، ومغيرو المناظر.
إن المسرحية أو الدراما، من الرقص البدائي إلى التمثيلية الحديثة، ومن الطقوس الدينية إلى التمثيل الدنيوي، ومن المأساة اليونانية إلى "الصور المتحركة"، كل ذلك في مظاهره المربكة المحيرة يسجل تعريفاً عن "المسرح" وعن "المسرحية" أو "الدراما". لذلك لا يمكن الاهتداء إلى تعريف محدد للمسرح الذي هو ملتقى كل الفنون.
وقد ألف المؤلفون وترجم المترجمون كتباً كثيرة في كل موضوعات المسرح على حده "الإخراج والتمثيل، والإضاءة، والديكور، الخ"، ومن ثم كانت كتباً لا ينتفع بها إلا المتخصص في أي فرع منها، وحتى هذا المتخصص لا يكاد ينتفع بما يجده في كتابه هذا، إلا إذا أقام الصلة بين الفرع الذي يدرسه من فروع الفن المسرحي وسائر هذه الفروع.
يأتي الرقص في المرتبة الأولى مباشرة بعد ما تؤديه الشعوب البدائية من الأعمال التي تضمن لها حاجاتها الضرورية المادية من طعام ومسكن.
والرقص أقدم الوسائل التي كان الناس يعبرون بها عن انفعالاتهم، ومن ثم كان الخطوة الأولى نحو الفنون، بل إن الإنسان المتحضر في الزمن الحديث بالرغم من النواهي والمحظورات التي يتلقنها، وروح التحفظ التي يشب عليها، يعبر عن انفعالاته المفرحة بطريقة غريزية، والإنسان البدائي، بالرغم من فقر وسائله التعبيرية، وقلة محصوله من أوليات الكلمات المنطوقة، كانت وسيلته الشائعة في التعبير عن أعمق مشاعره هي الحركة الرتيبة الموزونة. وإذا كان القمر والشمس يطلعان ويغربان في نظام ثابت، وكانت ضربات قلبه ضربات إيقاعية، فقد كان طبيعياً لهذا السبب أن يبتكر الحركة الإيقاعية يعكس بها ما يخامره من فرح وبهجة.
وكان هذا الإنسان البدائي يرقص بدافع المسرة، ولكون الرقص طقساً دينياً فهو يتحدث إلى آلهته بلغة الرقص، ويصلي لهم ويشكرهم، ويثني عليهم بحركاته الراقصة، وإذ لم تكن هذه الحركات شيئاً مسرحياً مؤثراً أو تمثيلياً، إلا أن حركته المرسومة ذات الخطة كانت تنطوي على نواة المسرحية أو بذرة المسرح.
والدراما التي من هذا القبيل، وهي الفن الذي يكون فيه الفعل مادة محورية أصيلة، لم تنشأ من الرقص البدائي فحسب بل حين يجري التزاوج فيما بعد بينها وبين الشعر.
وإذا كانت رقصات الطقوس الدينية، ورقصات الزواج هي جذور التراجيديا أو الميلودراما الحديثة، فلا يمكن على وجه التحديد معرفة أي نوع من الرقص المضحك كانت قبائل ما قبل التاريخ تمارسه.
ولا يعرف أحد متى كتبت أول مسرحية تحديداً، وإن كان التاريخ يرجع بتاريخ المسرح إلى عام أربعة آلاف قبل الميلاد، ولا شك أن المسرح يعود إلى أبعد من ذلك، ولكن البداية الحقيقية التي تعنينا وتحدد نشأة المسرح تحديداً نسبياً هي بداية المسرح في بلاد اليونان خلال القرن الخامس قبل الميلاد. وأول تاريخ مهم يصادفنا هو عام 535 قبل الميلاد، ففي ذلك العام فاز "تيسبس" الذي يُعدّ بحق أول ممثل في أول مسابقة تراجيدية. غير أن أهمية هذا الخبر تتضاءل إلى جانب حقيقة كبرى ثابتة على وجه اليقين هي أن مدينة أثينا، تلك المدينة اليونانية، قدمت للعالم فجأة وخلال قرن واحد فيما بين القرن الخامس والرابع قبل الميلاد أربعة من أكبر كتاب المسرح، إن لم يكونوا هم آباء المسرح الحقيقيين الذين لا آباء قبلهم وهم: "أسخيلوس Aeschylus" و"سوفوكليس" و"يوربيدس Euripides" و"أريستوفنس Aristophanes".
وإذا وقفنا على النواة الأولى لبدء فكرة المسرحية أو الدراما وهو الرقص، فإن التأريخ لم يجلب الكثير عن المسارح ذاتها، حيث لا نستطيع الاستنتاج إلا شيئاً قليلاً، حيث كانت تقام الاحتفالات في الطرقات وفي الدروب، حيث يلتف العامة حول مقدمي تلك العروض الراقصة. وهؤلاء العامة من يمكن أن نطلق عليهم الجوقة، والراقصين من يمكن أن نطلق عليهم الممثلين. على أن ثمة عادة من عادات الرقص الظاهرية انتشرت انتشاراً ملحوظاً وهي عادة استعمال الأقنعة، إننا لا نجد في المتاحف الاثنوجرافية[1] Anthological شيئاً هو أكثر استرعاء للأنظار من الأقنعة ذات الألوان الصارخة التي كانت تستعمل في الطقوس الدينية.
أما عن القصة المسرحية فقد ذكر "روبرت أدموند" المؤرخ المسرحي وصفاً تخيلياً لمثل هذه النشأة التلقائية للقصة المسرحية، حين قرر أن رقصة القنص القائمة على حادثة قصصية حقيقية، أو مأثرة من المآثر الباهرة قد نشأت من إعادة سرد قصة هذه الحادثة حول نار المعسكر. ولو تصورنا ما كان يجري في العصر الحجري، عصر الكهوف والماموث، وتصوير المظلمات المائية فوق جدران الكهوف، وقد أمسى الليل، وجلس زعماء القبيلة معاً، وقد قتلوا أسداً، وها هو زعيم القبيلة يثب واقفاً ويقول: "لقد قتلت الأسد، أنا الذي قتلته، قصصتُ أثره فهجم عليّ فقذفته بحربتي فخر صريعاً"، ثم يبدأ في تمثيل المعركة إيقاعياً وسط أصوات الطبول، وتمثيله لخوفه من الأسد وهو يهاجمه، ثم ترديده لعبارات الشجاعة حين قتل الأسد. في هذه اللحظة تولد المسرحية بكل عناصرها المعروفة الآن، وإن كانت بغير تقنية على الإطلاق، وإن لم ننكر لعباس ابن فرناس فضل خياله المحلق في الطيران، فلا ننكر على الإنسان البدائي أنه الأب الأول للمسرح.
ولا بد من القول بأن تلك الشعوب البدائية لم توف حقها في الدراسة، إما لندرة المعلومات، وإما لتواضع الأداء المسرحي قياساً على ما تلا هؤلاء مباشرة.
نشأت الدراما "المسرحية" من الاحتفالات والأعياد الديونيزية، ومن الطقوس والرقصات والأناشيد التي كانت تُنشد، ومن المواكب التي كانت تقام تكريماً لديونيز. وعبده شعب اليونان على أنه إله لهم فقط من دون الناس، وكانوا يكرمونه في مهرجانات مفعمة بالبهجة وألوان من الشعائر الدينية المعربدة.
ثم نسج حماة الدين أسطورة من أساطيرهم يعلنون بها مجيء ديونيز. وكان المكان المكرس لحفلات البسط هذه يسمى "مسرحا"،ً وأصبح بعض المحتفين بالآلهة يسمون "كهنة"، ثم أصبحوا يعرفون فيما بعد "بالممثلين". وأصبح غيرهم ممن يتولون قيادة الإنشاد، والذين يمكنهم نظم أناشيد جديدة يسمون "الشعراء"، ثم اتسعت اختصاصات الشعراء حتى أطلق عليهم آخر الأمر اسم "الكتاب المسرحيين". كما أطلق اسم "الجمهور" أو "النظارة" على غير هؤلاء وهؤلاء ممن لا يطلبون شيئاً غير المشاركة في تمجيد ديونيز تمجيداً عاطفياً في حفلات تكريمه والثناء عليه.
واتخذت الدراما لنفسها عنصراً جديداً مولداً عن الحركة الراقصة. أما أين يقترب الرقص من المسرحية، ففي الميدان الذي اقترب فيه أحد الأشخاص البدائيين ورقص رقصاً معبراً فيه عن انتصاره في معركة، مبيناً كيف تلصص حتى رأى عدوه، ثم كيف اصطدم به وحاربه يداً بيد، ثم كيف كان يتفاداه، ثم كيف قتله وفصل رأسه عن جسمه، كان رقصه ذلك شديد القرب من المسرحية الصحيحة. أما الرقصات الغرامية الصامتة فتتفاوت بين المشاهد الثنائية الرائعة وبين الاستعراضات التي قد تبدو من الاستعراضات غير المحتشمة.
وقد مارست جميع القبائل البدائية رقصات الحرب ممارسة فعلية، كما مارست رقصات الحب، فضلاً عن الرقصات الدينية التي كانت تسود المجتمع الإغريقي وقتئذ.
أما المسارح فتكاد تكون أمراً مجهولاً يصعب استنتاج آثاره إلا شيئاً قليلاً. والنصوص القديمة كافةً، وخلاصة مسرحيات الآلام، والرقصات البدائية، كل ذلك يؤكد حقيقة مؤداها أن أول مسرح كامل، وأول مسرحية قديمة باقية تقترن بمسرح مبني، وبطريقة في العرض، هو المسرح اليوناني (اُنظر صورة المسرح اليوناني)، و(شكل المسرح اليوناني)، والمسرحية اليونانية وطريقة العرض اليونانية.
1. المسرح عند الإغريق
كان "جو" 525 - 456 ق م، أول كتاب المسرح العظام من المبرزين في معركتي "ماراثون Marathon و"سلاميس Salamis"، فلم يكن الرجل منشغلا بتوافه الأمور، ولا راغباً في توفير التسلية للجمهور بل كان لديه من الأفكار والتجارب ما يريد إشاعته وإشراك الناس فيه، فكانت مسرحياته بعيدة المدى، عظيمة التأثير. والظن أنه كتب تسعين مسرحية لم يبق لنا منها غير سبع وهي: الضارعات، والفرس، وبروميثيوس،و سبعة ضد طيبة، ومصافدا، وأورستايا. والأورستايا هي فى الواقع ثلاث مسرحيات: أجاممنون، وحاملات القرابين، وربات الإحسان المنعمات.
أما "سوفوكليس" 496 - 406 ق م، فكانت حياته أقل إثارة من حياة "أسخيلوس"، إلا أنه كان أعظم منه كاتباً مسرحياً، وكاد يبلغ في حياته الخاصة وفي أعماله مرتبة الكمال، حيث ظلت مهارته الحرفية معياراً للكتاب المسرحيين ومثلاً أعلى لهم طوال خمسة وعشرين قرناً تقريباً، حيث اتسمت أعماله بالعمق في التفكير والثراء في التعبير والحنكة في صناعة التوتر المسرحي وإثارة التهكم الدرامي. وكذلك بقيت لنا من أعماله سبع مسرحيات وهي: أوديب ملكاً، وإلكترا، وأوديب في كولون، وأجاكس، وأنتيجون، والتراقيات، وفيلوكيتيس.
ويرى الكثيرون أن أوديب ملكاً هي أكمل مسرحية كتبت على إطلاق المسرح منذ نشأته حتى الآن، وقد عدها أرسطو Aristotle نموذجاً لكثير مما تعرض له في كتابه النقدي "فن الشعر"، وقد امتدحها، خاصة حبكتها المشتبكة، وأحداثها المنسوجة بترابط، ووضوح الدوافع.
أما آخر كُتّاب التراجيديا الكبار هو "يوربيدس 484 - 406 ق م"، ويكفي للإشارة إلى بعض الفروق الأساسية بينه وبين "أسخيلوس" و"سوفوكليس" بعض الأقوال الشائعة بشأنه مثل، "كتب أسخيلوس عن الآلهة، وكتب سوفوكليس عن الأبطال، أما يوربيدس فيكتب عن البشر".
ولا أدل على العلاقة بين الكاتب المسرحي وبيئته من الإشارة إلى أسخيلوس ويوربيدس، فقد ولد الأول في أسرة غنية وثرية لها قدر ومكانة، وعاش أيام معركة ماراثون، وقتها كانت أثينا شابة مليئة بالأمل. أما يوربيدس فقد كانت حياته نقيضاً تماماً لما عاشه أسخيلوس، وعكست مسرحياته بوضوح الظروف التي أحاطت به. وقد وصلنا من مسرحه ثماني عشرة مسرحة أشهرها: "إلكترا"، "ميديا"، "النساء الطرواديات"، "هيبوليتس"، "أفيجينيا في أوليس".
والسمات الرئيسة للتراجيديا اليونانية هي مجموعة من الخصائص الآتية:
أ. ليس من اللازم أن تنتهي التراجيديا اليونانية دائماً بموت الشخصية الرئيسة أو الممثل الأول، أما الموضوع فهو، كما أشار أرسطو دائماً، موضوع جدي له قدر وحجم.
ب. تستغرق الواحدة من التراجيديات اليونانية ما يزيد قليلاً على الساعة، فالأورستايا بمسرحياتها الثلاث تستغرق تقريباً الوقت نفسه الذي يستغرقه تمثيل مسرحيتي شكسبير: "هاملت" و"الملك لير". وقد تلقي هذه الحقيقة بعض الضوء على مشكلة الوحدات الكلاسيكية الثلاث التي طالما كانت موضوعا للمناقشة. فوحدة الزمن تستلزم أن تقع الأحداث في يوم واحد، ووحدة المكان تستلزم أن تنحصر الأحداث في مكان واحد، ووحدة الفعل تستلزم ألا يكون في المسرحية غير حبكة مسرحية واحدة.
ج. يتضح مباشرة، لمن يقرأ التراجيديات اليونانية، أن الجوقة تؤدي فيها دوراً كبيراً، وهي تنفرد بالكثير من أجود الشعر في التراجيديات اليونانية، بل سمح لها بالاشتراك في الفعل الدرامي، وتحمل مسؤولية التعبير عن الكثير من الأفكار والآراء.
د. قصد الأغريق بالتارجيديا أن تؤدي لهم دوراً خاصاً، هو تحقيق تطهير الروح عن طريق الشفقة والخوف، ولا يستطيع أحد أن يجزم بأنه يفهم معنى هذا الكلام تماماً.
الكوميديا الإغريقية
أما الكوميديا الإغريقية فقد كانت لها وظيفتها الخاصة، حيث ارتبطت في أصلها بطقوس الخصب والتناسل البدائية، وهو ما يفسر لنا الكثير مما نجده فيها الآن ونعده خروجاً عن حدود الأدب والذوق، ولكن وظيفة الكوميديا قد تبدلت حين وصلت إلى أيدي أريستوفنس، فجعل منها سوطاً قوياً لمهاجمة الحماقات الاجتماعية والسياسية، و أصبحت لا تختلف كثيراً عن العروض الفكاهية الساخرة المعاصرة.
وإن لم يكن أريستوفنس 450 - 388 ق م، الكوميدي الوحيد في عصره إلا أنه كان، باتفاق الجميع، أعظمهم، وهو كذلك الوحيد الذي بقيت لنا من أعماله عدة مسرحيات في نصها الكامل، وكان يمتاز ببراعة مدهشة، وقدرة فائقة على الفكاهة والسخرية. إنه رجل لا يتردد في أن يسخر من كل شخص، ويتهكم على كل شيء. ومن عجب أن يكون ذلك الرجل محافظاً يجاهد في سبيل عودة الأيام القديمة، وعدواً لكل ما هو تقدمي أو جديد. واستمدت معظم مسرحياته مثل "الضفادع" و"الدبابير" و"السحب" أسماءها مما تمثله الجوقات فيها، وكان لها دور كبير فيما تقدمه المسرحيات من بهجة ومرح.
وقد سبق الزي المسرحي، في أثناء نمو الدراما، الديكور المسرحي، بل سبق كل مقر ثابت مخصص للتمثيل. وقد بقيت مثل هذه الأماكن الثابتة المخصصة للتمثيل، لأمد طويل، عائقاً أكثر منها معيناً لحل مشكلة الفن المسرحي كما عرفته الدراما الإغريقية. فبناء مثل مسرح ديونيز كان مصدر بلبلة للفكر المعاصر، إذ إن أطلاله الباقية لا تدل على مبنى يرجع إلى العصر الهليني فحسب، بل إلى العصر الروماني. والمتفق عليه نشأة كل من الملهاة والمأساة في المحافل القروية وفي المواكب الممجدة لديونيز الذي عُدّ في زمنه الإله الملهم وموفر الخصب.
إن أولى حفلات المآسي والملاهي قد مثلت في الأوركسترا Orchestra، وهي قطعة أرض ممهدة مستديرة الشكل، بميدان السوق، ومن ثم انتقلت بصفة دائمة إلى حيث حدود معبد ديونيز اليوثيروس، داخل الحرم المقدس، على المنحدر الجنوبي للأكروبول، على أنه لم تكن الأرض مسطحة، فكان لا بد من إقامة حائط ساند عند أحد الجوانب، وكان النظارة يتجمعون على سفح التل، وينظرون عبر الأوركسترا، فيرون فوق حافة الحائط الساند قمة معبد ديونيز.
لم تتضمن نظم البناء حتى القرن الخامس قبل الميلاد سوى الأوركسترا والمعبد، أي أن أولى مسرحيات أسخيلوس قد قدمت على هذه الصورة المبسطة، أما ما كان يلزمها من إكسسوار، كالهياكل والمقابر، فكان يعد عند حافة المسطح، حسب مقتضيات كل مسرحية.
ومن المفروض أن ممراً منحدراً، أو بالأحرى خندقاً، قد وفر طريقاً لظهور الجوقة والممثل الأول على مرأى من النظارة. وقد تسبب عدم الاستقرار في مفهوم الاصطلاحات المسرحية اليونانية في كثير من البلبلة لأذهان المعاصرين. كانت الأوركسترا مكاناً مسطحاً، مستديراً في الأصل، تؤدي فيه الجوقة تشكيلاتها، وكان المسرح مكان جلوس النظارة، وكانت الخيمة، حيث يرتدي الممثلون ملابسهم ومنها يظهرون كلما حل دور أحدهم، خليطاً يجمع بين كواليس المسرح الحديث وحجرات الممثلين، أي أنها لم تكن منصة التمثيل حسب المدلول الحديث.
أما ما يطلق عليه حالياً منصة التمثيل، أي خشبة المسرح، فكان اليونانيون يسمونها "بروسكنيون Proskenion".
حوالي عام 465 ق م أقيمت أول منصة خشبية صغيرة في استطاعة النظارة أن يروها، وبعد أربعين عاما، أقيم أساس حجري متين لمبني منصة حجرية ذات جبهة طويلة وجناحين متفرعين.
ولم تشيد في أثينا منصة حجرية كاملة قبل العصر الهليني. وأما آثار المنصة المحكمة المتقدمة جداً، التي ما زالت باقية، فيرجع تاريخها إلى ما لا يقل عن عهد نيرون. وينتهي الكثير من العلماء إلى أن جدار الحرم الذي كان يقوم مقام مؤخرة "للمنظر المسرحي"، إن جاز التعبير، يرجع إلى عهود لاحقة في تاريخ المسرح، قد استعمل مبكراً، منذ مطلع القرن الخامس، مؤخرة لمنصة خشبية، ثم في نهاية القرن، مؤخرة لمنصة حجرية.
ومن غير المستبعد أن المنصة الخشبية كانت تتخذ أولاً فأول، ما يتفق من الأشكال ومختلف مقتضيات المسرحية، بل قد مرت المنصة الحجرية نفسها بأطوار مختلفة. وفي متحف اللوفر Louvre بباريس آنية أولت على أنها توفر أصدق صورة لأول منصة حجرية في أثينا.
كانت الأشباح المقدسة تستحضر من خلال نفق مصبه المنصة، ولمثل هذا الممر اكتشفت آثار بمسرح إريتريا، عرفت باسم "السلم الشاروني"، وفي الأغلب أنه استعمل مبكراً منذ عهد أسخيلوس الذي عمرت تمثيلياته بالأطياف. كذلك ليس من شك في أن المسرح الإغريقي عرف الدور الأعلى، حيث قام بوظيفته المسرحية نفسها عند شكسبير، وهي إلقاء الخطب من شرفة، أو من أعلى جدار، أو من برج مراقبة.
فيما بين عهدي أسخيلوس ويوربيدس كان المسرح الإغريقي قد وفق إلى شتى اصطلاحاته، سواء الخاصة بالجدار الخلفي نفسه أو بمختلف ملحقاته الثانوية، وبدا الطريق ممهداً أمام تطور بلغ ذروته في الأزمنة الرومانية حيث المسارح المحكمة والإخراج المتقدم.
ولا يرجع إلى أسخيلوس فضل التقدم الأول الحقيقي من حيث المناظر المسرحية وآليتها فحسب، بل هو أول من أدخل على المسرح الزي المعين لكل ممثل أيضاً، أو بالأحرى هو الذي قد قرر في وضوح ما كان مستعملاً من قبل زياً في عبادات ديونيز، فالقناع أو الثوب ذو الكمين أو الحذاء العالي مستعار من ديانة ديونيز وشعائره.
وقد تأثر الزي في المسرح الإغريقي، في طابعه الديني وطابعه غير المألوف. والمسرح، عبر تاريخه، كان مجذوباً نحو الزي الغريب، الذي يساعد بحكم طبيعته الخاصة على نقل المتفرج من عالمه إلى عالم أخر مثالي. وثمة تفسير آخر هو أن الزي الذي يغطي جسم الممثل من أخمص القدمين إلى الرأس، حتى لا يعرفه أحد، كان يجبر الممثل على أن يتخلى عن شخصيته، في سبيل تمثيله خصائص حياة أرقى.
فنون المسرحية
1. الأوبرا
مسرحية غنائية تعتمد على الغناء أكثر من الكلام، وتختلف عن التمثيليات التقليدية في عدة جوانب أهمها أن العنصر التمثيلي في الأوبرا يعد أكثر عمقاً وتأثيراً في المشاهدين، خاصة أن الأوبرا تعتمد على الانفعالات الأساسية كالغضب والحزن والحب والانتقام والقسوة والغيرة ونشوة الانتصار.
يستفيد المؤلف الأوبرالي إلى درجة كبيرة من إمكانات الموسيقى المصاحبة التي تعمق الإحساس لدى الممثل والمشاهد كليهما. وتتميز الأوبرا عن التمثيلية التقليدية في أنها تجمع بين أكثر من لون من ألوان فنون الأداء مثل التمثيل، والغناء، وموسيقى الأوركسترا، والأزياء، وفي أحيان أخرى كثيرة الرقص والباليه.
وبالرغم من أن الأوبرا تعد أبرز ما أخرجه العصر، فقد كان ظهورها مصادفة أو راجعاً إلى خطأ في فهم طبيعة التمثيل اليوناني القديم. فقد تصور بعض العلماء المتحمسين أن التراجيديات الإغريقية كانت ترتل وتغنى كلها. وسرعان ما تحمس اثنان من العلماء من هذه الجماعة هما: "جاكوبو بيري Jacopo Peri" و"أوتافيو رينوشيني Ottavio Rinuccini" فأخرجا أوبرا "دافني Dafne" عام 1597م، التي تعد أول أوبرا في العالم.
مصطلحات تستخدم في الأوبرا
· الآريا: مقطوعة غنائية مطولة يقوم بها المغني بمفرده للتعبير عن مشاعره الشخصية.
· الإلقاء المنغم: جزء من النص الأوبرالي يقدم معلومات عن الحديث ويطور الحبكة الدرامية في شكل غنائي بسيط فيما يشبه الحديث العادي وأحياناً بمصاحبة الأوركسترا.
· الأوبرا الجادة: لون الأوبرا الذي ساد في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين وكانت تتناول موضوعات أسطورية وتاريخية في المقام الأول وتركز على المؤثرات المسرحية الخاصة والغناء المتميز.
· الأوبرا الكبرى: أوبرا السنوات المبكرة من القرن التاسع عشر الميلادي حيث يتم التركيز على المؤثرات المسرحية ومشاهد المجموعات الكبيرة والموسيقى المركبة المتداخلة، والحوار.
· الأوبرا الهزلية: أوبرا إيطالية هزلية تعالج مواقف إنسانية مأخوذة من الحياة اليومية.
· طاقم المغنين"إينسيمبل": مجموعة صغيرة من المغنين، تتكون عادة من شخصين إلى خمسة أشخاص. تسمى المقطوعة التي تؤديها المجموعة بنفس الاسم.
· بل كانتو: أسلوب في الغناء يركز على جمال النغمة والمهارة الفنية.
· كولوراتورا: أسلوب أداء في الغناء يميل إلى التلوين وتقوم به عادة أصوات سوبرانو قوية.
· سنجسبايل: لون من الأوبرا الألمانية يستخدم الحوار المؤدى بدلاً من الأغنية المنفردة.
· ليتموتيف: مقطوعة موسيقية قصيرة تقدم بعض الأفكار والأماكن والشخصيات كلما ظهرت في العرض.
· المدونة الموسيقية: هي النوتة الموسيقية المكتوبة التي يستخدمها قائد الأوركسترا.
· النص الشعري: هو النص المكتوب للأوبرا.
· الواقعية: أسلوب واقعي في الأوبرا الإيطالية يكون فيه التركيز على الحدث والانفعالات.
تختلف الأوبرا كذلك عن العروض الأخرى، التي تستخدم الموسيقى مثل المسرحيات الموسيقية والغنائية، في أن الأوبرا تستخدم حواراً أقل منهما، وتشترك الموشحات الدينية الغربية مع الأوبرا في ميزات معينة وهي استخدام الموسيقى المصاحبة للغناء الفردي ومجموعة المنشدين والأوركسترا، وقد تحكي قصة. إلا أن الموشحات الدينية في الغرب تختلف عن الأوبرا في أنها تفتقر عناصر التمثيل والأزياء والتزين، وقد بدأت الأوبرا في إيطاليا في السنوات الأخيرة من القرن السادس عشر الميلادي ثم قام الموسيقيون الإيطاليون والمغنون وقادة الأوركسترا بتطوير ذلك الفن الأدائي في السنوات التالية. وبحلول نهاية القرن السابع عشر الميلادي انتشرت الأوبرا من إيطاليا إلى بقية دول أوروبا.
وتتكون الأوبرا من عنصرين أساسيين هما الكلمات أو النص المكتوب والموسيقى أو النوتة ويقصد بها الغناء والموسيقى. والنص المكتوب للحوار في الأوبرا أقل طولاً من النص التمثيلي التقليدي؛ لأن غناء الكلمات يستغرق وقتاً أطول من مجرد أدائها تمثيلاً، ومن ناحية أخرى فإن الموسيقى ذاتها تقوم أحياناً بتجسيد العواطف والانفعالات التمثيلية بصورة أكثر عمقاً من الكلمات.
أما الموسيقى فإن كل دور في الأوبرا يتطلب مغنياً يتمتع بمدى أو درجة صوت معينة، ومن ثم يتم تقسيم المغنين في الأوبرا حسب درجات الصوت. ويستخدم الغناء الجماعي في معظم عروض الأوبرا إلى جانب الغناء المنفرد والثنائي والأداء الموحد.
رغم أن طبيعة الأوبرا تفرض قيوداً على حركة المغني، إلا أن الحركة السريعة والمفاجئة والجسم الملتوي قد تؤثر على صوت المغني، كما أن الأداء في الأوبرا يتطلب درجة معينة من إجادة التمثيل. ويختلف عدد الآلات الموسيقية المستخدمة في الأوركسترا ونوعها من أوبرا إلى أخرى، فالآلات التي يحتاجها عرض إيطالي في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي تختلف عن الآلات التي يتطلبها عرض كتبه "فاجنر Wagner" في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. وتحدد طبيعة العرض كذلك دور الأوركسترا، فقد توفر موسيقى مصاحبة للأداء وقد تؤدي دوراً مهماً في العرض، وقد تبرز مشهداً أو حدثاً معيناً أو تؤكده، وقد تقوم بتقديم فواصل تمهد أو تعد المشاهد وهكذا.
2. الأوبريت
نوع من المسرحيات الغنائية كان محبوباً في الفترة بين أواسط القرن التاسع عشر حتى العشرينيات من القرن العشرين الميلادي. تطور الأوبريت من الأوبرا الهزلية الفرنسية ولكنه يختلف عنها في أنه يحتوي على حوار كلامي بدلاً من الحوار الغنائي، وعلى أغاني بدلاً من ألحان. وغالباً ما تكون مقدمة الأوبريت خليطاً من أغان منتزعة من العرض وليست شيئاً مؤلفاً مستقلاً كما هو الحال في الأوبرا.
الغرض من الأوبريت هو الترفيه وإدخال السرور على النفوس وليس إثارة العواطف القوية أو الكشف عن قضايا مهمة أو مناقشة قضية ذهنية أو جدلية. وفي كثير من الأوبريتات نجد أن عقدة القصة إما عاطفية رومانسية أو ساخرة. وفي معظم الحالات تتضمن نوعاً من الارتباك حول أخطاء غير مقصودة، كما تنتهي بنهاية سعيدة كثيراً ما تعكس شيئاً من المغزى الأخلاقي.
في الأوبريت تُظهر الموسيقى ألحاناً مباشرة من غير تعقيدات لحنية، وفيها إيقاع قوي. وهناك الأوبريت الذي يحتوي على رقصات وغيرها من التي تقوم على أساس رقصة الفالس والكورال "الغناء الجماعي".
ازدهرت عدة مدارس قومية خلال الفترة التي انتشر فيها الأوبريت واستقبلت بلهفة شديدة. وازدهر هذا النوع في فرنسا، وكانت أجمل الأوبريتات التي كتبت هي تلك التي ألفها "جاك أوفنباك Jacques Offenbach" وهو مؤلف موسيقى فرنسي، ألماني المولد. ومن بين مؤلفاته "أورفيس في العالم الأرضي Orpheus in the Underworld" عام 1858م و"لابيل هيلين" عام 1864م و"لابيريشول
في عام 1860م كتب المؤلف الموسيقي النمساوي "فرانز فون سوبيه Franz Von Suppe" أوبريت "داس بنسيونات" الذي أصبح فيما بعد النموذج الحي للأوبريت في فيينا، غير أن رائد مدرسة الأوبريت في فيينا هو "يوهان شتراوس Johann Strauss" الابن الذي جعل "الفالس" السلسلة الفقرية لإيقاع موسيقى الأوبريت.
يعد أوبريت "داي فلدرماوس" 1874م أشهر مثال لمدرسة الأوبريت في فيينا، وقد سيطر هناك الأوبريت الرومانسي وشكل هذا النوع من فن الأوبريت سيادة تامة في أوائل القرن العشرين الميلادي مع انتشار أعمال مثل "الأرملة المرحة" عام 1905م التي ألفها "فرانز ليهار Franz Lehar" والتي كانت محببة لكثيرين.
في العالم العربي انتشر فن الأوبريت نقلاً عن أوروبا ولكن بمزيد من التعريب ليلائم الفكر الشرقي والمتلقي في الشرق. وقد بدأ هذا اللون من المسرح الغنائي في مصر في الثلث الأول من القرن العشرين الميلادي، ثم سرعان ما انتقل إلى بلدان عربية أخرى مثل لبنان وسورية وكان هناك تأثير كبير لزيارة الفرق المسرحية الغنائية المصرية للبلدان العربية.
3. مسرح العرائس
هي مجسمات اصطناعية يتحكم في حركاتها شخص، إما بيده أو عن طريق خيوط أو أسلاك أو عصا. وقد تمثل الدمية شخصاً أو حيواناً أو نباتاً أو شيئاً من الأشياء. وتتقمص هذه الدمي أدواراً في مسرحيات تعرف باسم "عروض العرائس" أو "مسرح العرائس". ويسمي الشخص الذي يقوم بتحريك العرائس "محرِّك العرائس".
يصنع كثير من الأطفال عرائس من المواد الرخيصة من القماش أو الخشب، أو من أشياء كعلب الألبان الفارغة أو الخرق البالية. ويقومون كذلك بتأليف عروض العرائس ثم يحركونها، ويعملون على تغيير أصواتهم مع تغيير الشخصيات. ويمكن استخدام منضدة أو رف كتب منصة لعرض العرائس. كما يمكن أن يعمل محرك العرائس من وراء غطاء أو شرشف، يشده بعرض الجزء السفلي من فتحة باب. ويتوارى خلفه فلا يرى المشاهدون غير العرائس المتحركة التي تظهر بالجزء الأعلى من فتحة الباب.
يلجأ بعض المدرسين إلى الاستعانة بفن العرائس المتحركة، لإضفاء التشويق على المادة الدراسية، فيقومون على سبيل المثال بالاستعانة بالعرائس المتحركة لتمثيل واقعة من الوقائع التاريخية.
وقد اعتاد الناس على الاستمتاع بعروض العرائس منذ زمن بعيد، إذ عثر على مجسمات تشبه الدمى المتحركة بالمقابر والأطلال الأثرية بمصر القديمة واليونان وروما؛ بما يعني أن مسرح العرائس مسرح قديم. ويرجح أن يكون أول استعمال للعرائس في المناسبات الدينية.
وهناك ثلاثة أنواع رئيسة من العرائس المتحركة هي:
أ. العرائس المتحركة باليد.
ب. العرائس المتحركة بالخيوط.
ج. العرائس المتحركة بالعصا.
ويشتمل الكثير من العروض على أكثر من نوع من أنواع العرائس المتحركة. أما أكثر الأنواع انتشاراً فهي العرائس المتحركة باليد، ويتكون أحد أنواعها المعروف باسم "عرائس القفاز" أو "القبضة" من نموذج مفرغ لرأس متصل بقفاز أو كم من قطعة قماش ينطبق على حجم الساعد، ويقوم مقام جسد العروس. ومن ثم يقوم محرك العرائس بإدخال يده في كم القماش وصولاً إلى القفاز.
لعل أشهر شخصيات عرائس القفاز هي شخصية "بنش" نجم الاستعراض الإنجليزي الذي اشتهر باسم استعراض "بنش وجودي Punch and Judy". وكان قد جرى تدشين شخصية بنش بإنجلترا عام 1662م. وثمة عرائس شبيهة بشخصية "بنش" نالت إقبالاً جماهيرياً في بلدان عديدة.
4. الباليه
فن أدائي يستخدم حركات الجسم الإنساني للتعبير عن الانفعالات المختلفة كالغضب والخوف والغيرة والفرح والحزن.
وتطلق كلمة باليه على اللون الكلاسيكي الذي ابتدعه الفرنسيون أثناء القرن السابع عشر الميلادي وكذلك على الباليه الحديث المختلف الإيقاع والملابس. كما يطلق كذلك على المسرحيات الهزلية الموسيقية التي تجمع بين فنون الأداء المسرحي والرقص والغناء والموسيقى، وإن كان التعبير عن طريق حركات الجسم، أي الرقص، الخاصة هو أهم تلك العناصر جميعاً، وتصاحب كل ذلك الملابس والأزياء الخاصة التي يراعى في تصميمها حرية الحركة دون عوائق. وفي العصور الحديثة طورت كل دولة كبرى أسلوبها الخاص بفن الباليه، فالباليه الأمريكي يتسم بالسرعة والحيوية، بينما يميل الباليه الروسي إلى قوة الأداء والإبهار، أما الباليه الفرنسي فيميل إلى الأناقة والجمال. وقد أتاح ارتباط فن الباليه بالمدرسة الفرنسية منذ بدايته الأولى للفرنسيين سيطرة مفرداتهم اللغوية الخاصة بذلك الفن على اللغات المختلفة. وهذا يفسر سر انتشار المفردات الفرنسية داخل مدارس الباليه المختلفة.
ظهرت البدايات الأولى لفن الباليه في القرن الخامس عشر الميلادي في إيطاليا خلال النهضة. وقد ساعد على ظهور ذلك الفن أن الشعوب بدأت في عصر النهضة تظهر اهتماماً أكثر بالفنون والعلوم. وقد أدى ازدهار التجارة في هذا العصر إلى ثراء أمراء الدول الإيطالية في "فلورنسا" وغيرها من المدن، وهو ثراء ترتب عليه تنافس هؤلاء الأمراء في رعاية الفنون والآداب، بالرغم من توقف الفنون في تلك الدول عند حد الهواية. وعندما تزوجت إحدى أميرات الأسرة الحاكمة في فلورنسا وهي "كاثرين ميدتشي Cathrine de Medicis" من ملك فرنسا عام 1547م، أدخلت فنون الإمتاع التي نشأت عليها إلى بلاط ملك فرنسا، بل أحضرت معها من إيطاليا موسيقياً هو "بلثازار بوجي" للإشراف على تقديم تلك العروض. والواقع أن مؤرخي فن الباليه يعتقدون أن أحد أعمال ذلك الموسيقي وهي "أوبرا الراين" كانت أول باليه بمعني الكلمة، وقد أدى نجاح العرض آنذاك، إلى محاكاته في عدد كبير من بلاطات ملوك أوروبا. وقد أصلت أوبرا الراين الهزلية مكانة باريس بصفتها عاصمة الباليه في العالم، وزاد من هذه المكانة الكبيرة تشجيع الملك لويس الرابع عشر الذي تولى السلطة في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر الميلادي هذا الفن، فأنشأ الأكاديمية الملكية للرقص عام 1661م لإعداد الراقصين المحترفين لتقديم العروض في البلاط الملكي وقصور النبلاء. فكان افتتاح تلك الأكاديمية آنذاك بداية عصر الاحتراف في فن الباليه بعد أن توفرت للفنانين إمكانات أضخم بكثير من اتخاذه هواية. وسرعان ما انتشرت فرق الباليه المنافسة في بلدان أوروبية أخرى، وكانت أبرز تلك الفرق الفرقة الإمبراطورية الروسية للباليه في "سان بطرسبرج" التي تأسست عام 1738م. وبمرور الوقت وازدياد المهارات الفنية تحول فنانو الباليه إلى تقديم عروضهم بالمسارح العامة أمام الجمهور العادي. وقد كان المؤلفون والمعدون للباليه في البداية يأخذون مادتهم القصصية من الأساطير اليونانية القديمة.
المذاهب المسرحية
1. المذهب الكلاسيكي
لم يعرف اليونانيون القدماء والرومانيون القدماء الذين ورثوا عن اليونانيون ثقافتهم بما فيها من مسرح وشعر وأدب كلمة "كلاسيكي" إذ إن أول من أطلق هذه الكلمة كان كاتباً لاتينياً من أهل القرن الثاني الميلادي يدعى "أولوس جليوس"، فقد كتب هذا الرجل كتاباً صاغ فيه عبارتين إحداهما هي Scriptor Classicus أي كاتب أرستقراطي يكتب للخاصة فقط، والثانية هي عبارة Scriptor Proletarius أي كاتب يكتب للعامة وجماهير الشعب. ولم يكن أولوس يقصد بعبارته الأولى هذا الكاتب الذي لا تقرأ كتبه إلا في فصول المدرسة Classes، كما وهم الذين حرّفوا معني تلك الكلمة أو كما شوهها غيرهم بعد ذلك بقرون طويلة، فزعموا أنها تطلق على كل كاتب أو كل أثر علمي أو أدبي جدير بالدراسة الأكاديمية في الكليات والجامعات. كما غلب ذلك المعني طوال العصور الوسطي وفي عصر النهضة بين الشعوب اللاتينية، وهو المعني الخاطئ الذي تسرب منذ تلك العصور إلى اللغات الحديثة.
هذا وقد كان الإنسانيون Humanists يعدون روائع الأدبين اليوناني واللاتيني هي وحدها المؤلفات الجديرة بمثل تلك الدراسة، ومن ثم أصبحوا يطلقون على الروائع اليونانية والرومانية كلمة Classics أي الروائع الكلاسيكية.
على أن هذا الاسم أصبح يطلق الآن على كل الروائع الحديثة، حتى تلك التي لم يتقادم عليها الزمن، والتي لا تمت بصلة إلى المذهب الكلاسيكي.
يعدّ أرسطو "384- 322 ق.م" بلا شك أول من قنّن المذهب الكلاسيكي في المسرحية، وضبط قواعده غير المكتوبة وذلك في كتابه "الشعر"، ذلك الكتاب المضطرب الذي لم يعدو في البداية أن يكون مذكرات مهوشة وضعها أحد تلاميذ أرسطو في أثناء أحاديثه، إلا أن أرسطو عاد ووضع هذا الكتاب في صورته النهائية سنة "330 ق.م". وكان أرسطو يكتب كتابه هذا وبين يديه مآسي الثلاثة الكبار: أسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس. كما كان بين يديه كذلك ملاهي أرستوفنس وغيره من عظماء عصره، وكان هؤلاء جميعاً قد ماتوا قبل أن يولد أرسطو، وكان عصر المأساة اليونانية قد انتهي، وعلي هذا فقد عاش أرسطو في فترة من فترات المسرح اليوناني كان جميع مؤلفي المآسي فيها ينسجون على نهج مآسي الثلاثة الكبار، ولعل هذا هو الذي جعل أرسطو يتخذ من مآسي هؤلاء الكبار قانونه.
ويعرف أرسطو المأساة بأنها:
"محاكاة الأفعال النبيلة الكاملة، وأن لها طولاً معلوماً، وتؤدى بلغة ذات ألوان من الزينة تختلف باختلاف أجزاء المأساة، وتتم هذه المحاكاة بواسطة أشخاص يمثلونها وليس بواسطة الحكاية، وهي تثير في نفوس المتفرجين الرعب والرأفة وبهذا تؤدي إلى التطهير "تطهير النفوس" من أدران انفعالاتها".
ويقصد أرسطو باللغة ذات الألوان من الزينة، اللغة المشتملة على الإيقاع والألحان والأناشيد. ويعد من أجزاء المأساة الكلاسيكية القصة "أو الخرافة" والأخلاق "أي الشخصيات" والفكرة والمنظر والأناشيد والحوار، وهذه عند أرسطو هي الوسائل التي تتم بها المحاكاة.
ويري أرسطو وجوب أن تكون المأساة متوسطة الطول حتى لا تمل، وأن تشتمل على بداية ووسط ونهاية، وأن تتم لها وحدة الفعل، أي وحدة الموضوع، فلا تختلط عقدتها الأساسية بعقد ثانوية، ولا تتألف من أكثر من موضوع واحد حتى لا يتشتت انتباه المتفرج وتنصرف الأضواء عن البطل إلى أشخاص آخرين فيضعف الموضوع الأصلي.
كما يرى أرسطو أن مدى الأحداث التي يتألف منها الموضوع يمكن أن يجري في الحياة الحقيقية في "دورة شمسية"، وهو يعني بتلك الدورة الشمسية نهاراً وليلة أو أكثر قليلاً. وهذه هي وحدة الزمان عند أرسطو، أما الأحداث التي وقعت في الماضي، سواء كان ماضياً بعيداً أو قريباً فتروى على ألسنة الشخصيات أو تحكيها المجموعات.
وكل مأساة عند أرسطو تشتمل على "تحوّل"، أي انتقال من السعادة إلى التعاسة والعكس، وعلى "تعرّف" أي انتقال من الجهل إلى المعرفة، مما ينتقل بالشخصية من المحبة إلى الكراهية أو العكس.
وقد ظل الناس يتدارسون ما ورد في كتاب "الشعر" لأرسطو عن المأساة الكلاسيكية أحقابا طويلة بوصفه من الأمهات في هذا الفن. وظلت أقوال أرسطو قواعد جامدة يحكم النقاد بمقتضاها حتى القرن الثامن عشر الميلادي بالرغم مما شهدته الدنيا من روائع شكسبير وكالدرون ولوب دي فيجا وغيرهم من الجبابرة الذين لم يبالوا بتلك الموازين القديمة، فراحوا يبتدعون وينظرون إلى التأليف المسرحي نظرة حرة من تلك القيود المربكة.
تعدّ فرنسا المهد الحقيقي للكلاسيكية الحديثة، ففيها ظهر الناقد المتحرر أوجييه المتوفى عام 1670م، (وموليير Moliere 1622-1673م) ، (والمؤلف تشابلان 1595- 1674م)،( ولامينارديير 1610- 1663م)، وكذلك (بوالو 1636- 1711م)، الذي نظم رسالة هوراس، وغيرهم ممن أرسوا قواعد هذا المذهب.
على أن الحركة الكلاسيكية بدأت في فرنسا بترجمة روائع المسرحيات اليونانية نفسها، ثم تزعم "إيتن جوديل" حركة الإحياء الكلاسيكي، وقد انصرف عن الترجمة إلى التأليف، محتذياً الأنماط اليونانية واللاتينية، فظهرت مأساته كليوباترا عام 1552م.
وقد حفزت هذه النهضة الكلاسيكية الفرنسية رجال المسرح الإنجليزي فأخذوا يترجمون الروائع اللاتينية بين عامي 1559- 1566م. إلا أن ريح المذهب الكلاسيكي لم تشتد في إنجلترا اشتدادها في فرنسا.
أما الحركة الكلاسيكية الحديثة في ألمانيا فقد بدأت في القرن الثامن عشر الميلادي وبالأحرى عام 1730م.
2. المذهب الكلاسيكي الحديث
تعدّ الفترة الواقعة بين عامي 1660- 1685م من تاريخ الأدب الفرنسي، هي العصر الذهبي للمذهب الكلاسيكي الحديث في فرنسا التي تعدّ مهد الكلاسيكية في أوروبا كلها. وهي تلك الفترة من حكم الملك لويس الرابع عشر راعي الفنون والآداب، وموجه الحياة الفكرية في العالم في عصره، وقد سبقت هذه الفترة حقبة من الاستعداد والاضطراب الفكري مهدت للعصر الكلاسيكي.
أما ربع القرن المهم "1660- 1685م" في حياة الكلاسيكية الحديثة في عهد لويس الرابع عشر فيمثله "راسين Racine" و"موليير"، المسرحيّان، و"بوسويه" الشاعر، و"بوالو" مقنن الكلاسيكية الحديثة وأشبه رجالها بهوراس، و"لافونتين" شاعر قصص الحيوانات والطيور الخيالية البارعة الممتلئة بالحكمة والأمثال الواعية.
ويمتاز المذهب الكلاسيكي الحديث بمحاكاة قدامي اليونان في مسرحياتهم من حيث الشكل مع تيسيرات أهمها:
أ. إباحة وجود عقدة ثانوية أو أكثر بشرط ألا يضعف ذلك من العقدة الأساسية وألا تشوه وحدة الموضوع.
ب. قبول اتساع وحدة الزمان، فلا تقف عند دورة شمسية، كما قال أرسطو، بل قد تمتد إلى ثلاث دورات أي ثلاثة أيام.
ج. قبول أن يمتد نطاق وحدة المكان بحيث يشمل مدينة بأسرها أو قصراً بأكمله، حتى إذا تغير المكان "المنظر" لم يخرج عن حدود المدينة أو حدود القصر الذي تقع فيه الأحداث.
د. الإبقاء على عظمة الشخصيات، ولكن لا مانع من اتخاذ الوصيفات والأصدقاء في أدوار لا تعد تافهة.
هـ. الإبقاء على الأسلوب الأرستقراطي على أن يكون أسلوباً واضحاً سليماً وشاعراً.
و. الكلاسيكية الحديثة لا تعرف المجموعات ولا الأناشيد.
ز. إحلال الحب وأهواء النفس محل القضاء والقدر عند اليونانيين لتكون محوراً تدور حوله أحداث الرواية، ومن هنا أصبحت الكلاسيكية الحديثة ذات نزعة عالمية.
وقد كانت الكلاسيكية الحديثة شديدة الشبه بالكلاسيكية اليونانية من حيث إنها كانت تتجه إلى تسلية الخاصة، ومن حيث إنها كانت تتناول المشكلات النفسية والأزمات الروحية، وقد اختصت الملهاة الكلاسيكية الحديثة، في معظم أحوالها، بإضحاك المجتمع على سخافاته وأمراضه الأخلاقية والسلوكية، حتى أطلقوا على موليير "المشرّع وواضع قوانين السلوك للمجتمع".
وإذا صح أن الكلاسيكية الحديثة كانت تتجه إلى تسلية الخاصة، فقد نجحت في رفع طبقات الشعب إلى منزلة هذه الخاصة، بما كانت تقدمه إلى تلك الطبقات الشعبية في أزمات الروح والمشكلات النفسية في عالم المأساة، وما كانت تشرح به نفوس الناس وسلوكهم وأخلاق النماذج البشرية في عالم الملهاة. وأعظم من يمثل المأساة الكلاسيكية الفرنسية "بيير كورني" ونجمها اللامع "راسين".
3. المذهب الرومانسي
كما دالت دولة المسرح في اليونان القديمة والإمبراطورية الرومانية القديمة، ولم يكن اليونانيون أو الرومانيون يعرفون كلمة "كلاسيكي" أو المذهب "الكلاسيكي"، كذلك عاش شكسبير ومعاصروه من الشعراء المسرحيين الرومانسيين وهم لا يعرفون تلك الكلمة "رومانس" Romance أو المذهب الرومانسي، وإن كان مسرحهم قد عاش حياة رومانسية خالصة، تماماً كما كان المسرح اليوناني القديم والمسرح الروماني القديم في حالة حياة كلاسيكية خالصة. ذلك أن كلمة "رومانس" لم تظهر في إنجلترا إلا حوالي عام 1654م، وكان معنى "رومانس" حينئذ "القطعة الأدبية" أو "الأثر الأدبي" الذي يشبه الرومانس أو Romanz كما كان هجاء الكلمة في اللغة الفرنسية القديمة.
والرومانس كما كانوا يعرفونها في العصور الوسطي هي القصة الطويلة التي تصور المجتمع الارستقراطي، كما تصور المثل الفروسية العليا تصويراً يقوم على المغامرات والبطولة والغرام العذري الذي يشبه العبادة.
وقد وضع "هنريك هيني Heinrich Heine" الألماني "1797- 1856م" تحديداً قصيراً يسيراً لتوضيح الفرق بين المذهبين الكلاسيكي والرومانسي، وهو فرق كبير لا شك فيه.
قال هيني:
"إن الكلاسيكية هي مذهب القيود، المذهب الذي يحدد الأهداف ويقف عندها، فتري الأديب أو الفنان الكلاسيكي يلتزم القوانين الصارمة التي تدور في قيودها فكرته، فهي دائماً تبدو في إطار محدود مادي، أما الرومانسية فهي مذهب الانطلاق، مذهب العاطفة والحرية، المذهب الذي يطير بأجنحة قوية في عالم الروحانيات غير المحدود، وهو لهذا يوجب على الأديب أو الفنان أن يجعل الرمز أهم أدواته".
والمذهب الرومانسي هو مذهب العاطفة التي تحرك الأحياء جميعاً، وتتلاعب بهم وتوجههم وتستبد بهم أشد مما يستبد بهم القضاء والقدر كما في المسرحية الكلاسيكية. كما أن المذهب الرومانسي لا يتقيد بالوحدات الثلاث: وحدة الفعل، وحدة الزمان، وحدة المكان. فشكسبير يجمع إلى العقدة الأساسية في كل مسرحية من مسرحياته أكثر من عقدة ثانوية، وهو لا يقتصر على قصة أو حكاية واحدة تتسلط عليها جميع الأضواء.
والشعراء المسرحيون الرومانسيون يشبون العواطف في نفوس شخصياتهم ونفوس المتفرجين شباً عنيفاً، ويشيعون في المسرحية وفي المسرح جواً من الترقب والاستغراق، وهو الجو الذي تسبح فيه العواطف في الجنة والجحيم على السواء. والمذهب الرومانسي لا يعنى إلا بذات الفرد ودخيلة نفسه، ومن هنا كان جمال الأدب الرومانسي كله، الجمال الذاتي، جمال الروح الإنساني في فطرته التي فطره الله عليها.
والمنطق في المسرحية الرومانسية منطق فردي ضعيف، منطق هوائي، منطق تربى في ريح العاطفة المتقلبة التي لا استقرار لها.
ويعدّ مارلو "1564- 1593م" معاصر شكسبير، الذي ولد معه في عام واحد، أول ثائر على قواعد المذهب الكلاسيكي، وتلميذ مكيافيللي صاحب المبدأ السياسي "أن الغاية تبرر الوسيلة ووجوب أن يتذرع الحاكم بكل ما يجعله قوياً غلاباً وصاحب كل سلطة في بلاده". ولم يكن مارلو وحده الذي ضرب بقواعد المذهب الكلاسيكي عرض الحائط، بل شاركه في هذا معظم خريجي الجامعات البريطانية من اللامعين، وكان منهم من استعمل النثر لأول مرة في المسرحية، ثم بدأ عصر المآسي في تاريخ المسرح الإنجليزي، وهو العصر الذي تبلور فيه شكسبير، بطل الرومانسية العميقة. وقد بهر شكسبير العالم كله بطريقته العجيبة في تصوير دخائل النفس الإنسانية، وما تجيش به من عواطف وأهواء. ويعدّ وليم شكسبير ظاهرة فنية فذة في تاريخ المسرح، وقد كان ينظم مسرحياته في إنجلترا في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر الميلادي، وكأنه كان ينظمها للعالم جميعاً وللزمان كله، إلا أن الإنجليز جهلوه أكثر من قرن ونصف القرن حتى عرّفه إليهم الناقد الألماني " شليجل Schlegel 1767 - 1845 م، فأفاقوا إلى أنهم يملكون أديباً أثمن من إمبراطوريتهم.
4. المذهب الطبيعي
ضعف المذهب الرومانسي في فرنسا، وفي كثير من دول أوروبا وأمريكا، واشتاق الناس أن يحدثهم الأدباء عن حياتهم الواقعية، وبالفعل أخذ القصاصون أمثال: ستندال Stendhal ”1783-1842م" وبلزاك "1799-1850م"، ودي فو "1660-1731م"، وهنري فيلدنج Henry Fielding "1707-1757م" ، في إنجلترا، يكتبون القصص الواقعية الشائقة التي ينتزعونها من الحياة الواقعية.
والمذهب الطبيعي هو الشيء المنسوب للطبيعة، الطبيعة كما خلقها الله، الطبيعة التي لم تتأثر بالعوامل الخارجية الطارئة والتي يصنعها المجتمع في الغالب بما يتواضع عليه من تقاليد وآداب، وما يسنه من شرائع وقوانين، وما يقيمه من معاهد للعلم أو منشآت للفنون، وما يبتدعه من أصول الذوق العام، والأدب الطبيعي هو الذي يحدثنا عن هذه الحياة الطبيعية الفجة التي لم تتأثر بهذه العوامل المكتسبة.
ولا شك أن الأخوين دي جونكور: إدمون "1822-1896م"، وجول "1830-1870م"، هما مبتكرا المذهب الطبيعي في الأدب الفرنسي، وقد كان نشاط هذين الأخوين لا يقف عند حد، وكانت لهما ميزات أدبية وفنية متنوعة، ويحسب لهما أنهما أدخلا مبادئ الفن الياباني في فرنسا. وقد كتب الأخوين دي جونكور في كل شيء، في الأدب الصرف وفي الرسائل والمقالات والقصص، وبالطبع في المسرحيات، وكانت شخصياتهما المسرحية دراسات صرفة من الحياة العامة كانا يأخذانها عمن يتصل بهم من الناس أخذا طبيعياً، لا يزيدان فيه ولا ينقصان. وقد كان غرض الكتاب الطبيعيين أن يوفروا للأجيال التالية أكبر قدر من المستندات الحية التي يعرفون بها أهل الجيل الحاضر معرفة كأنهم يرونهم بها رأي العين.
ويعتبر "إميل زولا Emile Zola" الذي ولد في باريس عام 1840م"، من أعلام المذهب الطبيعي، كذلك المسرحي جي دي موباسان "1850-1893م".
والمذهب الطبيعي أدى بجميع أربابه إلى الدمار الخلقي والصحي، ولعل ذلك ناشئ من التزام الصدق في تسجيل مجريات الحياة، بل المبالغة في التزام ذلك، دون أن يعمل الأدباء حساباً للعواطف المكبوتة.
ويلخص النقاد معالم المذهب الطبيعي في التالي:
"وهذا المذهب الذي تتغلب فيه الحقيقة على كل من العقل والتفكير، والكاتب الطبيعي يقتصر على تصوير الحقيقة المجردة، وكشف بواطنها كشفاً لا يحفل بالخجل أو الحياء أو التقاليد، وهو لا يسمح لتفكيره مطلقا بالتدخل في شأن هذا التصوير".
وللكاتب الطبيعي طريقته في كتابة مسرحياته، فهو يقلل ما أمكن من عناصر موضوعه، ويجعل عقدته، إن كانت له عقدة، بسيطة غاية البساطة، كما يقلل من الحركة، وهو يقتصد في حيل المذهب الرومانسي وزخارفه، كهذه الأحاديث الجانبية التي يتمتم بها بعض الممثلين فيما بينهم حتى يسمع الجمهور حوار غيرهم من الممثلين، وهو يقتصد كذلك في القطع الطويلة التي يلقيها ممثل واحد، والخطب المملة أو المؤثرة أو المفتعلة، وهو يستعمل بدلاً من ذلك كله الحوار الطبيعي الذي يتبادله المتحدثون.
أما من حيث الموضوع، فيفضل الكاتب الطبيعي أن يختار موضوع مسرحيته من أحداث العصر الذي يعيش فيه والبيئة التي يحيا فيها، بل من أكثر الموضوعات جدة وأقربها إلى أمزجة جمهوره من النظارة. ثم إن الكاتب الطبيعي يختار هذه الموضوعات من حياة الرعاع، بل أسفل طبقة من طبقاتها، وهو يتعمد ذلك إما لطرافة ما يعرضه على المسرح من وسائل عيشهم، وإما مجاراة لريح الديمقراطية الزائفة التي تستهوي هذه الطبقات بالعطف المصطنع عليها وتكلف الرحمة بها.
على أن الطبيعيين يعنون أشد العناية بأن يكون أبطال مسرحياتهم أبطالاً ضعافاً سلبيين، يسهل قيادهم والتأثير عليهم، كما يعنون بعالم الجريمة والأمراض، بوصفها نتيجة للظروف الاجتماعية والمرضية وظروف البيئة والوراثة، تلك الظروف التي هي في نظر الطبيعيين بمثابة تقابل القضاء والقدر عند الكلاسيكيين القدماء. ومن ثم كان معظم الكتاب الطبيعيين أقرب إلى التشاؤم والنظرة السوداء إلى الحياة ومستقبل الإنسانية منهم إلى التفاؤل والابتسام للمستقبل.
5. المذهب الواقعي
الشيء الواقعي هو الذي تحول إليه الشيء الطبيعي بعد أن تأثر بعوامل خارجية طارئة، والعوامل التي صنعها المجتمع بما تواضع عليه من تقاليد وآداب.
لم يكن من المنتظر أن تنحسر تلك الموجة الرومانسية الهائلة التي اجتاحت الأدب الفرنسي على يدي فكتور هوجو، وبتلك السرعة لتحل محلها موجة عاتية من المذهب الواقعي، على أيدي ستندال، وبلزاك، وفلوبير وغيرهم.
ويعدّ الكاتب "هنري بايل" الذي عرف في عالم الكتابة باسم "ستندال" أول زعماء المذهب الواقعي في فرنسا، وهو الذي حفلت حياته بضروب من الشجاعة والمجد، حيث شهد الكثير من معارك نابليون، كما حضر نكبة الجيش الفرنسي في موسكو. وكانت قصة ستندال الخالدة "الأحمر والأسود" أول محاولة جدية في إحلال المذهب الواقعي محل المذهب الرومانسي في فرنسا، وقد وصف فيها الحياة المعاصرة وصفاً واقعياً بعيداً عن أية مسحة رومانسية، بل سلك طريقاً مضاداً للرومانسيين فبشّر في قصته هذه بمذهب القوة.
ثم ظهر إلى جانب ستندال، من كتاب القصة الواقعية الفرنسية، "بلزاك" الذي وصفه الناقد سانت بيف فقال: "إنه أعظم رجل أنجبته فرنسا". وقد تأثر بلزاك في أول نشأته بالمذهب الرومانسي، لكنه أفاق ولم يترك صنفاً من الناس إلا وصفه، ولا جماعة من الجماعات إلا أعطى منها صورة لا تبرح مخيلة قارئها، لا يبالي إذا كان يصف ملكاً أو ملكة أو قائداً أو أديباً أو شاعراً أن يقفز فيصف طباخاً أو جندياً أو جزاراً أو فلاحاً عادياً، ويصفهم بالصدق نفسه الجريء الذي لا يبالي وبالحرارة نفسها، ثم هو يثب من الوصف العام إلى الوصف الخاص الدقيق الذي يتغلغل في أعماق المشاعر ودنيا الأسرار، ملوناً صوره الواقعية هذه بلمحات حلوة جذابة من المذهب الرومانسي، لكنه لا يسمح لهذه اللمحات بالطغيان على الأصل، وهذا كله موشى بالنظرات الفلسفية، والدراسات والتحليلات الرقيقة، مما جعله زعيم المذهب الواقعي ومرسي دعائمه.
أما "جوستاف فلوبير " فحسبه أنه منشئ أروع قصة في الأدب الواقعي كله وهي قصة "مدام بوفاري"، والقصة صورة بارعة للحياة الريفية الفرنسية في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وصف فيها فلوبير الطبقة البرجوازية التي نشأ هو منها. ويعد "إبسن" إمام المدرسة الواقعية في المسرح الحديث، لأنه كان أقوي كتاب هذه المدرسة في أوروبا كلها.
والكاتب الواقعي في المسرح لا ينقل الحياة الواقعية نقلاً حرفياً أو نقلاً فوتوغرافياً كما يفعل الكاتب الطبيعي، بل هو يلخصها ويعطي جوهرها، والمسرحية الواقعية لا يشترط أن تكون مسرحية تعليمية، أي موضوعة لغرض تعليمي أو للتبشير بفكرة معينة، وإن كان من المستحسن أن تكون كذلك، حتى لا تكون مجرد ترف ذهني أو متعة للتسلية في الفراغ، كما هو الشأن في أكثر المسرحيات الرمزية والسريالية.
لكن المكروه، بل غير الجدير بالمسرحية الواقعية أن تكون بوقاً من أبواق الدعاية لنظام معين، لأنها بذلك تجافي الفن وتدجل على الذهن وتمسخ حرية الفكر، وأجمل المسرحيات الواقعية ما كانت صادرة عن فكرة إنسانية تعود بالخير على عقول الناس وقلوبهم وأذواقهم وتزيدهم إنسانية، وترهف فيهم مشاعرهم الفنية، وتضاعف فيهم الإحساس بالجمال والحق والخير. وكلما كانت المسرحية الواقعية تطبيقاً أو عرضاً لمشكلة من مشكلات الحياة العملية، أو نقداً لوضع من الأوضاع العامة العالمية كانت مسرحية ناجحة. وفي هذا كان إبسن يتفوق على مقلديه من الواقعيين المحدثين الذين يتناولون في رواياتهم الأفكار التجريدية التي تغرق في فلسفتها المشكلة الحية.
تعليقات
إرسال تعليق