القانون والسلم الاجتماعي


طورت علاقة القانون بالامن والسلم الاجتماعي  مع تطور الفكر الانساني وتطور المجتمعات وانتقالها من مرحلة الى اخرى
 ففي مرحلة القوانين القديمة كانت غاية القانون الاساسية  هي المحافظة على السكينة والسلام الاجتماعي بأي شكل من الاشكال ولو باللجوء الى كل اساليب الردع والقهر فتميزت الجزاءات المفروضة في تلك القوانين بالقسوة ، وربما كان ذلك امراً طبيعياً في تلك المرحلة من حياة البشرية ، اذ يصعب ضبط سلوك الانسان البدائي وجعله ملتزما بالقوانين والاعراف بواسطة الالتزام الذاتي او عقوبات غير رادعة .
فقد كانت اغلب القوانين القديمة شديدة وقاسية ومجحفة بحقوق الضعفاء ولاتعرف للرحمة طريقا الا في حالات نادرة، واذا كانت القوانين اوالاعراف القديمة تفرض على ابناءها عقوبات قاسية ولاتعترف بالحماية القانونية الا لأفرادها، فأنها في مقابل ذلك لم تعترف للأجنبي بأية حقوق بل كانت تستحل قتله وتبيح ماله وعرضه .
وعلى سبيل الاستثناء مما تقدم ،ومع قسوة بعض احكام قانون حمورابي ، فان حمورابي اعلن في مقدمة مسلته انه انما وضع قانونه لتحقيق العدالة. الا ان فكرة الامن الاجتماعي كانت تتقدم اولوياته التشريعية.(1)
وفي العصور الرومانية وبتأثير من الفسلفة اليونانية وبفضل تطور وانتعاش الحياة الاجتماعية والاقتصادية نودي بأن يكون القانون وسيلة للعدل أو للانصاف كلما كان ذلك ممكناً ، فاضيفت غاية اخرى للقانون هي تحقيق العدل ، وتم اعتماد التمييز الذي قال به ارسطو بين فكرة العدل وفكرة العدالة .
 وفي القرون الوسطى ومع بروز السلطات المطلقة للملوك وسيطرة رجال الكنيسة ورجال الاقطاع على الدولة والحكم إحتـَيت مرة اخرى الفكرة البدائية التي ترى ان غاية القانون الاساسية هي تحقيق الامن الاجتماعي والسلم الاجتماعي والحفاظ على الوضع القائم .
اما في عصر النهضة الذي طغت فيه افكار الحرية والمساواة فقد اعتبرت ان غاية القانون تأكيد ذات الفرد واثبات حريته واقامة المساواة الطبيعية والعدل بين افراد المجتمع ورفع جميع القيود اتي تحد من حرية الانسان ونشاطه ومن ثم لا ينبغي للقانون ان يكون وسيلة الحكام للحفاظ على الوضع القائم ، وحسب وجهة النظر هذه ، ينبغي عدم التوسع في نطاق القانون وحصرها في اضيق نطاق  ، وفي هذه المرحة من التطور الانساني ترددت مرة اخرى الفكرة اليونانية التي تقول ( ان القانون شر لابد منه ) .
وفي مطلع القرن العشرين ومع تنامي الحركات الاجتماعية تم الاعتراف بغاية اخرى للقانون هي تحقيق التقدم الاجتماعي .(2)
وفي ضوء ما تقدم ، تقوم غاية القانون على اساس من مبدأين اساسيين يجسد مضمونها القيم الاجتماعية السائدة ، هما مبدأ امن المجتمع واستقرار المعاملات ( السكينة الاجتماعية ) ومبدأ تحقيق العــدل في المجتمع ، تضاف اليهما غاية تبنتها في العصور الحديثة التشريعات المتطورة هي غاية تحقيق التقدم الاجتماعي فكانت احد اعمدة النهضة في الحياة الانسانية المعاصرة.
 وتختلف القوانين المعاصرة في ترتيب الأولوية التي يجب اعطائها لكل غاية عند تشريع القوانين.
 القانون وغاية السلم والسكينة الاجتماعية
هذه هي الغاية الاولى من القانون التي نمت وتطورت فكرتها ووسائلها عبر التاريخ ، وقد ارتأت البشرية منذ نشأتها ان السلم والامن الاجتماعي الا يتحقق الا بعدة وسائل، منها؛
 اولاً وجود حاكم ذو سيادة وسلطة على رعيته ،استندت مشروعية حكمه في البدء الى طبيعته الالهية او ان ترشحيه للحكم يتم من قبل الالهة او ان تقود العناية الالهية الى اختياره ، وتطورت هذه الوسيلة لاحقاً الى صيغة حكومة ديمقراطية منتخبة .
وثانياً ان توجد قوانين صارمة تفرض الجزاء على من يخالفها .
 وقد تعددت وتنوعت الافكار القانونية في هذا المجال وخاصة في مجال الجزاء القانوني وطبيعته والغاية منه ، وكان الهدف من العقوبة ابتدءاً هو الانتقام من الجاني وشفي غليل الضحية او عائلته بل ان الانسان البدائي كان يفرض العقوبة حتى على الحيوان والجماد  ، فقد كان الانسان البدائي لا يفرق عند الانتقام بين الانسان والحيوان والجماد ، فان اعتدى عليه انسان ، مميز او غير مميز ، انقض عليه ليصرعه او يجرحه او يسترقه ، وان كان حيوانا قتله وان كان جماداً هدمه او اتلفه، ثم اصبح الهدف من العقوبة في العصور الحديثة هو اعادة تأهيل الجاني وتحقيق الردع العام .
كما ادركت البشرية ان السلام الاجتماعي لا يتحقق الا اذا سعى القانون الى التوفيق بين المصالح المتعارضة.
وتذهب المدارس الشكلية الحديثة ، وهي نوع متطور من الافكار القانونية القديمة ، الى ان الغاية الاساسية من القانون هي توفير الامن الاجتماعي وترى في تأكيد سلطة الحاكم  اساس كل خير وتقدم للمجتمع وكان عدد من فلاسفة اليونان يرون ان القانون هو حكم القوة ، ولهذا عرف الفقيه ( ثراسماخوس ) وهو سفسطائي، العدالة بانها في صالح الاقوى ، ومن اقوال الفقهاء الرومان المأثورة ( ان مايريده الحاكم هو ما يريده القانون ) (3)
وفي العصور الحديثة كان من الطبيعي ان تتبنى مدرسة الشرح على المتون هذا الاتجاه ، كما تبناه كبار الفلاسفة الالمان ومنهم هيجل ، فالقانون من وجهة نظرهم يعبر عن مشيئة الحاكم ، وتكرس هذا الاتجاه في المدرسة الوضعية القانونية الذي تزعمه كلسن(4) ، فالقاعدة القانونية حسب هذا الرأي هي أمر يصدر من صاحب سلطة الى من يخضع لهذه السلطة مقترن بجزاء لمن يخالفه ، وهذه القاعدة تنفصل بمجرد سَنها عن الاخلاق والعدالة ، وإن كانا مصدر مادتها الأولية ، لتستقل بوجودها كأداة تنظيمية للمجتمع ملزمة للافراد دون حاجة للتحقق مما إذا كان القانون الذي يضم هذه القواعد الوضعية متفقاً مع حسن الاخلاق وروح العدالة او غير متفقاً معهما. واعلن كلسن ان ( لاشأن للقانون بعلم الحياة )
، وان نظرية القانون يجب ان تتناول القانون كما هو كائن لاكما ينبغي أن يكون ، واستبعد فكرة العدالة من مجال القانون، بداعي ان الحكم على القانون بالعدالة او عدم العدالة يتطلب معايير لاتخضع للمعرفة العلمية ودعا الى نظرية محضة في القانون ، ومن ثم هاجم نظرية القانون الطبيعي واصفاً اياها بانها حصيلة استنتاج غير صحيح .
 وبذلك استبعد كلسن وانصاره الحقائق والقيم المطلقة من المنهج القانوني ، فالقانون حسب هذه وجهة النظر هذه  يجب ان لايخضع لأي تقويم أخلاقي ، فالقاعدة القانونية حسب هذا الرأي هي أمر يصدر من صاحب سلطة الى من يخضع لهذه السلطة مقترن بجزاء لمن يخالفه ، وهذه القاعدة تنفصل بمجرد سَنها عن الاخلاق والعدالة ، وإن كانا مصدر مادتها الأولية ، لتستقل بوجودها كأداة تنظيمية للمجتمع ملزمة للافراد دون حاجة للتحقق مما إذا كان القانون الذي يضم هذه القواعد الوضعية متفقاً مع حسن الاخلاق وروح العدالة او غير متفقاً معهما، وزعموا ان علم القانون ليس إلا تحليل للانظمة القانونية الوضعية في الدول المختلفة ، وان المفاهيم القانونية ينبغي ان يُنظر اليها مستقلة عن العوامل السياسية والاقتصادية والتاريخية ... .
 ويترتب على هذه النظرية ، ان كل سلوك انما يحدده القانون بصورة مباشرة او غير مباشرة ، وعندما لا يكون عمل الفرد ممنوعا بِسُنة قانونية فهو مسموح به قانونا بصورة غير مباشرة ، وبتعبير اخر، حسب وجهة النظر هذه ، ان القانون لايمكن ان يحتوي على ثغرات (5)، ولايمكن ان يتمتع القاضي بأية سلطات تقديرية . ، فالغاية التي يجب ان يكرسها القانون ، حسب راي كلسن ، هي الامن الاجتماعي بواسطة قواعد قانونية ثابتة نسبياً لا يقبل تطبيقها التقدير ، لا تتقادم ولا تنسخ الا بتشريع لاحق.( 6)
ان وسيلة فرض الامن الاجتماعي الاولية هي القوة والردع والاستعانة بأجهزة الامن العام لفرضها عند الضرورة ، مع مراعاة الاجراءات القضائية كضمان للحريات العامة كما هو سائد في دساتير الدول الديمقراطية .
واذا اردنا ان نحلل قيمة هذه الغاية في النظام القانوني ، فلا يسعنا الا الاعتراف بالقيمة العظيمة لهذه الغاية في حياة المجتمع ، ذلك ان استقرار المجتمع واستتباب الأمن فيه امر لازم لأطمئنان ابناء المجتمع على سلامة حياتهم واموالهم وحماية مصالحهم المشروعة ، فاستخدام القوة وفق الضوابط القانونية ودون تعسف ضرورة اجتماعية لمواجهة مظاهر الاجرام والانانية والخروج عن القانون وحب الذات المفرط الذي لا يتلائم مع طبيعة العلاقات الاجتماعية والذي يفرز تصرفات سيئة كالربا والاحتكار والاجرام   .
ومن جانب اخر ، فان غاية السكينة الاجتماعية تفرض بطبيعتها ضرورة التوفيق بين المصالح المتعارضة .
ذلك ان من المهم جدا والضروري للغاية تنظيم تلك المصالح المتعارضة  حتى لاتعم الفوضى ويهدر السكون الاجتماعي اذا ماترك لكل انسان مطلق الحرية في تحقيق رغباته وفقا لمشيئته او وفق مايعتقد او يظن انه حقا وعدلا .
فالقانون يتولى التوفيق بين المصالح المتعارضة مع مراعاة الابقاء على اكبر مجال لحرية الفرد والجماعة ، ويمكن ان يضحي القانون بالمصالح الخاصة حماية للمصلحة العامة ، الا ان ذلك لا يكون الا اذا لم يكن هناك سبيل اخر لحماية المصلحة العامة يمكن ان يبقي على المصلحة الخاصة دون ان يمسها ، وان لا تؤدي تلك التضحية الى اعاقة قوى الانسان الخلاقة او تكبيلها بالقيود بداعي حماية المصلحة العامة . فلا يمكن تحت اية تبريرات مثلا حرمان الناس من حق التعبير وحرية نشر الفكر والرأي والعقيدة  في الظروف الطبيعية بزعم انها تتعارض مع المصلحة العامة ، ولو قاد المنطق المجرد الى هذه النتيجة . وهذا يعني ان هناك مصالح خاصة لا يمكن هدرها وان بدا ظاهراً انها تتعارض مع المصلحة العامة . 
وتعتبر مسألة تنظيم المصالح المتعارضة من اهم الاعتبارات التي يجب ان يراعيها واضع القانون ، لان القانون الذي تختل فيه حماية المصالح ويبدو فية التحيز واضحاً وغير مبرر لفئة او طبقة من المجتمع من اهم عوامل عدم الاستقرار وفقدان الأمن الاجتماعي وسبباً للأنتفاضات الشعبية والثورات عبر التاريخ .( 7)
ولكن ماهي معايير تقييم المصالح وماهي بالتالي الاوليات التي يجب ان يراعيها المشرع وهو بصدد تنظيم المصالح المتعارضة ؟
يمكن ان يقترح في هذا المقام معيار المصلحة العامة ، فكل مصلحة فردية تكون اقرب الى المصلحة العامة هي التي تقدم على غيرها .
الا ان استخدام هذا المعيار لوحده يبدو غير مُجديا لاعطاء حلول كافية ،  فضلا عن انه معيار ذو مفهوم مرن وغامض كما يمكن ان يكون اداة الدكتاتورية لتمرير القوانين القائمة على الرغبات والاهواء الشخصية .
الا ان معيار المصلحة العامة في الدول الديمقراطية يبدو اكثر انضباطاً لسببين اولهما شيوع الفكر الفردي البراكماتي وثانيها ان القانون يصدر عن هيئة منتخبة هي البرلمان .
 ويضع الفقيه روسكو باوند معياراً عملياً عاماً هو وجوب اشتمال الحل على اكبر قدر من المصالح بأقل تضحية ممكنة ، ويوضح روسكو فكرته بأن اعتماد هذا المعيار لا يعني ان جميع المصالح يمكن النظر اليها على انها في مستوى واحد او انها لا تخضع للمعايرة من حيث ترتيب الاهمية ، ومن بين اول الحقوق التي يجب ان يتمتع بها بها الافراد والتي تكون حافزاً للمشاركة في النشاطات الاجتماعية هو الحق في الاستقرار والآمان من العدوان الداخلي والخارجي ، وحماية الصحة العامة وحماية الاسرة وحماية المؤسسات العامة وحماية الاداب العامة والاهتمام بحياة الفرد وحقه في العيش بمستوى لائق يتناسب مع المستوى الاجتماعي العام السائد.( 8)
ومن الطبيعي ان لا يتمكن القانون من وضع هذه الحقوق والمصالح في مستوى واحد لانها تحمل صفة التعارض بطبيعتها ، مما يعني ان عملية وضع القانون تتطلب دراسة الواقع الاجتماعي والقييم والاوليات التي يقدرها عموم ابناء المجتمع ، وهذه متغيرة من مكان الى اخر ومن زمن الى اخر ، وكم من التشريعات الاصلاحية العظيمة فشلت وسقطت عند محاولة تنفيذها لانها لم تأخذ بالاعتبار القيم الاجتماعية السائدة المضادة للتطور،  فالافكار العظيمة لاتكفي لوحدها بل ينبغي ان تكون وسائل تنفيذها ملائمة وان لا توقع صدمة في مشاعر ابناء المجتمع نتيجة انهيار القيم المفاجيء، فلدى البشر عداء تاريخي وحذر دائم من التغييرات المفاجئة خاصة ، وهكذا لم يُنزل الذكر الحكيم في يوم واحد وكان ذلك ممكناً بالتأكيد ، ذلك ان نقل المجتمع نقلة نوعية هائلة من الجاهلية وعبادة الاصنام الى رحاب التوحيد والمعرفة ونور الاسلام يتطلب تدرجاً في نزول الاحكام لتستقر في العقول والضمائر .
تطبيقات فكرة الامن الاجتماعي :
 قد يبدو غريباً للكثيرين ان النظام القانوني يتبنى انظمة تجافي منطق العدالة بوضوح ، ولكن ذلك يأتي من المشرع بقصد بناءاً على غاية تغياها وهي تحقيق امن واستقرر المعاملات بعد ان ارتأى تقديمها في تلك الاحوال على اعتبارات العدالة ، ومن ذلك تحديد مدد الطعن بالاحكام امام محكمة الاستئناف او التمييز بموجب القوانين الاجرائية بمدد قصيرة نسبياً وكذلك مدد الطعن بالقرارات الادارية فأن مرت تلك المدد يرد الطعن او ترد الدعوى شكلاً بغض النظرعن صحة الحكم او القرار او خطأه اومخالفته للقانون. ومن ذلك ايضاً نظام التقادم المسقط في الالتزامات  ، والتقادم المكسب في العقارات والمنقولات كاثر من اثار الحيازة .
التقادم المسقط عبارة عن مضي مدة معينة على استحقا الدين دون ان يطالب به الدائن ، فيترتب على ذلك سقوط حقه في المطالبة إذا تمسك بالتقادم من له مصلحة فيه . وحكمة تبني التقادم المسقط هي استقرار المعاملات.
فلا يمكن من الناحية العملية ان يوفر القانون الحماية الى الدائن الى اجل غير مسمى ، والقانون يفترض ان سكوته عن المطالبة مدة طويلة دلالة على انه استوفى حقه او انه قد نزل عنه للمدين ،او ان المدين شخص مهمل فتكون رعاية المدين اولى . فليس من المقبول من ناحية استقرار المعاملات ان يسمح للدائن او ورثته بمطالبة المدين بعد مرور عدة اجيال . وتبنى فكرة التقادم المسقط عل اساس مزدوج يستند الى مراعاة فكرتي الصالح العام والصالح الخاص ، وترتيباً على فكرة الصالح العام ومبناها عدم نظر المنازعات التي تقادم عليها العهد لتعذر الفصل فيها ، لايجوز النزول عن التقادم قبل ثبوت الحق فيه ، ومن ثم لايمكن للدائن ان يشترط مقدما تنازل المدين عن حقه بالدفع بالتقادم .ً وترتيباً على فكرة الصالح الخاص ومبناها قرينة الوفاء ، لا يقع التقادم بقوة القانون ، بل يجب ان يتمسك به من له مصلحة فيه .
لم يتبنى الفقه الاسلامي التقادم المسقط في عهود ازدهاره استناداً الى حديث رسول صلى الله عليه وسلم ( لا يسقط حق امرؤ مسلم وان قدم ) الا انه في العصور المتأخرة وخاصة بعد تبني الدولة العثمانية للعديد من النظم الغربية ، فقد تبنت مجلة الاحكام العدلية نظام التقادم ، الا انه تقادم مانع من سماع الدعوى لا مسقط للحق ، وقد برر الفقهاء الاخذ به على اساس فكرة ان السلطان حينما اقر نظام التقادم المانع من سماع الدعوى فان ذلك يعد  بمثابة عزل للقاضي من جهة نظر الدعاوى التي مر عليها  الزمان ، فبما ان السلطان قادر على عزل      القاضي ومنعه من نظر الدعاوى كلية فانه قادر على عزله في جزء معين من الدعاوى ومنعه من النظر فيها  ، لان من يملك الكل يملك الجزء .
وقد تبنى المشرع العراقي نظام التقادم المسقط في المادة ( 429)التي نصت على انه ( الدعوى بالالتزام اياً  كان سببه لا تسمع على المنكر بعد تركها من غير عذر شرعي خمس عشرة سنة مع مراعاة ما ورد فيه من احكام خاصة ) .

نظام الحيازة والتقادم المكسب:
الحيازة ، سلطة واقعية يمارسها من وضع يده  على شيء بحيث يظهر بمظهر صاحب حق عيني عليه كالمالك وبقصد مزاولة ذلك الحق ، وان لم تستند هذه السلطة الى حق يعترف به القانون.
والحائز للشي قد يكون صاحب الحق فيه ، وقد لا يكون كذلك ، فان وجود الحق ليس لازماً لوجود الحيازة . فالسارق او الغاصب او من يعتقد انه صاحب الحق يعتبر حائزاً مادام يمارس على الشيء سلطة فعلية ، ظاهراً عليه بمظهر المالك او صاحب حق عيني اخر . وتقوم الحيازة على عنصرين ، مادي ومعنوي .
يتكون العنصر المادي من مجموعة الاعمال المادية التي يباشرها الحائز وتظهره بمظهر صاحب عيني كالمالك ، فان كان حاز منزلاً سكنه ، وان كانت ارضاً زراعية باشر زراعتها وان كانت ارض سكنية باشر البناء عليها ، ويجب لصحة الحيازة ، ان تنطوي هذه الاعمال على معنى التعدي ، فان كانت تلك الاعمال برخصة من المالك او القانون فلا يتحقق الركن المادي للحيازة ولا يكسب الحائز الملكية او الحق العيني على الشيء مهما طال الزمن ، الا اذا انقلب معتدياً وعندها تحتسب المدة من هذا الوقت . وفي هذا نصت المادة (1145 /2) مدني عراقي على انه (  ولا تقوم الحيازة على عمل يأتيه الشخص على انه مجرد اباحة ... ) .
اما العنصر المعنوي فيقصد به ان تتوفر لدى الحائز نية استعمال الشي الذي يحوزه كصاحب حق عيني كالمالك .
وعليه لا يعتبر الحائز العرضي حائزاً بالمعنى القانوني كالمستأجر والمستعير والوديع والولي والتابع والناقل لعدم ظهورهم بمظهر صاحب حق عيني الا اذا تغيرت صفة حيازتهم للشيء بأن انكروا حق المالك واستأثروا بالشيء لانفسهم .
وهكذا يتمتع المعتدي ، السارق اوالغاصب ... ،بالحماية القانونية التي يوفرها نظام الحيازة ويعتبرهم اصحاب الحق العيني على الشيء الذي في حيازتهم ، وعلى من يدعي انه صاحب الحق عبأ الاثبات قبل انتهاء مدة  التقادم ، فان مرت مدة التقادم المقررة قانوناً وتحققت شروط التقادم اكتسب المعتدي الحق بالتقادم وليس لصاحب الحق بعد ذلك ان يطالبه بالرد . يتضح مما تقدم ان الملكية سلطة قانونية ، اما الحيازة فهي سلطة واقعية فعلية .
وكان الرومان قد جعلوا السلطة القانونية تابعة للسلطة الفعلية ولا توفر لها الحماية الا بسبب السلطة الفعلية .
وفي الفقه الاسلامي يعتبر وضع اليد قرينة الملكية ودليلها الظاهر . فمن وضع يده على شيء اعتبر انه يملكه حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك (9). ونصت المادة ( 1157/ف1) مدني عراقي على انه ( من حاز شيئاً اعتبر مالكاً له حتى يقوم الدليل  على العكس .)
وقد يبدو غريباً ان يحمي القانون الحيازة لذاتها ويرتب عليها اثارها وهي قد لا تستند الى اي حق يعترف به القانون للحائز . والحال ان حماية الحيازة تستند الى  غاية قانونية مهمة هي حماية السكينة الاجتماعية التي تقتضي تقديم اعتبارات امن المجتمع واستقرار النظام فيه ومنع الاعتداء على الاوضاع القائمة ولو كان المعتدي هو في واقع الامر صاحب الحق .
وهذه الحماية تبدأ كحماية موقته للحائز يستطيع خلالها صاحب الاصلي استرداد حقه من الحائز اذا تمكن من اثبات حقه بالطرق القانونية ، وتنقلب هذه الحماية الى حماية دائمة للحائز اذا انقضت المدة المقررة للتقادم ، لان الحائز يتملك عندئذ الشيء الذي في حوزته ، اذا كان قد حازه بصفة مالك ، وفقاً لنظام التقادم المكسب .
هذا بالنسبة لحيازة العقارات اما بالنسبة لحيازة للمنقولات ، فتكون الحيازة سبباً لتملك المنقول المملوك للغير في الحال دون حاجة الى تقادم ما تطبيقاً لقاعدة (الحيازة في المنقول سند الملكية) ، التي تبناها المشرع العراقي في المادة ( 1163/ف 1) مدني عراقي التي نصت على انه ( من حاز وهو حسن النية منقولا او سنداً لحامله مستنداً في حيازته الى سبب صحيح فلا تسمع عليه دعوى الملك من احد ) . وقد افترض المشرع وجود السبب الصحيح وحسن النية لدى الحائز ما لم يقم الدليل على خلاف ذلك .
وهناك امثلة عديدة اخرى في النظام القانوني ترجع في اصلها الى غاية السكينة الاجتماعية مثل نظرية الاوضاع الظاهرة ومنها قاعدة ، ان الغلط الشائع يقوم مقام القانون ، واغلب قواعد الاجراءات والاثبات وقواعد تقادم الجريمة والعقوبة بالنسبة للقوانين التي تأخذ بها، وهناك قواعد ذات طبيعة جنائية مثل قاعدة لا جريمة ولا عقوبة الا بنص ، وهناك قواعد قانونية ذات طبيعة سياسية مثل قاعدة مصلحة الدولة فوق القانون .
ان غاية الامن والاستقرار تبنى على اساس الاوضاع الظاهرة التي تجسد الحقيقة القانونية ، والوضع الظاهر قد يتطابق مع الحقيقة الحقة او الواقعية او لا يتطابق . والحقيقة القانونية هي المعترف بها ابتداءاً مالم يقم الدليل على خلاف ذلك .
والامثلة المتقدمة وغيرها بما فيها من خروج واضح على قواعد العدالة ، فقد تبنتها الانظمة القانونية الحديثة جميعاً لانها انظمة تحفظ للمجتمع سكينته وامنه الاجتماعي واستقراره .( 10)
************************************
: انتقد البعض قانون حمورابي (1694 ق.م) الرائد بالقول انه تضمن احكاما قاسية جدا في بعض احكامه ووصفوه بالبدائي جدا وانه لم يتضمن مباديء قانونية عامة بل تفاصيلا لحالات واقعية، ولكنها كلمة حق يراد بها باطل ،فانه وان تضمن احكاما قاسية الا انه تضمن احكاما متطورة لم تتوصل لها البشرية الى يومنا هذا وما برحت تسعى الى نيلها ،من ذلك ما نصت عليه المواد (23،24) من قانون حمورابي من انه     ( ان من وقع ضحية السرقة في حالة عدم ضبط الجاني واسترداد المسروقات ، يعوض من قبل اهل المدينة والحاكم الذي وقعت السرقة في ارضه ، فان كانت نفس قد فقدت اثناء السرقة فعلى المدينة والحاكم ان يعوض اهله ) ونصت المادة (148) منه على انه ( ليس للزوج ان يطلق زوجته المريضة بل عليه ان يعيلها طالما هي على قيد الحياة ولكن له ان يتزوج باخرى ) كل هذا قبل ما يقرب من اربعة الاف سنة  ، اما المباديء العامة فلا تتولد الا بعد نشوء القانون ولا تسبقه حتما ، فما المباديء القانونية العامة الا هي مجموعة قواعد استقرت عليها القوانين خلال عهود طويلة من الزمن فاصبحت ذات طبيعة الزامية ولو لم ينص عليها القانون، مثل مبدأ شخصية العقوبة ، ومن ثم لايمكن مطالبة من اوجد القانون وقدمه للبشرية ان يوجده كاملا ،  فحسبه فضلا انه اوجده . 
 2ـ انظر: صلاح الدين عبد الوهاب ، الاصول العامة لعلم القانون ـ نظرية القانون ، مكتبة عمان ، الاردن ، 1968 ،، ص 74 ، وانظر د. حسن الذنون ، فلسفة القانون ، مصدر سابق ، ص 158 وما بعدها. وانظر : د. سليمان مرقس ، مذكرات في فلسفة القانون لطلبة الماجستير، جامعة بغداد، عام 1968ـ1969،ص64،
3ـ انظر: الاستاذ جورجيو ديل فيكو ، تاريخ فلسفة القانون ، د. ثروت انيس الاسيوطي ، مجلة القانون والاقتصاد ، مصر ،ع1 ،س38،مارس 1968،ص115 ، وانظر كذلك:د.عبد الرحمن بدوي،ربيع الفكر اليوناني،ط4،1969،ص108. وانظر د. محمد ابراهيم دسوقي ، تقدير التعويض بين الخطأ والضرر، ص 190.
4ـ هانز كلسن ، فقيه نمساوي ، صاحب النظرية المحضة في القانون .
5ـ رغم ان ارسطو ، واضع علم المنطق ، كان قد اقر بنقص القانون الموضوع من البشر ، ودعا الى ملائمة العدالة بالنسبة للحالات الخاصة ، كما تنبهت التشريعات التشريعات القديمة الى مشكلة النقص في  التشريع ، فقد عرض لها مانو حكيم الهند قبل حوال الفي سنة ، فالزم القاضي ان يحكم وفقاً للعرف المحلي والشريعة المقدسة ، ثم احاله عند انعدام النص الى القانون السرمدي.
6ـ انظر: هانس كلسن ، النظرية المحضة في القانون ، ترجمة د. اكرم الوتري، منشورات مركز البحوث القانونية (11) .وزارة العدل ،  بغداد ، 1986. وخاصة ص 14، 16 ،42-43 ، 50 ،56 ، 79 ، 116-117.
7ـ انظر: د. حسن علي الذنون ، فلسفة القانون ، ص 159 وما بعدها .وانظر عبد الملك ياس ، النظرية العامة للقانون ، مطبعة العاني ، بغداد ، 1969 ، ص109. وانظر: صلاح الدين عبد الوهاب ، الاصول العامة لعلم القانون ـ نظرية القانون ، مكتبة عمان ، الاردن ، 1968 ، ص 36.
8ـ انظر: عبد الملك ياس ، النظرية العامة للقانون ، مصدر سابق ، ص 109-110. انظر: صلاح الدين عبد الوهاب ، الاصول العامة لعلم القانون ـ نظرية القانون، مصدر سابق ، ص 111 وما بعدها.
9 ـ مجلة الاحكام العدلية ، المواد 1679 و 1680 و 1754 ــ 1770 .
10ـ انظر: الاستاذ محمد طه البشير و د. غني حسون طه ، الحقوق العينية ،ج1 ج2 ، 1984.ص 199 وما بعدها.

تعليقات