الأخلاق في العمل الحزبي


يعد العمل السياسي سواء من خلال المؤسسات الرسمية للدولة أو من خارجها أحزابا كانت أو ما شابهها أحد الأعمال الوطنية النبيلة ،  من منطلق كونه يتوخى تحقيق أهداف مجتمعية سامية بتدبير الحكم بشكل ديموقراطي ، من خلال عمليات تأطير المواطنين وتكوينهم وتعزيز انخراطهم في الحياة العامة في إطار ثوابت البلاد ومبادئها الديموقراطية.
  وإذ يلتزم العمل السياسي البرلماني والحكومي بتدبير دواليب الحكم وتسيير الشأن العام وفق موجبات القانون ، يبقى العمل الحزبي ملزما بدوره في مراسه السياسي القاعدي والنخبوي بأن يُنجز وهو يتوخى تولي مناصب المسؤولية التشريعية والحكومية مستقبلا ذلك في إطار ضوابط المسؤولية ، وفقا لمقتضيات الدستور وقانون الأحزاب السياسية الجديدين حتى يوصف بالشرعية والمشروعية ؛ كما يخضع العمل الحزبي إضافة إلى ما سلف إلى مجموعة من المبادئ والقيم الوطنية التي رسّخها المراس السياسي الوطني عبر التاريخ السياسي ، حيث يكون للسلف الوطني الصالح بنضاله الوطني تأثير نوعي في بصم هذا التاريخ السياسي.
   إن العمل الحزبي النبيل لا ينبغي أن يبقى براغماتيا بشكل محض في توجهه العام ، تقوده الغاية على حساب الوسيلة ، لأن كل الطرق تؤدي إلى الغاية الواحدة ، لكن كل حزب سياسي يُخطط لذاته بالوسيلة الملائمة ، انطلاقا من إمكاناته المادية والبشرية والمعنوية ، مما يجعل الأحزاب متمايزة فيما بينها بهذا الشأن ، حيث يختار البعض منها الوسائل الشريفة ويلجأ البعض الآخر إلى المنشطات والمحفّزات غير المشروعة.
  لقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن تناقض العمل السياسي مع عالم المبادئ والأخلاق والقيم النبيلة ، من منطلق أن منطق السوق ومخلفات العولمة الجارفة تسرّبت إلى عالم السياسة وضخّت فيها قيما مادية وتجارية محضة ، لا قيمة فيها للمبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية ، مما أفقد المنطق السياسي عذريته ومصداقيته الوطنية ، وأصبح يعني معه العمل السياسي الوصول إلى "الحكم بأقصر وسيلة" حتى وإن تنافت مع القيم الوطنية ، أي "الوصول إلى الحكم بأقبح وسيلة " ، أو حتى وإن تنافت مع مبادئ الحزب وقيمه التاريخية ، مما انقلبت معه موازين المبدأ القائل بأن "الغاية تبرر الوسيلة" ، وأضحى له مفهوم مقلوب أي أن "الوسيلة هي التي تبرر الغاية"، وهو ما نلمسه اليوم جميعا في هرولة الأحزاب السياسية وراء رجال المال والأعيان من أجل تبويئهم مناصب انتخابية ومناصب المسؤولية على حساب شريحة المناضلين الرابضة في صفوف الانتظار.
   من الصعب على العمل السياسي وهو يخاطب مختلف الجماهير والشرائح الشعبية أن يكون براغماتيا مائة بالمائة ، دون انطلاقه من صلب مبادئ وقيم إنسانية تنشد التضامن والإخاء ومراعاة آلام الناخبين وآمالهم باحترام متطلبات كل شريحة على حدة ، وهي الوسيلة الوحيدة التي من شأنها العمل على استقطاب أكبر عدد من المنخرطين للحزب ، حيث الحزب هو مجموعة من الفئات المجتمعية المتعاقدة فيما بينها من خلال برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي محدد ، صادقت عليه مناضلات ومناضلو الحزب في مؤتمره العام ، مما يجعله ذاك العقد البرنامج وخارطة الطريق خلال ولاية حزبية معينة ، يكون فيه هذا البرنامج حاملا لمشروع مجتمعي يقدم الحلول المناسبة لمختلف تطورات وتحولات المجتمع المغربي في المكان والزمان المحددين.
 لم يعد الزمن السياسي المغربي يسمح اليوم بتخلف العمل الحزبي عن روح ومبادئ وقيم الدستور الربيعي الديموقراطي ، حيث لم يعد مسموحا التراجع عن المكتسبات الحقوقية والقانونية والسياسية المكتسبة اليوم ، وثمة القضاء الإداري كحارس للحريات والحقوق والقيم الدستورية ، فلقد انتهى عهد الأحزاب السياسية التي همّشت طيلة عقود أعضاء مجالسها الوطنية دون أدنى اعتبار ، عهد تكريس شخصية الزعيم السياسي الخالد على رأس الحزب ، وانتهى عهد التدخل الإداري الفوقي لاصطناع زعيم سياسي وإقصاء زعيم آخر ، ضربا عرض الحائط موجبات صناديق الاقتراع ، وانتهى عهد التوافقات بين القياديين المتحالفين على حساب القواعد المناضلة في العديد من الأحزاب السياسية تحايلا على الديموقراطية الداخلية ، وانتهى عهد احتقار الرأي الآخر المخالف وعهد الانتقام من المناضلات والمناضلين الحاملين لمشروع فكري مخالف ، رغبة في تحنيط كافة المناضلين في تيار واحد وراء الزعيم ، وانتهى عهد تغييب مبادئ الحكامة الجيدة ومبادئ الشفافية والمسؤولية والمحاسبة في تدبير شؤون الحزب ، وانتهى عهد اللوبيات المتحالفة على المصالح الضيقة ، إنها القيم التي جاءت بها الشعوب من خلال انتفاضتها ضد لوبيات الفساد في البر والبحر والحزب ، إنها تطلعات الشعب المغربي ليرى أحزابه السياسية في مستوى الطموحات .  

تعليقات