الغزل العذري في العصر الأموي

المقدمـة

يدخل هذا البحث تحت فرع النقد التطبيقي ، وهو من الفروع المهمة في مجال الدراسات الأدبية والنقدية ، أو أنه همزة الصل بين مجال الإبداع والنقد ، ومن أهم خصائص هذا الفرع أنه يتعامل مع النصوص تعاملا مباشرا ، يحاول الكشف عن خصائصها الكامنة ، ويميزها عن غيرها من النصوص ، ويضع الإبداع الأدبي في موضعه الصحيح من تاريخ الأدب ، وميزة أخرى فيه أنه يخلص الدراسة من كل الفروع المتداخلة معها : من تاريخ وجغرافية ، وبعض العلوم الإنسانية الأخرى التي تتصل اتصالا مباشرا ، أو غير مباشر بالدراسات الأدبية ، ومن هذا المنظور ، فإن مجال النقد التطبيقي يعد من المراحل الأخيرة في الدراسات الأدبية والنقدية ، فهو لا يعنى بنقد نسبة النصوص أو تداخلها ، وغير ذلك من المشكلات المعقدة المتصلة بالعصر ، وبشخصية المبدع نفسه ، إن هذه المراحل تعد سابقة عليه ، يأتي هو فيجدها ممهدة له مستقرة ، ومن ثم يبدأ عمله ، قد يستخدم التاريخ ، وعلم النفس ، لكنه لا يستخدمه إلا في نطاق ضيق ، وفيما يفيد خصائص إبداعية معينة .

ومن هنا اهتم البحث بالشعر العذري ، وتعامل معه تعاملا مباشرا ، ووجد الباحث أن كثيرا من الدراسات السابقة عليه قد ركزت جهودها في مجال القصص العذري ، وفي الحديث عن الشعراء العذريين ومحبوباتهم ، وأهملت أو تكاد هذا الشعر الذي أبدعوه بالرغم من أن بروز هؤلاء العشاق لم يكن عن طريق قصص حبهم ، وإنما كان تجسيد هذه القصص في شعر هو الذي أعطاهم هذا الطابع المميز في تاريخ الأدب ، الشعر إذن هو الأصل ، وليست القصة ، والعناية بالشعر هي من صميم الدراسة الأدبية ، أما القصة ، فهي ضرب من الأدب الشعبي ، أو أنها عوامل مساعدة تبرز المقطوعة أو القصيدة وتفسر غوامضها ، مع تحفظاتنا الكثيرة على هذا النوع من القصص الذي يتسم بنوع من المغالاة ، والبعد عن المنطق .

والشعراء العذريون في العصر الأموي كثيرون ، منههم المشهورون والمجهولون ، فمن المشهورين : مجنون ليلى ، كثير عزة ، جميل بثينة ، قيس بن ذريح ، عروة بن حزام ، ومنهم أيضا الصمة القشيري ، ليلى الأخيلية ، وعبد الرحمن بن أبي عمار الجشمي ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة . وأما المجهولون ، فكثيرون ، ولهم ثبت بأسمائهم والمواضع التي ذكروا فيها في نهاية البحث ، وقد اقتصر البحث على المشهورين من شعراء الغزل العذري لقلة شواهد الشعراء الآخرين ، ولاحتواء هذه الشواهد على الخصائص الشعرية نفسها ، كما أن هذا البحث ليس بحثا استقصائيا إحصائيا ، وإنما هو بحث يحاول تتبع الخصائص الشعرية العامة للشعر العذري ، وقد واجهت البحث مشكلة " ذي الرمة " ، فهو شاعر يعده شوقي ضيف من شعراء الغزل العذري في العصر الأموي ، لكن توجه ذي الرمة الرئيسي في ديوان كان وصف الصحراء ، كما أن حياته العاطفية ممتلئة بالنساء اللواتي عشقهن من أمثال : مي ، وأم البنين ، والسبب الثالث والمهم أن الخصائص الشعرية لذي الرمة تختلف كثيرا عن خصائص الغزل العذري ، في شدة اعتنائه بلغته وصياغة معانيه ، على النقيض من شعراء الغزل العذري الذين كان التعبير الشعري لديهم تعبيرا انفعاليا فياضا ، هذه الأسباب أخرجت ذا الرمة من نطاق الغزل العذري .

وقد كانت الزاوية التي درس من خلالها الشعر العذري هي زاوية الصورة الفنية ، وعناصرها المختلفة داخل البناء الشعري ، ومصطلح الصورة الفنية من المصطلحات النقدية المهمة في مجال الدراسات الأدبية ، لكن ما الصورة الفنية ؟ إن داي لويس في كتابه القيم " الصورة الشعرية " يعرف الصورة في الشعر على أنها صورة لفظية مشحونة بالانفعال أو العاطفة ( 1 ) ، وداي لويس هنا يقرر فكرة المحاكاة التي تحدث عنها أرسطو ، ويوازي بين عمل الشاعر والرسام، لكن الأداة بينهما تختلف ، فهذا يستخدم الألفاظ ، وذاك يستخدم الألوان ، طبيعة العمل واحدة هي المحاكاة بالمعنى الذي استقر لهذا اللفظ في مجال النقد ، ثم يضيف لويس بعد الانفعال ، أو العاطفة للصورة دلالة الأهمية الكبيرة لهذا البعد داخل بناء الصورة ، وكلمة " مشحونة " هنا من الكلمات التي لا تكشف عن معناها بسهولة ، كيف تبرز العاطفة داخل الصورة ؟ وهل صورة واحدة داخل القصيدة قادرة على إبراز هذه العاطفة ؟ أم أن التشكيل الشعري يساعد أيضا في إبرازها ، إننا نتصور أحيانا – كما يقول د. عز الدين إسماعيل – أن الصورة شيء ، والشعور أو الفكرة شيء آخر ، وأن الصورة تعبر عن الشعور أو الفكرة ، ولا بأس في أن تكون الصورة تعبيرا ، إلا أن يكون المقصود من ذلك أن الصورة وسيلة لنقل الشعور أو الفكرة ، إننا نقول مع هويلي : إن الشعور ليس شيئا يضاف إلى الصورة الحسية ، وإنما الشعور هو الصورة ، أي أنها الشعور المستقر في الذاكرة الذي يرتبط في سرية بمشاعر أخرى ، ويعدل منها عندما تخرج هذه المشاعر إلى الضوء ، وتبحث عن جسم ، فإنها تأخذ مظهر الصور في الشعر ، أو الرسم أو النحت ، وإن كان هذا لا يتضح في الموسيقا ، ويؤكد لنا اتحاد الفكرة أو الشعور بالصورة ، وعدم إمكان تصورهما مستقلين حقيقة نقدية مألوفة ، هي أننا لا نستطيع أن نجد صورا ناجزة للتعبير عن مشاعرنا ، أو أفكارنا ، بل علينا – إذا أردنا أن نحتفظ بهذه العواطف والأفكار بأصالتها أن نقدمها إلى الآخرين في صورتها الخاصة ، تلك الصورة التي تتولد تلقائيا مع الشعور نفسه أو الفكرة( 2 ) ، ويقول في موضع آخر " إن الشعور يظل مبهما في نفس الشاعر ، فلا يتضح له إلا بعد أن يتشكل في صورة . " ( 3 )

وإذا عدنا إلى تعريف الصورة مرة أخرى ، فسنجد د. محمد حسن عبد الله يعرف الصورة الشعرية بأنها " علاقة – وليست علاقة تماثل بالضرورة – صريحة ، أو ضمنية بين تعبيرين أو أكثر ، تقام بحيث تضفي على أحد التعابير ، أو على مجموعة من التعبيرات لونا من العاطفة ، ويكثف معناه التحليلي ، وليس معناه الحرفي دائما ، ويتم توجيهه ، ويعاد خلقه إلى حد ما من خلال ارتباطه ، أو تطابقه مع التعبير ، أو التعبيرات الأخرى " ( 4 ) وهذا التعريف الدقيق يعتمد أيضا على الركيزيتين السابقتين : التعبير ، أو المحاكاة ، والانفعال أو العاطفـة .

ودراسة الصورة الشعرية في القصائد العذرية يقود إلى عدة قضايا : البحث في طبيعة الانفعال في تجربة العذريين ، لأن الانفعال من الأبعاد الرئيسية داخل بناء الصورة المفردة ، وداخل السياق الشعري كله ، وقاد أيضا إلى البحث عن رؤيتهم النفسية ، وموقفهم من الحب والموت والمرأة ، وقاد أيضا إلى الحديث عن مفهوم الوحدة ، وكيفية تشكيل الصورة الشعرية داخل القصيدة ، ثم قاد أيضا إلى الحديث عن الجوانب اللغوية والموسيقية التي تتصل بالبناء الشعري اتصالا وثيقا ، وأخيرا كان الحديث عن مدى اتصال تقاليد التعبير الشعري ، وبخاصة في فن الغزل بين الشعر الجاهلي والشعر الأموي ، والجوانب التجديدية التي برزت في الغزل العذري في عصر بني أميـة .

ومن هنا انقسم البحث إلى مقدمة تتحدث عن المنهج الذي اختطه الباحث لنفسه ، ثم عرض للدراسات السابقة في موضوع الغزل العذري عند بني أمية ، ثم ستة فصول .

الفصل الأول : تحدث عن أبعاد الصورة في الشعر العذري : طبيعتها ، وطريقة بنائها .

الفصل الثاني : تحدث عن الانفعال في تجربة الشعر العذري ، وفرق فيه الباحث بين الانفعال والعاطفة من الوجهة النفسية ، ثم عرض لأهم الانفعالات في شعر الغزل العذري ، وقد كانت الأمل والغضب والقلق والغيرة ، ثم تحدث عن آثار هذه الانفعالات على التجربة الشعرية .

الفصل الثالث :تحدث عن الموقف النفسي للشاعر العذري ، ورؤيته للحب ، وقد كانت أبرز الجوانب النفسية هي ظاهرة الصراع التي شغلت حيزا كبيرا ، وعرض الباحث لآثارها أيضا في التجربة العذرية ، ثم تحدث عن رؤيتهم للحب التي استمد وجودها من القضاء والقدر ، وتحدث أيضا عن تصورهم للمرأة التي كانت في أشعارهم طاغية مستبدة ، ثم تحدث عن الموت في أشعارهم الذي تمثل في وجهتين متخالفتين : مثل عندهم تهديدا للوجود من ناحية ، ومثل لديهم من ناحية أخرى انعتاقا من الألم .

الفصل الرابع :تحدث عن الوحدة في الشعر العذري ، وأبرز جانبين للوحدة هما : الوحدة النفسية ، والوحدة الموضوعية ، وتحدث عن الفرق بينهما .

الفصل الخامس : تحدث عن خصائص التركيب اللغوي ، والموسيقي في صياغة الغزل العذري ، وقد راعي الباحث الحديث عن الخصائص اللغوية المتصلة بطبيعة التعبير الشعري ، يتحدث عن شعبية الألفاظ ، وعن القسم بوصفه ظاهرة لغوية ، كذلك الالتفات من الناحية اللغوية ، لا من الناحية البلاغية ، ثم التكرار في أول الأبيات ، وأما الجوانب الموسيقية ، فقد لاحظ الباحث أن العذريين لم يطوروا موسيقاهم ، وهي تعد في أحد جوانبها استمرار لموسيقا الشعر الجاهلي .

الفصل السادس : تحدث عن الصورة في الشعر العذري بين التقليد والتجديد ، وحاول الباحث إيجاد العناصر التراثية في شعر العذريين ، فكانت المقدمة الطللية ، والنموذج الجمالي للمرأة ، ثم تأثير الجاهليين في الصورة العذرية من العناصر التي وجد الباحث أنها عناصر ممتدة في الشعر الجاهلي ، ومتصلة في الشعر العذري في العصر الأموي ، وتحدث أيضا عن أثر الإسلام في القصيدة العذرية .

وختم البحث بخاتمة تلخص أهم نتائجه .

أهم الدراسات السابقة

تعد دراسة طه حسين التي نشرها في جريدة السياسة سنة 1924 ، ثم جمعها في كتاب " حديث الأربعاء " ج1 من أوائل الدراسات التي تعرضت لموضوع الغزل العذري ، تحدث فيها طه حسين عن القصص العذري ، وأبطاله الشعراء ، وأنكر وجود مجنون ليلى ، وغض من شخصية قيس بن ذريح ، لكنه اهتم اهتماما كبيرا بالقصص العذري ، وقد قسم طه حسين الغزل إلى ثلاثة أقسام مختلفة : الأول غزل العذريين ، كانوا يتغنون في شعرهم هذا الحب الأفلاطوني اللطيف ، كجميل وعروة وقيس بن ذريح ، والمجنون ، والثاني غزل الإباحيين الذين أسميهم " المحققين " ، وهم الذين كانوا يتغنون الحب ، ولذاته العملية ، كما يفهم الناس جميعا ، وزعيم هؤلاء عمر بن أبي ربيعة ، والثالث الغزل العادي الذي ليس هو في حقيقة الأمر إلا استمرارا للغزل القديم المألوف أيام الجاهليين . ( 5 ) ، وتحدث أيضا عن أسباب نشأة الغزل في العصر الأموي ، فأرجعه إلى ثلاثة أسباب : اليأس والثروة وآثارهما في مكة والمدينة ، ثم الفقر أو الزهد الذي يشبه التصوف ، ثم الغناء ، ثم تحدث عن قصة قيس بن ذريح ، ورأى أنها قصة إنسانية " أريد أن الخيال لم يخترعها اختراعا ، وإنما ألفها تأليفا ، والفرق بين الاختراع المطلق ، والتأليف واضح . " ( 6 ) ثم تحدث أخيرا عن شعر الغزلين ، فرأى أنه ينقسم إلى قسمين : أحدهما هذا الغزل الذي قاله شعراء مجهولون ذهبت أسماؤهم ، ، إما لأنهم لم يكثروا من الشعور ، ولم يتخذوه صناعة ، وإما لأن حظهم من الإجادة لم يكن كحظ غيرهم من هؤلاء الذين بقيت أسماؤهم ، والآخر شعر هؤلاء الشعراء المعروفين الذين اتخذوا الغزل صناعة وفنا . " ( 7 )

وقيمة هذه الدراسة أنها تعد من أوائل الدراسات في موضوعها ، كما أنها أثارت عددا من القضايا المتصلة بالغزل : نشأة الغزل العذري ، وجود الشعراء ، القصص العذري ، الشعر العذري نفسه ، وهي قضايا أكثر اتصالا بتاريخ الأدب ، منها بالنقد كما نحاوله الآن ، كما أن الجانب التأثري غلب عليها ، وبخاصة حين تناول بعض أشعار العذريين بالتحليـل .

ومن الدراسات المهمة المتصلة بموضوع الغزل كتاب شكري فيصل " تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام من امرئ القيس إلى ابن أبي ربيعة " الذي طبع بدمشق عام 1959 ، لكن الأصول الأولى له ألقيت بجامعة دمشق عام 1951 – 1952 ، وينقسم الكتاب إلى قسمين : قسم خاص بالغزل الجاهلي ، وقد تحدث فيه عن مكانة الغزل في الشعر الجاهلي : أصالته ودلالته النفسية ، ورأي القدماء في موضوع الغزل ، ثم قسم هذا الجزء إلى عدة موضوعات : الوقوف على الأطلال ، مشاهد التحمل والارتحال ، وصف محاسن المرأة ، وكانت خطته في كل موضوع أن يأتي بنصوص كثيرة لشعراء جاهليين تتحدث مثلا عن موضوع الأطلال ، ثم يشرح النص شرحا لغويا في الهامش ، وبعد تعاقب النصوص ، يبدأ في دراسة الطوابع العامة للموضوع ، وفي القسم الخاص بالغزل في العصر الأموي قسم الغزل إلى ثلاثة أنواع : الغزل العذري ، الغزل العمري ، الغزل التقليدي ، وقد بدأ الحديث عن الغزل العذري ، تحدث عن شعرائه وماهية هذا الشعر ، وهو يرى أن الحب العذري إنما نشأ عن التقاء عنصرين اثنين : أولهما العاطفة الدينية ، والثاني الميول الجنسية في نفس المؤمن الذي حسن إيمانه ، وقوي يقينه ، أما الغزل العذري فهو التعبير الفني الشعري عن هذا الحب . " ( 8 ) وهو يرى أن " الغزل العذري هو المظهر المغني للعواطف المتفننة والملتهبة في آن معا ؟ " ( 9 )

ثم تحدث بعد ذلك عن صفات الحب العذري الذي " يتصف بالحرارة الملتهبة والديمومة الدائمة والعفة المحصنة . " ( 10 )

واختار شكري فيصل جميل بن معمر العذري ممثلا للشعراء العذريين ، تحدث عن بيئته المكانية والأدبية ، وعن حياته ، وقصة حبه لبثينة ، ثم اختار أربعة نماذج شعرية تمثل شعر الغزل عنده . ودراسة شكري فيصل لم تكشف الخصائص الفنية لشعر الغزل العذري في العصر الأموي ، فالجهد الأكبر للكتاب تركز في العصر الجاهلي ، وشعر عمر بن أبي ربيعة ، ولم يشغل الغزل العذري إلا خمس وأربعين صفحة من كتاب يصل عدد صفحاته إلى خمسمائة صفحة ، كما أن المنهج الذي اختطه لنفسه لم يكن منهجا ملائما للدراسة ، فقد تداخل عنده تاريخ الأدب بالدراسة النقدية ، واختيار شاعر يمثل العذريين ، ثم اختيار أربع مقطوعات تمثل هذا الشعر يضيق من حدود الدراسة ، ويفقد البحث كثيرا من النتائج .

وأما الدراسة الثالثة ، فهي دراسة عبد القادر القط في كتابه " في الشعر الإسلامي والأموي " ، وقد عرض فيها القط لنشأة الشعر العذري ، وناقش الآراء المختلفة التي قيلت في أسباب هذه النشأة ، وخلص إلى ثلاثة تفسيرات : التفسير الديني ، والتفسير السياسي ، والتفسير الحضاري ، ثم تحدث عن الملامح الفنية التي تميز هذا الشعر ، وناقش فيها كثيرا من القضايا المتصلة بهذا الشعر .

ناقش قضية الوحدة ، كما تحدث عن المعجم اللغوي للشعراء العذريين ، وتتبع بعض الملامح العامة في شعرهم ، مثل التكرار بألوانه المختلفة داخل الشعر العذري ، والتساؤل ، ثم تحدث عن بناء القصيدة ، وتعد دراسة القط من أوائل الدراسات المتميزة للشعر العذري ، فمعظم الدارسين قبله أغراهم القصص العذري بالحديث ، فاستنفدوا جل طاقتهم في الحديث عن الحب والحرمان ، وعن حياة الشعراء العذريين ، أما القط ، فقد درس الشعر العذري نفسه ، ولم يغره القصص العذري بإهمال الشعر ، لكن الملامح الفنية عند القط لم تأخذ شكلا منهجيا ، وكانت – كما سماها – ملامح وخطوط .

وغير هذه الدراسات الثلاث توجد كثير من الكتب التي درست الحب العذري في صورة مجردة مثل : كتاب " الحب العذري " لأحمد عبد الستار الجواري ، " الحب العذري " لموسى سليمان ، وكثيرا من الكتب الأخرى ، لكن الكتب الثلاثة السابقة تعد أهم الدراسات التي ناقشت موضوع الغزل العذري في العصر الأموي .

الهوامش

------

poetic image / p : 5 -1

2 – التفسير النفسي للأدب : ص / 63 – 64

3 – المرجع السابق : ص / 64

3 – الصورة والبناء الشعري : ص / 37

5 – حديث الأربعاء : ج 1 / ص / 187

6 – المرجع السابق : ص / 204

7 – المرجع السابق : ص / 219

8 – تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام : ص / 236 – 237

9 – المرجع السابق : ص / 237

10 – المرجع السابق : ص / 238

الفصل الأول

وظيفة الصورة وأبعادها

في الشعر العذري

التجربة العذرية تجربة خاصة ، على الرغم من أن ريتشاردز في " مبادئ النقد الأدبي " ينفي ذلك بصورة حادة ( 1 ) . وخصوصية هذه التجربة جاءت من زاويتين : الزاوية الأولى هي المنطق الذي يحكم التجربة ، فنحن كما يقول كولردج مثلا " لا نحتج على هوميروس لأنه يجعل الآلهة تتدخل في صورة محسوسة في شئون البشر مما يتنافى ومعتقدات الرجل الحديث ، ولا نهجو " دانتي " لأن تصوره للفلك في " الكوميديا الإلهية " تصور عتيق ، لا يتفق ونظريات العلم الحديث " ( 2 ) ، هنا يسوغ للشاعر ما لا يسوغ لغيره ، ونحن لا نطالبه بمشاكلة الواقع ، الزاوية الأخرى هي فكرة الانتقاء في التجربة ، فالشاعر لا يعرض الواقع كما هو ، وإنما ينتقي منه لحظات ومواقف تثير انفعالات متشابهة يوحد بينها بطريقة غامضة ، فالشاعر يستخدم اللغة ليثير انفعالات ، وأما غيره ، فيستخدمها ليعرض حقائق ، وهو الفرق الذي تحدث عنه ريتشاردز حين قسم اللغة إلى لغة انفعالية ، ولغة رمزية ، هذا الفرق هو الذي يبرر فكرة الانتقاء ، ويؤكدها ، والتجربة الشعرية لا تستطيع أن تحيا بدون عاطفة ، فالشعر – في جوهره – كما يرى كولردج هو " إدراك عاطفي " ، ولكن كيف توجد العاطفة في الشعر ؟ وما علاقتها بالصورة ؟ وكيف يمكن أن تنشأ هذه العلاقة ؟

نلحظ أحيانا بعض الألفاظ والصور التي تثير انفعالا معينا لا تثيره في مواضع أخرى ، مرد هذا فيما أظن إلى السياق ، أو كما يقال في عبارة أخرى إلى علاقات هذه الألفاظ والصور بما يجاورها ، الصورة المفلردة أو اللفظة إذن لا تستطيع أن تثير العاطفة " وإنما تجاور الصور ، أو التعابير الشبيهة بالصور قد تثيرها ، وقد تثيرها بالرغم من أن هذا التجاور لا يمكن تفسيره تفسيرا عقليا ـ بل لعلها تثيرها بسبب هذا التجاور اللامنطقي ذاته " ( 3 ) كما يقول أرشيبالد ماكليش في " الشعر والتجربة " الذي يعلق على إحدى القصائد ، فيقول " إنني أعتقد – وقد أكون مبالغا في الثقة – أن الصور في القصيدة تتضمن العاطفة على هذه الطريقة ، فالقصيدة ليست قصيدة عن الطقس ، ولا هي قصيدة عن الحب ، والعاطفة التي تتضمنها ، إنما تنساب بين هذين التعبيرين ، في ذلك المكان حين يلتقي الحب والزمن ويتقاطعان ، وأنها بهذه الطريقة تثير حالة عاطفية فائقة للعادة ، فليس من الممكن أن تفعل ذلك صورة واحدة . " ( 4 )

" دور الصور إذن ليس مجرد زينة ، ولا يقصد الشاعر أن تكون جميلة ، إنها عناصر في القصيدة ، عناصر في بنائها ، ويجب أن تقرأ بهذا المفهوم . " ( 5 ) ويؤكد بورا أن الصور تلعب الدور الأول ، إنها لا تعدو أن تكون عنصرا من بين عناصر كثيرة .... من هنا ، فإن الكلمات في الشعر مشحونة بالمعنى ، ومن هنا أيضا يختلف التركيب اللغوي للشعر ، هذا التركيب ليس هدفا في حد ذاته ، وإنما يكتسب أهميته بقدر ما يثير من انفعالات وأحاسيس منسقة تنسيقا فائقا للعادة ، فليس قصارى الشاعر أن يقدم الخبر أو شبه الجملة أو المفعول به ، وليس قصارى النقد أن يحصي هذا التقديم والتأخير ، وإنما النقد قائم على فكرة التمييز ، تمييز التجربة الشعرية ، ووضعها في موضعها من تاريخ الأدب .

ويستخدم الشاعر مادة صوره من تجاربه الخاصة ، فهذه التجارب هي المادة الخام للصور الأدبية ، ويقرر إليوت " أن البحث عن مكونات الصورة الشعرية تبدأ من البحث عن ثقافة الأديب . " ( 6 ) أما كيف يؤلف بينها الشاعر حتى يحيلها إلى هذه الصورة الخاصة ، فذلك عمل الخيال كما أوضحه كولردج في نصه الذائع الصيت ، فهو يذيب ويلاشي ويحطم ، لكي يخلق من جديد ، أو هو كما يقول في موضع آخر " يوازن بين الصفات المتضادة أو المتنافرة ، بين الإحساس بالجدة ، والموضوعات القديمة المألوفة ، بين حالة من الانفعال أكثر من المعتاد ، ودرجة بالغة من النظام . " ( 7 ) من هنا فإن الخيال يؤدي دورا خطيرا في التجربة الشعرية ، ويرتبط الخيال بالصورة في النقد الغربي ارتباطا واضحا ، والاشتقاق بينهما واحد ، فالخيال IMAGINATION ، والصورة IMAGE ، وعلى الرغم من تعدد المذاهب الفنية الغربية الحديثة ، فإنها تكاد تشترك في تقدير خطر الخيال ، وفهمه فهما حديثا ، على أنه التفكير بالصور على حسب طرق فنية تختلف من مذهب فني لمذهب فني آخر . " ( 8 )

أما الصورة الشعرية ، فإن داي لويس يعرفها " بأنها صورة لفظية محملة بالعاطفة ، أو الإحساس . " ( 9 )

ولا يكاد يوجد هذا الربط بين الخيال والصورة في النقد العربي القديم ، لأن لكل منهما مفهوما مستقلا عن الآخر ، فابن سينا يرى أن الكلام المخيل هو " الذي ينفعل به المرء انفعالا نفسلنيا غير فكري ، وإن كان متيقن الكذب ( 10 ) ، وينعكس أثر هذا الإدراك للخيال في النقد العربي فيما سماه عبد القاهر التخييل ، أو الإيهام بالكذب . " ( 11 ) على الرغم من أننا نجد في مادة " خيل " في لسان العرب إشارات من بعيد تستشعر العلاقة بين الخيال والصورة . يقول لسان العرب " وتخيل الشيء تشبه ، وتخيل له أنه كذا ، أي تشبه وتخايل ، يقال : تخيلته ، فتخيل لي ، كما تقول تصورته ، فتصور ، وتبينته ، فتبين ، وتحققته ، فتحقق ، والخيال ، والخيالة ما تشبه لك في اليقظة والحلم منة صورة ، قال الشاعر :

فلست بنازل إلا ألمت براحلتي أو خيالتها الكذوب ( 12 )

إذن الخيال هو الشبه ، أو الصورة التي يستحضرها الإنسان لشيء ما ، هذا الفهم الأولي لمعنى الخيال موجود في الشعر الجاهلي ، وهو يستخدم بمعنى الشبه ، أو الطيف ، أو الصورة .

يقول سلمة بن الخرشب الأنصاري :

تأوبه خيال من سليمى كما يعتاد ذا الدين الغريم ( 13 )

والمعنى أن خيالها يكثر معاودته ، كما يلح الدائن على المدين بكثرة ترداده عليه . ويقول بشامة بن عمرو :

وحملت منها على نأيها خيالا يوافي ونيلا قليلا ( 14 )

يقول : حملت مع بعدها عنك أن ترى خيالها ، فيزيدك شوقا .

ويتردد ذكر الخيال في الشعر العذري ، ولا يكاد يختلف معناه كثيرا عن معناه في الشعر الجاهلي ، ولا نكاد نشعر أن هذه اللفظة قد تطورت دلالتها تطورا يذكر بين العصرين ، فمثلا يقول جميل :

فما غاب عن عيني خيالك ولا زال عنها ، والخيال يزول( 15 )

أو يقول :

ألم خيال من بثينة طارق على النأي مشتاق إليَّ وشائق ( 16 )

ولا نكاد نشعر بالفرق بين معنى الخيال هنا ، أو معناه في البيتين الجاهليين ، ولا نكاد نشعر بالفرق أيضا بينه ، وبين كلمة الطيف في هذين البيتين :

أمنك سرى يا بثن طيف تأوبا هدوا ، فهاج القلب شوقا وأنصبا

عجبت له أن زار في النوم مضجعي ولو زارني مستيقظا كان أعجبا

( 17 )

ولا يكاد يختلف المجنون في استخدامه لهذه اللفظة عن جميل :

إن التي طرق الرجال خيالها ما كنت زائرها ، ولا طراقها ( 18 )

أو :

بربك أخبرني ألم تأثم التي أضر بجسمي من زمان خيالها ( 19 )

أو :

ولم أر ليلي بعد يوم اغتررتها فهاج خيالا يوم ذاك اغترارها ( 20

فهي هنا أيضا بمعنى الصورة ، أو الشبه ، أو الطيف ، كذلك كثير عزة يستخدم كلمة " الخيال الاستخدام نفسه .

وطاف خيال الحاجبية موهنا وحر ، وقرن دونها ، ورنين

أو :

طاف الخيال لآل عزة موهنا بعد الهدو ، فهاج لي أحزاني

فألم من أهل البويب خيالهـا بمعرس من أهل ذي ذروان

وأيضا ذو الرمة :

على أن أدنى العهد بيني وبينها تقادم ، إلا أن يزور خيالها

أو :

ألم خيال مية بعد وهن بظامي الآل خاشعة السنام

أو :

ألا خيلت مي ، وقد نام صحبتي فما نفر التهويم إلا سلامها

أو :

زار الخيال لمي بعد ما رحلت عنا رحا جابر ، والصبح قد جشرا

أو :

أمن مية اعتاد الخيال المؤرق نعم ، إنها مما على النأي تطرق

أو :

زار الخيال لمي هاجعا لعبت به التنائف ، والمهرية النجب

ولا يكاد قيس بن ذريح ، أو عروة بن أذينة يختلفان عن بقية العذريـين .

يقول قيس :

وإني لأستغشي ، وما بي نعسة لعل خيالا منك يلقى خياليا

وعروة يقول :

تلقى بها عند الدنو زمانة وتريك ما شحط المزار خيالها

ويقول :

سرى لك طيف ، زار من أم عاصم فأحبب به من زور جاف مصارم

نلحظ من هذه الأبيات أن إيحاءات اللفظة فقط هي التي تختلف من شاعر إلى آخر ، كل منهم له قصته الخاصة ، وكل منهم له أحاسيسه التي تميزه إنسانا وشاعرا ، ودلالة لفظة الخيال لا تختلف بينهم ، فكل منهم يستخدمها الاستخدام الشائع لها ، وهو استخدام بسيط بالقياس إلى الاستخدام المعقد لها في العصر الحديث ، فهي بهذا المعنى البسيط حدث عقلي يعيد فيه الشاعر صورة حبيبته الموجودة في مكان ، ويستحضرها في ذهنه ، فالخيال هنا هو نسخة أصلية من الواقع ، نسخة مقلدة ، لا تجميل فيها ، ولا تشويه ، وذلك عكس الخيال المنتج الذي يسميه وليم جيمس بأنه " الخيال الذي تتحد فيه عناصر من أصول مختلفة لتخلق كلا جديدا . " ( 21 ) مثل أبي الهول الذي جمع فيه صانعه رأس إنسان ، وجسم حيوان ، وأما إيحاءاتها ، فهي قد تبعث الشوق عند شاعر ، والحزن عند شاعر آخر ، والألم عند ثالث ، وهكذا .

ثقافة العذريين وأثرها في الخيال :

لا يشك إنسان في مدى العلاقة الوثيقة التي تربط ثقافة الشاعر بإنتاجه الشعري ، لا تكفي الموهبة وحدها ، بل تؤازرها ثقافته التي يستقيها من مصادر مختلفة ، قد تكون كتبا ، أو رحلات ، أو تجارب خاصة في الحياة ، ممن هنا كان للبحث عن ثقافة العذريين أهميته ، والبحث عن ثقافة العذريين تكتنفه الصعاب ، فالمصادر الأساسية التي تحدثت عنهم كادت أن تغفل هذا الجانب ، لقد كان الاهتمام الأكبر بالجانب العاطفي ، إذن ليس أمامنا إلا الشعر ، واختلاط نسبته قد لا يعطينا تصورا عن ثقافة كل شاعر على حدة ، لكنه يعطينا – على الأقل – انطباعا عاما عن ثقافة هؤلاء العذريين .

وبعيدا عن الشعر ، نجد هذه الإشارة إلى تتلمذ جميل ، " وتتفق الروايات على أن الحطيئة كان راويا لزهير ، وأن هدبة راوية للحطيئة ، وأن جميلا كان راوية لهدبة ، وأن كثيرا كان راوية لجميل . " ( 22 ) ، وهي إشارة قد تفيدنا في البحث عن ثقافة جميل وكثير خاصة من العذريين ، فهم تلامذة في مدرسة زهير ، وهي مدرسة ، كما يقول طه حسين : كانت تعتمد على الأناة والروية وتقادم الطبع والاندفاع في قول الشعر ، مع السجية ، فكثر عندها التشبيه والمجاز والاستعارة ، واتكأت في وصفها على التصوير المادي ، وأن يأخذ الشاعر نفسه بالتجويد ، والتصفية والتقيح ، ثم التأليف . " ( 23 ) ثم نجد أيضا رحلات جميل وكثير إلى مصر ، وهي رحلات لا نكاد نحس أثرها في الشعر ، على الرغم من أهميته بالنسبة لشاعر بدوي مرهف الحس ، ينتقل – ربما – للمرة الأولى إلى بيئة حضرية عريقة في القدم مثل البيئة المصرية ، أيضا نجد تجوال ذي الرمة ، وهيامه بصحراء الجزيرة ، وهو هيام أثر تأثيرا قويا في شعره ، فقد خص الصحراء ، بجانب وافر من الشعر : وصفها ، والتغني بها ، ثم هذه الثروة اللغوية التي تميز بها شعره دون بقية العذريين ، غير هذا لا نجد إلا الشعر .

وأما الكتب ، فلم يكن العصر عصر تأليف كتب ، لقد كانت الثقافة الإسلامية ما تزال في مهدها ، لم يكن هناك إلا القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، وفي القرآن مادة ثرية للتثقيف ، وبخاصة القصص القرآن ، كانت هناك أيضا مجالس العلماء في المساجد ، وهي مجالس كانت تتيح ثقافة عامة وبخاصة في التاريخ القديم ، وهو تاريخ كان يروى مختلطا بالأساطير ، لكن الأساطير في حد ذاتها هي أيضا مادة غنية للثقافة ، أما الشعر العذري ، فلا نكاد نجد فيه إلا إشارات مثل :

وإني اشتاق إلى ريح جيبها كما اشتاق إدريس إلى جنة الخلد ( 24

وهي إشارات لا تنبئ عن تعمق للقصص القرآني ، بقدر ما تنبئ عن القدر المشترك من الثقافة بين الناس ، ونجد أيضا في الشعر إشارات إلى الحج ومناسكه ، وإشارات إلى جهنم وحرها وإلى الشيطان . هذه الإشارات لا تعبر عن ثقافة عميقة ، ولا عن تأثر بالدين الذي بدأت أقدامه تترسخ في الجزيرة العربية ، كذلك كان العصر عصر ظهور كثير من المذاهب الدينية والسياسية : الشيعة والمرجئة والخوارج والمعتزلة ، وغيرها من المذاهب ، كانت هناك أيضا حركة الفتوح الإسلامية التي امتدت فترات كثيرة في العصر الأموي ، كذلك كانت هناك أحداث سياسية كبرى : ثورة ابن الزبير ، والمختار الثقفي ، وضرب الكعبة من قبل الحجاج بن يوسف الثقفي ، وهو حدث – لاشك – أنه أثار ثائرة الناس في ذلك العصر ، أحداث كبيرة ومثيرة ، ما يزال أثرها ممتدا ، لا نجد لها صدى في الشعر العذري ، إن القارئ للشعر العذري يكاد يحس بانفصال هذا الشعر عن العصر ، يكاد يحس بغيبة هؤلاء الشعراء عن العالم ، لاشك أن هذه الغيبة كان لها تأثيرها القوي في الشعر ، وبخاصة في الصورة الفنية التي تعتمد أساسا على خصوبة الخيال ، والخيال لا يعمل في فراغ ، بل هناك ثقافة تؤثر فيه ، وتتأثر به ، وثقافة العذريين محدودة استقوها من الشعر الجاهلي ، ومن القدر المشترك بين عامة الناس ، تأثرت الصورة العذرية – لا شك – بهذه الثقافة المحدودة ، وقبل أن نصدر حكما عاما يجب أن نفصل في طبيعة هذه الصورة ، وتأثرها بالخيال .

الصورة الفنية في الشعر العذري هي الأثر المباشر لخيال الشعراء ، لقد كان للخيال دور في بناء القصيدة ، وفي بعض المظاهر الأسلوبية الأخرى مثل القصص في بعض أشعاؤهم ، لكن الصورة ما تزال هي المختبر الأول لقوة هذا الخيال ، ومدى اتساعه وعمقه ، والخيال عند الشعراء هو صنو الموهبة ، بل الموهبة ذاتها ، ما دامت هذه الكلمة لم يعد من الممكن اختبارها ، وبحثها علميا ، وكما نعلم من نص كولردج الذائع الصيت أنه جعل للشعراء خيالهم الخاص بهم ، أو هو الخيال الثانوي كما يسميه ، ولنتذكر مرة أخرى هذا التعريف الشهير ، لأننا سنفيد منه – لاشك – في دراستنا للصورة العذرية ، يقول كولردج " إنني اعتبر الخيال إذن إما أوليا أو ثانويا ، فالخيال الأولي هو في رأيي القوة الحيوية التي تجعل الإدراك الإنساني ممكنا ، وهو تكرار في العقل المتناهي لعملية الخلق الخالدة في الأنا المطلق ، أما الخيال الثانوي ، فهو – في عرفي – صدى للخيال الأولي ، غير أنه يوجد مع الإرادة الواعية ، وهو يشبه الخيال الأولي في نوع الوظيفة التي يؤديها ، ولكنه يختلف عنه في الدرجة ، وفي طريقة نشاطه ، إنه يذيب ، ويلاشي ، ويحطم ، لكي يخلق من جديد ، وحينما لا تتسنى له هذه العملية ، فإنه على أي حال يسعى إلى إيجاد الوحدة ، وإلى تحويل الواقع إلى مثالي ، إنه في جوهره حيوي ، بينما الموضوعات التي يعمل بها – بوصفها موضوعات – في جوهرها ثابتة ، لا حياة فيها ، أما التوهم ، فهو – على نقيض ذلك ، لأن ميدانه محدود ، وثابت ، وهو ليس إلا ضربا من الذاكرة تحرر من قيود الزمان والمكان ، وامتزج ، وتشكل بالظاهرة التجريبية الفريدة التي تعبر عنها بلفظة ( الاختبار ) ، ويشبه التوهم في أنه يتعين عليه أم يحصل على مادته كلها جاهزة وفق قانون تداعي المعاني . " ( 25 )

أعدنا هذا النص الشهير مرة أخرى ، لأننا وجدنا أنه على الرغم من كثرة الكتاب الذين تحدثوا عن الخيال ، غير أنهم وقعوا في أسر كولردج ، وتعريفه ، لم يكد يفلت منهم أحد .

هناك أسئلة تطرح نفسها فيما يتعلق بقضايا الصورة في القصيدة العذرية ، ما عناصر هذه الصورة ؟ ومن أين استقاها العذريون ؟ هل كان لها أكثر من نوع ؟ هل تطورت عن الصورة في العصر الجاهلي ؟ هل استحدث العذريون عناصر جديدة ؟ ما دور الصورة في البناء الشعري للقصيدة العذرية ؟ هل وقعت الصورة العذرية في أسر الاستقلالية التي يوسم بها الشعر العربي ؟ أم كان لها دور عضوي في التجربة الشعرية ؟ سنحاول في السطور القادمة الإجابة عن بعض هذه الأسئلة ، وسنرجئ الإجابة عن بعضها الآخر في فصل تال .

طبيعة الصورة العذرية :

استمدت الصورة العذرية عناصرها من البيئة المحيطة بالشعراء ، كانت عناصرها في الأغلب : الشمس والبعير والغزال والحمام والغراب والعصفورة والقطاة والحوت والسهام ، وكان الطرف الآخر هو الشاعر ، أو محبوبته ، وهي عناصر وجدت في بيئة العذريين ، وتفاعلت معهم ، وكانت تمثل لهم معان ودلالات ، ولكن اللافت للنظر هنا هو انحصار دائرة هذه العناصر في الحيوان ، مع بعض الاستثناءات ، برغم أن البيئة – أية بيئة – فيها متسع لعناصر أخرى ، تستطيع إثراء الصور الشعرية ، وإعطائها أبعادا جديدة . لكن العذريين أغرموا بالحيوان ، وصوروه في أشعارهم معادلا موضوعيا لأحاسيسهم أو رمزا لانفعالات مكبوتة ، أو تعبيرا عن تناقض المشاعر بين الشاعر والبيئة من حوله .

وكان الحيوان في كثير من الصور ضعيفا مفتقدا الأمان والحماية ، كما يصوره المجنون في هذه الأبيات :

متى يشتفي منك الفؤاد المعذب وسهم المنايا من وصالك أقـرب

فبعد ووجد واشتياق ورجفـة فلا أنت تدنيـني ، ولا أنا أقـرب

كعصفورة في كف طفل يزمها تذوق حياض الموت والطفل يلعب

فلا الطفل ذو عقل يرق لما بها ولا الطير ذو ريش يطير فيذهب

يستخدم قيس هذه الصورة لا ليوضح بها موقفه ، وإنما يستخدمها نوعا من المشاركة ، فكأن العلاقة غير المتوازنة بينه وبين ليلى لها ما يناظرها في الكون ، وكأننا نستطيع أن نتلمسها في أكثر من صورة ، وأكثر من علاقة ، ثم إن قيسا يصورالعصفورة هنا في حالة ضعف وألم وفقدان للقدرة والإرادة ، وهي صورة تتكرر كثيرا عنده ، وعند بقية العذريين كما نرى في هذه الأبيات له :

رعاة الليل ما فعل الصباح وما فعلت أوائله الملاح

وما بال الذين سبوا فؤادي أقاموا أم أجـد بهم رواح

وما بال النجوم معلقـات بقلب الصب ليس لها براح

كأن القلب ليلة قيل يغـدى بليلى العامـرية أو يراح

قطاة غرها شـرك فباتت تجاذبه وقد علق الجنـاح

لها فرخان قد تركـا بقفـر وعشهما تصفقه الريـاح

إذا سمعا هبوب الريح هبـا وقالا أمنا تأتـي الرواح

فلا بالليل نالت ما ترجـى ولا في الصبح كان لها براح

رعاة الليل كونوا كيف شئتم فقد أودى بي الحب المتـاح

تمثل صورة القطاة هنا المحور الذي تدور حوله المقطوعة والرمز الذي يعبر عن الضعف ، واستجلاب الشفقة ، وقد حاول قيس تعميق هذا الإحساس بإيراد عناصر كثيرة داخلة في الصورة ، فالقطاة قد غرها شرك فباتت تجاذبه ، وهي ليست وحيدة ، وإنما لها فرخان ، وهما لا يعيشان إلا في قفر ، حيث ينعدم الأمان والحماية ، ثم إن عشهما ليس قويا ، وإنما تصفقه الرياح ، وهما في حالة قلق وشوق ، وانتظار لأمهما ، ثم إنها في النهاية لم تنل ما ترجى ، ولا في الصبح كان لها براح .

صورة مأساوية أبدع فيها قيس رسم صورة الضعف في أعماقه وأبعاده الكثيرة ، وبجانب العصفورة والقطاة صور العذريون بعض أنواع الحيوان الأخرى مثل البعير والحمام والغراب والغزال ، وقد مثلت جوانب الضعف عندهم كما مثلتها الأبيات السابقة ، لكن لماذا أغرم العذريون بتصوير هذه الأنواع من الحيوان في حالة ضعف ؟ ولماذا اهتموا بتصوير الحيوان في الأصل ؟

اللافت للنظر أن العذريين صوروا أنواع الحيوان في مجال علاقتها بالإنسان ، لم تصور في حالتها الطبيعية ، حيث خلقها الله ، ولم تصور حرة لا علاقة لها بالإنسان ، وإنما صوروها في حالة صراع مع الإنسان ، صراع غير متكافئ ، الإنسان فيه منتصر دائما ، وهي صور واقعية من المشاهدات اليومية للشعراء ، لقد أحس العذريون أن هذا الحيوان في دخوله صراعا محسومة نتائجه مع الإنسان هو تمثيل صادق لموقفهم من محبوباتهم ، لذلك وجدنا أن العصفورة والطفل هما رمز للشاعر والمحبوبة والقطاة مثلت بقلب الشاعر لحظة قيل يغدى بليلى العامرية ، ولذلك نجد أيضا مجنون ليلى في الديوان قد ( حرر ظبية من الشرك ، ونظر في وجهها مليا ، ثم أطلقها ، فمرت ، وأنشأ يقول :

اذهبي فـي كلاءة الرحمـن أنت منـي في ذمـة وأمان

لا تخافي ، ولن تراعي بسوء ما تغنى الحمام في الأغصان

دلهتني ، والجيد منها كليلى والحشا( والنعام )والعينان ( 28 )

إن قيسا قد أطلق الظبية لشبهها بليلى ، غير أن كثيرا من صور الظبية عنده ، فيها جوانب الضعف ، واستدرار الشفقة عليها ، فهو كثيرا ما يصورها ، وهي في شرك ، أو هي في صراع مع حيوان أقوى منها ، أو في مواجهة صياد ، حتى أنه في إحدى القصائد قتل ذئبا لأنه افترس ظبيا ، ثم أخرج من أحشائه بقاياه ، فسواها ، ثم دفنها ، وأحرق الذئب ، يقول الديوان " رأى ظبيا ، فتأمله ، وذكر ليلى ، فجعل الظبي يزداد في عينيه حسنا ، ثم أنه عارضه ذئب ، وهرب منه ، فتبعه حتى خفيا عنه ، ثم وجد الذئب قد صرع الظبي ، وأكل بعضه ، فرماه بسهم ، فقتله ، وبقر بطنه ، فأخرج ما أكل منه ، ثم جمعه إلى بقية جسده ، ودفنه ، وأحرق الذئب ، وقال في ذلك :

أبى الله أن تبقى لحـي بشاشـة فصبرا على ما شاءه الله لي صبرا

رأيت غزالا يرتقي وسط روضة فقلت أرى ليلى تراءت لنا ظهرا

فيا ظبي كل رغدا هنيئا ولا تخف فإنك لي جار ولا ترهب الدهرا

وعندي لكم حصن حصين وصارم حسام إذا أعملتـه أحسن الهبرا

فما راعني إلا وذئب قـد انتحـى فأعلق في اأحشائه الناب والظفرا

فبوأت سهمي في كتوم غمزتـها فخالط سهمي مهجة الذئب والنحرا

فإذهب غيظي قتله وشقى الجوىبقلبي أن الحرق يدرك الوترا ( 29

وقد استخدم العذريون الحمائم أيضا ، ليشيعوا بها إحساسا نفسيا معينا ، وارتبط تصويره في الشعر بالسجع والبكاء ، كما ارتبط أيضا بتلك المقارنة التي يعقدها الشاعر دائما بين إحساسه ، وبين بكاء الحمام .

يقول المجنون :

دعاني الهوى والشوق لما ترنمت هتوف الضحى بين الغصون طروب

تجاوب ورقا قد أضحت لصوتها فكل لكـل مسعـد ومجيب

فقلت حمام الأيك مالـك باكيـا أفارقت إلفا أم جفاك حبيب

فقال رماني الله منـي بقوسـه وأعرض إلفي فالفؤاد يذوب ( 30 )

والأبيات تصور طرفين : الشاعر والحمام ، فالشاعر يدعوه الهوى عندما يترنم حمام الأيك ، وهو يسأله : لماذا يبكي ؟ أيبكي لأنه فارق إلفا ، أم أن الحبيب جفاه ؟ فقال : لقد رماه الدهر بقوسه ، وأعرض لذلك ، فإن قلبي ذائب ، والشاعر يستخدم الحمام رمزا لحالته ، فهو الذي يبكي ، لأن إلفه قد جفاه ، وهو الذي يذوب قلبه ، لكن الشاعر يحاول إضفاء هذا الجو على الحمائم أيضا نوعا من مشاركة الظواهر الطبيعية له في أحاسيسه النفسية .

ويستخدم جميل بكاء الأيك تعبيرا عن تناقض المشاعر بينه وبين البيئة ، فيقول :

أيبكي حمام الأيك من فقد إلفه وأصبر ؟ مالي عن بثين من صبر ( 31 )

فالمقارنة التي يعقدها الشاعر بين الحمام وصبره تبين مدى رفضه ألا يكون مثل الحمام باكيا لفقد إلفه ، ثم إنه يطرحها في صيغة إنشائية تساؤلية عاقدا هذه المقارنة مع طائر ، وليس مع إنسان .

كما نرى فيما يرتبط بالحمام أنه كان يمثل لهم المثير القوي الذي يدفعهم للبكاء ، كما يقول المجنون :

ألا قاتل الله الحمامـة غدوة على الغصن ماذا هيجت حين غنت

تغنت بلحن أعجمي فهيجـت هواي الذي بـين الضلـوع أجنـت

نظرت إليهن الغـداة بنظـرة ولو نظرت عيني بطـرفي تجـنت

خفت شجنا من شجوها ثم أعلنت كإعوال ثكلى أثكـلت ثـم حـنت

( 32 )

ونجد الإثارة نفسها في شعر قيس بن ذريح ، يقول :

فلو لم يهجني الظاعنـون لهاجني حمائم ورق في الديار وقوع

تجاوبن فاستبكين من كان ذا هوى نوائح ما تجري لهن دمـوع ( 33 )

وهكذا نجد أن العذريين قد استخدموا الحيوان والطير استخداما له دلالته النفسية في شعرهم ، فقد وجدناهم يعبرون عن الضعف البشري في الحب عن طريق إسقاطه على الحيوان ، كما وجدناهم أيضا يرمزون إلى هذه الحالة وتناقضاتها معهم ، ثم وجدناهم أخيرا يعبرون عن إثارة أنواع الحيوان ، أو تنبيههم إلى عدم توافق مشاعرهم مع ما يجب أن يكونوا عليه ، وقد كانت الشمس من الموضوعات التي استهوت العذريين ، وأكثروا من وصف محبوباتهم بها ، فالشمس هي الظاهرة الطبيعية الكبرى الأكثر إلحاحا وتأثيرا في حياة البدو ، وهي بهذا تشكل جزءا من حياتهم ، يقول المجنون :

هويت فتاة كالغزالة وكالشمس يسبي دلها كل عابد ( 34 )

فهو يصف محبوبته بأن وجهها مثل الغزالة ، ثم إنها مثل الشمس يسبي دلها كل عابد ، وهو وصف مطلق ، ليس كالوصف الأول الذي حدد الجمال في الوجه ، لكن الشاعر يرد في ذها الوصف بجملة ( يسبي دلها كل عابد ) ونستطيع استشفاف حدود التشبيه في هذه الجملة ، فالشاعر يتحدث عن قوة التأثير ، قوة تأثير ليلى في العابد وليس في الإنسان العادي الذي قد يستهويه كل درجات الجمال ، وإنما العابد لا يتأثر ، ولا يخرج من وقاره ، إلا إذا كان المثير قويا للدرجة التي يحطم بها حصار الوقار الضارب حول العابد ، وكذلك الشمس ، فإن تأثيرها في البيئة الصحرواية شديدا ، لا يفلت منه إنسان ، ثم يختار المجنون جانبا آخر من الشمس ، يصف به محبوبته ، فيقول :

أقول لأصحابي هي الشمس ضوءها قريب ولكن في تناولها بعد

( 35 )

فالشمس قريب ضوءها ، لكنها بعيدة ، تفصلها عن البشر مسافات شاسعة والفضاء ، كذلك المحبوبة قريبة ، لكن تفصلها عن الشاعر تقاليد ، وعادات البيئة .

كذلك يصف قيس بن ذريح بها محبوبته ، فيقول :

ربعا لواضحة الجبين غريرة كالشمس إذ طلعت رخيم المنطق

( 36 )

وكذلك يقول عروة بن أذينة :

يطفن بخود لباخية كشمس الضحى تحت أستارها ( 37 )

ويقول ذو الرمة :

لمياء في شفتيها حوة لعس كالشمس لما بدت أو تشبه القمرا

( 38 )

ويختار الشعراء من الشمس ضوؤها ، أو نورها ، أو صحوها ، ووضوحها ، أو إشراقها ، ليشبههوا به محبوباتهم .

ونجد أخيرا في شعر العذريين صور السهام الكثيرة التي استخدمها الشعراء استخداما نفسيا وفنيا .

يقول قيس بن ذريح :

برت نبلها للصيد لبنى وريشت وريشت أخرى مثلها وبريت

فلما رمتني أقصدتني بسهمـها وأخطأتها بالسهم حين رميت ( 39 )

هنا يقف الحبيبان موقف المتقاتلين ، كل منهما يستعد لرمي الآخر بالسهام ، لكن سهام لبنى أصابته ، بينما أخطأها هو حين رمى ، وليس من العسير تبين أن السهام التي يتحدث عنها الشاعر ما هي إلا سهام الحب ، وهي صورة تذكرنا بصورة إله الحب عند اليونان ( كيوبيد ) الذي يحمل سهاما يصيب بها البشر ، ولا نستطيع أن نفتعل الصلة هنا بين هذه الصورة ، وصورة هذا الإله ، ولا ندعي أن العذريين قد أخذوها من اليونانيين لأسباب كثيرة لا مجال هنا لبحثها ، لكن استخدام السهام للتعبير عن هذا الإحساس المفاجئ الذي يصيب القلوب يمكن تفسيره بيئيا من واقع الحروب الكثيرة المنتشرة في جزيرة العرب ، والتي كانت تستخدم فيها أسلحة كثيرة مثل السهام ، ومما يعضد هذا التفسير أن الصورة ذاتها نجدها عند شاعر جاهلي – لا يتوقع أن تكون له صلة أدبية باليونان – هو امرؤ القيس الذي يقول في معلقته :

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي بسهميك في أعشار قلب مقتل ( 40 )

وتتكرر صورة السهام في الشعر العذري ، يقول أيضا قيس بن ذريح :

رمتني لبينى في الفؤاد بسهمها وسهم لبينى للفؤاد صيود ( 41 )

ودائما نجد أن سهام الحبيبة تصيب الشاعر إصابة مباشرة ، كما أقصدت لبنى بسهمها حين رمت ، وكما يصف سهمها في البيت الأخير بأنه صيود ، وكما يصفها كثير عزة في هذا البيت :

أصابتك نبل الحاجبية إنها إذا ما رمت لا يستبل كليمها ( 42 )

وكما يصفه جميل أيضا في هذا البيت :

رمتني بسهم ريشه الكحل لم يضر ظواهر جلدي فهو في القلب جارحي ( 43

فهو إذن سهم الحب الذي لا يصيب إصابة جسيمة ، وإنما يبلغ هدفه إلى القلب مباشرة .

وقد استطاع العذريون من خلال الصورة رسم مشاعرهم وأحاسيسهم ، ووصف محبوباتهم بجوانبها النفسية والجسدية ، كما استطاعوا أيضا تتبع الملامح الدقيقة للعلاقة العاطفية ، ووصف آثارها ، ونتائجها ، وبذلك كان للصورة العذرية دور مهم ، دور ذو طبيعة كزدوجة ، فهي من ناحية وسيلة إيضاح ، وبيان داخل البناء الشعري للقصيدة ، وهي من ناحية أخرى ذات تأثير نفسي بما تحويه من دفقات انفعالية ، تتلاءم مع السياق العاطفي العام للقصيدة ، وعلى الجانب الآخر تجاوز العذريون في كثير من صورهم حدود البلاغة من تشبيه واستعارة ومجاز وكناية ، وكسروا بذلك الفاصل بين الخيال والواقع ، فالصورة البلاغية تعتمد في بنائها أساسا على قدرة التخيل الشعري في إدراك عناصر التشابه ، والمفارقة بين طرفين ، أو أكثر في الطبيعة ، أما الصور غير البلاغية ، فإنها توهم بالواقع ، لأن الشاعر فيها يصف حدثا يحاول فيه تتبع عناصره ، من هذه الصور قول المجنون :

إذا نظرت نحوي تكلم طرفها وجاوبها طرفي ونحن سكوت

فواحدة منها تبشـر باللقـا وأخرى لها نفسي تكاد تموت ( 44 )

فقد تجاوز الشاعر هنا حدود البلاغة بأركانها المعروفة ، بالرغم من أننا نجد بعض الاستعارات داخل البيتين ، فإن الصورة النهائية صورة غير بلاغية ، يعتمد فيها الشاعر على وصف مجلس جمع بينه وبين محبوبته ، لايستطيع الحديث معها ، أو توجيه الحوار ، أو أي شكل مباشر معروف يدركه من حوله من الناس ، لم يجد المحبوبان إلا لغة العيون وسيلة للتفاهم ، وهي لغة مألوفة بين العشاق ، يلجأون إليها حين تسد السبل أمامهم ، فلا يستطيعون الحديث ، وهي إذا نظرت إليه تكلم طرفها ، تتكلم عيناها ، لكنها لا تتكلم ، وهو يفهم هذا ، فيجاوبها بطرفه ، حركة متبادلة بين العاشقين ، حركة غير محسوسة ، ولغة لا يدركها إلا اثنان ، ثم يضيف الشاعر في نهايـة البـيـت ( ونحن سكوت ) وهي إضافة لها دلالتها النفسية في هذا السياق حاول الشاعر بها تأكيد فكرة التعارض بين الحالتين : حالة السكوت الظاهرة على العاشقين ، في مقابل حالة الحديث المتصل غير المدرك الدائر بينهما ، وأما البيت الثاني ، فهو تفسير لهذه النظرات التي تبشر واحدة منها باللقاء ، وتكاد نفسه أن تموت من الأخرى .

الخط الأساسي في الصورة إذن خط غير بلاغي ، على الرغم من محاولة الشاعر تشخيص العيون ، وبعث الحياة فيها ، لكن هذا التشخيص لا يمثل إلا رافدا داخل الصورة قد يكون مهما ، لكن الصورة تعتمد في بنائها على هذه الحركات النفسية المتبادلة بين العاشقين .

ومن هذه الصور أيضا قول المجنون :

وإنك لو بلغـتها قولـي اسلمـي طوت حزنا ورفض منها دموعها

وبان الذي تخفي من الشوق في الحشى إذا هاجها من حديث يروعها

وفاضت فلم تملك سوى فيض عبرة وقل لباقي العيش منها قنوعها

( 45 )

ولنلحظ أن تركيب الصورة يعتمد على الجملة الشرطية ، كما بينت الصورة السابقة ، والجملة الشرطية جملة ثرية بعناصرها فيها متسع للتصوير ، وإضافة العناصر دون أن تفقد ترابطها وتماسكها ، وهو ما يحاول الشاعر رسمه هنا موجها حديثه إلى شخص ما : لو استطعت أن تبلغها سلامي ، فسوف ترى آثار هذا السلام عليها ، سوف ترى حزنها ، ودموعها ، وسوف يبين ما تخفيه من الشوق في الحشى ، وسوف يقل قنوعها لبقية أيامها ، ورغبتها في العيش .

عناصر متعددة يرسمها الشاعر لرد فعل محبوبته عند هذا الرسول ، وهي عناصر نستطيع من خلالها تلمس صورة المحبوبة في هذا الموقف ، وكما نرى ، فإن الشاعر يجاوز البلاغة أيضا ، ويعتمد أساسا على الوصف الدقيق للملامح الجسدية التي تعكس – لاشك – موقفا إنسانيا متألما .

ونلحظ أيضا في هذه الأبيات اعتماد الشاعر في أجوبة الشرط على بناء الجملة الفعلية ، وفي هذا دلالة مهمة ، فرد الفعل عند المحبوبة يتميز بالتوتر ، والتوتر حالة من حالات الحركة ، والحركة هنا تبدأ من داخل المحبوبة إلى خارجها ، حيث تنعكس على عينيها وجسدها ، ولا شك أن الأفعال ( طوت ، ارفض ، بان ، هاجها فاضت ، قل ) كلها تعكس هذه الحركة المفاجئة ، ورد الفعل الهائل غير المساوي للفعل نفسـه .

ونجد عند كثير عزة نمط الصورة نفسه ، فيقول :

إذا بنت بان العرف إلا أقلـه من الناس واستعلى الحياة ذميمها

وتخلق أثواب الصبا وتنكرت نواح من المعروف كانت تقيمها

( 46 )

فكثير عزة يعتمد في بناء الصورة على البناء نفسه الذي وجدناه عند المجنون ، وهو البناء الشرطي المتعدد الأجوبة – إن جاز هذا التعبير – وقد أحسن كثير استغلاله حين وضع عدة عناصر ، وداخل بينها ، لتقيم بناء الصورة في مقابل موقف واحد ، كثير عزة هنا يضع فراق محبوبته في مقابل أربعة عناصر ( بين العرف ، استعلاء الذميم للحياة ، خلق أثواب الصبا ، تنكر نواح من المعروف كانت تقيمها ) وقد تشكلت هذه العناصر لتلون الحياة باللون القاتم الملائم للحالة النفسية التي يعيشها الشاعر ، والاستعارات في بناء الصورة هنا كما كانت عند المجنون لا تشكل حجر الزاوية فيها . الاستعارة هنا تؤدي دور التوضيح والكشف ، أما دور التأثير ، فيؤديه تضافر عناصر الصورة المختلفة فيما بينها ، لتنتج هذا الإحساس المأساوي بالحياة ، هذه الرؤية الضبابية للعلاقات ، هذا الانسحاب للخير والمعروف ، واستعلاء الشر وسيطرته .

ويرسم قيس بن ذريح صورة للعاشق مستخدما نفس البناء الشرطي المتعدد الأجوبة ، يقول :

إذا ذكرت لبنى تأوه واشتكى تأوه محموم عليه البلابل

يبيت ويضحي تحت ظل منية به رمق تبكي عليه القبائل

قتيل للبنى صدع الحب قلـبه وفي الحب شغل للمحبين شاغل

( 47 )

يتحدث قيس عن نفسه بضمير الغائب ، واستخدام هذا الضمير يعطي الشاعر قدرة على الوصف الموضوعي للظاهرة ، برغم أن الوصف هنا يتجاوز الموضوعية ، ويتغلغل في أعماق الشاعر مستشفا أحاسيسه لحظة تذكر لبنى ، وهي حين تذكر ( يتأوه ويشتكي ، ويبيت ويضحى تحت ظل منية ، قتيل للبنى صدع الحب قلبه ) هنا نجد أيضا أربعة عناصر في مقابل عنصر واحد ، وهذه العناصر الربعة تجسد رد الفعل النفسي العنيف للشاعر تجاه لبنى ، كما ترسم أيضا صورة للعاشق الذي يفقد آماله ، ولا يجد إلا الألم يعيش به ، وبالرغم من أن قيسا يستخدم ستة أفعال للتعبير عن حالته ( تأوه – اشتكى – يبيت – يضحى – تبكي – صدع ) وهي كفيلة ببعث الحركة والحياة داخل سياق الصورة ، إلا أن وصفه لحالته يتسم بالسكون والثبات ، فهذه الحالة حالة مستمرة من الألم تسيطر على الشاعر .

ثم نجد شاعرا آخر مثل جميل يستخدم بناءا آخرا لتركيب صوره هو البناء القصصي ، وهو بناء يتيح للشاعر حرية أكبر في توسيع دائرة العلاقات ، وإثارة جو من الانفعالات داخل الصورة ، قد لايستطيعها بناء آخر ، يقول :

ما زلت أبغي الحي أتبع فلهم حتى دفعت إلى ربيبة هودج

فدنوت مختفيا ألـم ببيـتهـا حتى ولجت إلى خفي المولج

قالت : وعيش أخي ونعمة والدي لأنبهن الحي إن لم تخرج

فخرجت خوف يمينها فتبسمت فعلمت أن يمينها لم تحرج

فتناولت رأسي لتعرف مسـه بمخضب الأطراف غير مشنج

فلثمت فاها آخذا بقرونــها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج ( 48

وبرغم أن القصة وسيلة تعبير مشهورة في الشعر العربي ، ولها جذورها الممتدة إلى العصر الجاهلي – عند امرئ القيس مثلا – التي تذكر هذه الأبيات بمغامراته النسائية التي عرض لها في معلقته ، بالرغم من ذلك ، فإن جميلا يحاول رسم صورة متكاملة ذات لوحات متعددة ، فهي – إذن – صورة مليئة بالحركة ، لا يحدها إطار واحد ، وإنما يلزم لها أطر متعددة ، يبدؤها بتتبعه للحي ، ساعيا وراء رجالهم حتي ينجح في الوصول إلى مبتغاه ( بيبة الهودج ) محبوبته ، في اللقطة الثانية نراه يختفي محاولا الإلمام ، والدخول إليها ، وقد استطاع ذلك ، ثم ينقلنا الشاعر بعد ذلك إلى حيث تجلس هذه المحبوبة مجتزئا بعض الحوار الذي دار بينهما ، وهو حوار يكشف عن طبيعة هذه المحبوبة ، وهي طبيعة أنثوية ذات دلال ، يطلب منها ، فتمنعه ، وتمنحه ، يحاول الخروج خائفا ، ثم يعود بعد أن يكتشف أنها لم تكن صادقة حين تدللت عليه ، وفي اللقطة الأخيرة يصل الشاعر إلى ما يريد واصفا إياه وصفا ذات دلالات ، والأبيات – على قلتها – تمثل موقفا متكاملا ذا مشاهد متعددة شبيهة بما يحدث في العصر الحديث من تقطيع للمشاهد السينيمائية ، وعرضها من خلال ( سيناريو ) .

والأبيات لا تفتقد عنصر الخيال ، برغم أن الشاعر يحاول الإيهام بواقعيتها ، فكل تعبير يحتوي على حركة تمثيلية ، يستطيع السامع أو القارئ تخيلها ، كما أن الشاعر يحاول تكثيف هذه المشاهد عن طريق استخدام حرف الفاء في الربط ، ولنلحظ أنه استخدم الفاء خمس مرات داخل هذا السياق .

وليست القصة فقط هي الوسيلة التي استخدمها الشعراء لعرض صورهم ذات الأبعاد المتعددة ، فقد استخدموا الاستدارة أيضا ، وهي وسيلة بلاغية مهمة ، يقول جميل :

وما صاديات حمن يوما وليلة على الماء يخشين العصي حواني

لواغب لا يصدرن عنه لوجهة ولا هن من برد الحياض دواني

يرين حباب الماء والموت دونه فهن لأصوات السقاة رواني

بأكثر مني غلـة وصبابـة إليك ولكن العدو عراني ( 49 )

يعقد جميل هنا مقارنة بين إحساسين وموقفين : موقفه ومشاعره من محبوبته مقارنا إياه بهذه الحيوانات العطاش ، ولعل الاستدارة تحتوي في داخلها على عناصر التشبيه ، إلا أنه تشبيه ذو طبيعة خاصة ، يمتد فيه المشبه به ليرسم صورة كاملة ، لها أجزاؤها الخاصة ، كما أن لها أيضا استقلالها الذي ينسجم مع الأثر العاطفي النهائي بالإحساس العام في القصيدة ، والصورة المفصلة هنا هي صورة سرب من الحيوان يقاسي من العطش ، وعطشه لا يأتي من عدم وجود الماء ، فالماء قريب منها ، تحوم حوله ، لكنها لا تستطيع الوصول إليه ، فالمصير المعروف لها هو الضرب بالعصي ، وهي مع ذلك لا تستطيع ترك الماء ، لأنه يمثل لها الحياة ، والشاعر يصور هذا الموقف تصويرا دقيقا ، فهي لا تستطيع ترك الماء ، كما لا تستطيع في المقابل الاقتراب منه ، صراع حاد لا يحسم بصورة مرضية ، ثم يؤكد الشاعر هذا الإغراء في البيت التالي مباشرة حين يرى السرب حباب الماء ، لكن الموت دونه ، لذلك فهو في انتظار أن يرحل السقاة ، ثم يشفي غلته من الماء ، استطاع الشاعر في هذه الصورة أن يرسم علاقة قوية بين الحيوان والماء ليست علاقة منفعة ، أو حب ، وإنما علاقة حياة ، هذا الموقف من الماء هو ذاته موقف الشاعر من محبوبته ، وكأنه يريد بهذه الصورة أن يخبر أن محبوبته تمثل الحياة له ، لكن فكرة الإخبار ليست كل شيء في الصورة ، فهناك البعد التصويري الذي تمثل في هذه البعاد والعلاقات المعقدة داخل الصورة ، وهناك أيضا البعد العاطفي الذي حاول من خلاله أن يستثير مشاعر المحبوبة ، فإذا كنت تمثلين الحياة لي على تلك الصورة التي حاول عرضها ، فماذا أمثل لك من مشاعر وأحاسيس ؟ حقا لم يقل الشاعر هذا ، لكن الصورة تؤدي إلى هذا المعنى .

وكان القسم وسيلة من الوسائل التي استخدمها العذريون لإثارة مجموعة من الصور المتقاربة ، فلم يكن القسم عندهم وسيلة توكيد فحسب ، وإنما تعدى التوكيد إلى أنه أصبح وسيلة فنية للتصوير ، يقول المجنون :

فوالله ما أنساك ما هبت الصبا وما ناحت الأطيار في وضح الفجر

وما نطقت بالليل سارية القطا وما صدحت في الصبح غادية الكدر

وما لاح نجم في السماء وما بكت مطوقة شجوا علـى فنن السـدر

وما طلعت شمس لدى كل شارق وما هطلت عين على واضح النحر

وما اغطوطش الغربيب واسود لونه وما مر طول الدهر ذكرك في صدري

وما حملت أنثى وما خب ذعلب وما طفح الآذي في لجـج البحـر

وما زحفت تحت الرجال بركبها قلاص تؤم البيت في البلـد القفـر

فلا تحسبي يا ليل أني نسيتكم وأن لست مني حيث كنت على ذكر ( 50 )

يثير مجنون ليلى في هذه الأبيات ثلاث عشرة صورة تعتمد على القسم في بنائها ، ثم ترتفع عنه ، وتتجاوزه لتصبح صورا مستقلة لها تأثيرها الخاص : عناصر صور المجنون هنا هي عناصر البيئة التي يراها كل يوم : ريح الصبا ، الطيور ، النجوم في السماء ، الحمائم ، الشمس ، الليل الأسود ، النوق السريعة ، القلاص ، ويبدو للوهلة الأولى أن كل صورة في هذه الأبيات لها بناؤها الذاتي ، وتأثيرها المفرد ، فلا نجد هنا على النقيض من صور أخرى البناء المتكامل للصورة الذي يحاول الشاعر فيه تتبع الجزئيات ، وإثارة الدقائق ، وتوضيحها ، لتكتمل العناصر ، فلا يكتفي باللمحة السريعة ، وإن كان للمحة السريعة – في كثير من الأحيان جمال ذو طبيعة خاصة .

هنا نجد الشاعر يتخذ الموقف نفسه الذي وقفه في الصور التي احتوت على البناء الشرطي المتعدد الأجوبة ، يقابل الشاعر في هذه الصور بين موقفين ، أو بمعنى أكثر دقة ، بين موقف في مواجهة مواقف عدة : موقفه من محبوبته ، في مقابل هذه الظواهرالطبيعية التي تحدث عنها ، هو يقول أنه لن ينساها مادامت هذه الظواهر باقية على الوصف الذي وصفها به ، وهي باقية ، إذن حبه باق أيضا ، وتذكره لمحبوبته دائم ، الشاعر يريد من خلال الصور أن ينعت حبه بالخلود ، لكن الصور المتفرقة التي عرض لها الشاعر تشترك في صفة الحركة ، على اختلاف اتجاهاتها ، وأسبابها ، ونتائجها ، فالصبا تهب ، وهي حركة الهواء داخل الغلاف الجوي ، والطيار تنوح : حركة الصوت من الداخل إلى الخارج ، وهي تعطي أيضا معنى الانبثاق ، والقطا تنطق بالليل ، فيها ذات الدلالة ، والطيور تصدح في الصباح ، والنجم يلوح في السماء : حركة بروز من الخفاء إلى التجلي ، بكت الحمائم شجوا أيضا حركة بروز مثل حركة النجم في السماء ، هطلت عين أيضا حركة خاصة ذات بعدين : بعد البروز من الخفاء إلى التجلي ، ثم بعد انفعالي له دلالته ، واغطوطش الغربيب ، أي أظلم ، في هذا التعبير فكرة التحول في اللون ، والتحول في أحد معانيه نوع من الحركة ، وهكذا ، فإن باقي الصور ذات الدلالات الحركية .

واستخدم الشعراء أيضا أسلوب التمني لتكوين صور مختلفة البعاد والدلالات ، ولعل صورة كثير عزة التي نوردها الآن من الصور الشهيرة التي اعتمدت على أسلوب التمني ، يقول :

ألا ليتنا يا عز كنا لذي غنى بعيرين نرعى في الخلاء ونعزب

كلانا به عر ، فمن يرنا يقل على حسنها جرباء تعدي وأجرب

إذا ما وردنا منهلا صاح أهله علينا فما ننفك نرمى ونضرب

نكون بعيري ذي غنى فيضيعنا فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب

يطردنا الرعيان عن كل تلعة ويمنع منا أن نرى فيه نشرب

وددت وبيت الله أنك بكـرة هجان وأني مصعب ، ثم نهرب ( 51

تضيق السبل بالشاعر ، وتسد أمامه الطرق ، ولا يستطيع الوصول إلى محبوبته ، عندئذ يلجأ إلى عالم الأماني ، وهي وسيلة معروفة لإحداث توازن بين إحباط خارجي ، وانهيار داخلي ، يلجأ إلى الحلم ، ليحقق ما عجز عن تحقيقه في الواقع ، والحلم حلم غريب ، أو قل إنها أمنية شاذة ، نفرت منها عزة ، ولم تقبلها ، إلا أن الصورة لها دلالة نفسية مهمة ، ستتضح بعد قليل ، والشاعر تمنى أن يكون هو وعزة بعيرين ، والنقلة هنا من عالم البشر إلى عالم الحيوان لها سبب نفسي ، ففي عالم الحيوان تتحطم القيود ، وتتحرر النفس من كل العوائق ، ويصبح لكل فعل شرعيته الخاصة به ، الذي يستمده – في كثير من الأحيان – من القوة الذاتية للحيوان ، أما في عالم البشر ، فإن الصورة تختلف ، ولا يصبح معيار القوة هو المعيار الوحيد للشرعية ، لكن الشاعر لا يكتفي بهذا ، بل يحاول في الأبيات التالية تفصيل صورة هذين البعيرين ، فهما يرعيان في الخلاء ، يعانيان من الجرب ، لا يستطيعان الاقتراب من الناس ، لأنهما يضربان عند كل مورد للماء ، وهما أيضا بعيرا ذي غنى ، وأن صاحبهما لن يبحث عنهما ، ولن يرعاهما ، ثم إن الرعيان يطردونهما من كل مرعى ، فلا يستطيعان الاقتراب من الحيوان ، كما لم يستطيعا الاقتراب من الإنسان ، والإغراب في الصورة واضح ، وهي رد فعل قوي للحرمان الذي يعاني منه في الواقع ، هذه الصورة تطبيق لرد الفعل المساوي للفعل ، لكن رد الفعل هنا اتخذ وجهة فنية ، وعبر عنه كثير تعبيرا يتسم بالسلبية ، لكن التحليل النفسي لمضمون الصورة لا يجعلنا نهمل الطريقة البارعة التي عرض بها كثير صورته ، فقد استطاع تفصيل الصورة وتتبع أجزائها من خلال الجمل التي كانت تضيف في كل بيت بعدا جديدا للصورة .

وبجانب هذه الصور غير البلاغية ، استطاع الشعراء استخدام التشبيه والاستعارة في بناء صور اتسمت بقدر كبير من الخيال ، كما اتسمت أيضا بقدرتها على إثارة مجموعة كبيرة من الانفعالات ، يقول المجنون مثلا :

غزتني جنود الحب من كل جانب إذا حان من جند قفول ، أتى جند

( 51 )

يشبه الشاعر نفسه بالقلعة المتهالكة التي يتعاور عليها الجنود ، وهو لا يملك من أمر نفسه شيئا ، كما أن هذه الجنود لا تكف عن الغزو ، والاستعارة هنا منسجمة مع الحالة التي يصف بها نفسه داخل القصيدة ، فهو يقول فيها :

فما زلت مغشيا على وقد مضت أناة وما عندي جواب ولا رد( 53

ويقول أيضا :

ولم يبق إلا الجلد والعظم عاريا ولا عظم لي إن دام ما بي ولا جلد

( 54 )

ويقول أيضا :

وقد يبتلى قوم ولا كبليتي ولا مثل جدي في الشقاء بكم جد ( 55 )

ثم تجئ هذه الصورة في نهاية المقطوعة ، والشاعر يعلن فيها استسلامه للحب ، وعدم قدرته على المقاومة ، وبجانب هذا العجز الذي تشي به الصورة ، فإنها من ناحية أخرى تنبئ عن رؤيا خاصة للحب ، حاولنا تفصيلها في الفصول التالية .

ويقول المجنون أيضا :

كأن فؤادي في مخالب طائر إذا ذكرتها النفس شدت به قبضا

كأن فجاج الأرض حلقة خاتم على فما تزداد طولا ولا عرضا

( 56 )

الصورتان مختلفتان ، فالأولى فيها ذلك الطائر الذي يقبض على قلب الشاعر ، فإذا ذكرها ازداد قبضا عليها ، والثانية يصور الأرض مثل حلقة الخاتم لا تزداد طولا ولا عرضا ، وربما كان الأثر النفسي للأولى هو مشاعر الألم ، أما الثانية ، فإنها ناتجة عن مشاعر التيه التي يعيشها الشاعر ، فلا مفر أمامه ، وليس هناك مكان ، أو طريق يستطيع فيه تجنب ليلى ، أو الهروب منها ، لذلك فإن العالم أمامه ضيق على اتساعه ، مثل حلقة الخاتم ، يعيش فيه شاعرا باختناق ، وقد حاول الشاعر استخدام أداة التشبيه " كأن " في بداية الصورتين للإيهام بالواقع ، أي تحقق الخبر ، وليسي تخيله ، وهذه الأداة " كأن " تتيح دمج الحقيقة بالخيال بصورة لا تستطيعها أداة تشبيه أخرى مثل " الكاف " أو " مثــل " .

ففي الأداتين الأخيرتين تظل الحدود واضحة بين طرفي التشبيه ، ويحتفظ كل منهما باستقلاله ، مع نقطة التقاء ، أو أكثر مع الطرف الآخـر .

ومن الصور المؤثرة التي اعتمدت على التشبيه ، قول ابن ذريح :

فصرت وشيخي كالذي عثرت به غداة الوغى بين العداة كميت

فقامت ولم تضرر هناك سوية وفارسها تحت السنابك ميت ( 57 )

فالصورة هنا كما يقال عنها فريدة في شعر الغزل ، كما أنها فريدة أيضا في شعر ابن ذريح ، وهي تصور الشارع في ذلك الموقف الخاسر الذي فقد فيه كل شيء ، بينما الذي أوصله إلى هذه الحالة خرج سالما ، لم يصب بضرر ، والصورة – كصورة المجنون الأولى – مستقاة من الحرب ، لا شك أن قيسا استطاع التعبير عن تناقض الموقفين في صورة المحارب وفرسه ، فينما استطاعت الفرس الخروج سالمة من الحرب ، سقط الفارس تحت سنابك الخيل ميتا ، وهي حاله بعد فقد لبنى ، وعدم استطاعته نسيانها ، وعدم قدرته على فعل شيء ، موقف رسمه قيس ببراعة .

ومن الصور البلاغية الأخرى التي اعتمدت على التشبيه ، هذه الصورة للمجنون ، يقول :

كأن القلب ليلة قيل يغدى بليلى العامرية أو يراح

قطاة غرها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح

لها فرخان قد تركا بقفر وعشهما تصفقه الرياح

إذا سمعا هبوب الريح هبا وقالا أمنا تأتي الرواح

فلا بالليل نالت ما ترجى ولا في البصبح كان لها براح

رعاة الليل كونوا كيف شئتم فقد أودى بي الحب المتاح ( 58 )

الصورة هنا ترتكز على التشبيه ، لكنها تتجاوزه ، وتصبح صورة مستقلة ، وهي في ذلك لا تختلف في بنائها عن الصور السابقة ، وهي تدخل فيما يسمى بالتشبيه التمثيلي ، إلا أن عرض الصورة في هذا الإطار يعد تبسيطا مخلا ، فبناء المشبه به في حد ذاته يعد صورة ، والمشبه به هو هذه القطاة التي أمسك بها شرك ليلا ، فهي تجاذبه ، لكنها لا تستطيع ، هذه القطاة لها فرخان تركتهما في مكان خال ليس به حياة ، يعيشات في عش تصفقه الرياح ، وهما في حالة قلق عليها ، وفي انتظار مجيئها ، لكنها لا تجيء ابدا . فالشاعر لا يكتفي بوصف حالة القطاة في الشرك ، بل يضيف بعدا إنسانيا مثيرا عندما يكون لهذه القطاة فرخان ، وهو يحاول الإغراب في الصورة عندما يصف حالة الفرخين على هذه الصورة الهلعة ، ونلحظ هنا أن بناء الصورة على اختلاف مضمونها يتفق كثيرا مع بناء صورة البعيرين الأحربين عند كثير عزة ، فكما يحاول المجنون استثارة العواطف مع حالة القطاة وفرخيها ، بالإضافة ذلك البعد الإنساني ، والنفاذ إلى ما خلف حالة القطاة ، حاول كثير عزة ذلك بتفصيل صورة الأجربين .

وفي الصورة موضع التحليل ، وفي كل صور العذريين السابقة لا يستطاع تجاوز البعد العاطفي ، فهذا البعد هو نواة الصورة ذاتها ، أو هو بتعبير بلاغي ماء الحياة لها .

بعد هذا العرض لمضمون الصورة العذرية نستطيع أن نلمح عدة أشيـاء :

أولا / ولع العذريين بالحيوان والطير ، وتصويرهم في أوضاع شتى ، ومحاولة ربط مشاعرهم بما تعانيه أنواع الحيوان ، أو محاولتهم تشبيه محبوباتهم ببعض حيوان الصحراء ، كما وجدنا عند المجنون حين كان يشبه ليلى بالغزال ، وقد صور العذريون الحيوان في شعرهم معادلا موضوعيا لأحاسيسهم كما وجدنا عند المجنون أيضا ، أو رمزا لانفعالات مكبوتة ، أو حرمان كما وجدنا عند كثير عزة ، أو رمزا للتشاؤم كما في صورة الغراب المنتشرة عند كل الشعراء ، أو تعبيرا عن تناقض الأحاسيس بين الشاعر والبيئة من حوله كصور الحمائم التي تبكي .

ثانيا / تميزت الصورة العذرية بالحسية في مضونها ، واختيار الشعراء لعناصرها ، فأطراف الصورة كانت عناصر طبيعية ، أو كائنات حية مما يملأ البيئة من حولهم ، سواء أ كانت حيوانا ، أو طيرا ، أو سهاما ، أو خيل حرب ، أو شمسا ، أو قمرا ، أو نجوما ، وبرغم أن الشعراء استغلوا هذه العناصر استغلالا جيدا ، فإن ذلك لم يطلق الصورة من إسار حسيتها إلى دوائر أخرى .

ثالثا / سيطر البعد الانفعالي على الصورة من حيث المضمون والشكل ، وكان هو البعد الأكثر بروزا ، فمن حيث المضمون لم تكن الصورة في كثير من الأحيان إلا تعبيرا عن انفعالات داخلية يعيشها الشعراء ، ولذلك نجد كثيرا من المقطوعات الشعرية عبارة عن صور خالصة بث فيها الشاعر انفعاله الخاص ، كما في صورة القطاة للمجنون ، وللصورة في رؤية النقد الحديث أدوار أخرى إضافة إلى إثارتها للانفعالات ، لكن العذريين لم يستغلوا إلا هذا البعد الانفعالي ، كما أن هذه الانفعالات انحصرت في دائرة الألم والحزن والغضب والقلق ، كما سيطر البعد الانفعالي أيضا على شكل الصورة ، فجاءت الصورة في بعض الأحيان خليطا من الجمل المعطوفة التي تفتقد في تركيبها ، وترتيبها المنطق الشعري ، لكن بروز الانفعالات في كل منهما ، والأثر الأخير لهذه الانفعالات في متلقي الشعر ، جعلنا أكثر تقبلا لهذه الصور .

رابعا / حفلت الصور العذرية على اختلاف مبدعيها بعنصري الحركة والرمز ، فالحركة كما مثلتها أبيات المجنون برغم اتجاهاتها المتعارضة ، فإنها في النهاية كانت وسيلة جيدة للتعبير عن حالة من التوتر يعيشها الشاعر ، وتغيرت اتجاهات الحركة داخل الصور العذرية ، فهناك حركة في الزمان ، وهناك حركة في المكان أفقية ، وهناك حركة في المكان رأسية ، ثم هناك حركة من الخفاء إلى التجلي ، كل هذه الأنواع مثلتها أبيات المجنون ، ونجد تطبيقات أخرى كثيرة في الشعر العذري ، أما الرمز ، فإن صورة البعيرين الأجربين من أقوى الأمثلة الدالة على هذا ، وقد كان الإغراب في تمني أن يكون هو ومحبوبته بعيرين ، ثم تفصيله لصورتهما معا دلالة على شعور كثير عزة بالحرمان ، و محاولته إقامة توازن بين هذا الشعور المسيطر في الواقع ، وأمنيته التي يحاول تحقيقها في الخيال .

خامسا / اعتمد العذريون في بناء صورهم على البلاغة ، وبخاصة التشبيه ، لذلك بنوا ما يسمى بالصور البلاغية ، كما رسموا أيضا في شعرهم ما يسمي بالصور غير البلاغية ، وهي الصور التي حاولوا بها الإيهام بالواقع ، لكنها في تفصيلها ، وتتبعها في بعض الأحيان للدقائق الصغيرة جعلها نموذجا ملائما للصور الشعرية .

سادسا / انقسمت الصور العذرية إلى نوعين : صور جزئية ، ويكتفي فيها الشاعر بالتشبيه بين طرفين ، أو الاستعارة دون النظر في التفاصيل ، وقد كان استخدام التشبيه في هذا النوع من الصور هو الأكثر ، أما النوع الآخر ، فهو الصور الكلية ، ونعني به هذه الصور التي يفصلها صاحبها ، ويحقق أجزاءها ، هذا التحقيق يكون هدفا في ذاته ، مع الاهتمام بالترابط العضوي بين الصور المختلفة في القصيدة ، واعتمد الشعراء في بناء هذا النوع من الصور على أداة التشبيه " كأن " أو أنهم رسموا صورا غير بلاغية .

سابعا / اعتمد العذريون في بناء صورهم على عدة تراكيب نحوية وبلاغية أعطتهم طابعا مميزا ، فقد استغلوا ما يسمى بالبناء الشرطي المتعدد الأجوبة ، وهذا البناء خاصة في جواب الشرط أعطاهم حرية تفصيل الموقف بما يجعله في النهاية لوحة متكاملة ، واستغلوا أيضا القسم ، وهو ظاهرة لافتة عندهم ، فلم يكن القسم عندهم وسيلة توكيد فحسب ، بل إنها وسيلة رسم صورة لها دور وتأثير في السياق العام للقصيدة ، وكان أسلوب التمني هو ثالث هذه الأساليب التي استغلها الشعراء في رسم صورهم ، كما نجد ذلك عند كثير عزة ، وجميل بثينة ، ثم نجد أيضا خاصة عند جميل استخدامه للبناء القصصي الذي يتيح للشاعر حرية التعبير عن الحركة والانفعالات والمواقف المتباينة ، ونجد أيضا استخداما آخر شائعا هو الاستدارة ، وهي كثيرة الورود في الشعر العذري ، وقد حاول الشعراء من خلال الاستدارة التعبير عن شدة حبهم وبخاصة بمقارنته بمواقف أخرى ، وكانت صور الحيوانات هي الصور الأكثر انتشارا في هذا البناء ، ثم نجد أيضا استغلال الشعراء للتشبيه وبخاصة " كأن " ، هذا الحرف أتاح للشعراء فرصة التفصيل في صورهم ، والملاحظ أن كثيرا من الصور التي اعتمدت على أداة التشبيه " كأن " كانت صورا كلية .

ثم نجد أخيرا استخدامهم للاستعارة ، وإن كانت الاستعارة قليلة في شعرهم .

الهوامش

-----

1 – مبادئ النقد الأدبي : ص / 47 – 55

2 – كولردج : ص / 66

3 – الشعر والتجربة : ص / 75

4 – المرجع السابق : ص / 75

5 – المرجع لاسابق : ص / 66

6 – إليوت : ص / 22 – 24

7 – كولردج : ص /

8 – النقد الأدبي الحديث : ص / 214

9 – Poetic Image : P / 19

10 – الشفاء : ابن سينا ، ص / 258

11 – النقد الأدبي الحديث : ص / 162

12 – لسان العرب : مادة " خيل "

13 – المفضليات : ص / 39

14 – المصدر السابق : ص / 56

15 – ديوان جميل : ص / 162

16 – المصدر السابق : ص / 142

17 – المصدر السابق : ص / 19

18 – ديوان مجنون ليلى : ص / 213

19 – ديوان كثير عزة : ص / 173

20 – المصدر السابق : ص / 424

21 – Princable of Psychology : P / 44

22 – الأغاني : ج8 / ص / 92

23 – حديث الأربعاء : ج 1 ص / 225

24 – ديوان قيس بن ذريح : ص / 83

25 – كولردج : ص / 87

26 – ديوان المجنون : ص /

27 – المصدر السابق : ص /

28 – المصدر السابق : ص / 278

29 – المصدر السابق : ص / 171

30 – المصدر السابق : ص / 58

31 – ديوان جميل : ص / 102

32 – ديوان المجنون : ص / 86

33 – ديوان قيس ولبنى : ص / 114

34 – ديوان المجنون : ص / 109

35 – المصدر السابق : ص / 97

36 – ديوان قيس ولبنى : ص / 132

37 – ديوان عروة بن أذينة : ص / 218

38 – ديوان ذي الرمة : ص /

39 – ديوان قيس ولبنى : ص / 69

40 – ديوان امرئ القيس : ص / 11

41 – ديوان قيس ولبنى : ص / 80

42 – ديوان كثير عزة : ص / 141

43 – ديوان جميل : ص / 53

44 – ديوان المجنون : ص / 84

45 – المصدر السابق : ص / 194

46 – ديوان كثير عزة : ص / 143

47 – ديوان قيس ولبنى : ص / 136

48 – ديوان جميل : ص / 41

49 – المصدر السابق : ص / 203 ، وتروى أيضا للمجنون .

50 – ديوان المجنون : ص / 152 – 153

51 – ديوان كثير عزة : ص / 161

52 – ديوان المجنون : ص / 98

53 – المرجع السابق : ص / 97

54 – المرجع السابق : ص / 98

55 – المرجع السابق : ص / 98

56 – المرجع السابق : ص / 177

57 – ديوان قيس ولبنى : ص / 70

58 – ديوان المجنون : ص /

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)