لغز الوعي



إن عمل الدماغ البشري هو التفكير من جهة , والإحساس والوعي من جهة أخرى . ويمكن تفسير الكثير من عمليات التفكير وإرجاعها لأسس فيزيائية , أما تفسير الوعي وإرجاعه إلى أسس فيزيائية فهو الأمر الصعب . و يتساءل البعض هل يمكن إرجاع الوعي الذاتي إلى أسس فيزيائية ؟ وهل يمكن لعلم الأعصاب شرح وتفسير الوعي ؟ في رأي الكثير من العلماء والمفكرين الآن , نعم هذا ممكن .
تعد الخبرة الواعية أكثر الأمور المألوفة في حياة كل منا وأكثرها غموضاً في أن معاً . فلا شيء نعرفه أكثر من الوعي معرفة مباشرة , ولكن من الصعب التوفيق بينه وبين أي شيء آخر نعرفه . إننا نتساءل : لماذا يوجد الوعي ؟ وما وظيفته ؟ وكيف يتسنى له أن ينشأ عن عمليات عصبية في الدماغ ؟ . وتعد هذه الأسئلة من أكثر الأسئلة أهمية بالنسبة لنا . فالوعي البشري شيء غير عادي , وفوق مستوى باقي أنواع الموجودات التي يعرفها الإنسان , فالأحاسيس والوعي الذاتي الذي يعيشه كل إنسان , يختلف عن أي شيء آخر في هذا الوجود , ولا يمكن فهمه كما تفهم باقي الأشياء .
لقد دار صراع فكري عنيف امتد لفترات طويلة بين أنصار المذهب الأحادي وأنصار المذهب الثنائي . المذهب الأحادي يرى أن الذات الإنسانية تتألف من مادة واحدة فقط . أما مذهب الثنائية فيرى أن الذات الإنسانية تتألف من المادة و اللامادة . لقد اتخذ الصراع بين المذهبين أشكالاً متفاوتة . فبدأ محور الصراع العلمي لمناقشة حقيقة الفصل بين الجسد والروح ، ثم تحول الصراع لنقاش مركب الدماغ والعقل . وفي السنوات الأخيرة انتقلت عناوين الدراسة تحت موضوع البحث في التنقيب عن الأصول المادية للوعي . أن المفكرين اليوم تنحوا عن استخدام مصطلح المادية لاعتباره مصطلحاً يعكس فقط العالم المحسوس بالحواس الخمس لدى الإنسان ، ليحل محلة مصطلح أكثر شمولية وهو مصطلح الفيزيقية . فالفيزياء الآن بعد أن أرجعت الطاقة والقوى والمجالات إلى المادة وجعلتهم شيء واحد, صار بالامكان تفسير أية ظاهرة أو أي شيء بالعلوم الفيزيائية , بما فيها الظواهر الفكرية والنفسية والشعورية والبيولوجية والاجتماعية والاقتصادية " نظرية كل شيء".
لقد تجنب الباحثون الخوض في موضوع الوعي سنوات عديدة عند دراسة الدماغ والعقل , وبقي الوعي خارج إطار التناول , ولكن على مدى السنوات القليلة الماضية تزايد عدد علماء الأعصاب وعلماء النفس والمفكرين الرافضين لفكرة كون الوعي شأنا لا يمكن دراسته وحاولوا التنقيب عن أسراره وأسسه .والمشكلة الصعبة الأساسية هي : كيف يمكن لسيرورات فيزيائية ( عصبية كهربائية ) تحدث في الدماغ أن تشكل الوعي ؟ الذي هو خبرة ذاتية .
هناك عدد من النظريات التي ترجع تكوين الخبرات الشعورية إلى مادة واحدة وهي البناء الفيزيقي فقط , والمسمى أيضاً بالمذهب الاختزالي على اعتبار أنه يختزل البناء الثنائي العقل والدماغ إلى بناء واحد وهو البناء الفيزيقي . وقد خرجت نظريات فلسفية تناصر التوجه الأحادي أو الاختزالي وعبر عنها بأساليب مختلفة من ذلك : نظرية التماثل , ونظرية الواقعية المتعددة , والنظرية الوظيفية. والعديد من الدراسات تؤيد في فكرة أن الدماغ والعقل مادة واحدة , وأن الإنسان ما هو إلا جانب واحد فقط هو الجانب المادي الجسدي ومكوناته الفيزيائية. فالدماغ هو نفسه العقل وأن العقل هو نفسه الدماغ , أي يمكن اختزال تركيبة الإنسان إلى شيء واحد فقط وهو البناء الفيزيقي . فالوعي لا بد أن يكون أساسه ومنشأه فيزيائي وإن كان في الوقت الحالي غير ظاهر هذا الأساس الفيزيائي بشكل واضح ودقيق , ولا يوجد في الوقت الحاضر ظواهر أو علاقات فيزيائية واضحة ودقيقة تظهر الاتصال بين الوعي وأسسه الفيزيائية , ولكن يمكن في المستقبل القريب اكتشاف هذه العلاقات وتوضيحها .
هذا الرأي مبني على أن الوعي يحدث نتيجة عمل أجزاء معينة من الدماغ وبتوقفها عن العمل يتوقف الوعي , ولدي العلماء براهينهم وإثباتاتهم التجريبية المادية الكثيرة , إن كان من ناحية عمل فزيولوجيا وكيمياء الدماغ أو من ناحية قياس التيارات الكهربائية الدماغية(مقاييس موجات الدماغ الكهربائية) , فالوعي مرتبط بمناطق معينة في الدماغ وهي التشكيل الشبكي واللحاء بشكل أساسي وبتوقف عمل التشكيل الشبكي يطفأ أو يتوقف الوعي الذاتي , ودليلهم على ذلك أن تلف التشكيل الشبكي يوقف الوعي نهائياً , وتثبيط أو كف عمل التشكيل الشبكي يوقف الوعي طالما الكف موجود(أثناء النوم العميق أو أثناء التخدير أو غير ذلك) , وكذلك تلف اللحاء أو بعض مناطقه يؤثر على الوعي .
مفهوم الوعي 
عرف ويليم جيمس الوعي بأنه صيرورة وليس شيئاً ملموساً , والوعي يمثل خبرة هذه اللحظة واللحظة التي تليها . ويقصد بالوعي اليقظة وأن الشخص الواعي هو الشخص المتيقظ . والذي يشعرك بأنك واعي هو شعورك بأنك هو أنت ولست شخصاً آخر . فالوعي عبارة عن تحول قائمة من المثيرات الحسية والنشاطات العقلية إلى مشهد له صورة متكاملة يستغرق بقاؤها فترة زمنية كافية . والحيوانات المتطورة تمتلك جهاز الوعي على خلاف الكائنات الحية البسيطة والنباتات فإنها لا تمتلك جهاز الوعي مهما بلغ تركيبها من التعقيد. لقد كانت العمليات لدى الكائنات الحية الأولية البسيطة (وحيدات الخلية ) فزيولوجية فقط ، ثم نشأت الأجهزة الحسية ثم العصبية ( والتي هي بنيات فزيولوجية متخصصة ) لكي تساعد في الإدارة والتحكم بعمليات واستجابات الكائن الحي , وذلك حسب الخيارات المتاحة . ثم نشأت الأجهزة الحسية والعصبية المتطورة , التي أنتجت الإدراك والوعي . 

فالوعي بالنسبة لنا هو القدرة على كف كل أوجه نشاط اللحاء و واردات الحواس ( منعها من دخول ساحة الشعور) فيما عدا المتعلق بناحية معينة , وهذه الناحية هي ما يمكن أن نسميه بسلسة أو قطار الأفكار . فالوعي هو عبارة عن مصباح كشاف يضيئ ذلك الموضع في اللحاء أو بعض واردات الحواس , بنشاط هام ذي قيمة للبقاء على قيد الحياة , وبشكل عام يضيء الوعي فكرة أو مجموعة أحاسيس معينة , في وقت واحد .

ويمكننا أن نعرف الوعي البشري الذاتي , بأنه ما يحصل في الدماغ الفرد أثناء صحوه , أو أثناء الأحلام من شعور وإحساس وإدراك . ويطلق على المنطقة التي يحدث فيها الوعي ساحة الشعور أو سبورة الوعي أو الذاكرة العاملة , أو النفس أو الروح, أو الأنا الواعية , أو الذات المدركة . 

وإن الوعي الذاتي مرتبط بالشعور بالزمن وبنشوء الإحساس بالزمن لدينا , فهو نتيجة رصد الحركات والتغيرات التي نحس بها , وصياغتها في سلسلة متتالية مترابطة , وهذا يكون بشكل حسي واع . وكذلك الوعي الذاتي مرتبط بالذاكرة , فلولا وجود الذاكرة لما نشأ الوعي الذاتي لدينا بهذا الشكل , لأن الأحاسيس أو الوعي سوف تحدث وتنتهي فوراٌ ولا يبقى شيء . فالوعي الذاتي مرتبط أيضاً بطبيعة وخصائص ذاكرتنا , التخزين والاسترجاع . و بتغيير ذاكرة شخص بذاكرة شخص آخر تنتقل ذات كل منهم إلى الآخر . فالوعي الذاتي ( الوعي بالأنا ) تابع لمخزون الذاكرة بشكل أساسي , وهذا يدل على أن الوعي كل منا بذاته عندما يسترجعه بعد أن يصحو من نومه أومن التخدير العام , يتم استعادته بناء على ما هو مخزن في ذاكرته . وهذا يعني أن ذات كل منا تنعدم عندما يطفأ وعيه , وتعود وتتشكل عندما يعود يعمل وعيه , وبالاعتماد على ما يتم استدعاؤه من الذاكرة .

لا يوجد دليل مؤكد على وجود مركز محدد للوعي بالذات , والشيء المحتمل أن هذا النشاط , يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالطبيعة المتلاحمة للاتصالات , بين النظام الشبكي والجهاز أو الدماغ الحوفي واللحاء , فعندما يصل هذا البناء الكلي إلى درجة كافية من التعقيد , عندئذ فقط , يمكن للوعي أن ينشأ ( أو ينبثق ) , ويكون تفسيره وفقاً لتلك الرؤيا طبيعياً تماماً . إذ يزداد مستوى الوعي بازدياد تعقيد الجهاز العصبي , وعند الكائنات الأكثر تعقيداً فقط - الإنسان و الشمبانزي والثدييات العليا - يستطيع اللحاء أن يحمل فكرتين في وقت واحد , الفكرة المعطاة , والفكرة عن تلك الفكرة . فإذا كانت المعالجة المتزامنة للمعلومات ممكنة , فالاحتمال الوارد , أن نشاطاً معيناً يرتبط بفكرة معينة , يمكن أن يولد تفكيراً بشأنه في نفس الوقت , ويكون ذلك تفسيراً فيزيقياً للوعي بالذات . ويبدو أن ذلك " يمكن يحدث أيضاً " بانتقال المعلومات بين نصفي اللحاء , فعندما نقطع الجسر بين هذين النصفين , فإن كل نصف على حدة , يستطيع معالجة المعلومات المتباينة , عن ما يعالجه الآخر . وبذلك ينقطع التأثير المتبادل , وتتوقف هذه الدورة من التأثيرات المتبادلة , وهذا يؤدي إلى ضعف واختصار الوعي .

و يرى البروفسور " ماجون " :إن النظام الشبكي في علاقاته الصاعدة والنازلة باللحاء , يربط ارتباطاً وثيقاً , ويساهم مساهمة فعالة , في معظم فئات النشاط العصبي الراقي . ولسوف تزداد بلا شك على مر السنين , المعلومات عن المخ التي تمكننا من السيطرة على مستويات الوعي والإدراك , ولكن النتيجة الأهم ستكون النمو في إدراك ما يعنيه ذلك التحكم .

أن التكوين الشبكي في ساق المخ يمكن اعتباره المركز المشرف على بث الوعي في المخ , ويوضح لنا مثل هذا التفسير النتائج التي تحدث عندما يقطع ساق المخ في أماكن مختلفة , وقد درس هذا الأمر بعناية في حالة القطط فعندما يفصل المخ عن النخاع الشوكي يظل الحيوان محتفظاً بمظاهر اليقظة مع وجود رسم كهربائي للمخ يدل على نشاط عال كما أن حدقتي العينين تكون مفتوحتين تماماً , إلا أنه عندما يفصل اللحاء والجزء الأعلى من ساق المخ عن الجزء الأسفل والنخاع الشوكي يبدو الحيوان نائماً والحدقتان شبه مغلقتان وتصبح موجات النشاط الكهربائي للمخ بطيئة , ويبدو أن فصل الجزء الأعلى من ساق المخ واللحاء عن الجزء الأسفل قد فصلهم عن النظام الشبكي للتنشيط فأصبح هذا الأخير غير قادر على إرسال الإشارات إلى اللحاء لكي يبقى يقظاً . وبالقيام بعدة تجارب قطع فيها ساق المخ في مواقع مختلفة أمكن التوصل إلى تحديد أهم مناطق التكوين الشبكي التي تسيطر أكبر سيطرة على الوعي , ويبدو أنها تقع في منطقة القنطرة أوسط ساق المخ , وقد لوحظ أن تدمير التكوين الشبكي على مرحلتين تفصل بينهم 3 أسابيع يقلل من انخفاض مستوى الوعي . وأن استئصال جزء من التكوين الشبكي يمكن أن يضعف الوعي قليلاً ويستعاد هذا الضعف بعد مدة , أما تدمير كامل النظام الشبكي دفعة واحدة فإنه يقضي على الوعي تماماً ويسبب الموت بعد إغماءة طويلة , وهذا يعني أن وظيفة ذلك الجزء من التكوين الشبكي الذي استؤصل قد قامت بها أجزاء أخرى من ساق المخ في فترة قصيرة نسبياً وهذا أمر متوقع بالنسبة لوظيفة هامة جداً كاليقظة والانتباه التي لها قيمة هامة في استمرار الحياة . ويبدو أن النظام الشبكي يتحكم في مستوى إدراك الواعي بأن يعمل كصمام يتحكم في الشدة , فيزيد أو ينقص من كمية التنبيهات المندفعة في الممرات الحسية وكذلك من التوجهات الصادرة عن اللحاء إلى العضلات , وهو يستطيع ذلك بسهولة حيث أن كافة الأنظمة الحسية الرئيسية والكثير من الممرات الحسية المتجهة إلى العضلات , إما أن تمر لصيقة به أو ترسل إشاراتها إليه , ويقوم النظام الشبكي التحكم بهذه الإشارات , والنظام الشبكي له أكثر من مئة موقع تتمركز فيها الخلايا العصبية وهو نظام شديد التعقيد والتلاحم , من مجموعة مراكز التحكم في الشدة , وبالتالي فإن سيطرته على الوعي ليست بالبساطة الناشئة عن وجود مركز واحد لتلك العملية .

ودور المهاد في إدارة وبث الوعي هام جداً, فهو يقوم بالتعاون مع التشكيل الشبكي والدماغ الحوفي واللحاء في إنشاء الوعي وبثه . لقد كان المهاد لدى الأحياء الدنيا هو مركز قرع الأحاسيس , وكانت غير محددة بشكل دقيق في أول الأمر , وعندما تطور الدماغ وتشكل اللحاء , وأخذ الدور الأساسي في قرع الأحاسيس , وبمجال دقة وتحديد عالي , وأوسع بكثير من المهاد , بقيت الأحاسيس العامة والألم بشكل خاص تابعين للمهاد , وبالتالي أصبح دور المهاد نقل وترحيل التيارات الواردة من المستقبلات الحسية , عن طريق التشكيل الشبكي , إلى اللحاء والمراكز الأخرى , وهذا أعطاه الدور الأساسي في إدارة قرع الأحاسيس في اللحاء . فهو يساهم يشكل كبير في تشكيل الوعي لدينا , فيتحكم بإدارة قرع الأحاسيس في اللحاء , ويقوم بذلك بالتنسيق مع الدماغ الحوفي الذي يقيّم أهمية الأوضاع , ومع التشكيل الشبكي , الذي ينظم ويدير واردات الحواس والاستجابات ويقوم بالبث . وإذا أردنا تحديد البنية الأكثر تأثيراً في إنشاء الوعي وبثه , فستكون المهاد , فهو ينسق و يكامل ويدير ألحان الوعي التي تعزف.

ويبدو أن هناك على الأقل مركزين أساسيين للاستيقاظ من النوم وحدوث الوعي , أحدهم إلى الأسفل في وسط المخ , والآخر إلى الأعلى قرب اللحاء . وهذا المركز هام للغاية , إذ يبدو أن له تأثيراً سريعاً على اللحاء , إذ يظن أن الاستيقاظ السريع من النوم , أو التغيرات السريعة في الانتباه تحدث بواسطته , وهو يحقق تلك السرعة بواسطة شبكة عظيمة الكفاءة من الاتصالات باللحاء . وعندما تستثار فإنها تؤدي إلى خلق النشاط في اللحاء , وهو نشاط ينتشر بسرعة .
إن ما يحدث بالتفصيل في الخلايا العصبية داخل النظام الشبكي أثناء حدوث مثل تلك النشاطات , يكتشف ببطء شديد , وكذلك بصعوبة . فالمتوقع أن النشاط سيكون شديد التنوع في مثل ذلك النظام المعقد . ولقد بينت الدراسات التي قام بها البروفسور هاتن لوكر أن الخلايا العصبية في مركز الوعي في المخ الأوسط , يكون نشاطها خلال نوم الأحلام ضعف النشاط الذي تقوم به خلال اليقظة , بينما يكون نشاطها متوسط في النوم العميق الخالي من الأحلام , ومما يزيد الصورة تعقيداً , هو أنه يبدو أن ذلك النظام يؤثر على اللحاء بطريقة كيميائية أيضاً , وكذلك يتأثر بالمواد الكيميائية.
فالوعي الذاتي يحدث في بنيات الدماغ , وهو يعتمد في منشئة على خصائصها, فهو الشعور والإحساس الذي يتكون نتيجة واردات المستقبلات الحسية , التي استقبلت وعولجت في بنيات الدماغ . فهو ينبثق بالتدرج بعد الولادة وأثناء الحياة . ولكن بعد أن تمر بضعة سنين يصبح الوعي الذاتي يعتمد بشكل أساسي على ما تم تعلمه وتخزينه في اللحاء والبنيات الدماغية الأخرى , وتنخفض نسبة تأثيرات ودور المتقبلات الحسية , ويصبح بالامكان , الوعي والتفكير بالاعتماد على مخزون الدماغ فقط , ودون الاعتماد نهائياً على واردات المستقبلات الحسية . وهذا ما يحدث أيضاً أثناء الأحلام أن كانت أثناء النوم , أو إثناء الصحو(أحلام اليقظة) . فالقدرة على الوعي والمعالجات الفكري والتصورات. . . تصبح ممكنة دون الاعتماد على الواقع الخارجي وتأثيراته . وهذا ما جعل الوعي والتفكير ذو خصائص غير مادية , لأنه يصبح في هذه الحالة غير مرتبط بالواقع أو المادة الخارجية , فهو ناشئ عن الدماغ الذاتي (العقل الذاتي أو النفس أو الروح) فقط .

فالعقل الفردي الذاتي أصبح بإمكانه خلق عالم ووجود وكون ( حسي و فكري خاص فيه) , ودون الاعتماد إلا على نفسه , فهو يملك القدرات لعمل ذلك . وهذا شيء عجيب ورهيب ومذهل , فكثير من المفكرين اعتبروا الإنسان بمستوى الآلهة , لما يملك من وعي وإدراك وشعور وأفكار . وأهم العوامل التي أدت لتطور الوعي البشري وجعلته على هذه الصورة :

1 - التعامل مع فكرتين أو أكثر في نفس الوقت .

2 - التعرف على الذات في المرآة " هذا هو أنا " , فباقي الكائنات الحية لا تتعرف على نفسها في المرآة ما عدا القليل منها مثل : الشمبانزي والفيلة والدلافين .

3 - النظر أوالرصد من فوق ( أو من الخارج ) . مثال :أنا أحس إحساس معين وأيضاً أرصد أو أدرك إحساسي هذا , أو أنا أفكر بفكرة معينة وأيضاً أدرك أن ذاتي تفكر , وأننا نعي بأن الآخرين يدركوننا.

4 - تمثل أحاسيس الأخر, التقمص .

5 - الجدل الفكري الذاتي بين الدماغ الحوفي والمراكز الأمامية من اللحاء .

وإن دور الحياة الاجتماعية أساسي في نشوء وتطور الشعور بالأنا الفردية , ومعرفة الولادة والموت الحتمي لهذه الأنا . لذلك القدرات الفكرية الهائلة بما فيها الوعي , التي نملكها تجعل كل منا خالق لعالم أو كون خاص به . وإبداع الإنسان للأساطير والملاحم والقصص والروايات والمسرحيات والأفلام دليل على ذلك .

الأنا الواعية , و الذات ( أي الشخصية ) 

ليست الذات أو الشخصية الأنا الواعية فقط , فذات كل منا ينتجها ما هو مخزون في الذاكرة .أما الأنا الواعية أو ما يوجد على سبورة الوعي فهو الجزء الصغير الذي يبث في تلك اللحظة , فذات كل منا مضمرة دوماً , لأنها متوضعة بشكل بنيوي في الخلايا العصبية ومحاور ومشابك هذه الخلايا ( أي الذاكرة ), ولا يظهر منها إلى الجزء الصغير جداً وهو الموجود على سبورة الوعي , وهو ما يبث بشكل كهرطيسي . وهذا يشبه نظام الويندوز في الكومبيوتر, فالموجود على الشاشة يمثل ما هو موجود على سبورة الوعي , أما الباقي فهو المخزن في بنية الكومبيوتر . ونظام الويندوز سمح بوصل جيد وفعال لما هو مخزن في ذاكرة الكومبيوتر , مع ما هو موجود في ذاكرة مستخدم الكومبيوتر .
إن الوعي أو الشعور بالذات( الأنا اللحظية) هو ما يبث على سبورة الوعي , وهذا يوجود بشكل كهرطيسي مبثوث في الدماغ . ونحن إذا استطعنا استخدام سبورة وعي أي إنسان لعرض ذات إنسان آخر, لما اختلفت تلك إلا قليل جداً , وهذا يشبه ما يبث من أي جهاز راديو أو تلفزيون أو فيديو , فالأجهزة مختلفة ولكن ما ينتج متشابه بشكل كبير . والذي يبرهن على ذلك , انبثاق ذات كل كنا عندما نصحو من النوم أو من التخدير العام , فهذا يتم تكوينه بناءً على ما يتم استدعاؤه ( أو يأتي من تلقاء نفسه ) مما هو مخزن في الدماغ , وبثه على سبورة الوعي .
" فأنا" كل منا تنعدم أو تطفأ , وتعود وتظهر آلاف المرات . ويتم هذا الظهور بناءً على ما يتم بثه على سبورة الوعي , فالموجود بنيوياً ( بنية الدماغ وما تم بناؤه أثناء الحياة) لا يتم الوعي أو الشعور به إلا إذا تم بثه وأصبح كهرطيسياً . وتنشأ الأحاسيس الواعية , لأنها تتكرر خلال زمن قصير أو طويل ولا تكون لحظية تجري لمرة واحدة وتنتهي فوراً , وأيضاً نتيجة تكرار حدوثها , وهي تنتشر في أغلب بنيات الدماغ . و هي التي تنتج الوعي الذاتي . فالذي ينتج الوعي الذاتي هو تكرار جريان التيارات العصبية التي تقرع أو تحدث الأحاسيس في بنيات الدماغ , بين التشكيل الشبكي والمهاد واللحاء والدماغ الحوفي وأحياناً المخيخ , فتكرر جريان هذه التيارات هو الذي يخلق " زمن الوعي " , وبالتالي الزمن البشري الذاتي . فإذا لم يحدث هذا التكرار, فلا يمكن أن يحدث الوعي , لأنه سوف يحدث في زمن قصير جداً ولمرة واحدة وينتهي بعدها , فتكرار وجوده خلال الزمن هو الذي يسمح بحدوث الجدل الفكري الذاتي بين الأفكار(الأحاسيس الواعية) والتي تجري معاً في نفس الوقت , ونشوء " زمن الوعي أو الديمومة" .
الوعي الذاتي , والتعرّف على الذات
أن التعرّف الجديد على "الذات" أو "الأنا" يحدث لنا كلما استيقظنا من النوم , فعندما نستيقظ تفتح مسارات الذاكرة الدائمة ( اللحاء) مع التشكيل الشبكي , والذي قد كان كفت أغلب هذه المسارات (العاملة أثناء الصحو) عند النوم, وكذلك تفتح المسرات مع باقي بنيات الدماغ والتي قد كانت أغلقت أو كفة أثناء النوم. ويقوم التشكيل الشبكي بعمله في تأمين الاتصالات بين هذه كافة البنيات , ويوقظ أو يحدث الوعي العادي(أو وعي الصحو تمييزاً له عن الوعي أثناء الحلم) ويتم ذلك بالاعتماد بشكل أساسي على مخزون الذاكرة اللحاء . و" الأنا " متضمنة بشكل أساسي في هذه الذاكرة , فإذا غيرنا ذاكرة شخص فسوف تتغير " أناه " و وعيه بذاته , حسب هذا التغيير . وكما ذكرنا الذي يقوم باختيار وتنظيم وإدارة ما يضخم ويبث من أحاسيس( أي الوعي) , هو التنظيم الشبكي ( ويساعده المهاد والدماغ الحوفي ), والعقل الواعي هو ناتج عمل التنظيم الشبكي , وعند تلف أو توقف التنظيم الشبكي ينتهي الوعي , ففي النوم العميق دون أحلام, والغيبوبة ألكاملة أثناء التخدير يكون التنظيم الشبكي مطفأً, ومتوقفاً عن البث . مع ملاحظة إن عمل التشكيل الشبكي لوحده لا يكفي لتشكل الوعي , فلا بد من مرور التيارات العصبية الآتية من مستقبلات الحواس , والذاهبة للحاء و كذلك الآتية من اللحاء عبره (ذهاباً وإياباً) , ومشاركة الدماغ القديم . ويجب أن ننتبه إلى أن التشكيل الشبكي ليس منتج الوعي , والوعي لا يحدث فيه , فهو المتحكم و المفتاح للوعي , فالوعي يحدث في الدماغ كله , ولتوضيح ذلك نأخذ الفرضية التالية:
إذا استطعنا بطريقة من الطرق , نقل تشكيل شبكي لإنسان معين , إلى إنسان آخر, ماذا يحصل؟ من المفروض أن لا تحصل تغيرات أساسية أو جذرية , في وعي كل منهم . والذي يحدث هو تغيرات في التنظيم و التحكم ببث الوعي (مع أنها تظل تابعة لأوامر اللحاء وباقي بنيات الدماغ) , أي يظل كل منهم هو ذاته , مع حدوث فروقات طفيفة جداً غير ملاحظة , فالذي يرد من اللحاء وخاصة من المناطق الجبهوية ومن النتوء أللوزي وقرن أمون وباقي بنيات الدماغ القديم... هو الذي يقرر ويحدد بشكل أساسي مضمون الوعي , وهذا معناه أن التشكيل الشبكي هو مركز تجمع وبث إلى أغلب بنيات الدماغ , أي أن عمل التشكيل الشبكي يكون فقط كمفتاح لبث , للأمور التي اعتبرت الهامة . والذي يقرر أهميتها هو نتيجة معالجة اللحاء وتقييم الدماغ القديم (المهاد, والنتوء اللوزي...الخ) . وبما أن ما يأتي من اللحاء, والدماغ القديم هو تابع لما هو موجود فيهما (والذي هو موروث أو تم تعلمه واكتسابه أثناء الحياة , وهو خاص بكل إنسان) , لذلك لن تحدث تغيرات كبيرة و واضحة نتيجة استبدال التشكيل الشبكي لإنسان مع آخر( فهذا بمثابة تغيير أجهزة بث بأجهزة أخرى) . فالذي يحدث هو تغيرات طفيفة جداً لن تلاحظ , فهي تغيرات تماثل التغيرات التي تحصل دوما نتيجة تغير أوضاع الجسم والجهاز العصبي أثناء الحياة اليومية . ويمكن أن تؤثر على عمل التشكيل الشبكي تغير الانفعالات والمزاج والدوافع .
أن التشكيل الشبكي لدى كل منا متشابه بشكل كبير , أن لم يكن متطابقاً , وهو ليس مصدر اختلاف الأنا أو الذات عند كل منا , فالاختلاف راجع إلى ما تعلمناه و تم بناؤه من ذاكرة , نتيجة نمو وترابط مشابك ومحاور الخلايا العصبية في الدماغ , وخاصة في اللحاء, والذي تم نتيجة حياة كل منا . لذلك إذا استطعنا تغيير لحاء دماغ إنسان بلحاء دماغ إنسان آخر, فسوف تنتقل ذات كل منهم إلى الآخر, أي يتبدل جسم كل منهم مع الآخر , وسوف تبقى الانفعالات وبناء المعاني والتقييم الأولي بدون تغير, لأنها ناتجة عن الدماغ القديم , أما المعالجات الفكرية العادية والمنطقية والذاكرة فهي تتبع للحاء والدماغ الحوفي . 
إن مفتاح فهم الوعي هو " الطنين الكهرطيسي"
إن ظاهرة الطنين أو التردد بشكلها الكهرطيسي لا يعرفها الكثيرون , وهي معروفة في شكلها الصوتي فقط , فالطنين الكهربائي و الكهرطيسي عرف حديثاً . عندما تعرفت على الطنين الكهربائي دهشت لهذه الظاهرة , ووجدتها عجيبة , فدارة الطنين الكهربائي الأساسية مؤلفة من ملف ومكثف ضمن دارة كهربائية مغلقة , هذه الدارة يمكن أن يجري فيها تيار كهربائي متناوب , فإذا كان هناك دارة كهربائية تماثلها في قيمة الملف والمكثف وقريبة منها , عندها ينشأ فيها تيار متناوب ويكون هذا التيار المتناوب تردده مماثل لتردد الدارة الأساسية , هذه الظاهرة هي أساس كافة أنواع الاتصالات اللاسلكية .
إن كافة الأحاسيس الموجودة لدى الكائنات الحية تعتمد على استقبال تأثيرات الترددات المختلفة بواسطة المستقبلات الحسية لديها , وتحويلها إلى نبضات كهربائية عصبية , فقرون الاستشعار, والسمع , والبصر والشم ... ألخ , تعتمد على استقبال الترددات , فالصوت , والضوء , وكذلك الشم , وكما نعلم هما تردد لأمواج صوتية و كهرطيسية وكيميائية . فأساس عمل كافة الحواس لدي الكائنات الحية يعتمد على آليات تحول " تأثيرات الترددات " بأشكالها المختلفة , إلى تيارات كهربائية عصبية على شكل نبضات ترسل إلى الدماغ , وهو يقوم بتمييزها عن طريق مراكز كلّ منها مختص باستقبال نوع معين , وله القدرة على تحويل ما يصل إليه من تيارات كهربائية عصبين آتية من المستقبلات الحسية , إلى طنينات كهربائية فزيولوجية عصبية تتناسب معها , في خصائصها الأساسية , طبيعتها , وقوتها , وزمنها , أي في الأساس للأحاسيس زمن تقرع فيه . وكافة الأحاسيس هي طنينات كهربائية فزيولوجية عصبية . 
إن الوعي الذاتي هو : وعي بطنينات حسية ,أو بأفكار على شكل طنينات حسية . فهو طنين لطنينات حسية , أو طنين يتم تكرار بثه وانتشاره , فيصبح شامل أغلب بنيات الدماغ . وهذا يماثل البث الإذاعي أو التلفزيوني . لهذا يمكن أن نحل مشكلة الوعي عندما نعرف كيفية حدوث " الطنين الحسي الأولي الخام " , وكيفية تفاعله مع باقي الطنينات الحسية , وكيفية انتقاله وتفاعله مع بنيات الدماغ , وكيف يبث في الدماغ .
إن الوعي مؤلف من الأحاسيس والمشاعر و الأفكار , فالأحاسيس هي التي تشكل الوعي في الأساس وبانعدام الأحاسيس الخارجية والداخلية يستحيل تشكل الوعي . وتنتج الأحاسيس في أول الأمر, في بداية الحياة , عن المستقبلات الحسية وهي الأعضاء أو الخلايا التي تحول أنواع معينة من المؤثرات(الداخلية أو الخارجية) إلى تيارات عصبية ترسلها إلى مناطق معينة في الدماغ وهناك يتم الإحساس . واللحاء هو أكبر وأوسع هذه المناطق , ففيه مناطق متنوعة و متخصصة لاستقبال واردات المستقبلات الحسية . وهناك أيضاً الدماغ القديم وفيه المنطقة الشمية وتحدث فيه أحاسيس أولية أساسية , واللذة والألم هما الذيين يبنيا المعاني , و ينتجا الانفعالات بتعاملهما مع الغدد الصم , وبالتالي إنتاج ظواهرها وتأثيراتها. ففي تلك المناطق إن كان في اللحاء أو الدماغ القديم يحدث الإحساس , فهذه المناطق هي التي تحول التيارات العصبية الواردة من المستقبلات الحسية إلى أحاسيس ومشاعر وانفعالات . فالذي نحسه ونشعر به(بشكل أولي) هو ما ينتج عن التيارات العصبية المرسلة من المستقبلات الحسية , بعد تأثيره في المناطق الحسية في الدماغ , وهي التي تنتج الأحاسيس الأولية , وأيضاً المركبة و الإدراكات المتطورة .
فالمستقبلات الحسية ترسل تيارات عصبية إلى الدماغ ومن ثم إلى مراكز الإحساس , نتيجة تأثرها بالمثيرات المتخصصة لاستقبالها , وذلك بعد تحويل هذه المؤثرات إلى تيارات عصبية تناسبها , أي تشفرها(من حيث طبعتها وشدتها وكميتها وزمنها ...) برموز على شكل تيارات كهربائية عصبية , ويكون ذلك على شكل نبضات كهربائية عصبية ذات خصائص محددة . فالدماغ يستقبل تيارات كهربائية عصبية وليس أحاسيس , وفي الدماغ يتم ( قرع أو طنين الأحاسيس ) في مراكز الإحساس بما يناسب تلك التيارات الواردة . , وهذه الطنينات تابعة للخصائص الفيزيائية والفزيولوجية والكهربائية لمراكز الإحساس في الدماغ . والطنينات الحسية "الأساسية أو الخام" لدينا متشابهة بشكل كبير بيننا إلى حد التطابق الألوان والأصوات والروائح . . . وكل نوع من المستقبلات الحسية ( سمع ونظر وشم ولمس . . .) يرسل تياراته إلى مناطق محددة في الدماغ وتكون مخصصة لاستقبال هذه التيارات وهذه التيارات تكون قد شفرت حسب المؤثرات التي تلقاها وتأثر بها المستقبل الحسي , وكل مستقبل حسي يطن أو يقرع , أي يمثل المؤثرات المختص بها بآليات معينة . 
من هذا المنظور نحن لا نحس نتيجة تأثراتنا بالواقع إلا ما تتأثر به مستقبلاتنا الحسية , وبالذات ما تنتجه من تيارات عصبية يتم استقبالها في مراكز الإحساس في الدماغ . أما الواقع الذي أنتج هذه التأثيرات, فهو معرّف أو يعرف " فقط " بما أنتج من تأثيرات على المستقبلات الحسية , وبالطريقة التي قامت هذه المستقبلات بتشفير هذه المؤثرات , فهذه المستقبلات هي التي تحدد وتعين لنا الواقع بشكل أولي وأساسي . وكل ما لدينا من أحاسيس ومفاهيم ومعارف تم بناؤه أو تعلمه من واردات المستقبلات الحسية التي وصلت لمراكز الإحساس في الدماغ , وبعد تفاعله ومعالجته في بنيات الدماغ . فالذي يرد من المستقبلات الحسية يعدل ويصحح ويطور, ليصف ويفسر الواقع بشكل أوسع وأشمل وأدق وأصح, وذلك نتيجة عمل ومعالجات الدماغ . والذاكرة أيضاً هي الطنينات الحسية التي تنتج عن إثارة المسارات العصبية لمحاور ومشابك الخلايا العصبية التي تقرع الإحاسيس نتيجة التفكير أوالتذكر , وهي ليست أتية من المستقبلات الحسية 
فكما ذكرنا يمكن أن نحل مشكلة الوعي عندما نعرف كيفية حدوث الطنين الحسي الأولي الخام , وكيفية تفاعله مع باقي الطنينات الحسية , وكيفية انتقاله وتفاعله مع بنيات الدماغ , وكيف يبث في الدماغ . إن هذا يشبه عمل الأجهزة الإلكترونية ولكن أعقد بمراحل كثيرة لأن دارات الطنين الكهربائية الحسية هي دارات فيزيائية وكيميائية و فزيولوجية معقدة كثيراً , فالتفاعلات الفزيولوجية تعقد كثيراً عمل تلك الدارات , بالإضافة إلى التعقيد الهائل جداً لمسارات تلك الدارات . ولكن مع كل هذا يمكن أن نقلد صنع الطنينات الحسية وبدقة كبيرة , بواسطة دارات إلكترونية فقط , واختصار التأثيرات الفزيولوجية بتمثيلها بدارات إلكترونية , أما من ناحية تعقيد اتصالات الخلايا العصبية فيمكن اختصاره بشكل كبير وذلك بتنظيمه , ومع ذلك تبقى مشكلة الوعي الذاتي تبقى معقدة وصعبة . 
عزف طنينات الوعي
إذا كان لدينا عدة مئات من الآلات الموسيقية المختلفة من حيث طبيعتها وطبيعة الأصوات التي تصدرها, ولكل منها طريقة أو آلية تقرع أو تعزف بها, ويمكن أن يصدر كل منها صوتاً حسب طريقة ومدة العزف, ولكل منها عتبة معينة أو مقدار لازم من القوة والمدة لكي يصدر النغمات , فإذا كانت المدة أو القوة قليلة أو الطريقة في العزف غير مناسبة , فلن تصدر النغمات , وهناك خصائص و عطالة لكل آلة , تحدد طريقة وزمن إصدار النغمات المتكرر , فلا يمكن أن يكرر إصدار نغمة قبل مدة معينة وقبل وضع معين . وإننا نستطيع العزف على بعض الآلات بعدة طرق أو وسائل , وتكرار العزف على بعض الآلات يمكن أن يغير من خصائصها, وكذلك قلة العزف يمكن أن يغير من خصائصها . وهناك إمكانية للعزف على أي عدد من الآلات معاً . وهناك إمكانية خاصة وهي إمكانية جعل آلة تعزف عن طريق عمل آلة أخرى أو آلات أخرى . 
" كذلك الأحاسيس " يمكن اعتبارها آلات عزف , وظيفتها أو دورها متنوع , فبعضها للإنذار والتنبيه , أو للإعلام , أو للتنبؤ, وبعضها للمكافأة واللذة وإحداث الفرح والسرور , وبعضها للألم والأحاسيس غير السارة وغير المرغوبة....الخ.
إن آلية عزف هذه الآلات الحسية , تكون محددة وثابتة عند البدء باستعمالها(عند الولادة) , ولكن بعد الاستعمال الكثير المتكرر تنشأ تداخلات وتأثيرات متبادلة فيما بينها, وتتغير وتتطور وتتعقد آليات العزف, وهذا يحدث باستمرار ولكنه ينتظم أو يميل إلى الانتظام والثبات مع الزمن وطول العمر, وهناك طريقتان لعزف هذه الآلات الحسية :
" الأولى " وهي الأساسية وتكون عن طريق مستقبلات الحواس . 
" والثانية " تنشأ بعد ذلك نتيجة الحياة , وهي العزف عن طريق الذاكرة أو مخزون اللحاء . ويحدث تداخل وتأثير متبادل بين هاتين الطريقتين , وهما تعملان معاً . فالذاكرة تؤثر على واردات الحواس وكذلك العكس, بالإضافة إلى أن معالجات الدماغ لها تأثير أيضاً . 
ويقول د. حكمت هاشم : 
" إن الحواس لا تشبه القنوات أبداً, بل هي بمثابة أجراس كهربائية. فكما أنه لا شبه بين حركة الأصابع المعتمدة على الزر وقرع الجرس, فكذلك لا شبه بين الإثارة التي تهيج طرف العصب وما يداخل الوعي من احساسات من ذلك الطرف. إن عين النملة وعين الحرزون وعين الإنسان إذا وضعت ثلاثتهم بمثاقبة مشهد واحد وهيجت على صورة واحدة. أتت أولاها بإحساسات نملة والثانية بإحساسات حرزون والثالثة بإحساسات إنسان: الشأن في ذلك شأن الآلات الموسيقية الوترية التي تجيء ضربة القوس الواحد عليها بصوت يختلف من آلة لآلة , إذاً فلا عجب أن ندرك بحواسنا عالماً يختلف عن العالم الحقيقي 
آليات وطرق عزف النغمات الحسية والوعي
إن مفاتيح النغمات الحسية موجودة أساساً في مستقبلات الحواس واللحاء , أما النغمات فتحدث أو تطن أو تقرع في بنيات دماغية متعددة . وكما ذكرنا التنظيم الشبكي هو المسؤول والمتحكم والمنظم لهذا العزف , وبمشاركة باقي بنيات الدماغ . 
فالتنظيم الشبكي يبدأ عمله بعد الولادة( وعلى الأغلب قبل ), فيقوم بتصنيف وتنظيم واردات مستقبلات الحواس , ويقوم بالتحكم " بالانتباه " والتركيز على المهم من هذه الواردات , ويكف الباقي, ويتقرر المهم(المعنى) بناء على عمل وتقييم باقي بنيات الدماغ وخاصة الدماغ الحوفي , و وضع الجسم ككل . 
ويقوم اللحاء وتساعده بعض بنيات الدماغ , بتخزين صور أو معلومات عن النغمات التي تعزف(بناء الذاكرة الواعية) . ويبدأ اللحاء عندها في المشاركة في إرسال نغمات , من ما خزٌن فيه إلى التنظيم الشبكي . 
وعندما يتقدم الإنسان بالعمر, تتطور قدرات التنظيم الشبكي على التحكم في عزف النغمات(الأحاسيس) الواردة أو المطلوبة (ألمستدعاة)من اللحاء , وذلك نتيجة الممارسة والتعلم . فالتنظيم الشبكي عندها يستطيع أن يقوم بعزف كم هائل من النغمات ودون مشاركة واردات الحواس , وذلك بالتفكير والتصور والتخيل والأحلام , و بالاعتماد على مخزون اللحاء وباقي بنيات الدماغ( العقل ألحوافي وغيره).
إن النغمات التي يمكن أن تصدر من اللحاء ذات كم هائل , ولا يمكن للتنظيم الشبكي استقبال وإذاعة إلا جزءاً صغيراً جداً ومحدوداً في نفس الوقت( الذاكرة العاملة أو سبورة الوعي) . ويمكن للتنظيم الشبكي وضع واردات من اللحاء أو من الحواس تكون ذات أهمية , في الانتظار ريثما ينتهي من معالجة الموجود لديه.
كما ذكرنا الذي يقوم باختيار وتنظيم وإدارة ما يضخم ويبث من أحاسيس( أي الوعي) , هو التنظيم الشبكي ( ويساعده المهاد والدماغ القديم ), والعقل الواعي هو ناتج عمل التنظيم الشبكي , وعند تلف أو توقف التنظيم الشبكي ينتهي الوعي , ففي النوم العميق دون أحلام, والغيبوبة ألكاملة أثناء التخدير يكون التنظيم الشبكي مطفأً, ومتوقفاً عن البث . مع ملاحظة إن عمل التشكيل الشبكي لوحده لا يكفي لتشكل الوعي , فلا بد من مرور التيارات العصبية الآتية من مستقبلات الحواس , والذاهبة للحاء و كذلك الآتية من اللحاء عبره (ذهاباً وإياباً) , ومشاركة الدماغ القديم . 
ن التشكيل الشبكي لدى كل منا متشابه بشكل كبير , أن لم يكن متطابقاً , وهو ليس مصدر اختلاف الأنا أو الذات عند كل منا , فالاختلاف راجع إلى ما تعلمناه و تم بناؤه من ذاكرة , نتيجة نمو وترابط مشابك ومحاور الخلايا العصبية في الدماغ , وخاصة في اللحاء, والذي تم نتيجة حياة كل منا. 
وكما ذكرنا إذا استطعنا تغيير لحاء دماغ إنسان بلحاء دماغ إنسان آخر, فسوف تنتقل ذات كل منهم إلى الآخر, أي يتبدل جسم كل منهم مع الآخر , وسوف تبقى الانفعالات وبناء المعاني والتقييم الأولي بدون تغير, لأنها ناتجة عن الدماغ القديم , أما المعالجات الفكرية العادية والمنطقية والذاكرة فهي تتبع للحاء والدماغ القديم . 
وبالنسبة لوعي الأحلام : فعلى الأغلب يقوم بناءً على عمل المهاد والتشكيل الشبكي والدماغ الحوفي , ولكن هنا نجد أن التيارات الآتية من المستقبلات الحسية قد تم كفها , وكذلك أغلب مسارات التشكيل الشبكي والمهاد مع اللحاء , كفت(أغلقت) أأيضاً . والوعي في هذه الحالة يتم تشكيله , بناءً على التيارات العصبية المرتدة , الآتية من الدماغ الحوفي عن طريق اللحاء , ويقوم المهاد بالتعامل معها وإدارتها , فيرسل تياراته إلى اللحاء والدماغ الحوفي أيضاً , وهنا تتداخل(تتفاعل) الدارات التي ينشؤها المهاد مع الدارات التي تكون عاملة قبلها , بين الدماغ الحوفي واللحاء والمهاد نفسه , نتيجة إضرامها الذاتي , أو نتيجة وصول بعض التيارات الآتية من المستقبلات الحسية . 
وتعقيد آلية تشكل الأحلام , ناتج عن عدم سيطرت المهاد الكاملة على إدارة هذا البث , نتيجة التدخل الكبير للدماغ الحوفي , الذي يصبح تأثيره كبير . 
لذلك نلاحظ وجود ازدواجية أو ثنائية أثناء الحلم , فهناك صانع ومخرج للحلم , وهناك المشاهد والمعلق على ذلك, فالدماغ الحوفي باستخدامه مخزون اللحاء , يصنع ويخرج حوادث الحلم , والمهاد مع مشاركة محدودة من للحاء(جزء صغير من الذاكرة) يقوم بالمراقبة والتعليق والتدخل الضعيف بحوادث الحلم . لذلك كان فهم الحلم أصعب بكثير مما تصوره فرويد . 
فأعقد عمليات الدماغ تكون أثناء الحلم وليس أثناء الصحو . صحيح أن الدماغ الحوفي يتدخل في الإدارة أثناء الصحو , ولكن تأثيره يكون محدود وضعيف, أي مدير الدماغ يكون واحد وليس اثنان كما في الحلم
الإرادة الواعية
إن الإرادة الواعية هي التحكم بمصادر أو مسببات الأحاسيس ( واردات الحواس ) ، ويتم ذلك عن طريق فتح وغلق المسارات بين ساحة الشعور ( الوعي ) ومصادر الأحاسيس , وكذلك بالتحكم بالأفكار الواردة من اللحاء وباقي بنيات الدماغ . ويكون هذا التحكم ضمن حدود معينة لا يمكنه تجاوزها ، فيكمن لأي مصدر حسي أي وارد حاسة أو فكرة معينة أن يدخل تياراته العصبية إلى ساحة الشعور في حالات كثيرة ولا تستطيع الإرادة منعه من ذلك ، فتيارات الألم و ارتكاس الاهتداء وكل ما هو هام ، لا يمكن منعها من دخول ساحة الشعور أو التحكم بدخولها إلا في حدود ضيقة جداً ( اليوغا والزن ) وبتمرين كثير متواصل , ويتم التحكم بالتيارات العصبية الداخلة إلى ساحة الشعور بآليات عصبية وبطرق تعتمد على هذه الآليات ، وذلك نتيجة التعلم بالإضافة إلى خصائص آليات الجهاز العصبي الفزيولوجية الأخرى وهي كلها موروثة ، فارتكاس الاهتداء مثلاً مبنى فزيولوجياً وهو موروث ، وكذلك آليات الإحساس وخاصة الإحساس باللذة والألم . والتحكم بالتيارات العصبية ضمن ساحة الشعور هو أيضاٌ معالجتها عن طريق تصنيفها ومقارنتها وقياسها وتقييمها والحكم عليها ، ويتم ذلك بمساعدة باقي بنيات الدماغ . فالإرادة هي استجابة مختارة من بين عدة استجابات ، ويبدأ تشكل الإرادة بعد الولادة ( وربما قبلها ) فالمولود الحديث يطلق استجاباته العشوائية التي تكون موروثة مثل حركة الرأس والفم ...... وعندما يلاقي أو يتأثر بالدفء والنعومة أو حلمة الثدي يتوقف عندها ( وتبدأ الرضاعة كاستجابة غريزية موروثة ) وتتوقف استجاباته العشوائية . وهذه أبسط أنواع الإرادة البحث العشوائي عن الدفء والنعومة وحلمة الثدي والطعام ، وبعد ذلك يتعلم ربط قرائن - مؤثرات خارجية- تترافق أثناء بحثه مع الدفء والنعومة والطعام ، وذلك بواسطة آليات الإشراط وآليات التصنيف العصبية الفزيولوجية (والتي تعتمد المقارنة والتقييم والتقرير وبالتالي الاستجابة) وكلها آليات فزيولوجية عصبية موروثة . وبعد ذلك تتوسع وتتنوع الاستجابات التي يقوم الطفل بتصنيفها وربطها ، وهنا تنشأ السببية لديه ، وذلك نتيجة توسع قدراته وبحثه ، وبالتالي تحقيق ارتباطات وتصنيفات متعددة وواسعة ، وبالتالي نشوء استجابات جديدة أو مساعدة أو ممهدة لتحقيق استجابات أساسية . وتتوسع وتتعقد الارتباطات بين الأنواع الكثيرة من الاستجابات المقيمة ، وبهذه الطريقة تتوسع الاستجابة الداخلية إلى استجابة خارجية . وبعد نشوء الوعي الفكري المترافق والمتأثر بالاستجابات العصبية ، أي بعد ما نشأ الإحساس المتطور ونما وتطور ، ظهر الفكر الواعي الذي يملك الإرادة الواعية .
وجود الأنا
إن أنا السمكة وأنا السلحفاة وأنا الفأر وأنا الحصان وأنا الدب وأنا القرد وأنا الإنسان لهم جذر واحد أساسي , ويمكن اعتباره ما يمثل الذات الداخلية المترابطة , مقابل العالم أي الذات أو الداخل , مقابل الخارج أو العالم . وتتم قيادة وإدارة هذه الذات كل مترابطة ذات انتماء واحد إدارة فزيولوجية وعصبية مبرمجة سابقاً على حماية هذه الذات ونموها واستمرارها لكي تحقق التوالد واستمرار النوع وهي مبرمجة لكي تموت بعد ذلك . وقد كانت الإدارة لدى الكائنات الأولية البسيطة (وحيدات الخلية ) فزيولوجية فقط ، ثم نشأت الأجهزة العصبية ثم الحسية لكي تساعد في الإدارة والتحكم والقيادة لتنفيذ البرنامج الموضوع ، وذلك حسب الخيارات المتاحة ثم نشأت الأجهزة الحسية والعصبية المتطورة التي أنتجت الإدراك والوعي . وقد تسلم الإدراك والوعي مجالات واسعة من القيادة والتحكم ، وكانت تتضارب وتتناقض أحياناً مع مراكز القيادة السابقة الفزيولوجية والغريزية ( أو العصبية المبرمجة ) .
وبعد نشوء المجتمعات البشرية ونشوء اللغة ، نشأ العقل الجماعي العام ، وحدث تداخل بين دوافع وأهداف وخيارت أنا أو ذات الأفراد ، وخيارات البنيات الاجتماعية التي تشكلت , الذي أريد قوله هو أن ذات كل كائن حي هي مرجع ومركز متماسك له هوية وانتماء واحد ، ويتم تبادل التأثيرات بينه وبين باقي الوجود ،حسب الداخل الذات والخارج العالم أو الوجود . أي أن هناك وجود هذه الذات مقابل وجود كل العالم أو الوجود ، ويكون وجود هذه الذات هو كوجود مرجع أو مركز يرصد جزء من الوجود الموضوعي العام .

تعليقات