الحركة الإسلامية في تونس من الثعالبي وإلى الغنوشي


بقلم الكاتب الصحفي
 يحي أبوزكريا


الحركة الوطنية التونسيّة في عهد الاستعمار الفرنسي


تفجرّت المقاومة الشعبية في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي , وتنادى الناس إلى الجهاد ودارت معارك المقاومة الشعبية ضدّ عدوين اثنين في أن واحد , ضدّ الباي وجنوده وضدّ المحتل الفرنسي , وفي كل مكان من البلاد هبّ الشعب التونسي يدافع ويقاوم وبرز زعماء شعبيون في كل منطقة , ولم يؤد إستسلام الباي التونسي الكامل للسلطات الفرنسية إلى تركيع الشعب التونسي الذي تبنىّ النضال الوطني ضد المستعمر الفرنسي .

وبرز اتجاهان في الحركة الوطنيّة , الاتجاه الأول كان يدعو إلى المفاوضات والتصالح مع الإستعمار الفرنسي , وكان على رأس هذا الاتجاه المثقفون التونسيون الذين غلبت عليهم الثقافة الفرانكفونية , وكانت كل مطالبهم محصورة في تحسين حالة التونسيين ورفع الضيم عنهم وإلغاء الفوارق بينهم وبين الفرنسيين , ومثلّ هذا الاتجاه الحزب الدستوري الجديد .

و أول من بادر إلى مقاومة السلطات الفرنسية في تونس هو الشيخ محمد السنوسي الذي قاد الحركة الوطنية وشكلّ وفودا شعبية ذهبت تطالب الباي بوقف الفرنسيين عند حدهّم, فما كان من السلطات الفرنسية إلاّ أن نفت الشيخ محمد السنوسي خارج تونس , وتولىّ قيادة الحركة الوطنية بعده الشيخ المكي بن عزوز أحد شيوخ جامع الزيتونة الثوريين , وكونّ مجموعة من الشباب التونسيين الثوريين وعبأّهم ضدّ القوات الاستعمارية الفرنسية , وتمّ نفي الشيخ مكي بن عزوز خارج تونس حيث أدركته المنيّة في المشرق العربي .

وقد حمل أفكاره الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي كان الى جانبه الشيخ علي كاهية والشيخ زروق والهادي السبعي .

ولم تنتظم الحركة الوطنيّة في تنظيم ذي محتوى سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي إلاّ بعد تجارب مريرة في خضمّ النضال الوطني ضدّ الاستعمار الفرنسي . وفي سنة 1907 تأسسّت أول حركة وطنية سياسية ومنظمة بقيادة علي باش حانبه والشيخ عبد العزيز الثعالبي , وكان عنوان هذه المنظمة هو تونس الفتاة حيث تأثرّ مؤسسوها بحزب تركيا الفتاة التركي الذي كان وراء العديد من المتغيرات التي حصلت في تركيا في بداية القرن العشرين . وفي سنة 1911 وعندما غزت ايطاليا ليبيا , تحركت منظمة تونس الفتاة من منطلق دعم النضال الليبي , وأخذت تمدّ المجاهدين الليبيين بالأموال والمتطوعين , والى جانب هذا أصدرت الحركة الوطنيّة جريدة تحمل اسم : الاتحاد الإسلامي وأسندت رئاسة تحريرها إلى الشيخ عبد العزيز الثعالبي . والى جانب مشاركة القبائل التونسيّة في الجهاد وحمل السلاح ضدّ الفرنسيين , فقد اندلعت معارك طاحنة بين التونسيين والإيطاليين , وكانت أخر معركة بين الطرفين عرفت باسم معركة الجلاّز , وتحركت السلطات الفرنسية عندما رأت أن زمام الأمور ستفلت من يدها بعد المعارك التي نشبت عقب معركة الجلاّز , فصبّت فرنسا جام غضبها على الحركة الوطنية التي حملتها فرنسا مسؤولية الانتفاضات وتمّ اعتقال الشيخ علي باش حانبه و عبد العزيز الثعالبي والشاذلي درغوت ومحمد العروي ومحمد نعمان والمختار كاهية وقد هاجر علي باش حانبه إلى تركيا فيما هاجر عبد العزيز الثعالبي إلى الجزائر ومنها إلى مصر .

وكانت السلطات الفرنسية تتوقع أن تنتهي المقاومة الشعبية بعد نفي زعماء الحركة الوطنية الى الخارج , الاّ أنّ ثورة مسلحة اندلعت سنة 1915 وأستمرّت الى سنة 1918 بقيادة الحاج سعيد بن عبد اللطيف , وفي عام 1919 وأثناء انعقاد مؤتمر الصلح بباريس اتصلّ الشيخ عبد العزيز الثعالبي بالمؤتمر وقدمّ إليه مذكرة تتعلق باستقلال تونس وطالب بتطبيق مبادئ ويلسون الأربعة عشر ونشر في باريس كتابا بعنوان : تونس الشهيدة , فضح فيه دسائس الاستعمار الفرنسي وجرائمه في حق شعب تونس , وقد تلقفّ المثقفون في المغرب العربي هذا الكتاب , وبسبب هذا الكتاب ألقت فرنسا القبض على عبد العزيز الثعالبي وأرجعته إلى تونس وألقته في أحد سجونها , والثعالبي الذي ساهم إلى أبعد الحدود في النهوض بالوعي السياسي للتونسيين لم يذهب جهده سدى , إذ أنّ الشعب التونسي لجأ إلى التظاهرات والإضرابات وطالب بضرورة إخلاء سبيل الشيخ عبد العزيز الثعالبي وأجبر فرنسا على ضرورة إطلاق سراحه , وبعد خروجه من السجن تمّ تعيينه رئيسا للحزب الحر الدستوري التونسي , كما جرى تعيين المحامي أحمد الصافي أمينا عاما للحزب . وشرع هذا الحزب في فتح الفروع والمكاتب في مختلف البلاد التونسية ووضع برنامجا ثقافيا وفكريا يقضي بغرس الوطنية في نفوس التونسيين تمهيدا لإشراكهم في الكفاح المسلح ضدّ الاستعمار الفرنسي .

وقد قام الحزب الدستوري التونسي سنة 1920 على مبادئ تطالب بنظام دستوري لتونس وتأليف حكومة وطنية مسؤولة أمام الشعب باعتبار أنّ تونس أول بلد عربي أعلن دستورا في سنة 1865 يمنح نواب الشعب حق المشاركة في الحكم وحتى حق خلع الباي.

من هو عبد العزيز الثعالبي :

يعتبر عبد العزيز الثعالبي أحد روّاد الإصلاح في تونس ويشبه إلى حدّ كبير في تفكيره رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ عبد الحميد بن باديس , فالثعالبي كان يرى أنّ مصدر التشريع في البلاد العربية والإسلامية يجب أن يكون الثقافة الإسلامية , ورغم كونه أحد أعلام جامع الزيتونة إلاّ أنّه كان ضالعا في القضايا السياسيّة ولم يكن يرى فرقا بين الدين والسياسة , وكان يرى أنّ الدين جاء لإصلاح شؤون الناس وإدارة حياتهم , ولم يكن الثعالبي مجرد زعيم سياسي بل كان مصلحا اجتماعيّا ودينيّا , وكان متأثرا بفكر محمد عبده و رشيد رضا وقد تسنىّ له الإطلاع على فكرهما عندما أقام في مصر غداة نفيه من قبل السلطات الفرنسية من تونس .
وتمكن من ملامسة الهمّ العربي والإسلامي من خلال تنقله بين مصر وبغداد وفلسطين , وقد أكسبه هذا التجوال المزيد من التجارب خصوصا فيما يتعلق بزعماء الإصلاح وروّاد التنوير في المشرق العربي .

وقد أثار الجمود الذي أصاب الحزب الدستوري التونسي بعد نفي زعيمه الثعالبي نفرا من الشبّان التونسيين المنضوين تحت لواء الحزب الدستوري فقاموا بتأسيس جريدة صوت التونسي في سنة 1928 وتولى إدارتها الشاذلي خير الله , وفي سنة 1929 أصبحت هذه الجريدة تحمل اسم العمل التونسي وكلتاهما كانتا تصدران باللغة الفرنسية , لأنّ الصحف العربية كانت ممنوعة .

وفي سنة 1932 عقد الحزب الحر الدستوري التونسي مؤتمرا استثنائيّا وأنتخب أسرة تحرير العمل التونسي في اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري وهم الدكتور محمود الماطري , والمحامي الطاهر صفر والمحامي البحري قيقة والمحامي محمد بورقيبة و شقيقه الأصغر الحبيب بورقيبة .
ويتجلى من خلال التطورات التي حصلت داخل الحزب الدستوري التونسي أنّ قيادته الأولى كانت من علماء الدين وخريجي جامع الزيتونة العريق في تونس , وكان الرعيل الأول مشبعا بالثقافة الإسلامية والعربية , وبعد نفي الشيخ الثعالبي تولى قيادة هذا الحزب مجموعة من الشباب التونسي المتأثر بالثقافة الفرانكفونية وكثير من شخصيات الرعيل الثاني أتمّت تعليمها في الجامعات والمعاهد الفرنسية .

ويمكن القول أنّ النضال التونسي الذي بدأه علماء جامع الزيتونة قد صودر بوصول نخبة مثقفة بالثقافة الفرنسية وعلمانية إلى مواقع التأثير في أهم حزب في تونس .

وإذا كان عبد العزيز الثعالبي قد بنى الحزب الدستوري التونسي على أسس فكرية تمتد جذورها الى الفكر السلفي الإصلاحي الذي بلوره جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده , وربط الحركة النضالية التونسية بحركات التحرر في المغرب والمشرق العربيين . فان الذين جاؤوا بعده لم يكونوا على منواله .
وفي الضفة الأخرى يقف الشباب الذين أنشقوا في وقت لاحق عن الحزب الدستوري الأم وأسسوا الحزب الدستوري الجديد وكانوا قد درسوا في أوروبا وتربّوا على الفكر التنظيمي الغربي , والخلاف بين الثقافتين أدّى إلى اختلاف في منهج العمل وأسلوب التحرك السياسي .وقد تمكنّ التيار السياسي الجديد وهو الحزب الدستوري الجديد من فرض نفسه في الساحة السياسية التونسية , ودعا هذا الحزب إلى سلسلة من الإضرابات والتظاهرات ثمّ دعا إلى العصيان المدني وبسبب هذا العصيان وقعت صدامات دموية بين المواطنين التونسيين والجيش الفرنسي .

وفي عام 1954 عرضت حكومة منديس فرانس الفرنسية على التونسيين مشروع منح تونس الحكم الذاتي مع احتفاظ فرنسا بمسؤوليّة الدفاع والشؤون الخارجية , ولقيت هذه المقترحات القبول من جانب الحبيب بورقيبة , وبموجبه تشكلّت حكومة فرنسية برئاسة طاهر بن عمّار وضمّت هذه الحكومة عناصر معتدلة و ثلاثة أعضاء من الحزب الدستوري الجديد , وبدأت المفاوضات مع الفرنسيين لتسفر عن اتفاق نهائي في 02 حزيران – جوان سنة 1955 .

وكانت بعض الشخصيات الوطنية تعتبر هذا الحكم الذاتي استمرارا للاستعمار وتنازلا صريحا عن تونس ومنحها على طبق من ذهب للفرنسيين . وقد تزعمّ معارضة ها الاتفاق صالح بن يوسف الذي تمكنّ من تحريك مئات التونسيين الذين دخلوا في مواجهات مع الجيش الفرنسي والقوات الحكومية التونسية والتي ألقت القبض على كل مؤيدي صالح بن يوسف الذي تمكنّ من الفرار إلى طرابلس .

وفي تلك الظروف التي كانت تشبه ظروف الحرب الأهلية توجهّ وفد تونسي برئاسة الحبيب بورقيبة إلى باريس لإجراء مفاوضات جديدة مع الفرنسيين , وفي 20 آذار – مارس 1956 وقعّ الطرفان بروتوكولا أقرّت فيه فرنسا رسميا باستقلال تونس وحقها في تولّي الشؤون الخارجية والدفاع والأمن الداخلي وتشكيل جيش وطني وتضمنّ الاتفاق أن القوات الفرنسية تبقى في فرنسا في فترة انتقالية تنسحب بعدها من تونس .
وقد أدّت الانتخابات العامة التي وقعت في تونس بعد الاتفاق مع فرنسا إلى فوز الحزب الدستوري الحاكم , وأصبح الحبيب بورقيبة رئيسا للدولة التونسية , وأصبح الحزب الدستوري بقيادة بورقيبة حزبا حاكما , وتمّ إبعاد كل أنصار صالح بن يوسف أو اليوسفيين من الحكم وخصوصا بعد ن قاطعوا الإنتخابات العامة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)