الإسلام والعولمة



مقدمة :
في بداية الألفية الثالثة يتزايد الإدراك بأن الجنس البشري يمر على أعتاب مرحلة جديدة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية تعتبر الليبرالية والعولمة أبرز سماتها الرئيسية ، فقد أصبح العالم قرية كونية ـ كما وصفها بذلك عالم الاجتماع الكندي وأستاذ الإعلاميات السوسيولوجية في جامعة تورنتو مارشال ماكلوهان قبل ثلاثة عقود(1968م) وذلك في كتابه (Understanding Media: The Extension of man) ـ صغيرة مرتبطة بسوق إلكترونية أو فضاء إلكتروني واحد تنتقل المعلومات الاقتصادية والسياسية والعلمية بسرعة الضوء في عالم لا يوجد فيه مكان للسرية.
ولقد أصبح التحدي الذي يواجه العالم في ظل العولمة أكثر حدة ، وكما يقر بذلك كثيرون فإن للعولمة ـ التي وصفت بحافلة دون سائق ـ عواقب خطيرة وآثارا غير محمودة وخصوصا من حيث عدم المساواة وعدم الاستقرار وفقدان السيادة الوطنية وهي أمور قد تضعف النسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مجتمعات بلدان الجنوب غير المستقرة والمحفوظة بالمخاطر ، ولا يمنع ذلك أنها قد تتيح فرصا جديدة .
وقد كشفت أزمات أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وروسيا عيوب ظاهرة العولمة وهي لم تزل بعد في مهدها . وعلى سبيل المثال ، فمنذ الانهيار المكسيكي في شتاء 1944-1995م هبط نصف سكان المكسيك إلى ما تحت خط الفقر . وفي روسيا هبط متوسط العمر المتوقع سبع سنوات ، الأمر الذي لم يسبق إليه مثيل في القرن العشرين . وفي كوريا وتايلندا انتشرت ظاهرة الموت جوعا لنساء وأطفال العمال المسرحين ، الذين لا مورد آخر لهم . أما في إندونيسيا فقد ساد وماد كل من الجوع وسوء التغذية ، وأصبح ما يزيد عن 30% من سكان إندونيسيا يعيشون الآن تحت خط الفقر ، رغم أن سكان هذه الدولة اعتادوا حياة البحبوحة .
وهذه المعاناة الإنسانية ناجمة عن العولمة المالية ، وما يسميه البعض ظاهرة رأسمالية الكازينو أو الرأسمالية التروبينية (النفاثة) ، وكتلة الأموال الهائلة الهائمة والتي يمكن تشبيهها بأسراب الجراد التي تحط على الحقول ولا تتركها إلا جرداء قاحلة ، وقديما قيل : " لقد ألحقت المصارف من الأذى بالدين والأخلاق والاستقرار والازدهار في الأمة أكثر بكثير من الخير الذي قدمته أو القادرة على تقديمه حاضرا ومستقبلا " . فقد أدى سياسات الاقتصاد الكلي الساعية إلى تحقيق أقصى الأرباح إلى تمزيق الحدود الاقتصادية وتفكيك مؤسسات الدولة وإفقار جماهير الناس .
وفي هذا الصدد يرى جون غراي ـ في كتابه الفجر الكاذب : أوهام الرأسمالية العالمية أن : " الفجر الذي وعدت به السوق الحرة الأمريكية دول العالم ، هو في النهاية فجر كاذب لأنه ليس كل شيء يمكن أن يتاجر به أو يجب أن يتاجر به " .
وقد دخلت كلمة العدوى (Contagion) في قاموس الاقتصاديين بعد أن كانت حكرا على قاموس الأطباء ، وباختصار فإن العولمة لا تزال بغير قواعد ، وإذا استمرت في مسارها الحالي فستكون وبالا ، لا على الأقطار النامية وحدها ، بل على كامل المنظومة الاقتصادية العالمية .
ولسنا وحدنا في العالم الإسلامي من يتخوف من العولمة ، ففي داخل الأسرة الغربية من يحذر بشدة ويقاوم هذه الظاهرة ، وفي مقدمة هؤلاء الفرنسيون والكنديون ، فأوروبا التي استفادت طويلا من الهيمنة الاستعمارية تخاف اليوم أن تصبح هي نفسها محتلة . فـ " أوروبا التي كانت تشارك أمريكا في مسألة تميز العرب بدأت تستيقظ من سباتها العميق الذي كان يمنعها من أن تصدق أنها في سبيلها لتكون تابعا لأمريكا إن لم نقل أنها مستعمرة من قبلها " .
ويلاحظ جارودي ـ وغيره من الباحثين والكتاب ـ أن أوروبا على الصعيد الثقافي ، ترزخ تحت غزو الفيلم الأمريكي ، فمن ( جملة "250) ألف ساعة برامج في أوروبا هي ساعات دول المجموعة الأوربية الاثنتي عشر ، تنتج دول المجموعة كلها (25) ألف ساعة والباقي أمريكي ، وأما نصيب السينما الفرنسية في السوق الأمريكية (0.05%) بينما نصيب السينما الأمريكية في فرنسا (60%) وهو ما يعادل (1 : 120) وهو ما يعد بمثابة غسيل مخ للشعب بواسطة قذائف أفلام المدمر وجيمس بوند وبقية أفلام هوليود وهوس الدولار في أفلام دلاس".
ورغم ذلك فالعالم الإسلامي ما زال يهرول نحو العولمة اقتناعا أو اضطرارا دون أن يأخذ في الحسبان الآثار السلبية التي ستترتب على ذلك ، ومنطق سياسي العالم العربي والإسلامي هو ما عبر عنه أحد وزراء العرب عندما سأله الصحفي محمود عوض عن مدى الدروس التي استوعبها مما يجري في جنوب شرق آسيا ؟ فرد عليه قائلا " لا ... لا .. نحن شيء آخر . تكفينا شهادات الحصانة من صندوق النقد الدولي ضد مثل تلك المخاطر .. لا تقلق " ، و"كل شيء تمام".
ولعمري إذا كان الأمر كذلك فهو مصيبة ما بعدها مصيبة ، فكيف يمكن أن يهدأ لنا بال ونحن نسمع الدول الكبرى ـ مثل فرنسا وكندا ـ تشكو من تحدي العولمة وأمركة العالم ، ويعبرون عن قلقهم البالغ من أن تقوم الولايات المتحدة ـ زعيمة العالم وحلمة الثدي المدرار ـ بامتصاصهم ثقافيا.
ونظرا لأهمية هذا الموضوع وانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية على العالم الإسلامي فإنه يتحتم علينا ضرورة دراسة ما سوف تحدثه هذه الظاهرة من قيم اقتصادية واجتماعية وثقافية ، إذا كنا نريد أن يكون لنا مكان تحت شمس القرية الكونية التي يؤسسها العالم في عصر العولمة.
وسوف أتطرق في هذا البحث إن شاء الله عن أربعة فصول :
الفصل الأول : يتضمن مفهوم العولمة ، نشأة العولمة ، أهداف العولمة ، المشرفون على العولمة ، مؤسسات العولمة ، وسائل نشر العولمة ، قصور العولمة المعاصرة عن بلوغ غاياتها.
الفصل الثاني : يتضمن الحديث عن الإسلام في عصر العولمة ، وعن حوار الأديان .
الفصل الثالث : يتحدث عن موقف الإسلام من العولمة .
الفصل الرابع : يتحدث عن معالجة المشكلات الآنية التي تفرزها العولمة من خلال المشروع الإسلامي .

الفصل الأول
أولا : مفهوم العولمة :
للعولمة تعريفات كثيرة حيث أنه ليس هناك تعريف واحد محدد ولكن بعض العلماء عرفوا العولمة على حسب منظورهم لها فعلى سبيل المثال:

أ ـ تعريف العولمة بالنظر إليها على أنها حقبة تاريخية :
1.العولمة فعل تاريخي متواصل ، وهو حصيلة المعركة الجارية بين العالميات أو النماذج الحضارية المختلفة التي يؤمن أصحابها بأن لهم رسالة تحدد المثال الإنساني الأعلى.
2.العولمة : تعني إزالة الحدود الاقتصادية والعلمية والمعرفية بين الدول ، ليكون العالم أشبه بسوق موحدة كبيرة تضم عدة أسواق ذات خصائص ومواصفات تعكس خصوصية أقاليمها ، وتعتبر العولمة ظاهرة بشرية ومعرفية وموضوعية تعيشها دول العالم ، كل بقدر نصيبها من المؤشرات آنفة الذكر ، ولذا يمكن النظر إلى العولمة في مضمونها الموضوعي باعتبارها حالة تاريخية ناتجة عن تطور عالم البشرية ككل ، وأسهمت فيه جميع حضاراتها وشعوبها.

ب ـ تعريف العولمة بالنظر إليها على أنها مجموعة تجليات لظاهرة اقتصادية:
يعرفها صندوق النقد الدولي ـ وهو أحد أجنحة العولمة ـ بأنها :
" التعاون الاقتصادي المتنامي لمجموع دول العالم والذي يحتمه ازدياد حجم التعامل بالسلع والخدمات وتنوعها عبر الحدود إضافة إلى تدفق رؤوس الأموال الدولية والانتشار المتسارع للتقنية في أرجاء العالم كله".

ج ـ تعريف العولمة بالنظر إليها على أنها هيمنة للقيم الأمريكية:
يذهب بعض الباحثين إلى أن مفهوم العولمة " إنما هو صياغة جديدة لمنظومة القوة القديمة ، لأن الفكر الإستراتيجي لا يخترع ، إنما يعيد الصياغة مع تغيير العصور ، فهذا الاصطلاح (العولمة) اسم مخفف ومهذب يجري تسويقه من قبل الدول العظمى ، وخاصة الرأسمالية ، وهو أحد محطات الاستعباد والاستغلال".
ويقول آخرون إن المقصود بالعولمة هو " اتجاه الحركة الحضارية نحو سيادة نظام واحد تقوده في الغالب قوة واحدة ، أو بعبارة أخرى استقطاب النشاط السياسي والاقتصادي في العالم حول إرادة مركز واحد من مراكز القوة في العالم ، والمقصود طبعا قوة الولايات المتحدة الأمريكية ".

د ـ تعريف العولمة بالنظر إليها على أنها ثورة تكنولوجية واجتماعية:
يجري العرف السائد في الأدبيات الغربية على تعريف العولمة " بأنها زيادة درجة الارتباط المتبادل بين المجتمعات الإنسانية من خلال عمليات انتقال السلع ورؤوس الأموال وتقنيات الإنتاج والأشخاص والمعلومات".
هذه هي أبرز الاتجاهات التي عالجت مفهوم العولمة ، وهي مفاهيم تركز على جانب احد من جوانب العولمة وتغفل الجوانب الأخرى لها ، وهذا هو المأخذ الرئيس عليها.

ثانيا : نشأة العولمة :
يذهب أحد الباحثين إلى أن الفكرة قديمة جدا ، ويمكننا تلمس جذورها الأولى مع أفكار الفلسفة الرواقية التي ظهرت في أثينا ـ حوالي القرن الثالث قبل الميلاد ـ على يد زعيمها زينون الذي دعا إلى (مدينة العالم) ، بحيث يكون كل الناس مواطنون إخوة تجمعهم حياة واحدة ونظام واحد ، في ظل نظام قانون الطبيعة التي تخضع له كل الدول.
ثم جاءت الإمبراطورية الرومانية التي استلهمت أفكار الرواقية وأخضعت جميع العالم لقانون الشعوب تحت سلطانها ، وتلاشت شخصية الدول الموجودة وقتئذ في الإمبراطورية.
ولما قامت الدولة الإسلامية حاولت نشر فكرة العالمية القائمة على المساواة في دار الإسلام ، ولكن الظروف حالت دون ذلك ، وكذا حاولت الدولة العثمانية ولكنها فشلت ؟؟
وهذا الرأي يحتاج إلى شيء من التحرير ، إذ إن الإسلام استطاع وفي بداية ظهوره من توحيد المؤمنين به على العقيدة الإسلامية ، وأزال كافة الفروق بين المسلمين ، حتى اجتمع فيه أبو بكر القرشي مع بلال بن أبي رباح الحبشي مع صهيب الرومي مع سلمان الفارسي ، وغيرهم من المسلمين الذين ينتمون لشعوب شتى ، وقبائل مختلفة ، لكنهم متساوون فيما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات.
واستكمالا لما تقدم ، فإنه لما جاء النظام الدولي في أواسط القرن السابع عشر وظهر الاهتمام بتنظيم علاقات بين الدول بدءا بمعاهدة (وستفاليا سنة 1648م) ، ومررا بمؤتمر ( فينا سنة 1815م) الذي عقد على أثر الثورة الفرنسية وحروب نابليون ، إلى قيام الحرب العالمية الأولى.
ويتجه بعض الباحثين إلى فرز المراحل التي مرت بها العولمة بناء على التطورات التي حدثت في الفترة الزمنية المواكبة لكل مرحلة ، فيجعلونها ثلاث مراحل ، تمتاز كل مرحلة منها ببعض الخصائص التي ساعدت على تشكيلها ، والانتقال بها إلى المرحلة التي بعدها على النحو التالي:

المرحلة الأولى : مرحلة التكوين :
ويطلق عليها البعض مصطلح الجنينية ، باعتبار أن العولمة مثلها مثل الكائن الحي لابد من أن يمر بمرحلة تكوين جنينية ، مرحلة يكون فيها المصطلح محل مراجعة ومراجحة ، محل تفاوض ونقاش ، وإقناع واقتناع ، مرحلة مد وجزر ، امتدا وانحسار ، وقد مر بها المصطلح في بداية تكوينه.
ويمكن القول أن مرحلة العولمة ترجع جذورها إلى فتوحات الفراعنة القدماء.
وفي هذه المرحلة أيضا برزت قضية العولمة ضمن قضايا إنسانية أخرى ، وبدأت صياغة العديد من المفاهيم ومحاولة تنميطها على مستوى العالم ممثلة في الآتي:
الألعاب الأولمبية ـ جوائز نوبل للسلام ـ الزمن العالمي ، التاريخ الميلادي للتقويم الجيرجوري ـ إنشاء عصبة الأمم ـ ثم إنشاء الأمم المتحدة ـ البنك الدولي للإنشاء والتعمير ـ صندوق النقد الدولي.
وهناك سبعة عوامل رئيسة تفاعلت لتأسيس مضمون مصطلح العولمة ، هي :
1.الغزو والاجتياح العسكري من أجل استلاب الآخرين.
2.التجارة والتبادل القائم بين الأفراد والشعوب والدول بعضهم البعض ، بحيث ينتقل من خلاله فائض السلع ، وينتقل معها وبها الفكر.
3.الحوار والفكر وما يتيحه من وسائل للإقناع ، ومن وسائل تدمير أي مقاومة لعملية العولمة.
4.الرؤية والتصور المشترك للغد الذي تسعى العولمة لتحقيقه ، القائم على تغيير طبائع البشر وتحريرهم ، وتذويب الهوية القومية تدريجيا للانخراط في تيار العولمة .
5.الإعلام الجائر الذي استطاع أن يمكننا من معايشة الحدث حال وقوعه فعليا ولحظيا ، وأن يؤثر فينا ، ويسلب حريتنا في التفكير المنظم .
6.السيطرة الحضارية بقيمها ومُثلها ومبادئها والتي تفرض على الآخر الإبهار والانبهار ، وتسلب إرادته الذاتية ، وتحوله إلى مجرد متلقي يستجيب لما يملى عليه ، الأمر الذي يؤدي إلى عدم وضوح مصطلح العولمة ، سيما مع اختلاط مفهومه بالعديد من مفاهيم الظواهر الإنسانية الأخرى خاصة مفاهيم : [ المعاملات والمبادلات العالمية ـ الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ـ امتداد النفوذ والهيمنة العسكرية وإملاء الإرادة على الآخرين ـ الاستعمار والغزو ـ حركات التنوير والتبشير والفتح الإسلامي ...الخ].
7.إملاء إرادة الإخضاع بدون توقف ، وجعل الآخرين يستسلمون بإرادتهم ، ويدمنون الخضوع بشكل دائم ومستمر ، وملاحقة دول المركز ، ونسيان ذاتهم.

المرحلة الثانية : مرحلة ميلاد المصطلح :
ويتبلور هذا الحدث في انتهاء عمل منظمة الجات ، وبدء عمل منظمة التجارة الدولية W.T.O وإزالة كافة الحواجز والقيود الفاصلة بين الدول ، وتعظيم حرية خروج ودخول رؤوس الأموال وغيرها ، وفي ذات الوقت الضغط بشدة على الحكومات للتنازل عن سيادتها في إطار معاهدة دولية تم التوقيع عليها ، ليصبح التنصل منها أمرا صعبا ، إن لم يكن مستحيلا.
وترجع الإرهاصات الأولى لميلاد المصطلح إلى فترة الوفاق التي سادت فترة السبعينات بعد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
حيث ساعدت عملية انتشار المعلومات على التقارب الفكري على مستوى العالم ، وفي الوقت ذاته زادت عمليات تذويب الفوارق بين الدول ، وتلاشي الحدود والفوارق الزمنية ، وأصبح العالم سوقا ضخمة تربطها شبكة عصبية من مواصلات المعلومات ، وفي الوقت ذاته زادت عملية التماثل والمحاكاة بين الدول.
المرحلة الثالثة : مرحلة النمو والتمدد :
وهي مرحلة تتسم بالتداخل والتشابك الواضح لأمور السياسة والثقافة والاجتماع ... وأن تصبح العوالم مفتوحة دون وجود للحدود السياسية بين الدول ودون فواصل زمنية وجغرافية ، فالتزامن حضوري فوري قائم على (الآن) الفعلي عبر وسائل الاتصال.
وإذا كان هذا التقسيم فيه نوع من الوضوح في بيان التسلسل المرحلي الذي مرت به العولمة ؛ إلا أن هذه التفاصيل المذكورة في ثنايا الحديث تجعل الأمر يحتاج إلى نوع من التحرير في مدى ارتباطها ببعضها البعض ، ومن تأثيرها في نشأة المصطلح.
وهناك الكثير من الباحثين يميلون إلى الاعتماد على النموذج الذي صاغه رولاند روبرتسون في دراسته المهمة ( تخطيط الوضع الكوني : العولمة باعتبارها المفهوم الرئيسي ) والذي حاول فيه أن يرصد المراحل المتتابعة لتطور العولمة وامتدادها عبر المكان والزمان.
ويقسم هذا النموذج إلى " خمس مراحل كما يلي :

1.المرحلة الجينية : استمرت في أوروبا منذ بواكير القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن الثامن عشر ، وقد شهدت نمو المجتمعات القومية ، كما تعمقت الأفكار الخاصة بالفرد والإنسانية ، وسادت نظرية عن العالم وبدأت الجغرافيا الحديثة وذاع التقويم الغريغوري.

2.مرحلة النشوء : استمرت في أوروبا في منتصف القرن الثامن عشر حتى عام 1780م وما بعده ، فقد حدث تحول حاد في فكرة الدولة الموحدة ، وتبلورت مفاهيم العلاقات الدولية والأفراد باعتبارهم مواطنين لهم أوضاع مقننة في الدولة ، وزادت إلى حد كبير الاتفاقيات الدولية ، ونشأت المؤسسات المنظمة للعلاقات والاتصالات الدولية ، وبدأ الاهتمام بالقومية والعالمية.

3.مرحلة الانطلاق : استمرت من عام 1870م وما بعده حتى العشرينيات من القرن العشرين ، وظهرت مفاهيم كونية مثل خط التطور الصحيح ، والمجتمع القومي ، وتم إدماج بعض المجتمعات غير الأوربية في المجتمع الدولي ، وبدأت الصياغة الدولية للأفكار الخاصة بالإنسانية ومحاولة تطبيقها ، وحدث تطور هائل في الاتصالات الكونية ، وتمت المنافسات الكونية مثل الألعاب الأولمبية وجوائز نوبل ، وتم تطبيق فكرة الزمن العالمي ، وتبني التقويم الغريغوري ، ووقعت في هذه المرحلة الحرب العالمية الأولى ونشأت عصبة الأمم.

4.الصراع من أجل الهيمنة : استمرت هذه المرحلة من العشرينيات حتى منتصف الستينيات ، وبدأت الخلافات الفكرية حول المصطلحات الناشئة الخاصة بعملية العولمة والتي بدأت في مرحلة الانطلاق ، ونشأت صراعات كونية حول صور الحياة المختلفة ، وتم التركيز على الموضوعات الإنسانية بحكم حوادث الهولوكوست وإلقاء القنبلة الذرية على اليابان ، وبروز دور الأمم المتحدة.

5.مرحلة عدم اليقين : بدأت منذ الستينيات وأدت إلى اتجاهات وأزمات في التسعينيات ، وقد تم إدماج العالم الثالث في المجتمع العالمي ، وتصاعد الوعي الكوني في الستينيات ، وحدث هبوط على القمر ، وتعمقت القيم ما بعد المادية ، وشهدت المرحلة نهاية الحرب الباردة ، وشيوع الأسلحة الذرية ، وزادت إلى حد كبير المؤسسات الكونية والحركات العالمية.
وتواجه المجتمعات الإنسانية اليوم مشكلة تعدد الثقافات وتعدد السلالات داخل المجتمع نفسه ، وظهرت حركة الحقوق المدنية ، وأصبح النظام الدولي أكثر سيولة ، وانتهى النظام الثنائي القومية.
وزاد الاهتمام في هذه المرحلة بالمجتمع المدني العالمي ، والمواطنية العالمية ، وتم تدعيم نظام الإعلام الكوني.
ويعتقد زمرة من الاقتصاديين أن العولمة ليست أمرا بدعا في المجال الاقتصادي لأن هناك عولمتين قديمة وحديثة :
" ظهرت الأولى مع الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر ، واستطاعت تنفيذا لخطتها أن تزيد في إنتاج السلع زيادة كبيرة دفعت بأوروبا إلى البحث عن أسواق جديدة أقامتها عن طريق إنشاء المستعمرات بأمريكا وآسيا وأفريقيا ، مما مكنها من الحصول على المواد الخام بأسعار جد منخفضة.
هذا يفسره ما كان من اندماج للدول الفقيرة المستعمرة في اقتصاديات الدول الصناعية الأوروبية .
أما العولمة الثانية ، وهي العولمة الحديثة فإن تحققها سوف يكون عن طريق تحرير التجارة الدولية والتنافس على النطاق الدولي بالاعتماد على التقدم التكنولوجي الحديث " .
ومما تجدر الإشارة إليه أن ثمة عوامل ساهمت في تحويل العالم إلى ما يطلق عليه بالقرية الكونية ، ومن أبرزها :
1.تطور الأسلحة الهجومية الإستراتيجية ، كالصواريخ العابرة وغيرها.
2.تطور أجهزة المواصلات والاتصالات.
3.التحولات الاقتصادية الدولية كظهور الشركات متعددة الجنسيات ، ورؤوس الأموال المشتركة ، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
4.التأثيرات الأيديولوجية المتمثلة في ارتباط المجتمعات على أسس عقيدية الشيوعية ، الاشتراكية ، الرأسمالية".


ثالثاً : أهداف العولمة :

أهداف إيجابية :
1.التركيز على قيم حضارية معينة مثل احترام كرامة الإنسان وآدميته ، وحقه في حرية الكلام والمسعى والمعتقد ، والمشاركة في اتخاذ القرارات ، وحقه في مساءلة الحكم والأطراف الحاكمة ، والحق في التعليم والعيش الكريم.
2.التركيز على احترام الاختلاف بين الحضارات ، واحترام الرأي الآخر ، وتأييد حقوق المرأة والأطفال والأقليات .
3.وجود طابع عالمي للبحوث ونظريات التعلم وممارسات التعليم وتبادلها بين مختلف دول العالم وشعوبها ، يعزز ذلك كله قوى الاندماج ، والاعتماد المتبادل الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية التي سبق التطرق إليها.
4.تزايد أعداد العلماء وأعضاء هيئة التدريس والطلبة والباحثين الذين يدرسون ويدّرسون ويجرون الأبحاث ويقيمون وينتقلون بين مختلف مراكز العلم والبحث والجامعات في العالم .
5.قيام شبكات الاتصال بين مختلف المعاهد والمراكز والجامعات في العالم.
6.انعقاد المؤتمرات والندوات التي تنظمها الهيئات المهنية الدولية في مختلف حقول العلم والمعرفة ويشارك فيها مشاركون وباحثون من مختلف أنحاء العالم .
7.تنظيم برامج التعاون الثقافي والتربوي والعلمي بين مختلف المعاهد والجامعات والدول سواء بمبادرة بين هذه الجهات أو منظمة إقليمية كالأمم المتحدة ومنظماتها وبرامجها المختلفة أو اليونسكو.
8.إعطاء الفرصة كاملة لقوى الابتكار والخلق والإبداع والتحسين والتطوير والتنمية والانتماء لتتفاعل مواهبها وملكاتها بشكل كامل ومتكامل.

أهداف سليبة :
وهذه الأهداف ذات آثار سلبية ، وعواقب وخيمة من الجانب الثقافي أو الاجتماعي على كثير من المجتمعات البشرية، ولذلك تسعى كل الأمم والشعوب لتجاوزها وتخطيها .
وهي في الحقيقة من أخطر ما يمكن أن تعانيه الشعوب والأمم من العولمة ، ومن أبرز هذه الأهداف ما يلي :
1.إلغاء النسيج الحضاري والاجتماعي للشعوب .
2.تدمير الهويات القومية والثقافة القومية للشعوب .
3.تعميق التناقض بين المجموعات البشرية بقدر قدرة هذه المجتمعات على بلورة إستراتيجيات فعالة وناجعة للصراع على المصالح.
4.اختراق القوميات والقيام بتفتيت بعض الدول والكيانات.
5.القضاء على الهوية الثقافية وعلى تراث الأمم والشعوب الفكرية والحضارية.
6.إيهام العالم ـ من خلال الحملات الإعلامية المركزة والإعلام الموجه ـ بأنه ليس أمام الناس من بديل إلا الفكر الرأسمالي والثقافة الغربية.
7.القضاء على الثقافات والحضارات التي لا تدين بالرأسمالية وبفكرة فصل الدين عن الحياة والقضاء على التقاليد والعادات وغيرها مما يسمى بالتراث.
8.فرض الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية على شعوب العالم بشتى الوسائل ومنها ثورة الاتصالات المعلوماتية التي تمثلها وسائل الإعلام المختلفة وأهمها الأقمار الصناعية ، والترويج لتجارة الأسلحة.
9.الحيلولة دون عودة الإسلام لواقع الحياة وعدم إتاحة الفرصة لمبدأ الإسلام من البروز العالمي من خلال دولة تقوم على أساسه وتسعى إلى تولي الصدارة العالمية والتأثير بالموقف الدولي على اعتبار أن الإسلام هو المبدأ الوحيد الباقي واقعيا ـ بعد انهيار الشيوعية ـ والقادر على علاج مشاكل الإنسان والحياة .
10.تقويض الجهاد بمفهومه الشرعي ، ومحاربة كل من ينادي به ، والعمل على تعطيل هذه الفريضة الغائبة عن حياة المسلمين ، ووصف من يقوم به بأصناف الألفاظ المنفرة والمغرضة ، كالإرهاب والتطرف ، ونحوها مما هو شائع في وسائل الإعلام المختلفة. بل والعمل على محارة القائمين به ومكافحتهم بحجة الشرعية الدولية ، ومخالفة أنظمة ودساتير وأعراف الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية .
11.الحكم والتحاكم إلى غير شريعة الله ، وإلجاء الناس إلى التحاكم إلى شريعة الغاب ؛ من القوانين الوضعية والدساتير البشرية والأحكام العرفية ، التي ما أنزل الله بها من سلطان ، بل هي من عقول حثالات البشر.
وهذا بلا شك هو مضاهاة لله تعالى ، ومشاركة له فيما هو من خصوصياته ، إذ الحكم لله وحده ، قال تعالى : ( أفحكم الجاهلية يبغون ، ومن أحسن حكما من الله لقوم يوقنون ) [المائدة:50].

ثانياً : الأهداف السياسية :
ويشتمل هذا القسم على بعض الأهداف ذات المغزى السياسي ، والبعد الدولي ، مما يتوقع تحقيقه من خلال المنظمات الدولية التي هي أحد أذرعة العولمة كهيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وغيرها.

أهداف إيجابية :
ومن أبرز الأهداف ما يلي :
1.تفكيك الحدود الفاصلة والحواجز العازلة ، وإنهاء التوجهات الجزئية ، والاقتصاد المحلي ، والانعزال القومي ، والتشرنق والتقوقع الذاتي ، وتفجير كل هذا من الداخل باعتباره عبئا ثقيلا على كاهل العولمة ، فضلا عن كونه هدر للموارد النادرة أو سوء توجيه لها. ومن هنا تأتي العولمة كضوء منير لنهاية نفق طويل مظلم سارت فيه الإنسانية عند اختيار بعض الدول لمنهج الانغلاق على الذات.
2.حل المشكلات الإنسانية المشتركة التي لا يمكن حلها من منظور السيادة الوطنية المطلقة للدولة التي يقوم عليها النظام الدولي القائم حتى اليوم ، مثل انتشار أسلحة الدمار الشامل وغيرها.
3.إيجاد الاستقرار في العالم والسعي إلى توحيده.
4.مكافحة بعض الأنظمة الغاشمة والمتسلطة ، والتي لا تحترم حقوق الجوار ، ولا تراعي المواثيق والعهود المبرمة فيما يبن الدول بعضها مع بعض، والعمل على رد الحق إلى نصابه ، حتى وإن كان المقصود الأول من هذا العمل هو تحصيل الثروات والأموال من جراء ذلك.
5.نشر الوعي بين الشعوب بحقوقها تجاه الحكومات ، والعمل على إنشاء المنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان ، في ظل غياب الوازع الداخلي ، والضغط على بعض الأنظمة لمراعاة ذلك.
6.الاهتمام بموضوع الأقليات الدينية ، حيث تمارس الأكثرية شتى أنواع الضغوط والقهر والاستبداد على تلك الأقليات.

أهداف سلبية :
وهذه من أكثر الأهداف التي يتحدث عنها الزعماء والساسة ، وذلك لأن الكثير منهم يصف الأمر بأنه في غاية الأهمية ، وأنها فرصة لابد من استغلالها والواقع في الحقيقة على عكس ذلك ، فما هي إلا أنفاق مظلمة يراد للشعوب المضللة أن تسير فيها حتى الهاوية لتحقيق رغبات هؤلاء الزعماء.
ومن أبرز هذه الأهداف ما يلي :
1.الهيمنة على اقتصاديات العالم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية من خلال السعي لسيطرة الاحتكارات والشركات الأمريكية الكبرى على اقتصاد العالم. ولهذا يسميها بعضهم بالأمركة بدلا من العولمة .
2.التحكم في مركز القرار السياسي وصناعته في دول العالم لخدمة المصالح الأمريكية وما يسمى بالأمن القومي الأمريكي على حساب مصالح الشعوب وثرواتها الوطنية والقومية.
3.مضاعفة فرص المجموعات الأقوى التي كانت تسيطر في الأصل على عناصر القوة الاقتصادية والعلمية والتقنية والثقافية وغيرها.
4.زيادة الدول القوية غنى بينما تزداد الدول الفقيرة فقرا أي أن هناك(دولا قناصة ودولا مقنوصة).
5.فرض السيطرة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية على الشعوب بقصد استغلالها ونهب ثرواتها وبمعنى أوضح بروز نوع جديد من الاستعمار في القرن الحادي والعشرين أبشع لونا وأشد خطرا وأبلغ ضررا مما سبق من أنواع الاستعمار التي عرفها العالم.
6.فتح الباب على مصراعيه أمام الاستعمار الغربي الجديد المباشر منه وغير المباشر وإجبار الدول أو إيهامها بضرورة الدخول في الاقتصاد العالمي أي بقبول إنشاء مصانع للشركات الكبرى في البلاد تسخر فيها ملايين الأيدي العاملة الرخيصة لإنتاج السلع الاستهلاكية لأسواقهم.
7.عدم حدوث الاستقرار وبقاء العالم ، ولا سيما دول العالم الإسلامي ، في حالة عدم استقرار وإثارة الفتن والحروب والخلافات الحدودية بين الدول ، والإبقاء على بؤر توتر في العالم .
8.تغيير جغرافية العالم من خلال القضاء على بعض الكيانات السياسية وإيجاد كيانات أخرى تابعة وهزيلة لا تقوى على النهوض ولا على مقاومة هجمة العولمة بشتى مناحيها.
9.فرض استعمار من نوع جديد يمكن أن نسميه استعمار القرن الحادي والعشرين.

ثالثا : الأهداف الاقتصادية والتكنولوجية:
وهذه الأهداف (الاقتصادية والتكنولوجية) بينها من الترابط أكثر من غيرها ، إذ إن أكثر مجالات الاستثمار المعاصرة تتعلق بالتكنولوجيا.
لقد وصلت إلينا العولمة على عجلة التكنولوجيا الحديثة ، فحققت الكثير من الأهداف التكنولوجية التي ساعدت على رفاهية الناس ، وإن كان لهذه الرفاهية نصيبها من الضرائب التي دفعها وسيدفعها الناس.
ومن أبرز هذه الأهداف ما يلي :

أهداف إيجابية :
1.بناء هياكل إنتاجية مثلى لإنتاج السلع ، وتقديم الخدمات ، وصناعة الأفكار على مستوى الحجم الاقتصادي الكبير الذي يأخذ في معطياته السوق الكوني الجديد ، والذي يفرض على الأطراف المختلفة الاعتراف به ، ليس باعتباره واقعا جديدا فقط ، ولكن باعتباره الأفضل والأرقى والأحسن ، وباعتباره متمتعا بمزايا تنافسية فائقة وفارقة ، ومتميزة على الآخرين ، وباعتباره يقدم لهم : الأكثر إشباعا لاحتياجاتهم ، والأكثر استجابة لرغباتهم ، والأيسر من حيث الحيازة ، والأوفر من حيث الإتاحة . إن هذا كله يأتي في عملية بناء الهياكل الكلية للعولمة في إطارها الأمثل.
2.الوصول إلى سوق عالمي واحد مفتوح بدون حواجز أو فواصل جمركية أو إدارية أو قيود مادية أو معازل عرقية أو جنسية ، أو معنوية عاطفية.
3.تقريب الاتجاهات العالمية نحو تحرير أسواق التجارة ورأس المال.
4.التوسع على مدى العالم في بنى الإنتاج وإنشاء فرص للنمو الاقتصادي على المستوى العالمي.
5.زيادة حجم التجارة العالمية مما يؤدي إلى الانتعاش الاقتصادي العالمي.
6.زيادة الإنتاج المحلي والعالمي.
7.التسريع في دوران رأس المال حول العالم من خلال الاستخدام الأمثل للعمالة المكثفة عالية المردود وهي التي تدعى في أيامنا هذه خدمات المكاتب الخلفية.
8.فتح أبواب التنافس الحر ولا سيما في مجال التجارة.
9.تحرير القطاع المالي من القيود المفروضة عليه الأمر الذي سيعرضه لتيارات التحديث والتطوير.
10.خلق الحوافز للقيام بإصلاح هياكل المؤسسات المالية وبدء قيام هذه المؤسسات بتقديم خدمات مالية شاملة.
11.خلق فرص للانطلاق للأسواق الخارجية.
12.التكيف ومتطلبات المنافسة في مجالات الكفاءات وفعالية سوقنا المالية.
13.تدفق استثمارات أجنبية بدخول مؤسسات أجنبية تتمتع بكفاءة عالية.
14.استعادة الأموال المهاجرة لشعوره بمزيد اطمئنان في ظل مناخ الانفتاح.
15.إعادة هيكلة المؤسسات على أسس مختلفة لتكون أقدر على المنافسة.
16.نشر التقنية الحديثة وتسهيل الحصول على المعلومات العالمية الهامة من خلال الاستفادة من الثورة المعلوماتية الحديثة.

أهداف سلبية :
أهداف العولمة الاقتصادية السلبية من أكثر الأهداف ظهورا على ساحة الأحداث العالمية ، وعلى سبيل المثال فقد تحرك آلاف الأشخاص لما أدركوا الأخطار الاقتصادية التي تخلفها العولمة عندما انعقد مؤتمر سياتل ، وقد نقلت لنا وسائل الإعلام كيف قاوم أولئك الأمر حتى استطاعوا أن يفرضوا مبتغاهم.
وفيما يلي أبرز الأهداف السلبية الاقتصادية للعولمة:
1.إيهام العالم بأنه لا سبيل للتقدم الاقتصادي إلا بنظام السوق المفتوح ، أي الحرية الاقتصادية المطلقة ، لفتح أسواق العالم أمام المنتجات الغربية بشكل عام والمنتجات الأمريكية بشكل خاص.
2.العمل الجاد لتثبيت الأنظمة الثلاثة الأساس في الاقتصاد الرأسمالي وهي:
‌أ.نظام الشركات المساهمة.
‌ب.نظام الربا المصرفي.
‌ج.نظام النقد الورقي الإلزامي.
3.العولمة تفرض تحديا مهما يتمثل في أن كل اقتصاد عليه أن يصنع فرص نجاحه اعتمادا على ذاته ، آخذين في الحسبان طبيعة العلاقات السائدة في السوق. إذ بات من المعروف أن الدول ذات الاقتصاديات التي تتسم بالديناميكية ستحقق مكاسب من العولمة ، هذا في حين ستحقق الاقتصادات الأخرى الخسائر ، خاصة في الدول الأفريقية جنوب الصحراء.
4.المحك الأساسي هو اعتبارات الكم مع الكيف في وقت واحد ، والكيف أهم من الكم في عمليات الإنتاج والتسويق ، وتفرض العولمة تحدياتها كذلك على الأشخاص الفاعلين في كل اقتصاد وطني ، إذ لم يعد في وسع المشروعات الوطنية الاعتماد على مساندة الدولة لها في مواجهة المنافسة الأجنبية.
5.أصبح الحصول على موقع القدم في الأسواق العالمية أمر في غاية الصعوبة ، سيما مع ضعف التأهيل والإمكانيات في الكثير من الجامعات والمعاهد الوطنية ، ولأن السوق العالمية تتطلب نوعية معينة من السلع والخدمات ذات مواصفات لم تكن معروفة من قبل ، كما يتطلب التدفق السريع للمعلومات الحاجة إلى رأسمال بشري قادر على تحقيق ذلك.
6.وجود الكثير من المخالفات الشرعية في المعاملات التجارية ، بحيث أصبح البحث عن الحلال أمرا صعبا ، سيما فيما يتعلق بالأمور الربوية والتأمينات المحرمة والودائع ذات الفوائد والقروض ، وغيرها.
7.ازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء ، ففي الوقت الذي تشير فيه الدلائل إلى زيادة الحركة التجارية في كثير من المجتمعات ، يتزامن ذلك مع ازدياد الذين يصلون إلى حد الفقر والعوز .
8.انهيار اقتصاديات بعض الدول التي سارت في ركاب العولمة دون أن تحسب للأمور حسابها ، الأمر الذي أدى بهذه الدول أن ترجع إلى الوراء اقتصاديا عشرات السنين ويجعلها بحاجة إلى ثروات طائلة لكي تعود إلى وضعها الاقتصادي السابق.

رابعاً : قصور العولمة المعاصرة عن بلوغ غاياتها :
لن تتمكن العولمة المعاصرة من تحقيق غاياتها في إعادة صياغة الهوية الخصوصية للشعوب للأسباب الآتية:
1.افتقادها للمنهاج العام الذي يعتبر مرجعية مكتوبة أو مقننة.
2.بشرية منطلقاتها الفكرية (ومفهوم البشرية يتضمن التعدد الفكري، والقصور الذاتي).
3.جهلها بالسنن الربانية (مما يؤدي إلى اصطدامها بها).
4.اعتمادها على أساسين غير دائمين:
‌أ.قوة النفوذ الغربي.
‌ب.التقنية الفائقة المعاصرة.
وكلاهما مهدد بالتقويض في حالة نشوب حرب كونية.
5.الدخول في صراعات كثيرة ومنوعة مع خصوصيات الشعوب.
6.افتقادها للبعد الزمني التاريخي الشمولي ؛ مما يلحقها ـ بالنسبة لكل أمة من الأمم على حدة ـ بالأمور " الطارئة " . والطارئ لا يستطيع أن "يلغي الجذور التاريخية " للشعوب والأمم.
إن العولمة المعاصرة تمثل " تيارا عاما " يدفع إلى الأمام بوسائط تقنية ووسائل أخرى ، لكنه ليس " مشروعا حضاريا متناسقا ومتكاملا " ولذلك فإن الإخفاق هو منتهى طريقها.

الفصل الثاني
الإسلام في عصر العولمة

لقد درج البعض في عالمنا الإسلامي على إبداء تخوفهم وفزعهم بشكل واضح عند ظهور أي تيار فكري جديد أو مذهب اقتصادي أو نظرية سياسية أو غير ذلك من تيارات تهب علينا من الشرق أو من الغرب . ومن منطلق خشيتهم على القيم الدينية وحماية المسلمين من أخطار تلك التيارات يتجهون ابتداء إلى رفض هذا التيار أو ذاك لما يمثله ـ في نظرهم ـ من غزو فكري أو اقتصادي أو غير ذلك ، وقد يميلون إلى الاعتقاد بأن هذا الغزو يمثل أحد فصول مخطط مرسوم بعناية للقضاء على الإسلام والهوية الإسلامية.
وفي المقابل نجد فريقا آخر في عالمنا الإسلامي يتقبل كل ما يأتي من الشرق أو من الغرب دون تمحيص ، ويتحمس له ، ويتهم الرافضين بالجهل والتخلف والرجعية ، فكل ما يأتي من البلاد المتقدمة ـ في نظر هذا الفريق ـ لابد أن يكون أيضا متضمنا لأسباب التقدم والرقي.
ويحدث في كثير من الأحيان أن يتصارع هذان الفريقان : الرافض بإطلاق والمتقبل بإطلاق ، ويهدرون في مناقشات عقيمة الكثير من الجهد والوقت في جدل لا طائل من ورائه ، ومن الأمثلة على ذلك الموقف من الحضارة الغربية بصفة عامة ، أو الموقف من الدراسات الاستشراقية في الغرب ، أو الموقف في السنوات الأخيرة من قضية العولمة ، وغيرها من قضايا أخرى.
ويمثل هذان الفريقان ـ على الرغم من تباعد ما بينهما ـ نظرة أحادية الجانب لا تريد أن تستوعب القضايا المطروحة على بساط البحث لكل ما لها وما عليها بطريقة موضوعية .
ومن هناك فنحن ـ ابتداء ـ لسنا مع أو ضد العولمة ، ولكننا مع النظرة النقدية الواعية للعولمة ولغيرها من التيارات الوافدة ، وأعتقد أن الضرورة تحتم أن يكون للمسلمين نظرتهم النقدية التي تتعمق في القضايا بكل أبعادها ، وتحللها من جميع جوانبها ، وتخط لنفسها طريقا لا يتجاهل الواقع من ناحية، ولا يندفع دون وعي نحو كل دعوة جديدة من ناحية أخرى.
وأود أن أشير هنا إلى بعض الملاحظات المبدئية:
1.الإسلام كدين ليس تيارا فكريا أو ظاهرة وقتية حتى يخشى عليه من التيارات الفكرية الوافدة ، إنه دين له جذور ضاربة في أعماق الكيان الإسلامي ، وأصول راسخة لا تستطيع أن تنال منها التيارات الوقتية الطارئة ، ولا يخشى على هذا الدين من أي تيارات داخلية أو خارجية مهما كانت قوتها طالما فهم المسلمون هذا الدين فهما صحيحا ، وأدركوا إدراكا واعيا أهدافه النبيلة وغاياته السامية وجوهره الحقيقي.
2.العولمة واقع لا يجدي معه أسلوب الرفض ، إنه تيار بدأ بالمجال الاقتصادي وامتد إلى المجال السياسي والمجال الثقافي ، وهذا الواقع يعد حقيقة ماثلة أمامنا لا مجال لإنكارها.
3.لا يجوز لنا أن نتجاهل أننا لا نعيش وحدنا في هذا العالم ، وأننا نعيش الآن في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات ، والثورة التكنولوجية ، وفي عصر السماوات المفتوحة ، وهذا يعني أنه لا مجال للانعزال أو التقوقع.
وإذا كانت العولمة تهدف إلى إزالة الحواجز الزمانية والمكانية والثقافية والسياسية والاقتصادية بين الأمم والشعوب ، وتحاول بطرق مختلفة فرض قيم معينة وحضارة معينة هي قيم الحضارة الغربية ، أو قيم الأقوياء ، فإن ذلك لا ينبغي أن يصيبنا بالفزع وفقدان التوازن ؛ لأن ذلك لن يجدي فتيلا ، ولن يتيح لنا الفرصة للتفكير السليم ، فنحن ـ كما سبق أن أشرت ـ أمام واقع ، وواجبنا هو أن نتعامل معه ، وهذا الواقع ليس كله شرا، وليس كله خيرا ، ومن هنا ينبغي التعامل معه على هذا الأساس.
ومن الواضح أن العولمة تشتمل على عناصر جوهرية ، كما تشتمل على عناصر أخرى مصاحبة ، ولكنها أصبحت تحاصر الناس في كل مكان في العالم عن يمينهم وشمالهم ، ومن أمامهم ومن خلفهم ، ويتمثل ذلك ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ في انتشار المأكولات والمشروبات السريعة مثل (الهامبورغر) و(الكوكا كولا) والملبوسات مثل (الجينز) ، والبرامج والأفلام والفنون المختلفة ـ الجيد منها والرديء ـ ووسائل الترفيه المختلفة ...الخ.
ولكن الشيء الأهم في ذلك كله هو ما تحمله العولمة في طياتها من الترويج لأنماط معينة في العلاقات الأسرية والاجتماعية والجنسية السائدة في الغرب ـ المصدر الأول للعولمة ـ وليس بخاف على أحد أننا إذا أغلقنا الأبواب والنوافذ أمام هذا السيل الجارف من العولمة فإننا لن نستطيع أن نمنع وصول ذلك إلى المواطنين عن طريق الأقمار الصناعية والدش وشاشات التلفزيون ، والإنترنت. ومن أجل ذلك قلنا إننا أمام واقع لابد من التفكير في التعامل معه على نحو سليم. إن العولمة تمثل بالنسبة للمسلمين دعوة غير مباشرة إلى ممارسة النقد الذاتي ليعيدوا النظر في حساباتهم ، ويعيدوا ترتيب البيت من الداخل ، وهذه الدعوة تأتي بطبيعة الحال دون قصد من أصحاب العولمة ، وقد يرى البعض أن العولمة تمثل استفزازاً للمسلمين ، ونرى أنه استفزاز مفيد إذا أحسن المسلمون التعامل معه بأسلوب عقلاني بعيد عن التشنج والانفعال.
ومما لا شك في أن العولمة تكتسب عالميتها من مدى اتساع قدرتها على فرض ها النمط على شعوب الدنيا وليس على أساس كونها واقعا فعليا يحيط بالشعوب والبلدان ، وعلى الرغم من الأهمية البالغة لتحليل الاقتصاديين للمسألة إلا أن أخطر ما في الموضوع هو أن طرح القضية على أساس كونها مجرد صراع حول المصالح الاقتصادية يمثل تغيبا لوعي على مصادرة مبدئية فحواها أن المسألة لا تعدو كونها خلافا في التشكيل النسبي لتلك المصالح المتنازع عليها داخل إطار المنظور المادي للوجود ، فالبحث يتم في مدى استفادة أو مضار الدول والأمم من العولمة وخسائر ومكاسب الطبقات المختلفة في ظلها ، فإذا وجدت أمة كالأمة اليابانية أو الصينية في نفسها العافية على دخول الصراع رحبت بالعولمة ، وإذا وجدت الطبقات العاملة الأمريكية في العولمة خطرا متمثلا في الاستعاضة عنها بالعمالة الأرخص أجرا في الدول النامية رفضت هذه العولمة.
لكن المنظور الإسلامي عندما يحدد موقفه من العولمة فلابد أن ينتقل إلى طاولة بحث أخرى غير تلك الطاولة التي يدور البحث عليها حول التفاوض على مكاسب أو خسائر تعميم النموذج الاستهلاكي الغربي لأن المنظور الإسلامي أكثر اتساعا وشمولا من الإطار المادي الضيق الذي تسعى العولمة في نطاقه كما أن الغايات الإسلامية تتجاوز تلك الغايات المادية الاستهلاكية إلى غايات أرحب تواصل الدنيا بالآخرة وتستوعب الأبعاد المختلفة للإنسان المادية والروحية معا ، وحتى في الجانب المادي فإنه على العكس من المنظور الغربي الذي يتم تحديد الأولويات الاقتصادية فيه تبعا لما يقتضيه تحقيق النموذج الاستهلاكي البراجماتي ، فإن أولويات المصالح الاقتصادية في الإسلام تتحدد تبعا للغايات العقائدية المستهدفة من السعي الإنساني في التصور الإسلامي.
ومع ذلك فلابد أن نشير أولا أنه من الناحية الاقتصادية البحتة فإن الحلم التبشيري الإغوائي لدعاة العولمة بتعميم نموذج الإنسان الاستهلاكي الغربي ليس سوى فانتازيا خادعة لأن موارد العالم أجمع لا تكفي لتحقيق ذلك النموذج.
والمسألة ليست فقط تحقيق مصالح الدول الغنية على حساب الدول الفقيرة حتى ولو أدى ذلك إلى إفنائها ولكن تحقيق مصالح النخب الرأسمالية في تلك الدول والنخب الحليفة لها في الدول الأخرى على حساب كل شعوب العالم ، فالعالم يتم تقسيمه إلى مراكز وهوامش وكلما ازداد ثراء المراكز ازداد فقر الهوامش . فإذا كان الميكانيزم الأساسي للعولمة هو تعاظم أسعار المواد الأولية وكانت الأخيرة هي المقوم الأساسي لثروة الدول الفقيرة فإن تنامي العولمة يعني سحق الدول الفقيرة لحساب الدول الغنية.
ومن ناحية أخرى فإن الالتزام بقانون السوق الذي يحكمه الأقوى واستهداف الجانب الربحي دون أية اعتبارات أخرى وعملي آليات العولمة في تقليص سلطات الدولة لحساب أقوياء السوق وتخفيض التأمينات الاجتماعية أو إهدارها ، كل ذلك يعني تركيز الثروة في يد النخب المسيطرة على حساب الشعوب حتى داخل الدول الغنية ذاتها.
فهل يجب ـ كما يقول الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران ـ أن نسمح بتحول العالم إلى تلك السوق الشاملة الواحدة التي يمكن أن يعمل فيها فقط قانون الأقوى بهدف وحيد هو : كيف يمكن الحصول على أكبر ربح في أقصر وقت؟ ذلك العالم الذي تستطيع فيه المضاربة خلال ساعات أن تدمر عمل ملايين النساء والرجال ؟ إذن فالحلم الزائف للعولمة يغوي أبناء الأرض بمقايضة مقوماتها الروحية بالمقومات الصناعية المادية بينما ما يحدث في الواقع بالفعل أن الجماهير الغفيرة من شعوب العالم تقايض مقوماتها المادية والروحية معا في مقابل الوهم.
لكن الرؤية الإسلامية لا تقف عند حدود هذا الموقف الاقتصادي من العولمة لأنه حسب تلك الرؤية فإن المسألة تنطوي على صراع أيديولوجي كامن وراء الصراع الاقتصادي ، والزعم بأن سقوط الماركسية يمثل شاهدا واقعيا على انتصار الليبرالية وسقوط عصر الأيديولوجيات ونهاية التاريخ ببلوغه غايته الحضارية في الليبرالية الغربية كما يقول فوكوياما هو زعم يجافي الحقيقة لأن سقوط الماركسية يعود لتناقضاتها الذاتية ولا يمثل بالضرورة شاهدا على انتصار الليبرالية التي تواجه أزمات شديدة فيما يحدث بفعل العولمة الآن من استقطاب حاد لشعوب دولها الغنية (دول المركز) بين نخب شديدة الثراء وجماهير غير قادرة على الاحتفاظ على الحد الأدنى من الأمان المعيشي الذي كانت تحتفظ به الشرائح العريضة من الطبقة الأدنى الوسطى في ظل دولة الرفاه ، ولأن الغرب لا يفكر إلا في نطاق ذاته كان هذا الزعم بأن سقوط الماركسية يعني سقوط عصر الأيديولوجيات فالأيديولوجية الماركسية وليدة الحضارة الغربية في النهاية ومن ثم فإن سقوطها قد يعني سقوط أيديولوجيات تلك الحضارة ولا يعني سقوط الأيديولوجيات الأخرى الخارجة عن نطاقها.
وإذا أردنا أن نفهم الفكر الذي يقود الحضارة الغربية الآن فلابد أن نعود إلى مرحلة المخاض التي نتج عنها أي إلى الربع الأخير من القرن التاسع عشر فالحضارة الغربية منذ عصر النهضة تتشكل في إطار الفكر العلماني الذي ينطلق من الأسس المعرفية الإغريقية التي تقتصر على العقل وخبراته في إدراك الحقائق وتصريف شئون الحياة وفي هذا الربع الأخير من القرن التاسع عشر بلغ الصراع مداه بين الفلسفات المادية والمثالية " والتي تشترك في أسسها العلمانية " دون الوصول إلى أي يقين معرفي مما سبب حالة من القلق الإنساني وبعد أن حاول الماديون طرد الدين من العالم بينما أراد المثاليون أن يحددوا له مكان إقامته جاء نيتشة وأعلن عن موت الإله بل وطالب بالقضاء على ظلال الإله الكامنة في المشروعات الفكرية المادية والمتمثلة في المنظومات العقلانية والأخلاقية لتلك المشروعات المادية وكذلك في الوعود الإنسانية التي تبشر بها تلك المشروعات وجاءت المشروعات الحداثية كانعتاق ضد الرؤى الدينية والمشروعات التأملية الهيجلية حتى توج القرن التاسع عشر بأفكار وليم جيمس البراجماتية التي أسقطت الحقيقة وعملت على اختزالها في مفهوم المصلحة أما شلر الذي ينتمي إلى نفس المدرسة البراجماتية فكان أكثر صراحة حيث أعلن استناد فكره إلى مقولة بروتاجوراس السفسطائي : " الإنسان مقياس كل شيء " .
وبتحليل بنية الفكر القائد للحضارة الغربية الذي يقود العولمة الآن نجد أنه بانتقال مركز الثقل الغربي إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية فإن قيادة الفكر الغربي بوجه عام انتقلت بدورها إلى الفكر البراجماتي الأمريكي الذي ينطلق من القناعة المسبقة بعجز الفكر الفلسفي الغربي (المادي والمثالي معا) عن إدراك الحقيقة المعرفية ومن ثم من اللا جدوى عن مواصلة البحث في الأسس المعرفية ومن ثم من اللاجدوى عن مواصلة البحث في الأسس المعرفية الإبستمولوجية أو العمل على الوصول إلى إجابات فلسفية عن الأسئلة المصيرية الكبرى والإعتياض عن ذلك بالإلهاء الحسي النفعي المتواصل ، وعلى ذلك فالبراجماتية لا تعتقد بصحة الأفكار غلا بمدى ما تحققه من منفعة عملية والحقيقة لديها هو كل ما يأتي عن تجريبه أو تطبيقه تلك المنفعة ليس مهما مثلا أن يكون الله موجودا أو غير موجود وإنما المهم على حد قول وليم جيمس الأمريكي ( أهم منظري البراجماتية): " أن نتمتع بإلهاً إذا كان لدينا إله " .
وعندما تكون المنفعة العملية هي المعيار الوحيد للحكم على الأشياء فإن ذلك يؤول في التطبيق العملي إلى إحلال المصالح الخاصة محل المبادئ والقيم التي تحكم الأمور فالبراجماتية هي عملية انتقال بارعة من المذهبية الفلسفية الملتزمة إلى التبرير الفلسفي لكل ما هو قائم بالفعل على أنه هو ما تفرضه الاحتياجات الإنسانية وهي في الوقت نفسه تعبير دقيق للغاية عما بلغه النسق الفكري العلماني للحضارة الغربية في أقصى نموها المادي . ومن هنا كان التركيز على اللذة والاستهلاك المادي فالإلهاء الحسي المتواصل صار بديلا عن البحث الفلسفي الحقيقي . كما أن البراجماتية باعتمادها النفعية كمقياس للحقائق لا تؤدي إلى تبريز الانتهازية فقط وإنما إلى صبغها بصبغة الحقائق الجديرة بالاحترام والتقدير.
وفي أوائل القرن العشرين كتب وليم جيمس في رسالة إلى أحد أصدقائه أن البراجماتية ستدمغ فكر العالم كله بطريقتها في خلال عشرة سنوات ، وإن كانت تنبؤات وليم جيمس قد تأخرت بعض الوقت إلا أن الواقع الذي تحقق أثبت أنها كانت صحيحة بالفعل فبانتقال مركز الثقل الغربي إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية قادت الفلسفة البراجماتية الفكر الغربي بوجه عام ثم كانت هي المسئولة عن التدهور السريع في سقوط المعسكر الشرقي أيضا.
والذي يؤكد اكتساح البراجماتية للمعسكر الشرقي أيضا أن أغلب الرؤساء الذين جاءوا إلى تلك البلاد بعد سقوط الشيوعية عندما سألوا عن الفلسفة التي يؤمنون بها . أجابوا : إنها الفلسفة البراجماتية.
والتطبيق السياسي لتلك الفلسفة الأمريكية يعني اختزال طاقات شعوب العالم من خلال العولمة إلى طاقة دفع لماكينة الحياة البراجماتية الاستهلاكية للنخب الرأسمالية والسياسية المسيطرة ، فهي تبتعث من خلال آليات الغرب الأمريكي الإعلامية المسيطرة على العالم أشد الرغبات الاستهلاكية سعارا في نفوس الناس في نفس الوقت الذي يتم فيه إغراؤهم بتحطيم كل المبادئ والقيم في سبيل تحقيق تلك الرغبات ، ولأن موارد العالم أجمع ـ كما قلت ـ لا تكفي لتعميم تحقيق تلك الرغبات فإنه لا يستطيع تحقيقها إلا أكثر المتصارعين براجماتية بينما يؤول لهاث الجماهير الغفيرة إلى طاقة دفع لماكينة تلك الحياة البراجماتية التي تقودها النخب السياسية والاقتصادية المسيطرة على العالم.
لكن المشكلة التي يقع فيها الغرب الأمريكي نفسه الآن أن البراجماتية التي استطاعت بتأكيدها على عجز الفكر الفلسفي الغربي عن إدراك الحقيقة المعرفية تحطيم كل الفلسفات والأيدويولوجيات الغربية قد تولد عن تداعيات عجزها الفلسفي نفسه وما تنطوي عليه من مضمون عبثي وتداعيات نتائج تطبيقها الظالمة على شعوب المجتمعات المعاصرة تلك الأفكار المابعد حداثية التي تؤكد على هذه التداعيات دون تقديم مشروع بديل لها.
وتفسير ذلك أن البراجماتية تصنع إطارا إلهائيا لمضمون عبثي فهي تقول لك أبحث عن المصلحة والمتعة واللذة بدلا من أن ترهق نفسك في البحث عن الإجابة على الأسئلة المصيرية في الحياة مثل : من أين جئنا ؟ وإلى أين نذهب ؟ وهل الله موجود أم غير موجود ؟ وما هي العدالة ؟ وما هي القواعد التي يجب أن تحكم علاقتنا بالآخرين ؟
فالبراجماتية تصنع من خلال الحث المستمر على المصلحة والمتعة واللذة وتصنع إلهاءً متواصلا عن التفكير في كل ذلك ، ولكن العقول المفكرة في الغرب لابد أن تنتبه إلى ذاتها وتكشف بعد مرحلة من الإلهاء أن البراجماتية لم تجب على شيء من تلك الأسئلة المصيرية ومن هنا جاءت ما بعد الحداثة ، لأننا إذا قمنا بطرح حالة الإلهاء الحسي من البراجماتية فلن يبقى منها غير العبث .. وتقوم نزعة ما بعد الحداثة على رفض كل فلسفة تقوم على النسق الكلي أو على مفهوم التاريخ أو على مفهوم التطور فضلا عن الأساس الموضوعي للمعرفة ، وكذلك رفض أي معنى لكلمات مثل : يقين أو دوافع أو حق أو ذات ، وإذا كانت الحداثة تمثلت كانعتاق من الرؤى الدينية والمشروعات التأملية الهيجلية فإن الموقف المابعد حداثي الذي ينطلق من تداعيات اللامعرفية الفلسفية لا ينزع المشروعية فقط عن الرؤى الدينية والأيديولوجيات الفكرية التأملية ولكنه ينزعها عن المشروعات الانعتاقية المضادة لها أيضا ، فما بعد الحداثة تحمل من الحداثة الذات المنقسمة المفتتة ولكنها تحمل كل مسافة نقدية منها أيضا فهي " ضد الضد " وذلك لأن الشيء الأساسي الذي تحمله هو قناعتها بعدم إمكانية المعرفة ، وإذا كان الحقيقي هو ( العقلاني " المادي " في عصر التحديث وهو المادي المتغير في عصر الحداثة ففي عصر ما بعد الحداثة لا يوجد أي أساس للتمييز بين الحقيقي والزائف وبالتالي فلا حقيقي ولا زائف " .
وتشهد ثقافة ما بعد الحداثة على أن الرأسمالية المتأخرة ( التي يتم تعميمها من خلال العولمة ) أدت إلى جعل الذات المعاصرة شبكة مبعثرة مزاحة من المركز ـ من التعلقات اللبيدية المفرغة من الجوهر الخلاق ومن الجوانية النفسية فهي وظيفة عابرة من هذا الفعل أو ذاك من الاستهلاك أو خبرة وسائل الإعلام أو العلاقة الجنسية أو الموضة .
وهكذا فإن الأفكار الما بعد حداثية لا تعمل فقط على تأكيد المضمون العبثي للبراجماتية ولكن أيضا على تجريدها من إطارها النفعي الإلهائي الزائف وهي مع ذلك لم تقدم أي بديل فكري فهي عملت على تفكيك كل التصورات والأفكار وعلى تفكيك الإنسان ذاته في النهاية.
الخلاصة في كل ما سبق أن الفكر الكامن وراء العولمة هو الفكر البراجماتي النفعي الإلهائي ولكن يزاحمه الآن ويقف خلفه في وعي العقول الغربية المفكرة الفكر الما بعد حداثي الذي يتضمن من بين ما يتضمن البعد التفكيكي التدميري.
وعلى الرغم من أن مشارف القرن الجديد تنبئ بتفوق قوى أخرى اقتصاديا وتكنولوجيا مثل اليابان وألمانيا على الولايات المتحدة الأمريكية وهو ما يرصده محللون عالميون مثل لسترنارو الأمريكي وهانس بيتر مارتين وهارالد شومان الألمانيان وشينتارو إيشهارا الياباني إلا أن هذه القوى لا تخرج في الأساس عن المنظومة الفكرية الحضارية الأمريكية ، ولا تمثل أيدويولوجياً تناقضاً جوهريا معها بل أن هاتين الدولتين قد تراجعت منذ عصر العولمة عن الكثير من أهدافهما الاجتماعية وكما يقول الألمانيان هانس بيترومارتين وهارالد شومان : " فإن الدول التي لا تزال ثرية حتى الآن قد راحت نفسها تقوم في ظل العالم الجديد ـ الذي لم يعد فيه للبعد الجغرافي أهمية تذكر في تحديد العلاقات المتينة القائمة بين المدن ـ بهدم ما سادها حتى الآن من نظم للتكافل الاجتماعي بسرعة تدعو للدهشة والعجب "وفي نفس الوقت تلم الثقافة الواحدة العالمية شمل النخبة دن أهمية تذكر للإنتهاء القومي".
لذلك فعلى الرغم من تصاعد قوى عالمية كاليابان والصين خارج النطاق الإقليمي الغربي فإن تلك القوى لا تملك المنظومة الفكرية التي تستطيع مواجهة ما يشكله ذلك الفكر من إغراء للنخب والشعوب على السواء خصوصا بعد استلابها الحضاري للغرب على امتداد عشرات السنين ، فلا تملك الكونغوشوسية من خلال منهجها الإصلاحي الطوباى الموجه إلى الفرد ولا البوذية القائمة على القمع الدائم للذات تقديم المنظومة الأيديولوجية الجماعية القادرة على المواجهة بخلاف الإسلام الذي يمثل أيديولوجية مترابطة لا تقبل التجزؤ تكشف عن الحقيقة وتدعو إلى المساواة والعدل وتحقيق الأمان المعيشي والانحياز للفقراء والمستضعفين في الأرض. وتربط بين ذلك وبين الإيمان بالله ذاته رباطا عضويا لا ينفصم . وكما يقول روبرت كابلان الخبير الأمريكي بشئون العالم الثالث : " في هذا الجزء من العالم سيكون الإسلام بسبب تأييده المطلق للمقهورين والمظلومين أكثر جاذبية فهذا الدين المطرد الانتشار على المستوى العالمي هو الديانة الوحيدة المستعدة للمنازلة والكفاح " . فالتصور الإسلامي هو الذي يتناقض تماما في منطلقاته مع كل الأسس والغايات التي تنطلق منها الأفكار البراجماتية والما بعد حداثية الموجهة للعولمة الأمريكية ، وهو التصور الذي يمتلك الإجابة على الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني ولا يحتاج إلى هذا الإلهاء الحسي الذي تقدمه البراجماتية في النموذج الاستهلاكي الغربي الذي تبشر به العولمة .
كما أن الإسلام بمنظومته الرسالية لا يستطيع مكتوف الأيدي أمام ما تمارسه العولمة الأمريكية من سحق للشعوب وتحطيم للكينونة الروحية للإنسان وبعد سقوط الأيديولوجيات الغربية يظل الإسلام الأيديولوجية الوحيدة القادرة على استنهاض شعوب العالم الفقيرة والمستضعفة وإنقاذها من مظالم العولمة بل وإنقاذ الطبقات الفقيرة والمستضعفة في بلاد الغرب الأمريكي ذاتها.
ولكننا يجب أن نعترف أن بلوغ الإسلام تلك الأهداف يتطلب شروطا محددة تتمثل في وجود القادة القادرين على اتخاذ القرارات الشجاعة المستقلة في ظل ضغوط العولمة البالغة القسوة ، والشعوب القادرة على التضحية والصمود والعطاء في المراحل الأولى من المواجهة التي ستجني ثمارها بعد ذلك ويتطلب قبل كل ذلك اجتهادا فكريا نشيطا ومبدعا يقصر عنه الفكر الإسلامي الآن . وليس أمامنا الآن إلا أن نبلغ تلك القدرات أو نرتضي بفرضيات العولمة لنعش في جحيم القهر والعبودية إلى الأبد.

الإسلام وحوار الأديان :
لقد أصبحت قضية الحوار في عالمنا المعاصر قضية ملحة على جميع المستويات ، فنحن نعيش في عصر تشابكت فيه المصالح ، وتعقدت فيه المشاكل على نحو لم يسبق له مثيل ، وقد أصبح البحث عن حلول لهذه المشاكل عن طريق الحوار أمرا ضروريا ، وقد يكون الحوار محليا أو إقليميا أو عالميا حسب طبيعة المشاكل المثارة ، وعلى جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الدينية وغيرها من مشكلات ، ومن هنا يمكن القول بأن الحوار قد أصبح ضرورة من ضرورات العصر للتغلب على المشكلات الواقعية في عالمنا ، وتعد القضايا الدينية جزءا لا يتجزأ من مشكلات عالمنا الواقعية ، بل تعد في كثير من الأحيان بمثابة الخلفية لغيرها من المشكلات لما للدين من تأثير عميق في نفوس الناس. هكذا كان الحال في السابق ، ولا يزال الحال كذلك حتى اليوم ، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة .
ويعد الحوار الديني جزءا لا يتجزأ من الحوار بين الحضارات ، فالحضارات في كل مكان في العالم قد قامت أساسا ـ كما هو معروف ـ على قاعدة من الدين . ويعد الدين حتى اليوم ـ في نظر كتاب معاصرين مرموقين في الغرب ـ أحد المكونات الرئيسية لأي حضارات ، بالإضافة إلى اللغة والتاريخ والثقافة ، ومن هنا يصف الغرب حضارته بأنه حضارة مسيحية ، كما يصف المسلمون حضارتهم بأنها حضارة إسلامية.
من ذلك يتضح لنا أن الحوار الديني لا يمكن عزله عن ألوان الحوارات الأخرى ؛ لأنه يتشابك معها بشكل أو بآخر تشابكا ظاهرا أو خفيا أردنا أو لم نرد. وقد أكد هذه الحقيقة أحد علماء الأديان المعاصرين المستنيرين في ألمانيا وهو الأستاذ هانز كونج بقوله " إن تحقيق السلام في العالم يتوقف على تحقيق السلام بين الأديان ، ولن يتحقق السلام بين الأديان إلا بإجراء حوار بين هذه الأديان".
ومن شروط نجاح أي حوار على أي مستوى أن يكون كل طرفي الحوار ندا للآخر ، وهذا يعني ضرورة تحقيق المساواة التامة بينهما في كل ما يتعلق بالحوار المراد إجراؤه بين الطرفين.
ويقتضي الحوار أيضا أن تكون هناك قضية محدودة يتحاور الجانبان بشأنها ، ولابد في هذه الحالة أن تحدد بدقة عناصر هذه القضية حتى لا يدور الحوار في حلقة مفرغة مثل حوار "الطرشان" كل يتحدث بلغة مختلفة ، وبمفاهيم مختلفة ، لا تربط بينها أرضية مشتركة.
ويتطلب الأمر كذلك تحديدا واضحا لأهداف الحوار ، حتى تكون هذه الأهداف دليل المتحاورين ، لا يحيد عنها طرف من الأطراف ، ولا يجوز التقليل من أهمية هذا التحديد الواضح للأهداف ؛ إذ بدونه سنجد كل طرف يغني على ليلاه ، الأمر الذي يبعد المتحاورين عن إمكان التوصل إلى أي شيء مفيد.
ويضاف إلى ذلك أمر مهم يتمثل في ضرورة توفر مناخ مناسب للحوار ينأى عن الأحكام المسبقة والمفاهيم المغلوطة ، ويتحرر من العقد النفسية سواء كان ذلك يتمثل في عقدة التفوق في جانب أو مركب النقص في جانب آخر . فالنعرات الاستعلائية خطرها في أي حوار لا يقل عن خطر الشعور بالدونية.
وهكذا نجد أن أي حوار يراد له النجاح لا يجوز أن تكون غايته العمل على إلغاء الآخر أو استبعاده أو القليل من شأنه ، أو الادعاء باحتكار الحق دونه ، ويمكن القول بأن الحوار الديني بالمعنى الحقيقي لهذا المفهوم لابد أن ينطلق من الاحترام المتبادل ، ومن نظرة إنسانية شاملة تقوم على احترام الكرامة الإنسانية ، ووحدة الجنس البشري ، وانتقاء الأنانية ، والفهم المتبادل بمعنى التسليم بحق كل طرف في أن يكون مفهوما من الطرف الآخر دون أي لون من ألوان التشويه أو التزييف.

موقف الإسلام من قضية الحوار الديني :
لقد انطلقت المبادرة إلى الحوار الديني أساسا من القرآن الكريم في توجيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك يقول القرآن الكريم ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله )[آل عمران:64].
وقد أدار النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده بالمدينة حوارا مع وفد نجران المسيحي الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في خمسة عشرة رجلا بقيادة أسقفهم أبي الحارث ، وقبل هذا الحوار سمح النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن يقيموا صلاتهم في أحد أركان مسجده.
ويمتاز موقف الإسلام في أي حوار ديني على أي مستوى عالمي بميزة فريدة لا تتوفر لغيره من الأديان ، وهي إيمانه بكل الديانات السماوية السابقة ، وهذه الميزة تجعله متحررا من العقد والحساسيات التي قد تعكر صفو الحوار.
ومن أجل أن يكون هناك حوار مثمر وتعاون وثيق بين الجماعات البشرية ـ أيا كانت انتماءاتها ـ دعا القرآن الكريم إلى ضرورة تعرف كل جانب على الجانب الآخر ، وتفهم مواقفه على قاعدة من المساواة التامة ، وهذا ما تعبر عنه الآية الكريمة ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) [الحجرات:13] . وهذه الآية تبرز لنا المعنى الإنساني العام لطبيعة الإسلام ، فنحن نتعرف على الآخر من خلال تعرفنا على أنفسنا ، فنحن جميعا قد خلقنا من أصل واحد ، الأمر الذي يؤكد وحدة الإنسانية والأخوة بين البشر على الرغم من كل الاختلافات بين الشعوب ، والتي يجعل منها الإسلام منطلقا للتعارف والتآلف لا مدخلا للنزاع والشقاق ، وهذا أمر من شأنه أن يوفر المناخ المناسب للحوار من أجل خير الجميع.
ولم يكتف القرآن بإعلان المبادرة إلى الحوار وتوفير المناخ المناسب لذلك، وإنما رسم أيضا الأسلوب الذي ينبغي اتباعه في الحوار ، فمن المعروف أن الحوار سيؤدي إلى مناقشات ومجالات حول القضايا المطروحة على مائدة الحوار ـ وهذا أمر طبيعي ـ من هنا وجه القرآن الكريم المسلمين إلى إتباع الأسلوب الأمثل في أدب الحوار بقوله (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) [العنكبوت:46] ، بل إن القرآن قد جعل الجدال بالحسنى أحد المناهج التي يتحتم على المسلمين إتباعها ، ليس فقط مع أهل الكتاب ، وإنما مع كل الناس بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو غيرها ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) [النحل:125].
ومن الضروري في الحوار بين الأديان أن يتجه المحاورون إلى البحث عن القواسم المشتركة بين الأديان التي يجري الحوار بشأنها ، والبعد عن المسائل الشائكة في قضايا العقيدة ؛ لأن الحوار حولها في المراحل الأولى للحوار غير مجد على الإطلاق ، ومن أجل ذلك ينبغي أن يركز الحوار على الأمور المشتركة وهي كثيرة ، فالديانات السماوية ـ على سبيل المثال ـ تؤمن بوجود إله خالق لهذا الكون ، وتؤمن بحياة أخرى بعد هذه الحياة تتحقق فيها موازين العدل بين الناس ، ويجازى فيها كل على عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، كما تؤمن هذه الأديان بمنظومة القيم الأخلاقية ، والإيمان بذلك كله يتضمن سلوكا مستقيما ودعوة إلى المحبة والسلام بين الناس ، وهذا يعني أن الحوار حول ما يجمع أصحاب الأديان من قيم مشتركة هو أفضل السبل لتفهم كل جانب للآخر بهدف التعاون البناء بين الأديان من أجل خير الإنسان وتقدمه ، واستقرار الأمن والسلام في العالم ، وعلى هذا النحو يمكن القضاء على الكثير من أشكال الصراعات الدينية في العالم ، وتحقيق السلام بين الأديان يعد شرطا لا غنى عنه لتحقيق السلام بين البشر.
والقرآن يبين لنا أن واجب الأديان ليس التنافس فيما بينها على مطامع دنيوية ، وإنما التسابق في فعل الخير ، وهذا ما يعبر عنه القرآن الكريم بقوله (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا) [المائدة:48].
وفي عصرنا الحاضر الذي تقترب فيه الجماعات الدينية والحضارية المختلفة من بعضها بعضا بصفة مستمرة في " قرية كونية " تصبح قضية العدل والسلام بين الناس على رأس هذه " الخيرات " . وبالفهم الصحيح للأديان ولدورها الرائد في النهوض بالبشرية يمكن الإسهام بشكل فعال في العثور على حلول مناسبة للمشكلات القائمة ، وهناك العديد من المشكلات المعاصرة التي لا يمكن حلها إلا بالتعاون بين الأطراف المعنية بصفة عامة والدينية منها بصفة خاصة . ومن بين هذه المشكلات الملحة في عالمنا المعاصر ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ مشكلات التطرف والتعصب والإرهاب والجريمة المنظمة والتطهير العرقي والإدمان ومشكلات تلوث البيئة وتدمير الموارد الطبيعية والاضطهادات والملاحظات الظالمة للأفراد أو الجماعات أو الشعوب ، ومشكلات الحروب العبثية التي لا طائل من ورائها ، وغير ذلك من مشكلات على جميع المستويات.
إن الحوار بين الأديان يمكن أن يؤدي إلى تعاون مثمر بين الأديان في الإسهام في حل هذه المشكلات وفي مكافحة العديد من الظواهر السلبية في عالمنا ، كما يمكن أن يسهم في إيجاد الحلول لمشكلات التطور الاجتماعي . وكل ذلك يسهم بدوره إسهاما فعالا في الوقاية من النزاعات المحتملة ، كما يمهد الطريق لحل النزاعات القائمة .


الفصل الثالث
موقف الإسلام من العولمة

سوف أتحدث في هذا الفصل عن نبذة عن بعض أنواع العولمة وعن موقف الإسلام منها :
1- العولمة الفكرية :
إن الجوانب الفكرية عند الأمم هي من أهم الأمور التي تسعى الأمم للحفاظ عليها وترسيخها ، وتعمل على توطيدها وتكريسها بين أبنائها ، وهي في سبيل ذلك تبث المفاهيم التي تناسب قيمها الفكرية بأشكال متنوعة ، وصور متعددة ، فالتربية الأسرية في البداية لها دورها ، والتعليم له دوره أيضا ، والرياضة والفن والإعلام وغيرها من المؤثرات الكثيرة والمتنوعة كلها تسعى لتحقيق هذا الهدف ، وتشارك في ترسيخه.
ولهذا تعتبر العولمة الفكرية أشد أنواع العولمة خطرا ، وأكثرها ضررا وخطورة على الشعوب والأمم ، ذلك أنها تسعى للعبث بموروثات تلك الأمم العقدية والفكرية ، وطمس تراثها الديني ، وتغيير قيمها ، وزحزحة مبادئها الراسخة على مر الأزمنة والعصور.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الحديث عن المعنى الفكري يترادف مع المعنى الثقافي ؛ فالثقافة لأي أمة من الأمم هي التي تشكل أفكارها وتصوراتها عن الحياة الدنيا بتفاصيلها ، وعن الحياة الآخرة أيضا وما فيها.
فالثقافة إذن ، هي معايير للعقل والسلوك ، تحدد معنى الحياة التي لا معنى لها بدون هذه المعايير ، ورموز تحدد غايات الحياة التي لا غاية لها بدون تلك الرموز .
بمعنى أن الثقافة هي إجابة لسؤال الفرد والجماعة عن كيف ولماذا وإلى أين ؟ أي الغاية من الوجود ، وكل ذلك يسم نشاط الفرد والجماعة بميسمه (الفن ، الأخلاق ، العرف ، قواعد الأدب ، العلاقة بين الفرد والجماعة ، الفرد والسلطة ، الجماعة والسلطة ...الخ ) .
فالثقافة في خاتمة التحليل هي التي تقف وراء النشاط الحضاري للإنسان ، وهي التي تجعل الحضارات الإنسانية تختلف عن بعضها البعض نتيجة للنشاط الإنساني عامة . وعليه فإن الحديث عن الجوانب الثقافية الفكرية للعولمة يعتبر مهما وبنفس الدرجة من الأهمية التي تحظى بها الأفكار والثقافات ذاتها.
إن للعولمة الثقافية مظاهر متعددة ومختلفة يمكن أن نلمسها في حياتنا المعاصرة ، ومن أهمها:
1.إن الأديان والأيديولوجيات من أهم مظاهر العولمة الثقافية ، وهي تعني أكثر من مجرد قيام دين من الأديان بالدعوة إلى توحيد العالم. فالعولمة الثقافية ظاهرة جديدة تستمد خصوصيتها من تطورات فكرية وقيمية وسلوكية ، في مقدمتها انفتاح الثقافات العالمية ، وتأثرها ببعضها البعض. فالهدف النهائي للعولمة الثقافية هو ليس خلق ثقافة عالمية واحدة ، بل خلق عالم بلا حدود ثقافية ، هذا الهدف لم يتحقق بعد ، ولا يتوقع أن يتحقق قريبا.
2.العولمة الثقافية تتضمن بلوغ البشرية مرحلة الحرية الكاملة لانتقال الأفكار والاتجاهات والقيم والأذواق على الصعيد العالمي ، وبأقل قدر من القيود ، مما أفقد الدول القدرة على التحكم بها. لم يحدث في التاريخ أن تمكن أكثر من 3 مليارات فرد ـ حوالي نصف سكان الأرض ـ أن يتابعوا بالصوت والصورة الحية ، وفي وقت واحد حدثا عالميا كمباريات كأس العالم أو التوقيع على اتفاقية السلام أو غيرها.
3.كذلك لم يشهد العالم مثل هذا التدفق الحر للأفراد من كل الجنسيات والذي يتنقلون بين دول العالم للسياحة مثلا ، وعلى مدار السنة . لقد أسقطت السياحة الحدود ، وقربت البعيد ، وأصبح من السهولة تبادل الأفكار والمفاهيم والعادات والتقاليد ، الأمر الذي لا يعبر عن ثقافة محدودة بل عن مجموع الثقافات الحية في العالم.
4.وفي ظل العولمة الثقافية أيضا يزداد الوعي بعالمية العالم وبوحدة البشرية ، وتبرز بوضوح الهوية والمواطنة العالمية التي ربما ستحل تدريجيا ـ وربما على المدى البعيد ـ محل الولاءات والانتماءات الوطنية.
إن هذه المظاهر تشكل بمجملها الصورة العامة للعولمة الفكرية ، والتي من أخطرها المظهر الأول المتعلق بالعقائد والأديان والأيديولوجيات.
موقف الإسلام من العولمة الفكرية :
أولا : من أخطر الأمور التي تحتويها العولمة الفكرية وتنطوي عليها ؛ ما يطلق عليه في اصطلاح العولمة بالثقافة العالمية المشتركة ، والتي تنادي بأن يتوحد الناس على ثقافة عالمية واحدة أو دين واحد ، وأن ينبذوا العقائد التي ـ كما يزعمون ـ تولد بين الناس الخلافات والنزاعات .
وفي مثل هذه الأجواء الموبوءة تنشأ الدعوات المشبوهة التي تنادي بوحدة الأديان ، أو التقارب بين أهل الديانات ، أو غيرها من المسميات التي تطالعنا بها بعض الجمعيات أو المنتديات بين فترة وأخرى.
والإسلام قد حسم هذه القضية حسما قاطعا ، منذ أن دعا كفار قريش النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة ، وأن يعبدوا الإله سنة ، فجاء القطع من الله تبارك وتعالى ـ بعد أن تردد النبي عليه الصلاة والسلام أملا في أن يستميلهم ويتألف قلوبهم ، فقال جل شأنه ( قل يا أيها الكافرون،لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم ، لكم دينكم ولي دين ) [الكافرون:15].
ثانيا : من مخاطر العولمة الفكرية ما تنطوي عليه من تمييع قضايا الولاء والبراء ، وتمييع محبة المؤمنين وكراهية الكافرين ، وتثبيت وتأكيد القرب والمودة للمؤمنين ، وإزالة ومحو النفرة من الكفار.
وهذه القضية ـ أعني قضية الموالاة والمعاداة ـ مبدأ أصيل في دين الإسلام ، لا يستقيم إيمان امرئ بدون تحقيقه ، فلقد عملت أذرعة العولمة على تحطيم وانتزاع هذا المبدأ من نفوس الكثير من المسلمين ، حتى لقد سمعنا عن بعضهم ممن زوج ابنته أو موليته من بعض النصارى ، تحت هذه الذرائع الشيطانية.
ثالثا : ومما يتبع هذه القضية الخطيرة أيضا ، ما يروج له البعض ويدعو إليه في وسائل الإعلام المختلفة من تكريس مفاهيم الأخوة الإنسانية ، والقرية الصغيرة ، ووحدة البشرية ، والمصير الواحد ، وغيرها من العناوين البراقة التي تحوي في طياتها معاول هدم لعقيدة المسلمين.
إن الذين يلهثون وراء هذه الدعوات ، كما أنهم يخالفون شرع الله تعالى ، فهم كذلك يخالفون سنن الله الكونية ، التي قدر الله فيها أن الناس مختلفين إلى قيام الساعة ، وأنهم متفرقون مهما كانت الأسباب داعية إلى تجمعهم ، قال الله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ، ولذلك خلقهم ) [هود:118] ، وأكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقتي أمتي على ثلاث وسبعين" فهذه سنة ماضية ، وقانون ثابت إلى قيام الساعة.
وإذا كان الإسلام قد أمر بالاجتماع والإتلاف ، ونهى عن التفرق والاختلاف ، فهذا النهي يدل على جملة أمور ، منها أن الاختلاف يمكن وقوعه بين البشر والمسلمين أنفسهم ، لأنه لو كان مستحيلا لما نهى الإسلام عنه لأن النهي عن إيقاع المستحيل عبث ينزه عنه الشارع الحكيم".
رابعا : الاهتمام باللغة العربية ، والدعوة إليها ، والحث على تعلمها وتعليمها ، وتنمية الشعور بالاعتزاز والافتخار بها ، أمر في غاية الأهمية. سيما إذا كانت تقف سدا منيعا في وجه الهجمة التغريبية التي تجتاح الأمة الإسلامية.
ولكن هذا الاهتمام بما لها لا ينبغي أن يكون من باب العروبة والقومية كما ينادي بذلك الكثير ؛ وإنما لأنها لغة القرآن الكريم ، ووعاء السنة النبوية ، ولأنه لا يمكن فهمها ومعرفة المراد منهما إلا بتعلمها ومعرفة أصولها ومبادئها .

2- العولمة الاجتماعية :
يظل النمط الاجتماعي الإسلامي من خير الأنماط التي عرفتها البشرية عل وجه الأرض ؛ ذلك أن تشريعاته كانت من لدن حكيم خبير ، وبتنزيل سماوي لم تتدخل فيه الأهواء البشرية المختلفة ، أما سائر الأنماط الأخرى فقد كانت من صنع الأعراف البشرية ، ووضع العقول الآدمية ، وهذه بطبيعة الحال معرضة للخطأ والنسيان والسهو وسائر الأعراض التي يمكن أن يتعرض لها أي إنسان ، فضلا عن سوء النوايا ، ومحاباة البعض ، ومتابعة رغبات النفس وحظوظها وشهواتها.
وقد جاءت العولمة بخيلها ورجلها لتفسد على الناس حياتهم الاجتماعية ، ولتفرض عليهم أنماطا غريبة عليهم ، وشاذة عن فطرهم ، ولهذا فقد وصف أحد الباحثين العولمة بأنها سقوط أخلاقي أولا ، ثم تأتي جوانبها الأخرى.
وهناك العديد من القضايا التي تندرج تحت العولمة الاجتماعية ويطرحها الباحثون ، ولكن المجال لا يتسع لحصرها واستيعاب الحديث عنها في هذه العجالة ولذا سيكون الحديث منصبا عن أبرزها :
وفي طليعة هذه الأمور ثلاث قضايا أساسية وهي : (الأسرة والبطالة والجريمة).
فالبطالة على سبيل المثال تؤدي إلى الوقوع في الجريمة وارتكابها ؛ إما للحصول على المال اللازم للحياة ، أو للانتقام من المجتمع الذي ينظر إليه الجاني على أنه من أسباب فقره وتعاسته ، أو لغير ذلك من الأسباب.
ثم تأتي الجريمة بدورها لتفكك الأسرة ، وتهدم العائلات ، وتقوض الحياة الاجتماعية في كثير من البيئات . فهذه العناصر الثلاثة كالحلقة المفرغة التي تترابط أجزائها ولا تنفصل عن بعضها البعض ، وليس لها بداية ولا نهاية.
ومن المهم هنا أيضا الإشارة إلى عنصر مؤثر وفعال في العولمة الاجتماعية ، وله تأثير مباشر على تلك القضايا الثلاث (الأسرة والبطالة والجريمة) ؛ ألا وهو قضية الهجرة من مجتمع لآخر ، ومن بيئة لأخرى.
فالهجرة تعتبر عنصرا مؤثرا ومهما وخطيرا في هذه القضايا الثلاث ، فهي تؤثر على تركيب الأسرة من حيث تفرق أعضائها ، وهي أيضا من الأسباب التي تولد البطالة في المجتمعات سواء لأفراد المجتمع الأصليين أو للأفراد المهاجرين ، وهي كذلك تؤثر في موضوع الجريمة ، حيث أن تغير المجتمع للمهاجر يخفف عنه الكثير من القيود التي كانت تمنعه من الإقدام على الجريمة ، وكذلك فإن الضغوط الكثيرة التي يواجهها في المجتمع تساعد على نمو السلوك الإجرامي.
ويعتبر القرن المنصرم ـ في الجزء الأخير منه ـ من أكثر العصور تطورا لظاهرة الهجرة من المجتمعات ، حيث تشير الإحصائيات إلى أنه " في أواخر القرن العشرين شهد العالم شكلا مختلفا وواسعا من الهجرة ، وفي العام 1990م وصل عدد المهاجرين القانونيين دوليا إلى حوالي 100 مليون واللاجئين إلى حوالي 19 مليونا والمهاجرين غير القانونيين ربما وصل إلى حوالي 10 مليون على الأقل. هذه الموجة الجديدة من الهجرة كانت نتيجة لانتهاء الاستعمار وبناء الدول الجديدة وسياسات الدول التي أجبرت الناس على التحرك".

موقف الإسلام من العولمة الاجتماعية :
العولمة الاجتماعية لا تقتصر على المواضيع التي تم البحث فيها آنفا ، بل تمتد لتشمل جملة كبيرة من القضايا كالهجرة والفقر والجهل والمرض وغيرها ، إضافة إلى الأسرة والبطالة الجريمة.
وعند التأمل فإننا نجد أن العولمة في شقها الاجتماعي تشتمل على جملة من المواضيع الخطيرة التي تتنافى مع شرع الله تعالى ، وتتصادم مع فطرته التي فطر الناس عليها .
ومن أخطر هذه القضايا ما يلي :
أولا : تسعى العولمة الاجتماعية ـ من خلال أذرعة العولمة ـ إلى سن القوانين التي تبيح المحرمات التي اتفقت الشرائع السماوية على تحريمها كالزنا واللواط والسحاق والشذوذ بجميع أشكاله وصوره ، كما تسعى إلى حماية هؤلاء الشواذ ، وأن تجعل لهم الاعتبار في أي مجتمع يوجدون فيه بمقتضى القانون والنظام ، ومعلوم أن الإسلام له موقفه من هذه القضايا ، كما الشرائع السماوية جملة ، وهنا أحد أظهر وأبرز مكامن الخطر في العولمة الاجتماعية.
ولقد كانت الدعوة إلى مثل هذا الشذوذ والإباحية معروفة ومنتشرة لدى القرامطة ؛ فقد كان " من المبادئ الهامة التي انطلق منها دعاة القرامطة ، إفشاء شيوعية الأموال والفروع بين أتباعهم ، يستميلون بذلك إلى مذهبهم دعاة الشهوة واللذة البهيمية من عوام الناس ، ويؤثرون بها أيضا على المراهقين من الشباب والشابات ... ومن هذا يتبين لنا أن هدفهم النهائي كان هو الإباحية المطلقة ، وهدم كل القيم والأخلاق الفاضلة ، وبالتالي التخلي عن كل الروابط الأسرية.
ثانيا : تؤدي العولمة الاجتماعية ـ فيما تؤدي إليه ـ إلى إزالة الفروق بين الذكر والأنثى ، وتسعى ليس لمجرد المطالبة بالمساواة الكاملة بينهما ؛ بل لتنفيذ ذلك على أرض الواقع ، وإيجاد النظم والقوانين التي تخدم هذا الهدف الخطير ، وإلغاء كل ما يترتب على ذلك مما شرعه الله تعالى .
وهذه القضية قد حسمها الإسلام قطعيا ، بالنصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية ، وكذلك من خلال التطبيقات العملية .
قال الله تعالى ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين )[النساء:11].
وقال سبحانه ( وللرجال عليهن درجة) [البقرة:128].
قال ابن عباس : بما ساق إليها من المهر ، وأنفق عليها من المال.
وقال مجاهد : بالجهد والميراث .
ثالثا : لقد أمر الله تعالى المرأة بالقرار في بيتها ، وعدم الخروج منه إلا للحاجة والضرورة ، فالأصل هو القرار ، والخروج من البيت طارئ يقدر بقدره ، وأن عمل المرأة الأول والأهم هو تربية أولادها والقيام على شؤون زوجها.
وتجئ العولمة في جانبها الاجتماعي لنقض ذلك كله ، حيث تعمل على دفع المرأة المسلمة إلى التمرد على شريعة الله ، وتحثها على الخروج وترك القرار في بيتها ، والتخلي عن وظيفتها الأولى التي كلفها الله بها ، وذلك تحت أنواع مختلفة من الحجج ، كالاشتراك في بناء حياة الأسرة ، أو المساهمة في بناء المجتمع وعدم تعطيل نصفه ، وغير ذلك من الحجج الشيطانية. قال الله عز وجل (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)[الأحزاب:33].
رابعا : أن العولمة الاجتماعية تؤدي في نهاية المطاف إلى التضييق على الناس في أرزاقهم ومعايشهم ، والتقليل من فرص العمل ، وذلك من خلال ما تسببه العولمة من البطالة ، ومن خلال ما تؤدي إليه من نقص في أجور ، وزيادة في ساعات العمل .
ومعلوم أن الله تعالى قد تكفل بأرزاق الناس ، وأنه ما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها ، ولكن العولمة تجعل الناس في لهاث شديد للبحث عن لقمة العيش ، وفي عناء كبير لاكتساب الرزق.
خامسا : تؤدي العولمة ـ كما تقدم ـ إلى إشاعة الجريمة ، وانتشارها في مختلف المجتمعات ، وإلى ذهاب الأمن والطمأنينة من حياة الناس. وهذه من الأمور التي أفسدت على الكثير من الناس حياتهم ، ومعلوم أن سريان الجريمة في مكان ما سبب في خراب حياتهم ، وعدم اطمئنانهم . والله عز وجل قد امتن على قريش بأنه سبحانه ( الذي أطعمهم من جوع ، وأمنهم من خوف ) [قريش:4].

3- العولمة الاقتصادية :
لا شك بأن البعد الاقتصادي هو الغالب في الحديث عن العولمة ، وهو الصبغة الأولى في الموضوع ، بل إن بعض الباحثين لا يكاد يلمس من العولمة إلا هذا الجانب .
ويرجع السبب في ذلك إلى أن العولمة هي إحدى منتجات الحضارة الرأسمالية ، ولأن آثارها الاقتصادية ضخمة جدا ، وواضحة للعيان ، ولهذا كانت الصبغة الاقتصادية هي الأبرز والأظهر.
وتؤدي العولمة الاقتصادية بشكل عام إلى تركيز النشاط الاقتصادي ـ على الصعيد العالمي ـ في أيدي مجموعات قليلة العدد ، وبالتالي تهميش الباقي أو إقصاؤه بالمرة.
ومن أبرز ما يتسم به الاقتصاد العالمي اليوم ، والذي يخضع ـ ولو في بداياته ـ لنظام العولمة :
1.النمو السريع للتجارة العالمية : خاصة في قطاع الخدمات ، مما أدى إلى زيادة ملحوظة في حركة الرأسمال الدولي ، وإلى زيادة أهميته أيضا.
2.تزايد سيطرة (الشركات متعددة الجنسيات) على حركة التجارة والاستثمار والإنتاج على الصعيد العالمي ، حيث تدل الإحصائيات على أن (350) شركة عملاقة استأثرت بنحو (40%) من التجارة العالمية في منتصف التسعينات ، مما أدى إلى تنامي رؤوس الأموال ، واشتراك كثير من الدول في عملية (التصنيع الكبير) أو ما يسمى بـ (التكامل العميق).
3.تعاظم دور المؤسسات المتعددة الأطراف في تشكيل العلاقات الاقتصادية الدولية ، بل وفي صياغة السياسات الاقتصادية الداخلية الخارجية للدول ، ويكفي دليلا ما للبنك الدولي ولصندوق النقد الدولي من تأثيرات كبيرة على سياسات الدول النامية.
ويمكن القول بأن " العولمة في أول ظهور متكامل لها ـ وهو الظهور الاقتصادي ـ كان بعد المؤتمر الذي عقد في مدينة بريتون وودز الأمريكية عام 1944م.
إذ تبلورت الفكرة الاقتصادية للعولمة في شكلها الحالي بعد المؤتمر الاقتصاد المهم الذي عقد في مدينة بريتون وودز الأمريكية عام 1944م حيث تمخض هذا المؤتمر عن عدد من المؤسسات الدولية العالمية التي تشكل في مجملها النظام الاقتصادي الدولي الحالي ، وهي :
1.صندوق النقد الدولي الذي يقوم بدور الحارس على النظام النقدي الدولي.
2.البنك الدولي الذي يعمل على تخطيط التدفقات المالية طويلة المدى.
3.منظمة التجارة العالمية ، أو الاتفاقات العامة للتعريفات والتجارة ، والتي تعرف اختصارا باسم (الجات).

موقف الإسلام من العولمة الاقتصادية:
عند الحديث عن موقف الإسلام من العولمة الاقتصادية تبرز هنا جملة من المسائل ذات الصلة والارتباط بموضوعنا هذا ، ومن أبرز الأمور التي يمكن أن تطرح حول هذا الموضوع القضايا التالية:
أولا : إن الإسلام يحث على الاكتساب والسعي في طلب الرزق ، ويحذر من الكسل والخمول ، قال الله تعالى ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)[تبارك:15] ، وقال سبحانه (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)[الجمعة:10].
وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل ، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها ، فيكف الله بها وجهه ، خير له من أن يسأل الناس ، أعطوه أو منعوه".
ثانيا: التعامل مع الكفار في التجارة كالبيع والشراء ونحوهما ؛ هو في الأصل أمر مباح لا بأس به ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع اليهود في المدينة ، ومات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي في صاع من طعام كان قد اقترضه ، وكان الكثير من الصحابة يفعلون ذلك. لكن شريطة أن يكون هذا التعامل وفق ضوابط الشريعة الإسلامية وليس الضوابط التي يضعونها هم ، وإذا كان لهم ضوابط أو شروط فيُنظر في مدى موافقتها وملاءمتها لشرع الله ، فإن كانت كذلك ؛ وإلا فلا .
ثالثا : إذا كان التعامل مع الكفار تجاريا مما يُضعف المسلمين ، يقوي الكافرين ، ويجعل الغلبة والقوة والتمكن لهم ، أو يؤدي إلى ذهاب خيرات المسلمين إليهم مع حاجة المسلمين إليها ؛ فهذا كله مما لا يجوز ، سيما إذا كان مما يعلم استعانة الكفار به على حرب المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سئل عن معاملة التتار : "فأما إن باعهم ، وباع غيرهم ، ما يعينهم به على المحرمات ، كالخيل والسلاح ، لمن يقاتل به قتالا محرما ، فهذا لا يجوز " قال الله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان )[المائدة:3].
وهنا تبرز مسألة المقاطعة التجارية وأثر ذلك على علاقة المسلمين بغيرهم من الكفار ، حيث قد ثبت أثر تلك المقاطعة ، ففي القديم كان حصار الشعب في مكة الذي فرضته قريش على النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته ، حتى أكلوا ورق الشجر ، وفي العصر الراهن تظهر هذه المقاطعات من أكثر الأسلحة تأثيرا على الدول والشعوب ، وهو ما يعرف بالحرب الاقتصادية.
رابعا : في حالة وجود تعاقدات تجارية ومالية بين المسلمين والكافرين ؛ فإنه لا يجوز عند حصول أي خلاف أن يكون التحاكم إلى غير حكم الله عز وجل ، كالتحاكم إلى بعض المحاكم المدنية أو الدولية التي تحكم بغير شرع الله ، فهذه كلها من الطواغيت ، قال تعالى ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ..) [النساء:65].
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ في تفصيل كفر الاعتقاد: الخامس : وهو أعظمها معاندة ومشاقة لله ولرسوله إعدادا وحكما وإلزاما ، فكما أن المحاكم الشرعية مرجعها إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فهذه المحاكم مراجعها القانون الملفق من شرائع وقوانين شتى ، فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة مفتوحة الأبواب والناس إليها أسرى إثر أسراب يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم الكتاب والسنة ، فأي كفر فوق هذا الكفر وأي مناقضة للشهادة بأن محمدا رسول الله بعد هذه المناقضة.
خامسا : عند إبرام العقود بين المسلمين والكفار للقيام ببعض المشاريع في أرض المسلمين ، فإنه لا يجوز السماح لهم باستصحاب ما يحرمه الإسلام ، من الخمور أو غيرها من المحرمات ، فضلا عن أن يسمح لهم بإقامة شعائر دينهم علانية ، كإظهار الكنائس ونحوها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " أما أهل الذمة فإنهم وإن أقروا على ما يستحقون به في دينهم ، فليس لهم أن يبيعوا المسلم خمرا ، ولا يدونها إليه ، ولا يعاونوه عليها بوجه من الوجوه" .
إلى قوله رحمه الله : " وهذا إذا ظهر ذلك بين المسلمين ، وأما ما يختفون به في بيوتهم من غير ضرر بالمسلمين بوجه من الوجوه فلا يتعرض لهم".
سادسا : تقنين المحرم للسماح به ، وتنظيم القوانين التي تحميه وتدافع عنه ؛ أمر في غاية الخطورة ، حتى عده بعض العلماء من الكفر الأكبر ، كالتوقيع على إباحة الأنظمة الربوية ، أو غيرها من المعاملات.
وهنا يرد كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سئل عن التتار الذين يدعون الإسلام ظاهرا ولكنهم يتحاكمون إلى (الياسق) ، حيث يقول : " كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين ..".
وذكر رحمه الله أن مما يوجب تكفير ملك التتار وقتاله أنه يرد الناس عما كانوا عليه في سلك الأنبياء والمرسلين إلى أن يدخلوا فيما ابتدعه من سنته الجاهلية وشريعته الكفرية فهم يدعون دين الإسلام ويعظمون دين أولئك الكفار على دين المسلمين ويطيعونهم ويوالونهم أعظم بكثير من طاعة الله ورسوله وموالاة المؤمنين ، والحكم فيما شجر بين أكابرهم بحكم الجاهلية لا بحكم الله ورسوله" ـ يعني أنهم يتحاكمون إلى الياسق ـ ثم قال : " ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين إن من سوغ إتباع غير دين الإسلام أو إتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض".

4- العولمة السياسية :
من المجالات البارزة والواقعية لظاهرة العولمة ، وتجلياتها الخطرة ، وذات الأثر البعيد : العولمة السياسية. حيث يشغل هذا المجال حيزا كبيرا من الساحات الإخبارية ، المقرؤة والمرئية ، ومقدارا متزايدا من اهتمامات الباحثين والنقاد ، على اختلاف مشاربهم وتعدد وتنوع وجهاتهم .
وتحت هذه المسمى يتم طرح العديد من القضايا الخطيرة ذات الصلة ، كالدعوة إلى الديمقراطية ، والمناداة بحماية حقوق الإنسان ، وغيرها من القضايا الحساسة ، ويتم التعرض لها من خلال وجهات نظر متباينة .
إلا إنه " وبشكل عام فإن أبرز القضايا التي يتم الخوض فيها من خلال هذا المحور قضية الديمقراطية باعتبارها النظام الذي تطالب به أذرعة العولمة للحكم في مختلف الدول " .
هذا بالإضافة إلى قضية حقوق الإنسان ـ تلك القضية بالغة الحساسية ـ بوصفها إفرازا طبيعيا للمطالبة بالديمقراطية ، وأخيرا طبيعة الدولة ، سيما بعد التطورات الكثيرة والسريعة التي نشأت في الساحة الدولية والعالمية.
ويمكن القول إن " الأبعاد السياسية للعولمة تظهر من خلال النقاط التالية:
1.انهيار النظام الدولي القديم وبروز ملامح نظام عالمي جديد : فالنظام الدولي القديم كان يستند إلى القطبية الثنائية ( الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ) ، ولكن نتيجة للتحولات التي شهدها الاتحاد السوفيتي والتي انتهت بتفككه ، أدى ذلك لبروز نظام عالمي جديد ، الولايات المتحدة الأمريكية فيه هي القوة العظمى ، أو القطب الواحد في هذه المرحلة من النظام العالمي. وقد أدى ذلك إلى تطورات عدة من منظور عملية العولمة:
تمدد الدور الأمريكية على الصعيد العالمي (الأمركة).
التوجه العالمي نحو التحول الديمقراطي والاتجاه نحو الاقتصاد الحر.
أن بعض العناصر المرتبطة بعملية العولمة كثورة المعلومات والاتصالات قد أسهمت في موجة التحول الديمقراطي على الصعيد العالمي.
2.تزايد المشكلات العالمية العابرة للحدود وتصاعد حدتها : مثل مشكلة المخدرات وجرائم غسيل الأموال والهجرة غير المشروعة والتطرف والعنف والإرهاب الدولي وتلوث البيئة والأمراض الفتاكة وغيرها.
3.تفاقم مشكلات العالم الثالث وبخاصة في القارة الأفريقية : كالحروب الداخلية وما نتج عنها من اللاجئين والأزمات الاقتصادية ، وتزايد حدة الفوارق الاجتماعية والطبقية ، وتدني أوضاع التنمية البشرية.
4.تنامي دور المجتمع المدني العالمي ( المنظمات الدولية غير الحكومية) : وهي عبارة عن هيئات واتحادات دولية مستقلة ، وفروعها في مختلف أنحاء العالم ، وتركز اهتماماتها على قضايا أساسية كحقوق الإنسان ، وتحقيق السلام ، ومراقبة الانتخابات ، ومساعدة اللاجئين ، وضحايا الحروب والكوارث.
5.اتساع مجالات عمل الأمم المتحدة : حيث لم تعد تركز على حفظ السلام والأمن الدوليين ، بل تجاوزت ذلك إلى قضايا التنمية والتحول الديمقراطي البيئة والسكان وغيرها.
وهنا تبرز قضية أساسية لا ينبغي أن تكون بعيدة عن مجال الحديث في هذه القضية ؛ ألا وهي مسألة الترابط بين مختلف جوانب العولمة ، وتأثير بعضها في بعض ، وعلى الأخص الترابط الكبير بين العولمة السياسية والاقتصادية ، حتى كأنهما وجهين لعملة واحدة.
حيث أظهر تحليل الجذور التاريخية لظاهرة العولمة وحركة تطورها الخاصة أهمية الترابط بين المجالات الاقتصادية وبين المجالات السياسية في تكوين العولمة .
إن سقوط الاتحاد السوفيتي ترك في الساحة الدولية فراغا كبيرا ، مما أدى إلى تحرر الكثير من تلك الجمهوريات التابعة له ، وكذلك تحرر الكثير من دول العالم الثالث التي كانت تدور في فلكه . فهذه الدول بعد خروجها من تلك التبعية حصل منها الكثير من التجاوزات الخطيرة في مجال حقوق الإنسان.
فالعولمة في الأساس نتاج انهيار نظام عالمي كان يقوم على (القطبية الثنائية) بانهيار أحد أقطاب النظام ـ وهو الاتحاد السوفيتي ـ وسيادة قطب واحد أخذ يسيطر على هذا العالم سياسيا وعسكريا ، الأمر الذي أحدث هوة عميقة وخللا كبيرا في المنظومة السياسية العالمية.
وفي ظل عدم التكافؤ في القوة بدأ الخلل يظهر ، ولمعالجة هذا الخلل وجدنا من يبشر بقيام نظام عالمي جديد قوامه ( سيادة حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية ودور أكبر للأمم المتحدة في حل المنازعات سلميا) وظهرت آثار هذا النظام في إنهاء التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا ونهاية حكم الأقلية البيضاء وبداية حكم الأغلبية السوداء ، وبدأ يذوب الجليد بين واشنطن وبكين بعد عداوة طويلة ، ونجحت واشنطن في (تطويع) الكرملين بتنصيب يلتسن رئيسا ، ودعمه وتأييده بلا حدود .
وأخذت معالم النظام العالمي الجديد تتضح أكثر وتأخذ أبعادا متناقضة ، فالشرعية الدولية تتدخل لتفرض قوانين وقرارات الأمم المتحدة في مكان وتتغاضى عن تنفيذ هذه القوانين في مكان آخر ، فتحكمت (المصالح الدولية) في تسيير دفة هذا النظام.
وهكذا وبعد أن استقر النظام الرأسمالي الأمريكي في قيادة الساحة الدولية ، وبدون منازع ، صار ينادي بتلك الشعارات التي يوظفها لخدمة أغراضه ، وتسهيل مهمته في بلدان متفرقة من العالم . حيث يسعى القطب الأحادي إلى تدويل قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان واقتصاد السوق لتصبح قيما عالمية . ويزداد الضغط على الدول النامية والعمل على مساواتها في تبني هذه القيم من أجل قبولها في النظام الدولي الجديد.
موقف الإسلام من العولمة السياسية :
تمثل العولمة السياسية حلقة هامة من حلقات العولمة المترابطة ، وبعد أن أمكن الإلماح إلى أبرز جوانبها ، وإعطاء تصور عنها ، فإنه لابد من أجل أن تكتمل الصورة من إلقاء الضوء على جانب آخر منها ، وهو جملة من المآخذ والملاحظات الخطيرة التي ربما تنطوي عليها العولمة في شقها السياسي ، ويمكن إيجاز ذلك فيما يلي :
أولا : من الأخطار العقدية التي تنطوي عليها العولمة السياسية التحاكم إلى القوانين الوضعية والحكم بغير ما أنزل الله ، وذلك من خلال المنظمات المختلفة التي تفصل في النزاعات الدولية السياسية . وهذا الأمر من الخطورة بمكان ، حيث يجب أن يكون شرع الله هو الفيصل والمرجع عند حدوث أي نزاعات من هذا القبيل.
قال الله تعالى ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )[النساء:66].
وقال عز وجل ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )[المائدة:45] ، وغير ذلك من النصوص الشرعية.
ثانيا: ضعف الولاء والبراء والركون إلى الكفار ومسالمتهم ، والوثوق بهم والارتياح والاطمئنان إليهم ، والله جل وعلا قد حذرنا من ذلك ، بل أمرنا بمجانبتهم في الأوصاف والأمكنة وغير ذلك .
قال الله تعالى ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) [هود:114].
وقال عز وجل ( وقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده )[الممتحنة:4].
وقال عز وجل ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم ، وما تخفي صدورهم أكبر ، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون )[آل عمران:118].
فهذه الآيات وغيرها مما في مثل معناها تبين كيدهم وما يتربصون به الإسلام وأتباعه ، ولذلك جاءت آيات كثيرة في تحذير المؤمنين ونهيهم عن الاستماع للكفار عامة ولأهل الكتاب خاصة ، أو طاعتهم ، أو اتخاذهم أولياء ، أو الركون إليهم.
ثالثا : تعطيل فريضة الجهاد في سبيل الله ، ومنع كل ما من شأنه القيام بها ، والتوقيع على الاتفاقيات التي تمنعها وتحرمها مطلقا ، فضلا على أن يوصف القائمون بهذه الفريضة العظيمة بأوصاف لا تليق إلا بقطاع الطرق أو اللصوص ونحوهم ، فالجهاد فريضة قائمة إلى قيام الساعة .
قال الإمام الحسين بن مسعود البغوي رحمه الله " أعلم أن الجهاد فرض في الجملة ، غير أنه ينقسم إلى فرض العين ، وإلى فرض الكفاية ـ إلى قوله رحمه الله ـ ومن هذا القبيل أن يكون الكفار قارين ، ولا يقصدون المسلمين ، ولا بلدا من بلادهم ، فعلى الإمام أن لا يخلي سنة من غزوة يغزوها بنفسه ، أو بسراياه حتى لا يكون الجهاد معطلا ..".
رابعا : سيطرة الكفار الأقوى ماديا ، وذلك بعد أن تخلى المسلمون عن فريضة الجهاد ، الأمر الذي مكن أعداءهم وجعلهم في مركز الصدارة والزعامة والسيادة ، فالعولمة السياسية تسير بالكفار إلى الزعامة والرياسة ، وعلى النقيض فهي تسير بالمسلمين إلى الذلة والمهانة.
خامسا : العولمة السياسية تؤدي في حقيقة أمرها إلى إذلال الأمة والخضوع لأعدائها ، وصيرورتها بين الأمم على سبيل التبعية والهوان ، وهذا ليس مكانها الذي اختاره الله لها ، وشرفها به . بل هي الأمة الوسط بين الأمم ، وهي الشهيدة عليهم ، فلا ينبغي أن تقبل بالذلة والخضوع بعد أن أعزها الله برسالتها التي كلفها بحملها وإيصالها إلى الناس.
سادسا : إن تبني الإسلام لحقوق الإنسان ، وتقريره لها ؛ لا يعني بحال من الأحوال إن إقامة حدود الله على الجناة كالسارق والقاتل والزاني ونحوهم انتهاك لحقوق الإنسان ، بل ذلك من حفظها.
كما قال الله جل وعلا في شأن القصاص ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) [البقرة:179].
وإنه لا يسوغ أبدا أن توصف الحدود الشرعية بالأوصاف المتداولة بين تلك المنظمات ( كالهمجية والقسوة ونحوها ).
5- العولمة الإعلامية :
يعتبر الإعلام عنصرا أساسيا في حياة الناس اليوم ، كما أنه يعتبر عنصرا حيويا وسمة من سمات المجتمع المتقدم ؛ إذ بقدر اهتمامات المجتمعات بإعلامها ينظر إليها وإلى مقدار رقيها وتقدمها ، وبقدر ما تمارس دورا إعلاميا بقدر ما تثبت نفسها بين الدول والمجتمعات.
وبشكل عام ، فإنه يمكن القول بأن المجتمعات العربية تعتبر متأخرة ـ نوعا ما ـ في المجال الإعلامي ، على تفاوت بينها في مقدار ذلك ، وليس الأمر فيما يتعلق بوسائل الإعلام الحديثة فحسب ، بل إن هذا التأخر له جذوره التاريخية ومنذ بدايات الإعلام بمفهومه الشامل والعام .
وبنظرة سريعة على أحد أشهر ميادين الإعلام وأقدمها ، وهو ميدان الصحافة ، فإننا نجد واقعية ومصداقية لهذا الأمر . حيث إن حصة العرب من الصحف لا تتجاوز نسبة 1.4% من صحف العالم ، مع أن عدد السكان العرب يشكلون 17% من عدد سكان الكرة الأرضية ، بحيث يحصل كل 1000 عربي على أقل من 39 صحيفة ، بينما يحصل كل 1000 شخص في الدول المتقدمة على 330 صحيفة.
أما حصة العرب من مواد الطباعة فتشكل 0.6% ، ومن الأفلام 1.8% ، ومن مقاعد السينما 4 مقاعد فقط لكل 1000 ، والمذياع 2.8% ، والتلفزة 2.7% ، بينما بلغ مجموع الصحف العربية الصادرة 130 صحيفة من أصل 9220 صحيفة في العالم .
وللحقيقة فإن أشد ما تعانيه وسائل الإعلام العربية اليوم هو الحصول على مصادر إعلامية خيرية موثقة ونزيهة غير منحازة . وعلى الرغم من صعوبة إيجاد مصادر خبرية مستقلة في هذا البلد العربي أو ذاك ، إلا أن استقلالية المصادر بالنسبة للثقافة العربية في صيغتها الإعلامية تظل مطلبا ضروريا للاندماج والمشاركة أكثر من أي وقت مضى ، ذلك لأن شمولية المعلومات لا تعني بالضرورة إلغاء التميز ، ولا شك أن العملية ستكون صعبة لعدم توازن القوى بيننا وبين الآخرين .
إن سيطرة الشركات الغربية ، وعلى الأخص الأمريكية منها على وسائل الإعلام ومصادر الأخبار أمر ظاهر وبيّن ، وبطبيعة الحال فإن هذه الشركات الضخمة لها معاييرها وإستراتيجيات عمل خاصة بها ، لا تحيد عنها ، وتبني سياساتها وفق ذلك.وبشكل مختصر يمكن إيجاز أهم سمات آلية عمل شركات الإعلام والاتصال والترفيه العملاقة فيما يلي :
السمة الأولى : هيمنة الشركات الأمريكية على هذا القطاع .
السمة الثانية : التكامل الرأسي بين هذه الشركات.
السمة الثالثة : العلاقة بين الشركات الإعلامية متعددة الجنسيات والوطن الأم.
السمة الرابعة : العمل عبر وكلاء محليين .
السمة الخامسة : تراجع دور الدولة في النظام الإعلامي الدولي.
موقف الإسلام من العولمة الإعلامية :
بعد استعراض كيفية تأثير عولمة الإعلام على بعض المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية ، فإنه لابد من التوقف مع بعض القضايا الأساسية في العولمة الإعلامية والتي هي بمثابة مزالق خطرة ، لها تأثيرها الحقيقي في جوانب مختلفة من العقيدة الإسلامية.
ويمكن القول بأن العولمة الإعلامية تؤدي إلى جملة من الأمور والقضايا الخطيرة ، والتي تتنافى مع مسلمات عقيدة كل مسلم ، ومن ذلك ما يلي:
1.يغلب على وسائل الإعلام الاهتمام بقضايا الكفار ودعمها ، والترويج لها ، وحشد الدعم والتأييد من الرأي العام ، وعلى النقيض إهمال قضايا المسلمين ، أو إظهارها بصورة على خلاف الحقيقة ، وعلى نحو قلب الحقائق والتلاعب بها ، والقاعدة في ذلك هي قاعدة اليهود المعروفة : إن الغاية تبرر الوسيلة.
2.تقوم الكثير من وسائل الإعلام بنشر ما من شأنه تعظيم صورة الكفار وتحسينها ، ونقل مراكز القوة في تلك الحضارات ، وإبراز محاسنها من الماديات والتقنيات الحديثة في مختلف الجوانب ، وفي نفس الوقت التغاضي عن مواطن الضعف والضياع والقصور الذي يعيشونه ، الأمر الذي يتنافى مع ما أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نجعلهم عليهم ، وأن نبين حقيقتهم التي هم عليها من الضياع الروحي ، والانحلال الأخلاقي ، والتدهور الاجتماعي ، والفساد العقائدي الذي يعيشونه.
3.نقل مختلف عادات الكفار وعباداتهم وطقوسهم وأعيادهم والاهتمام بها والترويج لها ، مما يضعف جانب الولاء والبراء ، ويذهب الحساسية التي بيننا وبينهم ، ومعلوم أن كثرة المساس تقلل الإحساس . ومما قد يكون ـ أيضا ـ قدوة سيئة لبعض ضعاف العقول والدين من المسلمين ، وقد حصل شيء من ذلك ، كما في الكثير من أعيادهم العامة كعيد رأس السنة الميلادية ، وعيد الحب ، وغيرها والله المستعان.
4.التلاعب بالقضايا السياسية والاقتصادية المختلفة ، وتشكيل آراء الجمهور من خلال الوسائل الإعلامية المتنوعة ، وذلك حسب الوجهة التي يسعى إليها المسيطرون على تلك الوسيلة الإعلانية. فالمصداقية هنا مهزوزة جدا لأن الهدف هو الإثارة وجلب المشاهدين والمستمعين ، تحت ما يسمى بالبركة الإعلامية ، وغير ذلك من العبارات وقد رأينا شيئا من ذلك فيما تقدم مما فعلته قناة الـ (CNN) الإخبارية.
المتاجرة بعقائد الناس ، والتلاعب بأديانهم ، وتحويل القيم والمبادئ والأخلاق إلى سلعة تجارية تباع وتشترى ، حيث يظهر هنا الفكر النفعي أو الأخلاق النفعية في أجلى صورة وأظهرها.وعلى ذلك فالمعايير الأخلاقية من القيم والمبادئ يمكن تغييرها أو تبديلها لمن يدفع أكثر في المساومة والمزاد ، في الوقت الذي تحاول أن تتزين فيه تلك الوسائل بثوب الصدق والعدل.

الفصل الرابع
معالجة المشكلات الآنية التي تفرزها العولمة من خلال المشروع الإسلامي

إن للأمة الإسلامية هوية بينة ، ثابتة ، حركية ، قاعدتها تعاليم الوحي ؛ القرآن الكريم والسنة المطهرة التي تمثل الدين الحق = الإسلام ؛ فهي :
بينة لوضوح تلك التعاليم ـ التي ترتكز عليها ـ في مبادئها العقدية إيمانا بالله ربا وإلها ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، وبالقرآن والسنة منهجا وشريعة ، وف أحكامها الشرعية مشاعر تعبدية ، وقيما خلقية ، وشرائع عملية . فهي واضحة في كليات هذه الأمور لكل مسلم صحيح الانتماء لإسلامه أيا كان مستواه الثقافي ، وهذا ما يسمى "المعلوم من الدين بالضرورة" الذي لا يسع مسلما جهله.
وثابتة لقيامها على تلك المبادئ والأحكام المقررة في الوحي ، وهي قيم مطلقة لا يعتريها التغير مهما تغير الزمان أو المكان ؛ لأن الله أنزلها لتكون شرعة الدين إلى قيام الساعة.
وحركية بمعنى أنها هوية متفاعلة مع الزمن عطاء واكتسابا ، لأن إسلامية المسلم بمعنى التزامه بتلك التعاليم يقضي عليه بأن يتحرك بهذه التعاليم في واقع الحياة مصححا مسار الحياة نحو الحق ، ومستثمرا في ضوئها ما ينتجه الجهد البشري من خير وصلاح ، سواء أنتجه المسلم نفسه أو أنتجه الآخرون .
فهوية المسلم ليست مجرد انتماء غامض في خفايا الضمير كبعض المذهبيات ، وليست ارتباطا اجتماعيا متحولا تتبدل الهوية بتحوله . ولهذا يمتاز المسلم ـ الواعي بإسلامه ـ بالتثبت أمام ما يعترضه من قضايا ، فلا يستعجل بالرفض لكونه لم يألفها ، ولا ينبهر بها فينساق معها دون رؤية ، إنه يشعر أنه يحمل معيارا لا غش فيه ولا شطط ، يستطيع به أن يفرز ما أمامه واثقا بصدق نتيجته ، هذا المعيار هو تلك التعاليم الإلهية التي لا ينفك عنها في كل أحواله ، ولا مجال للتلاعب عليها إلا إذا كان هذا المسلم جاهلا بدينه ، أو كان قد غشيت عقله غواش من الشبهات أو الشهوات التي حجبت إيمانه عن التحكم بشخصه.
الهوية بهذه الصورة وبهذا الوضوح هي التي يشعر بها كل مسلم وينشد إليها ويرتبط مع المسلمين الآخرين بها ، حتى وإن ضعف لدى كثير من المسلمين الالتزام العملي بتلك التعاليم بالصورة المثلى المطلوبة شرعا.
ولكن ينبغي أن نعي أن جهودا حثيثة بذلت خلال عقود كثيرة من السنين من قبل أعداء الإسلام ، ومن قبل المتغربين من أبناء المسلمين من أجل زحزحة المسلم عن هذا المستمسك المتين بصرفه عن تلك التعاليم إلى موجهات أخرى تنسيه دينه ، وبتهوين قيمة تلك التعاليم في نفسه حتى لا يشعر بالحرج من اختراقها ، وببعثرة مفهومه للهوية بربطها باللغة مجردة عن الدين أو بوطنية ضيقة أو بتراث قومي جاهلي أو نحو ذلك .
ولهذا ينبغي الاهتمام بالتذكير بالهوية ، وربط المسلمين بها في قاعدتها الصحيحة : تعاليم الوحي ربطا إيمانيا جامعا بين القناعة العقلية ، واليقين القلبي المطمئن ، ومقاومة كل الصيغ الفاسدة التي روجها المستغربون بين المسلمين ، وبذلك تتوحد وجهة المسلمين عامة ، منطلقة من تلك التعاليم محاكمة إليها كل وافد عليها.
ولا شك في أن العولمة تتمثل في عنصرين : الوسائل والأهداف :
أ ـ الوسائل :
تتمثل بالمواثيق الدولية ، والمعاهدات ، والمنظمات العالمية والإقليمية ، ووسائل الإعلام والاتصال ، والتبادلات التجارية ، والثقافية ، والسياحية ونحوها.
ب ـ الأهداف :
وتنحصر في ثلاثة أهداف :
1.تحقيق مصالح الرأي الغربي ، السياسية والحضارية والاقتصادية بإبقاء سيادة حضارته ، وقمع أي بروز لقوى منافسة ، قد تنازعها مستقبلا هيمنتها ، وأساق منتجاتها ، أو تغير في موقف تبعية العالم الثالث لها.
2.مواصلة حركة التغريب وتعميم الثقافة الغربية والنمط الأوروبي ـ وبالذات الأمريكي ـ في المجتمعات الأخرى لتنحسر ثقافاتها نحو الهامش ، أو تبقى متصارعة مع ثقافة العولمة.
هذان هما الهدفان الجليان أو الأصيلان لحركة العولمة ذات المنطلق الأمريكي ، وينطويان ـ بلا شك ـ على أهداف جزئية كثيرة ، لكن هدفا آخر سواهما بدأ يفرض نفسه على العولمة ، وسيتبلور أكثر فأكثر مستقبلا ، وهو :
•محاولة تكييف العولمة من قبل المشاركين الآخرين فيها أمام القوى الكبرى من أجل :
-الحفاظ على المصالح الاقتصادية لدولهم ، واتقاء شرور العولمة قدر الممكن .
-إبراز ثقافات هذه الأمم أمام العالم ، وشحن الشعور القومي لدى كل أمة للاعتزاز بثقافتها في هذا المسرح العالمي.
على هذين التحديدين ينبغي أن تقوم إستراتيجية الموقف الإسلامي تجاه العولمة ، متمثلة بالقاعدة الشرعية الحكيمة في تعامل المسلم فردا أو مجتمعا أو أمة مع الواقع ، وهي قاعدة " تكميل المصالح ، أو تحصيلها ما أمكن ، ودرء المفاسد أو تقليلها ما أمكن " .
وفي هذا الضوء تكون مشاركتنا في العولمة في مجال الأهداف كما يلي:
أولا : في الجانب الثقافي :
ينبغي كخطوة أولى أن نستكمل وعينا بثقافتنا الإسلامية من خلال تبني صادق لها في مناهجها التربوية، ووسائلنا الإعلامية ، وتشريعاتنا الاجتماعية ، حتى يكون المجتمع ـ كل مجتمع مسلم ـ على مستوى الوعي والالتزام بهذه الثقافة علما وعملا بما يؤهل للخطوة الثانية ، وهي الالتقاء والتوحد بين المجتمعات الإسلامية على هذه الثقافة الجامعة من خلال مؤتمرات ولجان وقرارات موحدة في هذه المجالات بين المجتمعات الإسلامية ، تشارك فيها الوزارات المعنية ، والمنظمات والجمعيات المهتمة بهذه القضايا ، سواء كانت حكومية أو شعبية ، ليستكمل كل مجتمع نقصه ، وتتعالى عناصر التماثل والتقارب الثقافي والتصورات العقدية والقيم السامية والقوانين الاجتماعية لهذه المجتمعات ، لتصبح هذه الثقافة الملتقى عليها مصدر ولاء جامع تعتز به الأمة ، وتشعر بتميزها به عن الثقافات الأخرى بما يدفعها للخطوة الثالثة ، وهي نشر هذه الثقافة عالميا ، سواء كان ذلك ـ وهو الأفضل ـ من خلال مبادرات إسلامية لعقد مؤتمرات عالمية عن قضايا الثقافة المتعلقة بالأطفال والشباب ، والأسرة ، وإنسانية الإنسان ، وحقوقه ونحوها من القضايا التي تشغل ذهن العالم اليوم ، ولا شك أن هذه المبادرات تمنح المبادرين فرصا أكبر لجعل رؤيتهم ورقة العمل الأساس أو على الأقل ذات موقع أساس في اللقاء أو المؤتمر.
أو كان ذلك عن طريق المشاركة المتضامنة بين هذه الجهود الإسلامية في المؤتمرات التي يتبناها الآخرون ، من أجل مقاومة نشر الثقافات الضارة عبر هذه المؤتمرات لتتحول من كونها أوروبية أو أمريكية إلى كونها عالمية بعدم وجود معارضين يكشفون فسادها ، ومن ثم يفشلون تعميمها.
وكما تستثمر القنوات الدبلوماسية مؤتمرات واتفاقات ، فإن المجالات الأخرى كوسائل الاتصال والإعلام ؛ القنوات الفضائية ، وشبكات الاتصال "الإنترنت" وكذلك التواصل الدعوي المباشر كالحوارات الفكرية ، والمشاركات في الجهود الإنسانية ، والتعريف الحي على شكل معارض ، أو أسابيع تنقل قيم الإسلام وتبينها للآخرين.
وينبغي أن نعلم أنه وإن كانت الصورة الخارجية للغرب هي رفض الثقافات الأخرى وتنقصها ، إلا أن الغرب وفي الأمم الأخرى أيضا كثيرين من مختلف الطبقات يمتلكون حرية التفكير والتطلع لمعرفة الآخرين وما عندهم من ثقافة ، والتأمل فيها ، وغالبا ما ينتهون إلى القناعة بها والتقرب إليها أو على الأقل احترامها.
وأمر آخر مهم يتمثل في أن هناك توجها نفسيا وعمليا ـ في الغرب ـ نحو الإسلام لا إلى طلب الانضمام إليه كديانة ينتسب إليها ، ولكنه توجه نحو مطالب الفطرة الإنسانية في الإيمان بالله ، وفي الصلة الحسنة به ، والحنين للقيم الإنسانية التي يشعر الإنسان بوجوده الحقيقي بها.
هذا التوجه نفسي يجده الناس جوعا روحيا وتصحرا إنسانيا لم تسكته المتع المادية ، ولا حرية التلذذ الجنسي ، ولا تغفلهم عنه حركة الركض التكسبي ، ولا إدهاشات الكشوف المتلاحقة ، وقد خرجت ـ ولا تزال تخرج ـ كتابات كثيرة عن هذا التوجه في مقالات وكتب .
وهو توجه علمي حيث خرجت نظريات في النفس والاجتماع تدحض النظريات الإلحادية السابقة ، وتقول ببدائل لها ، كما في " علم النفس الإنساني" الذي يخلص إلى أن الإنسان ينطوي على عنصرين : روحي ومادي ، وأن العنصر الروحي هو الأصل في الوجود الإنساني ، مما يعني أن إهداره إهدار لوجود الإنسان .
ثانيا : في الجانب الاقتصادي :
يتمثل السعي لرعاية المصالح الاقتصادية في ظل صراع المصالح الذي تسعى القوى المتمكنة من توجيهه لتكون هي الرابحة ولو خسر الآخرون ـ يتمثل ـ وفق تلك القاعدة الشرعية فيما يلي :
- السعي لإشاعة العدل الإسلامي في التعامل الدولي من خلال صياغته في خطاب عالمي متفوق يعي الآخرون قدرته على حفظ مصالحهم ورعاية حقوقهم في حلبة المنافسة الدولية ، مما يجعلهم ينجذبون إليه ويعاضدون من يدعو إليه.
-مدافعة الجور للحفاظ على مصالح الأمة من خلال السبل المشروعة تضامنا بين الدول الإسلامية ، وتعاونا مع الدول الأخرى ، كالدول الآسيوية التي تتفق معها في بعض المصالح أمام الغرب.
-الوعي بأولوية الثقافة على المادة ، فإذا كان الخيار حتما بين مكسب مادي ومصلحة ثقافية ، فإن المصلحة الثقافية مقدمة بلا افتراء ، كأن تربط الإعانات مثلا للدول بتخليها عن بعض التزاماتها الإسلامية ، وكأن يكون تسهيل الدعارة والخمور سببا لجلب السياح ، وأمثال ذلك.
وعموما فدائرة المصالح الاقتصادية منطقها المغالبة ، والوعي بأبعاد اللعب الخفية للاعبين في هذا الميدان حتى لا يقع الإنسان ضحية خداع أحكم عليه.
أما بالنسبة لقضية التربية ، وعملية تكوين الشخصية الإسلامية ، والتأهيل الدعوي للأشخاص ، ونحوها من القضايا الكبرى التي تمثل الجهد المطلوب نحو الأفراد فهناك عدد من النقاط التي أرى أهميتها في شأن الفرد المسلم في ظل الأوضاع الحاضرة ، بتفجراتها الإعلامية والاتصالية الكثيرة المتلاحقة ، وما تحمله من كم ثقافي متنوع :
1- أهم ما ينبغي تكريسه لمقاومة التيه والاغتراب والسلبية والوهن في شخصية الشاب المسلم هو زرع الإيمان في نفسه بأن له رسالة في الوجود يحملها مع إخوانه المسلمين للعالم ، ويتحملها أمام الله وحيدا فردا بين يديه .
ومما يرسخ هذا الشعور كشف الصور البئيسة لغير المسلمين دينيا ونفسيا واجتماعيا ، وللغربي بالذات في محنته الحضارية على الرغم من تقدمه المادي حتى تقاوم الصور المقلوبة التي حاول زرعها المتغربون في نفوس الناس ، وهي أن الغربي هو نموذج الكمال والسمو ، ومن ثم السيادة ، وأن الآخرين دونه.
أيضا : مما يرسخ هذا الشعور ربط الشاب والشابة بالنماذج القيادية في تاريخ أمته الإسلامية في كل مجالات .
وينبغي أن يتوازن هذان الشعوران ؛ شعور بالتفوق لركونه على منهج موحى من الله ، وشعوره بالمسئولية أمام الله عن إصلاح الحياة بهذا المنهج ، فال يستعلى استعلاء اعتزال للحياة وأنفة من مداخلتها ليبقى مع نموذجه الكامل ، بعيدا عن الناس ومشكلاتهم ، ولا يندرج في الحياة مأخوذا بزينتها ، منخدعا بما يضفيه أهل الثقافات البشرية على ثقافاتهم من هالات التمجيد والعلمية والتطور.
هذه المهمة " مهمة زرع الإيمان في نفس الفتى والفتاة بهذه الرسالة ، وتفوقه بحملها " ينبغي أن تغرس في الطفل منذ صغره في البيت ، ثم في المدرسة والمؤسسات التربوية حيث يتحمل " المدرس" بالذات لمراحل ما قبل الجامعة أمانة عظمى ربما لا تضاهيها أمانة أخرى من التي يتحملها زملاؤه الذين تخرجوا وعملوا في قطاعات أخرى وهي " التربية " بمفهومها الإسلامي الرفيع " التزكية" التي قدمها الله سبحانه حينما جعلها إحدى وظائف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على التعليم على الرغم من مقامه العظيم ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعملهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) [الجمعة:2].
والتزكية هي التسامي بعناصر الإنسان الفطرية من خلال القيم الإسلامية ، حيث يرتقي في مدرج الأخلاق الفاضلة التي تجعله إيجابيا في كل مواقفه ، منتفعا بعلمه ، حكيما في تعامله ، مبتعدا عن التلوث بدنس الرذيلة.
إنه من غير اللائق ـ بل من خيانة الأمانة ـ أن يكون المدرس لا مباليا بالجانب التربوي ، يكتفي بحشو أذهان تلاميذه بمعرفة باردة العطاء ، تفقد قوة اليقين بها ، ومرارة التفاعل الوجداني معها ، والتوجيه الحكيم لتوظيفها في تكوين شخصية التلميذ إنسانيا وإسلاميا.
إن المدرس في المملكة العربية السعودية تحيط به عناصر ـ بحمد الله ـ مساعدة ، فالجو الاجتماعي جو إسلامي ، و"السياسة التعليمية" صريحة في أنها تستهدف بناء شخصية إسلامية إيجابية تؤدي دورها الإسلامي في خدمة المجتمع ، والدعوة للإسلام ، والمناهج ميادين خصبة لتحقيق هذا الهدف الجليل ، بل حتى وجود ظواهر معاكسة تصدف بالشاب وتلهيه أن تكون حافزا للمقاومة ، لاستنقاذ الشباب منها .
2 – وهناك أمر في غاية الأهمية متصل بسابقه ، وهو ربط المسلم بالقرآن الكريم والسنة المطهرة ربطا محكما يتحقق فيه :
-الشعور المكثف بعظمة هذه النصوص ، بحيث تكون لها الأولوية دائما على كل ما خالفها أيا كان مصدره ، عالما أو فيلسوفا أو عظيما ، أليست هي علم الله ، وذاك علم الإنسان ؟ أليست تحمل الحق المطلق ، وذلك يحتمل الحق والباطل ؟ هكذا ينبغي أن تكون بداهة المسلم في هذا العصر .
-الفقه في هذه النصوص ، فإنما أنزلت لهذا الغرض ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) [ص:29].
لا أقصد بهذا الفقه أن يتحول الناس إلى فقهاء بالمعنى الأكاديمي التخصصي ، لكن لابد أن يكون لدى الناس وعي بالشريعة يحقق لهم التدين الصحيح من جهة ، ويحوطهم من التحريف الثقافي من جهة ثانية ، لأن الإسلام بتميزه لا يمكن أن يجيز لنظام آخر يخالفه ، فإذا حاول المحرفون هذا التلبيس ، وكان الناس على فقه بدينهم ، بعقيدته وشريعته ، انكشف لهم زيف هذا التلبيس ، ومن جهة ثالثة فإن هذا الفقه يجعل المسلم عارفا بحدوده أمام جلال الوحي فلا يتكلم في أمر لا يعلم حكم الله فيه ، ولا يتطاول على مسألة شرعية مجترئا على الفتوى فيها حلا أو حرمة ، صحة أو فسادا.
3 – من أخطر أوضاع الشباب توترا حينما تتوافر له الطاقة الشبابية ، والإمكانات المادية المتاحة ، والعزيمة الصادقة لبذل الجهد فيما يخدم به رسالته التي ربي على وعي مسئوليته عنها ، ثم لا يجد الدليل الذي يوجه حركته ، ولا المجال الذي يستوعب طاقته ، حيث هنا يقع نهبا لنوازع نفسية متناقضة ، إما أن تتحطم عزيمته ، ويتبلد شعوره بالمسئولية ، ويسحقه تيار الحياة العارم ، وإما العكس أن يصبح دليل نفسه يفجر طاقته في غير مجالاتها السليمة ، فيضر نفسه ومجتمعه وإسلامه .
ولهذا فإنه ينبغي على الجهات المعنية بالشباب والدعوة والتعليم أن توجد القنوات التي تحتوي هؤلاء لتستكمل صياغة شخصياتهم وفق مناهج نافعة ، ولتستثمر طاقاتهم فيما ينفع الدين والأمة والوطن ، ينبغي أن تقوم المراكز الثقافية ـ صيفية وغيرها ـ والنوادي ، ومراكز الدعوة الإسلامية ، وجمعيات القرآن الكريم ، والمؤسسات الخيرية بجهود جادة لبيان الأساليب والمسارات التي يتحرك فيها الشاب المسلم قائما بمسئولياته في حدود إمكاناته ، شاعرا أنه قدم جهدا مثمرا لأمته ومجتمعه .
إني أعتقد أن كثيرا من الشباب الصالح الذي نال قسطا من العلم الشرعي لديه الاستعداد للعمل ـ في الصيف مثلا ـ في دورات شرعية أو حلقات قرآنية ، أو مراكز صيفية أو جولات دعوية ، وأمثال ذلك ، ولا يحتاج إلا إلى جهات تتبنى عمله وتحدد له مجالات العمل ومنهجه وحدوده .
أنا أعلم أن وزارات ومؤسسات كثيرة لها جهودها المشكورة في هذا المجال ، ولكن الكثافة المتزايدة للشباب تحتاج دائما زيادة التوسع في هذه الجهود .
4 – لا شك أن للإعلام سلطته الطاغية الآن ، وقد كان الناس يخشون من البث المباشر الذي سيصب عليهم من سحب الغرب، ولكن المشكلة أن هذا المخشي منه جاء من قرب من العرب أنفسهم من خلال الفضائيات التي أصبحت سبة وعارا في جبين العرب والمسلمين ، الفضائيات التي يقول الدكتور فهد العرابي عن برامجها ( إنها إلهاء للناس عن المفيد ، ونزوع إلى الطفولي والساذج ، وإنه لا يكاد يوجد فرق بين بعض الفضائيات ، وبعض الكباريهات المعتادة في الأزقة العربية الغارقة في الأضواء والشهوات ، إن ما تقدمه من أغاني وإعلانات ليس له إلا وصف واحد لائق ، وهو العبث والميوعة والرقاعة والاشتغال بالتافه والأدنى ، والولوغ في حمأة الإثارة الجنسية.
حتى البرامج التي تبدو كأنها البرامج الجادة ، وهي البرامج الحوارية التي تتنافس عليها الفضائيات تفتقر في أغلبها إلى الجدية والعمق في التناول ، وتتجه غالبا إلى استفزاز أحاسيس المشاهد الدينية والخلقية ، أما البرامج التي عمادها مقدمة أو مقدم البرنامج والجمهور المشارك فحدث عن الوقاحة والإسفاف ولا حرج).
وعموما فوضعها المزري الآن مجال الحديث في الصحف التي لا تكاد تخلو صحيفة من التعرض له بصورة أو أخرى . والمعتاد هنا أن يقال : لابد من إيجاد قنوات بديلة منافسة لها بتوجهها الإسلامي ، وأسلوبها الهادف المحترم.
وهذا صحيح بلا ريب ، لكن الأهم منه وهو ما قصدته في هذه النقطة ضرورة إيجاد كوادر إعلامية ناجحة واعية برسالتها ، وكوادر " حوارية " تجمع بين الفقه شرعي والوعي الواقعي والقدرة الفكرية والصناعة الأسلوبية المؤثرة بحيث إذا انتصب متحدثا عن الإسلام ، أو محاورا صاحب فكر آخر ، أو متلقيا تساؤلات الآخرين يكون على مستوى المنهج الذي يمثله ، متفوقا على الآخرين ، كما أن منهجه متفوقا على مناهجهم ، لأن الناس خاصة الجاهلين بالإسلام سواء كانوا من المنتسبين إليه أو من غير أهله سيحكمون على المنهج من خلال ممثله أمامهم ونتيجة الحكم إقبال أو إدبار ، انجذاب إليه أو نفور منه.
إن الأهم من الوسائل الإعلامية هو ما يكون فيها ، ومن سيتقدم من خلالها لأن الوسيلة إذا وجدت بدون المضمون المؤهل والكادر القادر المتمكن صار وجودها عبئا ومشكلة قد يضطرها إلى مجاراة الوسائل الأدنى. أما تلك الكوادر إذا توفرت فإنها ستبحث عن مجال لحركتها تؤدي من خلاله رسالتها.
5 – وفي مجال الإعلام ـ أيضا ـ ومنتجاته لابد من وجود برامج منافسة لبرامج الغزو الثقافي ؛ من الأفلام الكرتونية ، والتمثيلية ، سواء كانت تاريخية أو اجتماعية ، وتكون منافستها شاملة لأسلوبها ، وحبكها الفني ، وإخراجها ، وعناصر جاذبيتها الأخرى ، حتى تستطيع أن تستحوذ على الناس استحواذا يفرض تأثيرها على تصوراتهم ومشاعرهم.
ينبغي أن تكون هذه الأعمال هادفة ، ومتفوقة فنيا في الوقت ذاته وكونها هادفة يقصد به أن تقدم القيم الثقافية الإسلامية ، وأن تكشف خلل القيم المخالفة في إطارها الفني ، ولا شك أن العمل الناجح يفرض نفسه على الناس ويبقى تأثيره عليهم.
والعمل في هذا المجال على الرغم من تكاليفه المادية ينبغي أن يتواصل ويتراكم وتتجدد تنوعاته لأن طلب الناس يزداد ، وهم يتكاثرون ، فإذا كان الإنتاج النافع الناجح محدودا مل منه الناس وتطلعوا إلى غيره.
إن أخطر صور العولمة التي تواجهنا هي العولمة الثقافية القادمة من جهة الإعلام ومقاومتها إنما تتم بالتعامل معها وفق البدائل التي نصنعها ونقدمها للأجيال.
7 – إن الجهود المطلوبة في هذا العصر لدعم المشروع الإسلامي لتحقيق عالمية الإسلام ، والنهوض بالأمة الإسلامية والتي أشرنا إلى بعضها في مستوييها جهود ضخمة لا تستطيع الإمكانات الفردية ، ولا الرؤى الاجتهادية الشخصية المتفرقة أن تقوم بها بالصورة الناجحة في تحقيق الأهداف المأمولة .
لهذا فإنه ينبغي أن تنشأ لذلك مراكز للدراسات الإستراتيجية المستقبلية وللتخطيط للجهود العلمية ، وينبغي أن تقوم بالجهود مؤسسات مؤهلة سواء كان ذلك انطلاقا من دراساتها وخططها ـ وهذا هو الأصل ـ أو كان ذلك احتواء للجهود الفردية وتبنيا لها وإشرافا عليها .
ولا يعني هذا توقف الجهود الفردية ، سواء كانت أفكارا اقتراحية ، أو مشروعات عملية عنه فقد هذه المؤسسات ، فإطار الإسلام إذا انضبط به المسلم متلمسا الحاجة ، مستهدفا المصلحة ، يحفظ للعمل ثمرته حتى وإن كان فرديا ، لكن العمل المؤسسي لا ريب أتم وأفضل.
8 – ولعل خير ختام لهذه النقاط هو الدعوة إلى التفاؤل ، والثقة بتوفيق الله ونصره ، والاستبشار بالخير للإسلام وأمته ، وهذا هو منطق المسلم أمام الأحداث التي يوقن أن وراءها حكمة وعدلا من الذي دبرها سبحانه ، فضلا عن يقينه بأن أساس النهوض والنجاح الحضاري قائم بين يديه وهو منهاج الإسلام ، وأن اتجاه الأمة للأخذ بهذا المنهاج هو الخطوات الأولى في المدرج الحضاري.
ربما يتصور قارئ أن هذا التفاؤل يعني تغييب الواقع الذي يعيشه المسلمون بما فيه من مآس وفواجع وتخلف يضيق بها صدر المؤمن ، ويتشاءم من مستقبل تسوقه مخاوفه إلى تصوره أسود مظلما.
ولكن هذا تصور خاطئ ، فإن النظرة الآملة المتفائلة لا تتنكر للواقع أبدا بل لعلها تتخذ من بين الحوالك في بعض مجتمعات المسلمين أضواء هادية تقول بلسان حالها " رب ضارة نافعة " و " ربما صحت الأجسام بالعلل " فكم من محنة ألمت بأناس فكانت سببا في عودتهم إلى الدين بعد شرود ونسيان ، وكم من كارثة كانت سببا في تهاوي أصنام كانت متألهة على المسلمين ، وعموما فإن الفرق بين المتشائم والمتفائل ؛ أن الأول يرى الواقع بصوره البشعة فقط فتخيفه وتتضخم أمامه فينهار أمامها متحسرا بائسا ، أما الثاني فإنه يرى تلك الصور ولكنه يتطلع إلى ما وراءها ، كأنه في طريق وضعت فيه أشواك وحصى فيتقدم ليزيلها يمنة ويسرة ويتجاوزها .
ولهذا ينبغي على المسلم وبالذات المثقف الكاتب ، أو المتحدث أن يتجاوز منهج البكائية التي لا ترى الإسلام إلا متدحرجا إلى الأسفل بما لا مجال لرده ، لأن هذا يبث في نفوس المتلقين منه القنوط واليأس ، ومن ثم الوهن عن أي همة للعمل ، يتجاوزه إلى التبشير والتيسير وبث روح الأمل ، وربط العمل الذي يوجه إليه بثماره المستقبلية النافعة ، ينبغي أن يستحضر جوانب الخير في الأمة ، ويتفاءل بها ، ويحث على دعمها وتوسيعها.

تعليقات