تهدف التنمية السياسية ليس فقط إلى إنشاء مجموعة من المؤسسات و القواعد و الآليات و أطر الحكم بما يتناسب و طبيعة الدولة و المجتمع و مصدر المشروعية المعتمد لدى الحكام و لكن أيضا لجتمعة سياسية societal political socialization بما يخلق قيم مشتركة لقبول نظام سياسي حتى وان كان غير ممثلا للإرادة الجماعية المواطنين.
فمن هذا المنظور، فالتنمية السياسية هي حراك يهدف لخلق قناعات مشتركة لدى أفراد المجتمع لقبول هيكلة سلطوية (حتى و إن لم ينتخبوها ) و ذلك عن طريق اشتراك مجموعة من فواعل الجتمعة أو التنشئة السياسية و منها الصحافة و المدارس و المؤسسات الأهلية و المؤسسات الدينية في نشر هذه القيم ، بشكل يجعل منها أرضية لتكوين ثقافة سياسية تطبع طبيعة التفاعلات بين الحكام و المحكومين وكذلك طبيعة القنوات الاتصالية بينها .
في ظل عولمة حقوق الإنسان الذي رفضت الطبيعة الحدية للنسبية، ما هي المكونات الأساسية و الجديدة للتنمية السياسية؟
*عولمة حقوق الإنسان:
أدت حركة الدمار الذي سببته الحرب العالمية الثانية إلى سعي الدول الأوروبية و الأمريكية خصوصا و عدد من الدول المستقلة إلى العمل إلى إدراج الحاجة إلى حماية حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة (1945) الذي تحدث في ديباجته باسم شعوب العالم و ذلك قبل أن يصدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10/12/1948، و الذي بقي يشكل المرجعية الأولى في دراسة حقوق الإنسان على الرغم من كونه نصا معياريا و ليس إلزاميا. و لقد نص هذا الإعلان على مبادئ متمحورة حول ضرورة الحفاظ على كينونة الإنسان و كرامته دونما تحديد دقيق لماهية عديد من الحقوق بالنظر لصياغته في البدايات الأولى للحرب الباردة بين قطبين متنافسين استراتيجيا و غير متوافقين على مستوى القناعات الإيديولوجية، و متعارضين من حيث الأولويات الحقوقية. فالغرب كان يفضل الحقوق المدنية و السياسية (حقوق الجيل الأول ) و الشرق الاشتراكي فكان يدافع على الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية (حقوق الجيل الثاني).
هذا الانفصام أو الشرخ انعكس فعليا على عمل لجنة حقوق الإنسان التي أنتجت بعد 18 سنة من العمل (1948-1966) نصين منفصلين : العهدين الدوليين للحقوق المدنية و السياسية مقابل الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية اللذان دخلا حيز التنفيذ في سنة .1976 هذا ن النصان عكسا فعليا المنطق الإستقطابي للحرب الباردة و الطبيعة الجديدة للمنظومة الدولية التي أصبحت مكونة من غالب الدول الحديثة الاستقلال (إفريقيا و أسيا خصوصا ) و التي تطالب بالحقوق الجماعية (الجيل الثالث و خصوصا الحق في التنمية الذي أعلن عنه نصا في سنة 1986) . كما تبنت المنظومة العالمية عدد من الاتفاقيات المانعة للتمييز ضد النساء و الأقليات، و كذلك عدد من النصوص الخاصة بترقية حقوق الأطفال و الشعوب الأصلية ...الخ .
لكن الطبيعة الاديولوجية لهذه الحقوق جعلها تدخل في أزمة مباشرة بعد سقوط جدار برلين (نوفمبر 1989) مما جعل الأمم المتحدة في الدورة 44 لجمعيتها العامة الدعوة لتنظيم مؤتمر عالمي ثاني حول حقوق الإنسان ، الأول كان في طهران سنة 1969 لبناء تصور أكثر عالمية و أكثر عملية لهذا النسق الحقوقي. كما أقرت هذه اللائحة على ضرورة تنظيم تصورات جهوية متوافقة في آسيا و إفريقيا و أمريكا اللاتينية مع إشراك المنظمات الحقوقية الأوربية و العالمية...
انعقد هذا المؤتمر في فيينا في جوان 1993 و اقر على أرضية مكونة من إعلان (من 39 فقرة ) و برنامج عمل (من 100 خطوة ) أنضمت إليها 172 دولة، و حددت لأول مرة القيمة العالمية لهذه الحقوق تتخذ من الأصل الإنساني مصدرها المطلق[1]. كما اعترفت هذه الدول بالصفة الإلزامية و التكاملية و العملية لهذه الحقوق التي لا يمكن تجزئتها أو التعامل معها بانتقائية .... انها حقوق مؤسسة لنمط قيمي جديد بربطه العضوي بالديمقراطية المشاركاتية و اقتصاد السوق الحر[2] .
ومن اجل تفعيل هذا المنطق الحقوقي قامت الأمم المتحدة ووكالاتها بإتخاذ عدد من القرارات و السياسات جعلت من الإنسان محورا لسياساتها و غاية لها . و من هذه القرارات:
1- إقرار مجلس الأمن سنة (1994) برخصة للولايات المتحدة الأمريكية للتدخل الديمقراطي في هايتي لإعادة نظام سياسي منتخب لسدة الحكم بعد أن أسقطه الجيش .
2- إقرار البنك العالمي (1994) لسياسة المشروطية الديمقراطية، أي الربط بين القروض و ضرورة قيام الدول بالإصلاحات السياسية المتوافقة مع منطق الحكم الديمقراطي
3- استصدار برنامج الأمم المتحدة للتنمية (1994) للتقرير الثاني حول التنمية الإنسانية و ذلك بإدراج حقوق الإنسان في بناء فلسفة جديدة للتنمية متمحورة حول الإنسان و حاجاته و غاياته ... مع العمل على تحقيق امن الإنسان من الخوف و من الحاجة
4- تجريم الأمم المتحدة للتعديات السافرة لحقوق الإنسان أو جرائم الإبادة الجماعية و التطهير العرقي كما حدث في البوسنة و الهرسك و في رواندا، و ذلك بخلق محكمتين جنائيتين خاصتين برواندا و يوغوسلافيا ....
5- تطوير الأمم المتحدة لبرنامج إدارة و تمويل الانتخابات ACE Project من اجل ترقية المشاركة السياسية الديمقراطية و تحقيق التداول السلمي على السلطة عالميا.
6- إقرار المفوضية السامية لحقوق الإنسان على توصيتين في "الحق في الديمقراطية " (1997و 2000)
7- رفض الاتحاد الإفريقي لقبول عضوية أية دولة يقع فيها انقلاب عسكري
8- رفض منظمة ASEAN لدول جنوب شرق أسيا لعضوية ميانمار بسبب و جود حكم عسكري بها
9- إقرار البنك العالمي للحكم الراشد كشرط أساسي في برامجها الخاصة بتمويل التنمية
10- إقرار منظمة الأمن و التعاون في أوروبا OSCE لمعايير الانتخابات الديمقراطية التي يجب أن تطبق عبر كل القارة
11- إقرار الاتحاد الأوربي للمعايير الديمقراطية (معايير كوبنهاجن ) الضرورية لقبول أي عضو جديد بالاتحاد .
فبالنظر لكل هذه المبادرات التي فعلت بمستويات مختلفة عمليا و لكنها خلقت حركية فكرية كبيرة حولها. فما هو إذن محتوى التنمية السياسية الجديدة؟
*التنمية السياسية الديمقراطية:
تقوم التنمية السياسية من منظور عولمة حقوق الإنسان على منطق ديمقراطي يجعل من المشاركة السياسية محورها التأسيسي من خلال وجود ثلاثة عمليات مشاركاتية[3] متكاملة وهي:
1- مشاركة دائمة تجعل من التعددية الحزبية المستقلة فعليا و ماليا الشرط الأساسي لأنه لا يمكن أن توجد في غياب معارضة ضابطة لعمل من يحكم. كما تقتضي أيضا و جود مجتمع مدني تعددي و مبادر يشكل الرأسمال الاجتماعي الذي يكون مصدرا إضافيا للاقتراحات و المطالب و التقييم للسياسات و القرارات بشكل يرفع من فعالية النظام السياسي ككل.
2- مشاركة دورية و تعني وجود انتخابات منتظمة (احترام العهد الدستوري ) تعددية و حرة (من أي توجيه أو إرغام ) و نزيهة (احترام قدسية الصوت)
3- مشاركة سياسية تمثيلية بوجود برلمان يشكل الثقل الأساسي للنظام يكون معبرا فعليا عن إرادة المواطنين بمبادرته التشريعية و بمراقبته للسلطة التنفيذية و فرضه المسؤولية على الحكومة (فرديا بالنسبة للوزراء أو للحكومة ككل ) .
بإمكان هذه الحركيات ان تؤسس لمنطق الحكم بالجودة و لكن بشرط توفر مجموعة من المقومات الأساسية[4] و منها:
1- وجود دستور مرجعي قائم على المبادئ و القيم الديمقراطية مع احتوائه أيضا على الضمانات الدستورية الكفيلة بمنع أية تعديات أو تجاوزات على مركزية المواطن و مشاركته السياسية
2- الحرص على بناء دولة الحق و القانون بوجود سلطة قضائية مستقلة و متخصصة و كفأة .
3- خلق صحافة تعددية وحرة و قادرة على إثراء النقاشات الديمقراطية مع لعبها لدورها في الإعلام و في تقصي الحقائق و التحري لخدمة قدسية الاعلام و حقوق المواطنة
4- ضرورة التأسيس لمنطق الحكم الراشد و قوامه التسيير بأمانة و شفافية
5- بناء منطق العقلنة السياسية لتحقيق اكبر قدر من المطالب باقل تكلفة و أسرع وقت
6- تحييد المؤسسات التعليمية و الدينية عن الصراعات السياسية حفاظا على حرية المعتقد و حرية التفكير و التعبير .
7- بناء أليات قانونية و سياسية للتدقيق الديمقراطي و لفرض المسئولية بالجزاء[5].
وبالنظر لما تقدم يمكن القول أن التنمية السياسية في عصر عولمة حقوق الإنسان تأخذ المواطن كمصدر للمشروعية و غاية لفعالية النظام السياسي .
د.أمحند برقوق،
تعليقات
إرسال تعليق