ترسيخ هيئات الحكامة الجيدة في المشهد المؤسساتي الوطني


شرع المغرب في العشر سنوات الأخيرة في إرساء مبدأ الحكامة الجيدة، وتنزيله على أرض الواقع في بعض المجالات الحيوية الاستراتيجية، وخاصة على مستوى تدبير فضاء الحقوق والحريات العامة، وتدبير الشأن العمومي على مستوى صرف المال العام، وذلك كرد فعل ضد تحكم بعض أجهزة الدولة وضد تسيب بعض أجهزة الإدارة العمومية.
  ويعد مبدأ الحكامة الجيدة مبدأ عالميا انبثق عن توصيات المنظمات الدولية، وخلصت إليه المنظمات الحقوقية المغربية، وفي طليعتها هيئة الإنصاف والمصالحة، أثناء طي المغرب لصفحة الماضي بتصالح ماضيه مع حاضره لصالح مستقبله، استجابة للإرادة الملكية المبدعة للمفهوم الجديد للسلطة، المفهوم الذي يتطلب بعض الوقت حتى تستسيغه العقلية الإدارية القديمة، وتعمل به على مضض في قطاعات حيوية طالما سادتها أنظمة الريع و الامتياز و غير ذلك من عناصر الفساد وعدم التكافؤ والإثراء بلا سبب والاغتناء السريع.
  إن دسترة هيئات الحكامة الجيدة في العديد من فصول الدستور وخاصة في بابه الثاني عشر، هي جواب إداري تتم فيه عملية تحديث هياكل الدولة التقليدية، المتسمة ببطء المساطر وقدمها وعدم تجاوبها مع عهد السرعة والتحديث، كما تعد الدسترة جوابا سياسيا، تتجه فيه الدولة نحو أنماط ومنهجية جديدة في ضبط الحياة الاقتصادية والاجتماعية، تسند من خلالها الدولة لهيئات الحكامة مركز الوساطة، فيما بين المؤسسات والمرافق العامة والمرتفقين، بعدالة وشفافية وجودة وسرعة ونجاعة.
 إن المشرع الدستوري وهو يدستر هيئات الحكامة الجيدة يصبو في واقع الأمر، من جهة إلى مراعاة الطابع التقني لبعض القطاعات المستعصية على الإدارات الحكومية ، ومن جهة ثانية توفير ضمانات قوية للمواطنين بشأن تحقيق العدالة في القطاع، ومن جهة ثالثة تأمين نجاعة تدخل الدولة في إطار من الشفافية والسرعة والملاءمة، ومن جهة رابعة السماح بمساهمة واسعة لفاعلين أصليين ذوي مهنية وكفاءة ومشارب متعددة.
 ومن هذا المنطلق يفهم لماذا كانت هيئات الحكامة تؤسس كلها بظهير ملكي، وعلى الدسترة الجديدة احترام الجيل الأول من هيئات الحكامة، التي أولاها جلالة الملك كريم عنايته، بصفته مؤسسة محايدة تتموقع فوق جميع المؤسسات الدستورية، مما حذا بجلالته حرصا على هذه المؤسسات إلى العمل على إبعادها إلى أقصى حد ممكن عن المؤسسة الحكومية ووصايتها، تفاديا لضغوطها المباشرة وغير المباشرة، وهو ما يسير على هديه الدستور اليوم بتوخيه تقريب هذه الأجهزة من البرلمان، كمؤسسة ديموقراطية تروم العدالة والإنصاف في الاستفادة من الخدمات العامة.
  لقد أبانت هيئات الحكامة الجيدة في الدول الديموقراطية عن مصداقيتها، بعدما رسخت العدالة والشفافية في تدبير العديد من القطاعات الاستراتيجية الاقتصادية والاجتماعية،  من خلال منهجية ديموقراطية تراعي فيه التنوع والتعددية، في ظل نظام السوق والعولمة، مما باتت معه الحاجة أكيدة إلى مراجعة دور مؤسسة الدولة في القرن الواحد والعشرين، بالانتقال إلى مهمة الضبط، أي ضبط وتقنين (Regulation) بعض القطاعات الحيوية كقطاعات:الطاقة والصفقات والحريات العامة والمال والتأمين والأبناك وحماية المعطيات الشخصية وحماية الأشخاص، إن هذا التطور أصبح اليوم يفرض على الدولة الوعي بأن تدبير الشأن العام يتجاوز في بعض القطاعات الحيوية مفهوم المركزية واللامركزية، بإسناد التدبير إلى هيئات حكامية مستقلة، تعمل باسم الدولة في قطاعات ذات طبيعة إدارية أو اقتصادية حكومية سابقة، دون أن تكون تابعة لا للحكومة ولا للبرلمان.
 لقد تأثر المشرع الدستوري بالمشرع الفرنسي ــ حسب ما يبدوــ حينما عمل على دسترة المؤسسات العشر في مجال الحكامة الجيدة، وهو اتجاه يفصح عن الإرادة السياسية العليا في المنهجية الجديدة المتعلقة بتدبير تلك القطاعات المنصوص عليها في الباب الثاني عشر، ويبقى السؤال مطروحا بشأن ما أعدته الدولة من موارد مالية وبشرية ولوجستيكية وبرامج عمل وخارطة طريق وأهداف محددة في الزمان والمكان لكل هذه الهيئات حتى تنجح في مهامها قبل محاسبتها برلمانيا أو قضائيا.
 إن الدستور يرسي من خلال الفصل 160 إحدى أهم المساطر التي من خلالها يقيد المشرع هيئات الحكامة، بالتنصيص على أنها ملزمة بتقديم تقرير سنوي عن أعمالها أمام البرلمان، مما سيحث الهيئات الست أو السبع المحدثة اليوم على أرض الواقع، على بذل قصارى الجهود من أجل إنجاح مهمتها، لكون البعض منها لم يسبق إخضاعه للمراقبة، مما سيسعى البعض منها إلى خلخلة أجهزته إرساء لخارطة طريق محكمة، باستراتيجية عمل مقنعة لممثلي الأمة، تسعى فعلا إلى إحقاق الأهداف المسطرة لها في ظهائر التأسيس والقوانين المحدثة لها.
 إن المشرع سيقتنع في العشرية الثانية إلى إحداث المزيد من هيئات الحكامة لضبط القطاعات الحساسة الأخرى في مجال التأمين والصفقات العمومية والحريات العامة والقطاعات الاقتصادية الاستراتيجية التي تعرف تبذيرا للمال العام وهدرا للكفاءات والموارد، إلا أن من الأفضل أن يتم بداية توحيد قواعد المنظومة الضابطة للهيئات الحالية على مستوى القوانين الداخلية والتركيبة وحالات التنافي ومدة الولاية ثم طرق المساءلة والمحاسبة وطبيعة الاختصاصات ، وذلك قبل الشروع في هيئات حكامية جديدة
 بوشعيب أوعبي

تعليقات