المجتمع المدني


 
بقلم : عبد العزيز التميمي(*)

يعكس مصطلح المجتمع المدني، المستخدم في الوعي السياسي العربي السائد، لعبة المصطلحية وتلازمها مع لعبة القداسة. ففي وقت هزمت فيه التجارب السياسة لاعتبارات كثيرة، وخصوصا التجارب السياسية, خارج مشروع الدولة أو المعارضة لها, فإن مصطلح المجتمع المدني سرعان ما بدأ بالاندياح في أوساط المثقفين, باعتباره بديلا عن العلاقة مع الدولة، ووسيلة لتسمية أخرى للديمقراطية. وهنا بالذات تبدى الوهم والعبث الفكري، إذ إن المصطلح بات يستخدم وكأنه بمثابة حزب سياسي ضمني، أو بمثابة مواجهة دائمة مع الدولة, أو بمثابة اختصار للعبة الديمقراطية.

إن هنالك وهما يتصور أن المواجهة مع الدولة ستفضي آليا إلى قيام المجتمع المدني، أو أن " كسر" الدولة سيؤدي إلى هذا المجتمع المنشود، وهو وهم ساذج للغاية, لأن هذا المجتمع لا يقوم خارج العلاقة مع الدولة، لأن أصوله تكمن في العملية السياسية, أي في الدولة نفسها.

بتسجيل هذه المحاذير, التي يعلن عنها الدكتور عماد فوزي الشعيبي في كتابه "من دولة الإكراه إلى الديمقراطية", يصبح التفاؤل ممكنا, أو مسموحا به, بعد أن سجلت حركة حقوق الإنسان نجاحا ما في توحيد الناس حول مبادئها في تونس, واستطاعت جمعية النساء الديمقراطيات, والاتحاد العام التونسي للشغل, وغيرهما من المنظمات أن ترسم خارطة لها ضمن الحراك الاجتماعي التونسي. هذه ملامح للمشهد المدني للمجتمع, فكيف كانت الخطوات الأولى؟

 

المجتمع المدني في تونس: التغيير واليوتوبيا

ولد المجتمع المدني في تونس ولادة عسيرة وإشكالية, اختلط فيها الخضوع بالتمرّد, منذ الخيوط الأولى لفجر استقلال مقاليد السياسة التونسية,عن الاستعمار الفرنسي في الخمسينيات. فقد كانت مرجعيات قادة الاستقلال النظرية تحيل على تيار الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا, وبعض رموزه المثاليين, مثل "برودون" و"جان جوريس" و"سان سيمون" و"قوربي" و"مانداس فرنس", وهو ما جعل الدارسين يفهمون طبيعة الفرز السياسي والاجتماعي, الذي ظهر في التركيبة السياسية للنخبة الحاكمة, وتحالفاتها السياسية (دون الطبقية), ضمن ما لاحظه بعض علماء الاجتماع, من أن المجتمع كانت تشقه ثلاث تيارات متباينة, وهي ما يمكن أن يطلق عليها: أ- تيار البورجوازية الوطنية, ب- تيار النقابة العمالية (الاتحاد العام التونسي للشغل), ج- تيار الإصلاحية الزيتونية.

ولئن كانت البورجوازية الوطنية في أوج قوتها, بفعل خروجها منتصرة من معركة التحرير، والنقابة العمالية قوية برصيدها الوطني والنضالي, الذي أرسى دعائمه الزعيم فرحات حشاد, فإن الإصلاحية الزيتونية لم تشفع لها مساهماتها الواضحة والبطولية في الحركة الوطنية, ولا مشاركتها في تأسيس النقابة العمالية, (إذ اشترك الشيخ الفاضل بن عاشور في تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل مع فرحات حشاد), واتجهت خريطة التحالفات نحو عزل الإصلاحية الزيتونية وتهميشها من الوهلة الأولى، وتم استبعادها من جميع المراكز والمسؤوليات الحساسة.

ورغم العمق التاريخي, والكادر التعليمي, ورصيدها الروحي والشعبي, فقد سهلت هشاشة نسيجها التنظيمي, وتمفصلها الاجتماعي, ومحدودية أفقها النظري والعملي التقليدي, وافتقارها لآليات الممارسة, ولشمول الاطلاع المعرفي على الحداثة والغرب.. كل ذلك سهل عملية تهميشها, هذا رغم ما يسجله التاريخ من جهود علمية وتنويرية لكبار علمائها.

وقد نشأ تحالف بين فريق حكومة بورقيبة واتحاد الشغل, ضمن سياسة وفاقية, تجمع بين بناء الدولة العصرية, وضمان نوع من التغطية الاجتماعية للشغالين, بلغت حد تبني البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للاتحاد العام التونسي للشغل.

ولكن تحالف الحزب الحاكم مع المكونات المدنية للمجتمع, من اتحاد العمال, إلى اتحاد الفلاحين, والاتحاد النسائي, واتحاد منظمات الشباب، سرعان ما انقلب إلى احتواء لم يصمد مع الأيام, أمام تكرر الأخطاء الهيكلية, من فشل سياسة التعاضد, إلى الحسم الدموي للفتنة اليوسفية في الخمسينيات, وبداية الستينيات, إلى خطاب أريحا, الذي تبنى القرار الغائم لمشروع التقسيم في فترة موسومة بالمد القومي, والمواجهة العسكرية مع الكيان الصهيوني, إضافة إلى قمع الحركة الطلابية, وتوظيف الحركة النسائية والشبابية.. كل ذلك أدى إلى مأزق اجتماعي وسياسي, جسدته أزمة الانشقاق داخل الحزب الحاكم, التي قادها كل من أحمد المستيري, وحسيب بن عمار, والباجي قائد السبسي, والشيخ الحبيب المستاوي، واحتدت الأزمة بين الاتحاد العام التونسي للشغل, حليف الأمس, والحزب الحاكم, إلى الحد الذي قدم فيه الزعيم الحبيب عاشور استقالته من اللجنة المركزية للحزب, وما تبعها من إضرابات وعصيان مدني, توجته أحداث 26 جانفي (كانون ثاني) 1978 الدامية.

وباتت مصالح المجتمع التونسي وتبايناته مع حليف الأمس تغلب على إارتباطاته القديمة به. وهنا بدت الحاجة إلى التشكل الجديد للحياة السياسية, وإلى تعدد الأحزاب السياسية, ومكونات المجتمع المدني, التي تتداول صناعة النخب السياسية, ومن ثم ظهرت الحاجة إلى زحزحة مجال السياسة الأحادي العام, وإعادة إنتاج العلاقات السياسية, ضمن أطر ومكونات جديدة للمجتمع، وكذلك إعادة بناء مجال السياسة خارج الأطر التقليدية.

وهكذا برزت أشكال جديدة للممارسة النضالية والسياسية, مثل الاحتجاجات والاعتصامات والعرائض. وظهرت إلى الوجود من باطن المجتمع أنتليجنسيا وتيارات سياسية جديدة قومية وإسلامية وماركسية وليبرالية. وطالب السيد أحمد المستيري بتأشيرة قانونية لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين, وأسس السيد حسيب بن عمار جريدته المستقلة "الرأي" الشهيرة, وبرزت إلى الوجود تباعا الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان, وفرع منظمة العفو الدولية, وجمعية النساء الديمقراطيات, وجمعية المحامين الشبان, والاتحادات الطلابية, وجمعيات مناهضة التطبيع, والمجلس الوطني للحريات, ومركز توني لاستقلال القضاء والمحاماة.

وكلها في الواقع مكونات للمجتمع المدني, إذا اعتبرنا أن المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, التي تعمل في ميادينها المختلفة, في استقلال عن السلطة, لتحقيق أغراض متعددة, هي من المؤسسات الكونة للمجتمع المدني.

ومن بين تلك الأغراض أغراض سياسية, كالمشاركة في صنع القرار, على المستوى الوطني, ومنها أغراض نقابية, كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة, ومنها أغراض مهنية وبيداغوجية, كما هو الحال في اتحادات الطلاب, وفي النقابات للارتفاع بمستوى المهنة, والدفاع عن مصالح أعضائها, ومنها أغراض ثقافية, كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية ونوادي السينما, التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي, وفقا لاتجاهات أعضاء كل جمعية, ومنها أغراض اجتماعية, للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية.

لقد تطلب الأمر وقتا طويلا حتى يقتنع جانب هام من النخبة التونسية بما يقوله الدكتور حليم بركات أستاذ المجتمع والثقافة في جامعة "جورج طاون", من أنّ انعدام الاهتمام الشعبي بالشؤون العامة, والانصراف نحو تحصيل المعيشة, واللهو, وعدم الاكتراث بما تفعله الأحزاب السياسية المعارضة, ناجم عن غياب الحد الأدنى الجامع لكل الناس, وهذا الحد يتجاوز الأجندة الأيديولوجية للأحزاب, ولا يمكن تحقيقه إلا ضمن هياكل أرقى من بنية الأحزاب, وهي الهياكل المكونة للمجتمع المدني.

وإذا كان المكون الديمقراطي للمجتمع المدني يلاقي الاهتمام المطلوب لدى نشطاء المؤسسات المدنية, فإن الأفق الوطني للمجتمع المدني لا يزال محل أخذ وردّ, يحول دون تحوله إلى موازين قوى, ومراكز ضغط, تعادل طبيعة المهام الإنسانية المنوطة بعهدته.

وتدخل ضمن الأفق الوطني الأجندة القومية والإسلامية, التي اجتهد بعض قصار النظر في استبعادها, بتعلة أن مصطلح المجتمع المدني يتناقض مع مصطلح المجتمع الديني. والحال أن أنطونيو غرامشي مثلا طرح مصطلح "المجتمع المدني" كنقيض للمجتمع الفاشستي، ودعا إلى تكوين جبهة مدنية واسعة, تضم عناصر الكنيسة الكاثوليكية بين صفوفها, لمواجهة المجتمع التوتاليتاري الشمولي الفاشستي.

فالمجتمع هو فضاء للحرية, يلتقي فيه الناس ويتفاعلون تفاعلا حرا, ويبادرون مبادرات جماعية بإرادتهم الحرّة, من أجل قضايا مشتركة, أو للتعبير عن مشاعر مشتركة. والمجتمع المدني كما يعرفه الدكتور سعد الدين إبراهيم أيضا هو مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة, التي تملأ المجال العام, بين الأسرة والدولة, لتحقيق مصالح أفرادها, ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والاختلاف.

وقد استطاع الإسلام تلوين مجتمعه المدني الأول, في إطار من القيم الحاكمة للعلاقات الاجتماعية, وتم كل ذلك قبل أن يفرز المجتمع في النهاية دولته: دولة المدينة, التي قامت على أساس من تعاقد اجتماعي حقيقي, وبإرادة طوعية حرة, متعددة الديانات والأعراق, وفي إطار من قيم العدالة  والتكافل والتسامح والتشاور والحرية.

وإذا كان مفهوم المجتمع المدني نشأ في وجه من أوجهه في تناقض مع الطابع الديني للدولة, فإن هذا المفهوم لم يعد مرتبطا بظروف النشأة القديمة, نتيجة للصيرورة الراهنة, إذ تحول الدين إلى محرك أساسي في حركة المجتمع في أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي, ضد سلطات الدولة وأجهزتها الحزبية. ومن ناحية أخرى لعبت كنائس أمريكا اللاتينية وجانب من الإعلام الكاثوليكي والفاتيكان خلال العشرين سنة الأخيرة دورا متزايدا, باتجاه الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان, والتصدي للقهر الاجتماعي والطبقي. وكنيسة الأمس غير كنيسة اليوم في اهتمامها بمشاكل العالم الثالث, والبعد الديمقراطي, وكل هذا يشكل جزء من نشاط المجتمع المدني. وإذا كان هذا في الغرب, الذي قام ضدّ الكنيسة, فكيف بالإسلام وعلاقته بمجتمعه ودوره في التحرير والتنوير.

ولئن كانت هناك مؤسسات وأحزاب دينية, تقوم بتفسير الدين وفقا لاجتهادات معينة, فإنه لا يجوز أن يفهم من ذلك وجود سلطة دينية على المجتمع. فالفتاوى والاجتهادات والتفاسير ماهي في النهاية إلا توجهات نسبية بشرية, في سياق زماني ومكاني معينين، ولكل مسلم أن يفهم الإسلام حسب قدراته وإمكانياته. فالإسلام روح تسري رسالتها في الأمّة, من أجل تحقيق رفعتها وتطورها وتقدمها, على المستوى الفردي والاجتماعي والحضاري والإنساني, والفوز بالنصر في الدنيا والآخرة.

وحقوق الإنسان ببعديها النسوي والرجالي راسخة في قيم الإسلام ومبادئه. وقد أبان عديد العلماء والمفكرين أن لا تسلط على حقوق المرأة في الإسلام, ولا تفريق بين الجنسين. وذهب بعضهم إلى الدعوة لتأنيث المجتمع, بمعنى نشر قيم الرحمة والطمأنينة والاستقرار والسلم.

واجتماع البعدين الوطني والديمقراطي في آليات الأداء الحقوقي والإنساني للمجتمع المدني وانفتاح تلك الآليات على البنية الثقافية والحضارية للوطن والأمّة, كفيل بنشر الثقافة الحقوقية, وتطوير الأدبيات المقاومة للجهل والفقر والتسلط, وتفعيل الممارسة اليومية والدائمة للمشاركة في تطوير الوعي العام, والتقدم في تخطي المراحل الضرورية للتغيير, والارتقاء نحو الأفضل.

ورغم أن الأحزاب السياسية هي في الواقع جزء من مكونات المجتمع المدني، إلا أن ذلك لا يغني عن التأكيد على أن النشاط الإنساني والمدني لا يغني بحال من الأحوال عن ضرورات تفعيل العمل السياسي والحزبي, الذي يملك فضاءات وآليات أخرى للعمل والتغيير.

ولا يخفى على أحد أهمية التطور الكمّي والكيفي لأنشطة المؤسسات المدنية في السنوات الأربع الأخيرة، وكذلك كثافة أعمال الجمعيات المساندة للمضطهدين, والمناهضة لمختلف أشكال الإكراه, إذ أصبحت تؤشر لتطور يرقى إلى مستوى الظواهر والتقاليد المتجددة, وتنبئ بحصول تطور في الوعي والممارسة, ورغم تعثراته سيؤتي أكله بإذن الله .

والملاحظ أنه إلى جانب تطور الخبرات, ونضج النخب المناضلة, وتمسكها بخيار النضال المدني والسلمي, والابتعاد عن ردود الأفعال العنيفة والتغامرية, فإن نفسا جديدا أصبح يقرّب بين عديد المناضلين بمختلف مشاربهم, للاشتراك في نفس التطلعات المدنية, والطموحات السياسة, والانشغالات الوطنية.

(*) باحث وصحفي من تونس


تعليقات

إرسال تعليق