مقدّمة
(طرح إشكاليّة تعريف اللّسانيات التعليميّة وانتمائها وخصوصيّاتها)
لإقامة صرح أيّ علم ـ وأثناء القيام بمهمّة التّعريف به ـ لا بدّ من تحديد دائرة اختصاصه، ومجال دراسته. ويُعتمد في ذلك موقفٌ ابستيمولوجيٌّ مؤصِّلٌ ومؤهِّلٌ وموجِّه من حيث:
1- تحديد الموضوع
2- وتحضير المادّة وتنظيمها
3- وتسليم أمر ذلك الاختصاص لمنهج دقيق وصارم
4- وكذلك السّعي إلى تحقيق الأهداف المنشودة
ويرافق هذه العمليّة قراءات نقديّة لمجموع إنجازات ذلك العلم، وهي المتلمّسة لهويّته والّتي قد تأتي في مرحلة بعديّة، قد تُلحق به، كما يُحتمَل أن يشملها (ولم يفتنا هذا الأمر فيما نُقبل عليه أسفلَه). ويحدث ذلك كلُّه سواء بدافع التّنظير وجمع الحقائق الموضوعيّة الّتي كلّما توفّرت تحقّق لذلك الاختصاص الطّابع العلميّ، أم طموحًا إلى تأسيس أرضيّة للتّطبيق المحكم.
واللّسانّيات التعليميّة باعتبارها علمًا وتطبيقًا (إجراء) في أمسّ الحاجة إلى مثل هذا التّرتيب، وهو ما استدعاه هذا الطابِع المزدوج ذاتُه. لهذا ينطلِق بحثُنا في قضايا التسمية والتعريف والتصنيف من مقولة مزدوِجة تقوم على:
• احترام واقِع التعدّديّة الذي منيَت بها اللّسانيات التعليميّة
• حماية مقتضيات الوحدة المكتسَبة في الرؤى
1. قضايا التّسمية والتعريف:
1.1 تحديد المقابلات المصطلحيّة:
يرجع التأثيل اللّغوي للمصطلح المتداول في الدّرس التعليميّ عند الغرب إلى الاشتقاق الإغريقيّ (Didactikos) الذي جاء من الأصل (Didaskein)، وهو يدلّ على مجرّد « تعلّم » « Enseignement » وتكوين . وإذا انصرفنا إلى معجمٍ يعير الاعتبار لتلخيص مفاهيم العلوم الاجتماعيّة بتداخلها تداخلاً يسيرًا أو كثيرًا، نجده يسند إلى مصطلح (Didactique) مفهومًا يجمع بين الفن والعلم يُعنى بالتعليم، كما أعدّه في معناه الضيّق منهجيّةً في التعليم .
اللسانيات التعليميّة مصطلح وُضِع في اللّغة العربيّة ليقابَل به المصطلح الغربي المشهور بالتركيب الآتي: (La didactique des langues) لهذا نجد البعض يعمد إلى ترجمة العبارة الفرنسيّة ترجمة حرفيّة فيستعمل معها مصطلح (تعليميّة اللّغات) ، ونُلفي آخرين يستعملون المركَّب الثلاثيّ (علم تعليم اللّغات)، وهناك مَن يكتفي بتسمية (تعليم اللّغة) ، ثمّة من يُفرد مستعملاً (تعليميات) أو (تعليمية) بكلِّ اختصار حتّى حين يتعلّق الأمر باللّغات؛ وهناك من يلجأ مرّة أخرى إلى التركيب الثلاثي (علم تعليم العربية) بتخصيص اللّغة كما سلكه ” مخبر علم تعليم العربية “ الذي تأسّس في 2003 بالمدرسة العليا للأساتذة في الآداب والعلوم الإنسانيّة ببوزريعة (الجزائر) والذي لسان حاله هو مجلّة العربيّة. ولمّا كانت اللّسانيات هي المجال الأهمّ الذي يتناول موضوع اللّغة والأدنى إلى المجال المعني بتعليمها وبنظريات هذا الأخير ومناهجه وفنياته وطرائقه أضحى من المناسب جدًّا أن تقرضه اللّسانيات حتّى التسمية. فنحصل بذلك على مصطلحٍ مُركّب تركيبًا نعتيًّا إذ قُيِّد بِنعت (تعليميّة) لسانيات تعليميّة.
ولا حاجةَ لنا إلى التدقيق باصطناع تسمية ” شامِلة بالقول مثلاً: (لسانيات تعليميّة اللّغات)، فهو مِن الناحية التركيبيّة سليمٌ، لكِن ما يُطاق مِن الإطناب في جمل ومركَّبات اللّغة العادية قد لا يسلَم القياس عليه في مقامات المصطلح من ، ثمّ حسبنا مفردة لسانيات التي ـ كما أفدنا أعلاه ـ متضمِّنة لدلالات ” العلم و” الموضوع .
كما مال البعضُ الآخر إلى إحياء القاعدة القياسيّة بتفضيلهم تسميّة (التعليميات)، وهو مصطلحٌ مَبنيٌّ قيّاسًا على اللّسانيّات والريّاضيّات والصّوتيّات. هذا وفق القاعِدة القيّاسيّة الّتي شدّ ما ألحّ عليها عبد الرّحمان الحاج صالح والّتي سنُدرِك أهميّتَها أكثر بِإيراد المُقتبَس الآتي رغم طوله:
« تفضل الكلمة المولّدة الّتي اعتمد في وضعها على سنن كلام العرب في اشتقاقاتهم وطرق توليدهم وتترك الطُّرق الّتي لم يعرفها العرب كزيادة اللّواحق غير المعروفة في لغة العرب واستعمال وزن أو بناء لم تستعمله إطلاقًا أو استعملته في الأصل لمعنى بعيد كلّ البعد عن المقصود. وذلك مثل ” صوتم“ و” أسلوبية “ و”معلوماتية “ وغيرها. ولهذا يتجنب الاقتباس للأبنية الأجنبية أو الّتي لها مؤدى بعيدا عمّا هو مقصود (لم يستعمل المصدر الصّناعي ـ المختوم ﺒ ”يّة“ ـ أصلاً للدّلالة على الصّناعة أو العلم بل على الصّفة وكون الشّيء على هيئة وكيفية مدلولاً عليها باسم جنس هو هذا المصدر أما العلوم فإن العلماء تعودوا أن يضيفوا لفظة ”علم “ إلى الموضوع الخاص واختصروا ذلك بأن استعملوا ياء النسب وصيغة الجمع المؤنث السّالم مثل علم الطبيعة = الطبيعيات / علم الرياضة = الرياضيات / أو على صيغة جمع التكسير: المناظر (= البصريات)» .
وعلى عاتقنا واجب الإشارة في هذا السياق إلى ما ورد مِن استعمالٍ لهذا المصطلَح عند كتابات صالح بلعيد ـ الباحِث اللّغويّ الجزائريّ ـ ومنشوراته المتعلِّقة بالعربيّة وشؤونها المتشعِّبة والمرتكِزة على قضايا النحو العربيّ وضرورة تيسيره تيسيرًا مجامِلاً للّغة ومستفِزًّا في نفس الأوان يقدح اكتضاضَه بالقواعِد، وبما ينضمّ إلى موضوعات فقه اللّغة وأسرار العربيّة، وما يُدرَج في التّعريب ومسائله الحسّاسة، وما هو مِن مشمولات تعليميّة العربيّة: إذن هاهنا مصطلح (التعليميات)، واهتمّ كثيرًا بقضيّة التحسيس حيث وجدت أعمالُه صدًى في الدوريات والمنتديات ودور النشر والمجالس اللّغويّة والمؤسّسات القائمة على التعريب ووزارتيْ التربية الوطنيّة والتعليم العالي والبحث العلميّ، سيّما بمقالاته التي يداوم على نشرها في مجلّة التعريب: المركز العربيّ للتعريب والترجمة والتأليف والنشر (دمشق)، وفي دوريّة اللّغة العربيّة: المجلِس الأعلى للّغة العربيّة (الجزائر)، وفي مجلّة اللّسانيات: مركز البحوث العلميّة والتقنيّة لترقيّة اللّغة العربيّة (الجزائر)، وفي المجلّة العربيّة للدّراسات اللّغويّة: معهد الخرطوم الدّوليّ للّغة العربيّة (السودان).
غير أنّ احتفاظنا بمصطلح (لسانيات تعليميّة) ـ علاوة على ما قدّمناه أسفله مِن الإيضاح (3.3.1) ـ تشفع له مزايا منها كون الميدان الذي يدلّ عليه هذا المصطلح يستفيد من اللّسانيات ويُفيدها، أمّا الاستفادة فهي بادية في كلّ ما سيأتي من المحاضرات، وتتمّ إفادة اللّسانيات بفعلٍ رجعيٍّ حيث تمثِّل (اللّسانيات التعليميّة) حقلاً خصبًا للأعمال والأبحاث الميدانيّة التي تثبت ما تأتي به اللّسانيات النظريّة أو تفنِّده . بهذا التحليل نفهم أن القضيّة لا تتعلّق بتعليميّة اللّغات فحسب لكن الأمر يتعدّى ذلك إلى إحداث جسورٍ بين التعليميّة واللّسانيات عبر قانون التأثير والتأثّر، أو بالأحرى أصبح الأمرُ في وقتنا الحاضر يتعلّق بضرورة ترميم تلك الجسور العتيق.
لا يُجانب الصوابَ من يرتاب في إمكانيّة الجمع بين مصطلحيْ (تعليميّة اللّغات واللّسانيات التعليميّة) في ذات السياق ـ أو في سياقاتٍ متباعِدة في طيات نصٍّ واحدٍ وكذا في نصوص مختلِفة أنتجها مؤلِّفٌ واحِد، بل وحتّى في حالة إنتاجها من قبل مؤلِّفين متمايِزين ـ من غير الوقوع في اضطرابٍ على مستوى الدلالات المحتمَلة؛ لهذا يجدنا القارئ نتفاعل مع هذه الإشكالية، إذا صادف وأن جمعنا بين المصطلحات الثلاثة أو على الأقلّ بين مصطلحين، بطريقةٍ نحسبها راشِدة، إذ نميِّز بينها آنيًّا معتبِرين المحور الاستبدالي والمحور التركيبي بهذه الصيغة المختصرة:
• تعليميات (تتعلّق بكلّ بمواد التعليم دون استثناء)
• تعليمية اللّغات (فعل تعليم اللّغات والنظر فيه على ضوء كلّ الاختصاصات القريبة من مجالات التعليم)
• لسانيات تعليميّة (لسانيات تطبِّق وتمارِس درسَها ـ بكلِّ طاقاتها من قريب ومن بعيد ـ على ذلك النظر، أي ” النظر على ضوء كلّ الاختصاصات القريبة من مجالات التعليم “ واللّسانيات في المقام الأوّل).
دونك هذا المقتبَس الذي ألَّفْنا فيه بين مصطلحيْ (تعليميّة اللّغات واللّسانيات التعليميّة) وجمعناهما في ذات السياق، ونستطيع الزّعمَ أنّه من دون أن يحدُث ذلك أيَّ خَللٍ في طريق المفهوم المعالَج على هذا المِنوال :
” لعلّ ذلك يرجع إلى صعوبة قيد الموضوع كلّما خاض الواحِدُ في هذا المجال (الأمن اللّغويّ والتخطيط اللّساني)؛ بل هذا ما يليق بنا أن نهتمّ به إذ نسلك مَسلك الترشيح منه ما يعود إلى نصاب تعليميّة اللّغات فتتولّى اللّسانيات التعليميّة زمامَ أموره “.
ونترك للطالِب مجالَ التأمّل في هذا الاستعمال ” الحكيم “.
نتحدّث هنا عن اللّسانيات التعليميّة العامّة ، إذ هناك لسانيات تعليميّة خاصّة وهي الّتي تتضمّن القواعد الخاصّة والمتعلّقة بلغة بعينها مثل اللّغة العربيّة أو اللّغة الفرنسيّة أو اللّغة الإنجليزيّة، حيث يقال مثلاً (La didactique de la langue française) التي تُخصَّص لها دوريات كثيرة من أجل تحسين مستويات تعليمها وتعلّمها مثل مجلّة Le Français dans le monde أو مجلّة Langue française اللّتيْن يلاحظ عليهما طابعهما الإشهاريّ والترويجيّ ، لكن رغم ذلك تظلاّن مجلّتين تعكسان الغيرة التي يكنّها المختصّون الذين ينشرون في أعدادهما الزاخرة على لغتهم. ولا ينبغي أن نتجاهل هنا كتابًا جاء صدوره في وقت كانت اللّسانيات لا تزال في منأًى عن الانشغالات التعليميّة وهو:
Linguistque et enseignement du français الذي مدّ جسر التواصل بين اللّسانيات وتعليم اللّغة وفتح أبواب النقاش بين المجالين. كما لقيت هذه اللّغة نفسُها اهتمامًا مِن قبل عناوين كانت تتصدّر دوريّة Etudes de linguistique appliquée.
فالعناية التي أحيطت بها اللّغة الفرنسيّة في ظلّ إرهاصات اللّسانيات التعليميّة وتطوّرها هي المسعى المنشود الذي كان مِن المأمول أن تطمح إليه تلك الدراسات التي تتولّى نشرَها مجلّةُ اللّغة العربيّة الجزائريّة وتتفرّغ لتحقيقه كاملَ التفرُّغ وأن تشكِّل صفحاتُها ميدانًا تلتقي فيها أفكار المختصّين الذين لديهم أعمالٌ تطبيقيّة تتعلّق بواقع تعليم اللّغة العربيّة واللّغات الأجنبيّة في الجزائر وآفاق إدراج تعليم (لغة الأمّ) في المنظومة التربويّة الجزائريّة وهو إحدى تطلّعات هذه الأخيرة.
وكذلك يُقصَد من جهة أخرى، باللّسانيات التعليميّة الخاصّة تلك النّظريّات الخاصّة الحصريّة الراجعة إلى واقع تعليم لغة بعينها والّتي تصف المبادئ المتحكّمة في وضع المناهج في حقل تعليم اللّغات وفق قانون التعميم الممكِن..الخ. وهذا التّمييز بين اللّسانيات التعليميّة العامّة أو النّظريّة العامّة للّسانيات التعليميّة من جهة، وبين اللّسانيات التعليميّة الخاصّة من جانب آخر، يوازي التّمييز على مستوى آخر بين اللّسانيّات العامّة وبين اللّسانيّات الخاصّة بِلُغةٍ ما.
تعليقات
إرسال تعليق