د.بوشعيب أوعبي
حث الربيع الديموقراطي السنة الفارطة على تنزيل مبدأ المسؤولية في تدبير
الشأن العام، من منطلق أن المال العام والمرفق العام ملك مشاع للمواطنين
قاطبة وكل من يتولى تدبيرهما يتحمل المسؤولية القانونية في حسن التدبير
وينتظر تقييم والمحاسبة بمكافئته على ذلك أو متابعته عند سوء التدبير، مما
أضحى يفرض معه الأمر إيلاء المسؤولية فيه للكفاءات المناسبة والمؤهلة لذلك
قبل أي مخاطرة في تحميل مسؤولية التدبير، من خلال اعتماد معايير ديموقراطية
موضوعية، غالبا ما تتجلى في: الكفاءة والاستحقاق والمعرفة والخبرة
والاتصاف بروح الوطنية الصادقة، بعيدا عن هواجس الحزبية والمحسوبية
والقرابة والمصالح الضيقة، والتي لم تخلّف سوى: الفساد والاغتناء السريع
والإثراء بلا سبب، وغيرها من القيم الفاسدة التي كانت سببا في فورة وثورة
الشرائح المجتمعية الفقيرة والمتضررة وهو ما طالب المغاربة معه متابعة
الفاسدين دون إفلاتهم من العقاب والمحاسبة والمساءلة.
لقد تركت هذه الإلحاحية الوطنية في سياق الربيع الديموقراطي صدى لدى الدوائر العليا، مما جعل خطاب جلالة الملك في 9
مارس مليئا بالعبر والرسائل القوية، مؤكدا على الاستجابة للطلب الشعبي
بوقف مؤشرات الفساد وترسيخ مبدأ المساءلة والمحاسبة في تدبير الشأن العام
المحلي والوطني، وتنزيل مقومات الديموقراطية في الاستفادة من الثروة وتوزيع
المسؤولية بين المواطنين، وهو ما اقتضى الاستعجال في فتح ورش الإصلاح
الدستوري والسياسي إحقاقا لدولة الحق والمؤسسات وإرساء العدالة الاجتماعية ،
وهو ما سبق أن اصطلح عليه الزعيم علال الفاسي سنة 1963 بالتعادلية الاقتصادية والاجتماعية.
لقد استجابت الوثيقة الدستورية لمطالب الشعب المغربي على مستوى إرساء
مبادئ وقيم الديموقراطية الحقة، وفي صدارة ذلك مسألة ربط المسؤولية
بالمساءلة، حيث تنص ديباجة الدستور على :" إن المملكة
المغربية، وفاء لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها
الحق والقانون، تواصل إقامة مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة
والتعددية والحكامة الجيدة ... في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة."، وهو ما أكده الفصل الأول أيضا مرة أخرى بتنصيصه على أن:"يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس ...الديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة"، وهو ما سيعيد تأكيده من جديد في الفصل 37 ،حينما نص بأن:" على جميع المواطنين والمواطنات احترام الدستور والتقيد بالقانون، ويتعين عليهم ممارسة الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور بروح المسؤولية والمواطنة الملتزمة، التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بالنهوض بأداء الواجبات"، حيث كان الدستور صارما مع الذين لا يأبهون بهذه القيم الدستورية في الفصل 36 حينما نص على :"... يعاقب
القانون على الشطط في استغلال مواقع النفوذ والامتياز، ووضعيات الاحتكار
والهيمنة، وباقي الممارسات المخالفة لمبادئ المنافسة الحرة والمشروعة في
العلاقات الاقتصادية."
ولقد كان قانون الأحزاب السياسية الجديد الصادر بتاريخ 22 أكتوبر 2011 أحد القوانين التنظيمية الأساسية التي سارعت إلى تنزيل مضامين الدستور، حينما أكد على ربط المسؤولية بالمساءلة في المادة 25
حيث:"يجب أن ينظم كل حزب سياسي ويسير وفق مبادئ ديموقراطية ، تسمح لأي عضو
من أعضائه بالمشاركة الفعلية في إدارة وتسيير مختلف أجهزت ، كما يتعين
مراعاة مبادئ الحكامة الجيدة في تدبير شؤونه ولا سيما مبادئ الشفافية والمسؤولية والمحاسبة"
لقد سبق أن حذّر حزب الاستقلال من خلال لجنته الثقافية في كتيب تحت عنوان "تقييم الوضع السياسي في المغرب" صادر في نونبر 1972 تشريحا لأوضاع سنوات الرصاص وما بعها بأن:"حينما نبحث في عمق الأزمة التي يجتازها المغرب نجد أن من أسبابها الأساسية انعدام المسؤولية، ذلك أن الحكم في المغرب بعد الاستقلال قلّد حكم الحماية في كثير من الأشياء، ولكنه لم يقلده في الأشياء الجوهرية، وفي مقدمتها تحديد المسؤولية وتنظيمها وتوزيعها وتقدير القائمين عليها،
وكانت النتيجة أن الحكم لم يتسم بالنظام العصري، وإنما رجع القهقرى ليأخذ
من النظام المخزني القديم: الفردية والإطلاق من جهة، وانعدام المسؤولية
وبالتالي انعدام الشعور بها من جهة أخرى،...بهذه الطريقة أصبح الحكم مهلهلا
في المغرب فلا الحكومة محددة مسؤولياتها ولا الوزراء مسؤولياتهم محددة،
ولا المديرون ولا الموظفون...وبدلا من أن تحدد مسؤوليات المجلس التشريعي
والسلطة التنفيذية والتنظيمية والإدارية تركت الأمور كما لو لم يكن هناك
دستور...برلمان بدون مسؤولية لا قيمة له ولا أهمية ..الحكومة بدون مسؤولية
جماعية وفردية لا قيمة لها لأنها ستكون عبارة عن مجموعة من الموظفين
الثانويين التنفيذيين ...وانعدام المسؤولية يفقدها انعدام حرية العمل
والممارسة وانعدام الابتكار، وذلك هو سبب العجز واللاجدوى ...يجب أن يكون
في ذهننا ونحن نبحث عن حل للأزمة حل مشكلة المسؤولية، فإنها مفتاح لحل كل المشاكل التي تتعقد فتكون أزمة مستعصية "
من بين أهم الأوراش التي يمكن أن تعيد الثقة للمغاربة استعجال الحكومة
لعملية تفعيل مساطر المتابعة في حق الجهات المتلاعبة بالمال العام، المعلن
عنها في تقارير المجلس الأعلى للحسابات وتقارير لجان التفتيش المركزية،
وذلك بإحالتها على القضاء من أجل الاستفسار عن مدى جدية تهمة تبديد المال
العام، وتنزيل العقوبات اللازمة في حقها، تنفيذا للمقتضيات الدستورية
الجديدة المنادية بالمحاسبة وبالمتابعة، حتى تكون عبرة لغيرها من الجهات
الفاسدة الأخرى، ويتم إيقاف عمليات استنزاف المال العام في العديد من
المرافق العمومية، وهو ما من شأنه إعادة الثقة للمغاربة وللمؤسسات القائمة
على صرف المال العام ويعطي صورة للمجتمع الدولي بأن المغرب هو فعلا دولة
القانون، مما سيستعجل عملية عودة العديد من الاستثمارات الأجنبية إلى
المغرب ، وبالتالي إنتاج ثروة إضافية بالبلاد وخلق تنمية اقتصادية
واجتماعية بربوع المملكة.
تعليقات
إرسال تعليق