مشكلات الترجمة العربية : مقاربة ميدانية

أولاً : مدخل

قبل أن نخوض في الموضوع ينبغي أن نتذكر أن مصطلح الترجمة يضم أنواعاً مختلفة من الترجمة أبرزُها الترجمة المعرفية التي ينصرف إليها الذهن عادة إذا لم تكن هناك صفة محددة مثل: الترجمة العلمية والترجمة التقنية والترجمة الرسمية والترجمة الوثائقية والترجمة الأدبية والترجمة الشعرية والترجمة الدينية.

وهناك أيضاً ترجمات محددة بالتخصص النوعي مثل الترجمة الفورية والترجمة الآلية والترجمة الرقمية digital، وكلها الآن موضع توّسع هائل([1])، وتنطلق منها تفرعات متوالدة يومياً حسب التطور الاجتماعي والحضاري. ولكلٍ من هذه الترجمات مشكلاتها وضوابطها.

وإلى جانب ذلك علينا ألا ننسى أن الترجمة كانت مذ قديم الزمان وسيلة التواصل المعرفي والعملي والتجاري بين البشر، وأن أهميتها ظلت تتزايد نوعياً مع تقدم الحضارة الإنسانية وتسهيلات التواصل بين الأمم سواء كان هذا التواصل إيجابياً أو سلبياً كما هو شأن الحروب والغزوات التي تزيد يومياً من أهمية الترجمة لأجل إحراز النصر والغلَبة: "من تعلم لغة قوم أمن من مكرهم".

وهكذا لا نستطيع أن نتحدث عن الترجمة بوجه عام، إذ في كل مجال هناك تفرعات تزداد تخصصاً نوعياً مع تقدم الحضارة الإنسانية. وفي المناسبة الحالية نفضل أن نحصر الحديث بالترجمة المعرفية (المكتوبة) التي تتناول الآداب والاجتماعيات والتربية والعلوم، أي المتداولة في الكتب والمؤلفات والمجلات التي ينشرها العاملون تحت عنوان الترجمة.

ومنذ البدء يؤسفني أن أصرّح أن ثقافة الترجمة المعرفية بوجه خاص تكاد تكون شبه مهملة وتعاني من مقولات ومعايير بعيدة عن الصواب. ذلك أن كلمة "مترجم" مرتبطة في الأذهان بصورة ذلك المترجم الذي يجلس على كرسيّه أو تحت خيمته أو في دكاكين الترجمة قرب أبواب الوزارات والمؤسسات العامة، ويحمل معه في الأغلب صِيغاً وبيانات جاهزة لموضوعات معينة يختار منها ما يناسب الزبون.

والمعذرة من إخواننا جميعاً حين نؤكد أن سوق الكتاب المترجم تحتاج إلى معايير تتضمّن مؤهلات المترجم وأمانته في النقل وإجادته اللغتين في الموضوع المعنيّ على الأقل. مع التأكيد أن معظم الناس يدركون أن السباق في سوق الكتاب لا يرحم عندما يكون الكتاب المقصود ترجمته من تأليف أديب ذي شهرة أو زعيم ذي عظمة ولاسيما المذكرات والسير الذاتية، أو يعالج موضوعاً ساخناً لا يحتمل التأخير.

وهنا لابد من التذكير أن سمعة المترجم نفسه هي كذلك لها تأثير كبير في رَوْز مصداقية الترجمة مثلما هي للمؤلفين، وللكتاب المترجم سمعتُه الخاصة. وأذكر أنني في ستينات القرن الماضي حين كنت أعدّ رسالة الدكتوراة في بريطانيا (كامبردج) نُشرتْ ترجمة السيرة الذاتية لجان بول سارتر، وقوبلت الترجمة بتهليل مرتفع النغمة لا يتناسب مع برودة وحصافة كتّاب الصفحات الأدبية في الجرائد والمجلات البريطانية، ولاسيما في ملحق التايمز الأدبي Times Literary Supplement. وبالطبع كانت شهرة سارتر هي العامل الأول، ولكن كان هناك تهليل بل ضجيج خاص حول مترجمه البارع ودار النشر.


ثانياً : إطلالة حول مشكلة ترجمة الشعر

وهنا يمكن أن نتذكر أن الترجمة الحاذقة قد تسبق أو تضارع العمل الأصلي من خلال إكسابه نكهة مضافة ولاسيما في الشعر الذي تميل به الترجمة الحرفية أو الضعيفة إلى تشويه لمعانه، وقد تكسبه ألقاً مضافاً، فمثلاً يشير ألدوس هكسلي Aldous Huxley في "الموسيقى في الليل" إلى أن إعجاب الشاعر الفرنسي بودلير بالشاعر الإنكليزي إدغار ألَن بو يعود إلى أن الترجمة إلى الفرنسية قد تجاوزت طريقة النظم الإنكليزية (التي تعاني عادة من الجفاف الموسيقي)، مما جعل بودلير يطرب لترجمة شعر إدغار آلَن بو لأنها تتمتع بلطافة موسيقية أُحكمت موازينها على نمط الشعر الفرنسي الموزون (بتأثير المترجم طبعاً).

وإذا بدا للمتلقي أن الحادثة السابقة التي توحي بأن اللغة المترجمة إلى الفرنسية تكتسب بالطبيعة ألقاً خاصاً هي حادثة موغلة في القدم، فسوف نرى في الحادثة التالية المعاصرة كيف أن ترجمة عبد اللطيف اللعبي للشاعر السوري محمد الماغوط ، من العربية إلى الفرنسية، لقيت ثناءً من نقاد فرنسيين مشهود لهم، رغم أن الماغوط كان شاعر نخبة (توفي قبل عدة سنوات) وكانت جرأة انتقاده أشد تألقاً من إشعاع فنه، وتكاد الترجمة الفرنسية لمترجم بارع مثل اللعبي تفوق الأصل جمالياً على نحو ما ذكرنا سابقاً من إعجاب بودلير بجمال نظم إدغار ألَن بو([2]).

وتقتضي الأمانة أن نشير إلى أن هذا الموضوع تعرض إلى أخذ ورد على صفحات الحياة في تسعينات القرن الماضي، والأفضل أن لا نغرق في هذا الموج الانتقادي المتضارب الذي يلهي القارئ (عن كل مكرمة) ولا ينتهي به إلى شاطئ السلامة. وعلى الأرجح ينطبق هذا الحكم المتعلق بالخلافات حول الترجمات الشعرية إلى الفرنسية على ترجمة الشعر بوجه عام. وهنا من الواضح أن الترجمات الشعرية إلى اللغة العربية لم تلقَ أي نجاح أو رواج، اللهم إلا إذا كانت القصيدة المترجمة متعلقة بحادثة ما ذات أهمية أو باسم لامع جداً.

وهنا طبعاً نتذكر مقولة الجاحظ المعروفة: " الشعر لا يستطاع أن يُترجم ولا يجوز عليه النقل، ومتى تحوّل تقطّع نظمه وبطل وزنه وضاع موضع التعجب منه ..." وكان الجاحظ قاطعاً في هذا المجال وكرّر مثل هذه الفكرة أكثر من مرة. ومثله كثيرون في هذا العصر، وبعضهم يذهب إلى التأكيد أن "ترجمة الشعر إلى لغة أخرى مستحيلة" مهما اختلفت الترجمات، بل إن اختلاف ترجمات شاعر مثل غوته وعمر الخيام وغيرهما من المشاهير إلى اللغات الأخرى تقدم أكبر دليل على ذلك([3]).

ثالثاً : الترجمة من الناحية المعرفية

العولمة، الإنترنت، الثورة الاتصالية، تفوُّق اللغة الإنكليزية، وغيرها من مؤشرات تطور العصر، مردداتٌ قد توحي بتراجع الترجمة، ولكن شهدت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي توسعاً مذهلاً في الإقبال على الترجمة بين اللغات. وربما على تمام المستوى من الأهمية تطور حقل الدراسات المتعلقة بالترجمة من ناحيتي النظرية والتطبيق. وقد تعددت مناشط الترجمة وتنوعت وأصبحت تشكل حقلاً معرفياً قائماً بذاته. وتشير الدلائل إلى أنه سيتبلور قريباً في شكل نظام معرفي discipline شأنه شأن الأدب المقارن أو النقد الأدبي. وقد رفدته الدراسات الثقافية المعاصرة Cultural Studies رفداً قوياً من خلال تركيزها على قوة العامل الثقافي ذي التركيب المتداخل والمعقد، في تشكيل طرق تقرب البشر من شؤون المعرفة والعلم والأدب والفن من جهة وشؤون السلوك والأخلاق والعمل والتفاعل الاجتماعي من جهة أخرى. وبالطبع هنا ترد الترجمة بوصفها عاملاً فعالاً في تلقيح الأفكار وتطويرها وإعادة تشكيلها، وذلك بصرف النظر عن صحتها أو دقتها أو مناسبتها أو فائدتها المنظورة أو انسجامها مع طبيعة التراث المتلقي الذي تحاوره.

وقد ازداد الموقف المعرفي للترجمة قوةًً، وكسب أيْداً كبيراً من خلال الدراسات الأنثوية Feminine Studies، التي رفعت من شأن الترجمة وقيمتها الفكرية، وحاولت أن تنقلها من خانة الحرفة إلى خانة نظام معرفي ٍ مستقبلي يكاد يطغى على أنظمة معرفية كانت حتى الآن تُعتبر اللسان الذهبي للعصر مثل الأدب المقارن، الذي جرى في الآونة الأخيرة تحدّيه إلى درجة أن كاتبة مثل سوزان باسنت تجد فيما يسمى: دراسات الترجمة Translation Studies حلاً لما يعتقد أنه معضلة الأدب المقارن وتبشر بمستقبل وضّاء لهذه الدراسات في السنوات القليلة القادمة. يلاحظ هنا أن إسهام النساء في الترجمة ودراساتها في الغرب أصبح عاملاً في "تأنيث" مفهومات الترجمة والدراسات المتعلقة بها.([4])

ولكن الحديث جرى حتى الآن في إطار الثقافة والأنظمة المعرفية الأدبية، وتعتبر الخطوة الرديفة في الأهمية ما تمّ علمياً من وصل الترجمة بمجالات البحث اللساني وسيميائيات التلقي والتناصّ. إلا أن هذا ليس كل شيء، فالترجمة تتجه منذ منتصف القرن العشرين بقوة إلى أن تكون علماً موضوعياً بكل ما في الكلمة من معنى. والحق انه مع تعدد نظريات الترجمة وتقنياتها وأنواعها وأغراضها بات ضرورياً جداً أن ينتظمها القانون العلمي، ولاسيما أن الترجمة الآلية Machine Translation باتت تطغى على السوق العملي للترجمة وتنضج طرقها وتأخذ مكانها في عجلة الإنتاج الترجمي ذي الطاقة الهائلة والسرعة المذهلة ولاسيما في المجالات العلمية والتوثيقية والتجارية....

وإذا تركنا الناحية النظرية وتعقيداتها وأتينا إلى الناحية العملية، نجد أنه أصبح من فضول القول الحديث عن أهمية الترجمة في التفاعل والتلاقح بين الثقافات، وفي تقريب أفكار البشر بعضها من بعض، وفي إحلال التفاهم محل سوء الفهم والمرددات المتحزبة والتعميمات الرائجة stereotypes ، وكذلك في إيقاظ كل ثقافة، بل كل لغة، من أوهام الكهف أي من المبالغة في الرفع من شأن إرثها الثقافي والإزراء بقيمة الثقافات الأخرى.

وبالمقابل يستطيع المرء أن يحصي للترجمة كثيراً من السيّئات، من مثل إدخال الأفكار الهجينة، وانتقاء ما هو برّاق ومخادع من الثقافات الأخرى مقابل الانصراف عن الرصين والعميق والمفيد، وكذلك سوء الترجمات وضعفها وخيانتها للأصل لدرجة أنها قد تزيف المضامين وتقدم للمتلقي ضروباًً من الأوهام والأباطيل من شأنها أن تشكل صورة مشوّهة تُبنى عليها فيما بعد قناعات ومواقف ليس لها أساس، وقد تتطور المسألة إلى درجة أن تصبح آفةً تاريخية يتوارثها الآباء عن الأجداد والأبناء عن الآباء.

والحق أن الإجماع منعقد بين العارفين على أنه مع اتساع حركات الترجمة في العالم، وازدياد عدد اللغات الداخلة في السباق الترجمي، ومع عدم توافر آليات (ميكانزم) ذات كفاية للضبط والإشراف، تسود يومياً الترجمات التجارية الرخيصة السريعة وتتسابق على أبواب الأسواق ونوافذ العرض، بينما تقبع الترجمات الرصينة والدقيقة والمسؤولة خلف كشافات الأضواء، أو في عتمة الرفوف والأروقة، لا يعبأ بها جمهور المتلقين، هذا إذا علم بها أصلاً.

والمشكلة انه في صميم تكوين عملية الترجمة توجد أرضية قوية تزيّن للمترجم وتسهل له فرصة الانحراف إلى عَرَض الاستهواء وبهرج الزيف والطلاء. وإذا كان الإيطاليون يقولون إن الترجمة تعني الخيانة traduttore traditore (حرفياً المترجم خائن)، فالفرنسيون – على طريقتهم – أعطوا صورة أخرى طريفة إذ وصفوا الترجمات الزاهية بأنها الترجمات غير المخلصة les belles infidèlles (الجميلات الخائنات)، أي أن الترجمة إما أن تكون جميلة ولكن خائنة وإما أن تكون أمينة فهي بالضرورة قبيحة. وإنه اختيار صعب أمام المترجم بل إن هذا الاختيار أشبه بهاجس يؤرق العاملين في مجال الترجمة في كل لحظة من عملهم ويسبب لهذا العمل كدراً كثيراً ناتجاً عن التردد والحيرة، على حين ينبغي أن يكون عمل الترجمة انسيابياً ومتماسكاً ليستطيع أن يفي برواء الينبوع الأصلي وأن يحمل مسحة من بكارته وإغوائه.

رابعاً : كلمة حول الترجمة العربية

لوحظ في السنوات الأخيرة من القرن العشرين وفي السنوات القليلة الأولى من القرن الحالي التفات قوي في الوطن العربي باتجاه الترجمة. وبعد أن كانت الترجمة مهملة نسبياً في مجال النشاط الثقافي العربي، كما تدل على ذلك المتابعات المسحية لليونسكو، ولاسيما الإصدار الدوري : فهرس الترجمة Index Translationum الذي يتابع تطورات نشر الكتب المترجمة في جميع أنحاء العالم.

وتشير القوائم المنشورة حتى أواخر القرن العشرين في هذا الدليل حول النشاط الترجمي في البلاد العربية، تشير إلى فقر شديد في هذا المجال بالمقارنة مع بلدان العالم الأخرى من الناحيتين الكمية والكيفية، ولا يكاد يوجد أثر لخطط مستقبلية أو تخصصية، اللهم إلا ما تفعله وزارات الثقافة والهيئات الرسمية أو شبه الرسمية من ناحية تخصيص سلاسل معينة حسب موضوعات مختارة مع تفاوت كبير بهذا الشأن بين كل قطر عربي وآخر. ويأتي في مقدمة هذه الخطط المشروع المتميز الذي سبق إليه المجلس الوطني للثقافة في دولة الكويت تحت اسم "عالم المعرفة" وهي سلسلة متميزة في اختيار الموضوعات وكذلك في دقة الترجمة. وتلاه بعد ذلك بزمن مشروع الشامل للمجلس الأعلى للثقافة في مصر العربية الذي سبقته في مصر موجات جادة من الاهتمام بالترجمة. إلا أن مثل هذا المشروع وسواه من مشروعاتٍ أضيق نطاقاً مثل الجهود الترجمية لوزارات الثقافة في كل من سوريا والعراق وأقطار عربية أخرى قد مضت دون أي تقييم منهجي سوى التقييم الكمي والمعرفي أي عدد المنشورات المترجمة وأحياناً تنوعات تخصصها، مع تفاوت بين كل مشروع وآخر. وهذه كلها جهود رسمية غير خاضعة لقانون العرض والطلب. والى ذلك كانت هناك دائماً إصدارات سباقة لدور النشر غير الرسمية ولاسيما في لبنان ومصر وكان تركيزها بطبيعة الحال على الإنتاج العالمي الرائج، ولاسيما في المجالات الأدبية والسياسية والترفيهية، ولبعضها سبقُ في إصدار المعاجم أيضاً. كما ظهرت في الآونة الأخيرة مشروعات ترجمة شاملة وجريئة في دول الخليج العربي. وهناك مشروعات أخرى تمولها وتديرها دول أجنبية. ([5])

وهناك إجماع واضح على أن الترجمة العربية كانت (وربما ما زالت) شبه سائبة، أي يختلط فيها الحابل والنابل، وتفتقر إلى معايير للتقييم، سواء من ناحية الأمانة العلمية أو من ناحية السلامة اللغوية للّغة المستهدفة Target Language ، وهي غالباً اللغة العربية، وهذا هو العجب العجاب.

وهناك استثناء وحيد هو ما تنشره المجلات الأدبية بين حين وآخر من مساجلات ومشاحنات بشأن بعض الترجمات – ولاسيما الأدبية والفكرية – التي ينشرها أساتذة ومترجمون لهم مكانة رفيعة. وبوجه عام ظلت النظرة إلى الترجمة مشوبة بشيء من التصنيفية السلبية، أي اعتبار الترجمة عملاً مكملاً وبعيداً عن الإبداع ولا يستحق التدقيق.

وحتى يوم الناس هذا يصعب أن يطمئن المرء إلى وجود تغيُّر في الموقف العام من الترجمة، اللهم إلا من الناحية الكمية التي تتمثل في الجوانب التالية:

- زيادة ملحوظة في عدد المؤهلين المقبلين على مهنة الترجمة بينما كانت تعدُّ مهنة إضافية، أي عملاً مكملاً لأنواع أخرى من المهن ولاسيما تدريس اللغات الأجنبية.

- زيادة في كمية الإنتاج الترجمي، أي في عدد الترجمات المنشورة، إلا أن هذه الزيادة يجب أن تقاس من خلال منظور نسبي أي ليس بالمقارنة مع الوضع السابق في الوطن العربي، ولكنها إذا قورنت بالزيادة شبه الخيالية في النشاط الترجمي على المستوى العالمي تبدو باهتة شأنها شأن أنواع النشاط المعرفي الأخرى في الوطن العربي.

- قفزة في مجال مؤتمرات الترجمة على المستوى العربي الشامل في بضع السنوات الأولى من القرن الجديد، على حين كانت هناك ملتقيات محدودة في بعض الأقطار العربية، أو كانت هناك بنود محددة حول الترجمة كما حدث أحياناً في : مؤتمرات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. وذلك كله إلى جانب نشاطات محدودة في بعض الجامعات العربية. ويلاحظ أنه خلال السنوات القليلة الماضية عقدت مؤتمرات مهمة جداً في مجال الترجمة على المستوى العربي الشامل. وذلك إلى جانب نشوء مؤسسات متخصصة بالترجمة، غالباً بفضل أفراد أثرياء محبين للمعرفة، وأحياناً أخرى بمبادرة من هيئات المجتمع المدني وبدعم من العاملين في مجالات الترجمة، وأحياناً أخرى من خلال مؤسسات عربية جامعة مثل "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم". (أنشأت للمركز العربي للتعريب والترجمة والنشر والتأليف وخصصت له ميزانية سنوية لا تكفي لأي بند من هذه البنود العريضة). ثم كانت النقلة الرسمية باتجاه الترجمة من خلال إنشاء "المنظمة العربية للترجمة".

وهكذا جاءت القفزة المذهلة من خلال تعدد مراكز الترجمة ومؤسساتها في الوطن العربي، ولاسيما في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومناطق أخرى من الخليج العربي، وقد جرت الإشارة سابقاً إلى سبق المجلس الوطني للثقافة في دولة الكويت بالإنجاز المبكر لمشروع "عالم المعرفة" ، كأنما العرب أفاقوا فجأة على أهمية الترجمة، وبدأوا كالعادة يتنافسون في افتتاح المراكز، وإنشاء دبلومات الترجمة في الجامعات ولكن دون أي اهتمام بالتنسيق أو التكامل أو تجنب تكرار الجهود والتمويل للهدف الواحد.

هذا من الناحية الكمية، وكله خير وبركة. ولكن يلاحظ أن قانون التحولات الكمية باتجاه تبلور كيفي يصعب أن ينطبق على الإنتاج المعرفي الحالي في البلاد العربية، حتى في مجال الترجمات الأدبية والفكرية ذات الموضوع الراقي، وذلك بسبب فقدان المعايير واضطراب ترجمة المصطلح وغياب أي منظومة للتقييم والنقد متفق ٍ عليها اتفاقاً ملفوظاً أو ملحوظاً. ونادراً ما نقرأ في الدراسات الأدبية أية بحوث معمقة حول المستوى الفني واللغوي للترجمات، بل مستوى الأداء والأمانة، باستثناء المشاحنات التي تثار في الجرائد والدوريات العامة. ومن المأمول أن يقود التقدم الملحوظ في الدراسات النظرية حول الترجمة إلى التوصل لما يشبه المعايير العامة.

أخيراً:

تذكرنا هذه المنافسة وهذه التعددية بمقالة ميخائيل نعيمة المشهورة في أوائل القرن الماضي بعنوان "فلنترجم". إذ تأخرت قراءتها حوالي قرن من الزمان. ولاشك أن جميع العاملين في المجالات العامة يعرفون جيداً أن هذه الظاهرة التنافسية التكرارية واردة جداً في مختلف مستويات العمل السياسي والاجتماعي والثقافي العربي. وقد أسميتها في بعض دراساتي بظاهرة التفكير الموجي عند العرب، إذ إن قانون التفكير الجماعي عند عرب هذا العصر يأتي على شكل موجات، فيوماً فلسطين وبعدها الوحدة العربية، وبعدها السلام العادل، وبعدها الديمقراطية، وهي انتقالات لا تعني أن كل موجة استنفدت أغراضها، وإنما تأتي تهرباً من الالتزامات (غير اللفظية) المترتبة على كل موجة من الموجات العارمة.

خامساً : معضلة اللغة العربية في الترجمة

منطقياً يجب على المترجم أن يكون مؤهلاً وضليعاً باللغات التي تدخل في مجال عمله... فهل تحتاج هذه الحقيقة إلى تأكيد أو برهان؟

نعم .. إنها تحتاج إلى التأكيد في مجال الترجمة العربية الراهنة. ذلك أنه حتى أمدٍ قريب كانت الترجمة العربية تتمّ غالباً دون تأهيل. وفي معظم الحالات كانت المشكلة أشدَّ وضوحاً حين تكون اللغة العربية لغة الهدف، وذلك خلافاً لما يحدث في الحالات الطبيعية حيث يسهل على المترجم أن يترجم من اللغة الأجنبية إلى اللغة الوطنية لأن إتقانه اللغة الأم مسألة بديهية. وباستثناء الترجمات التي يتولاها أدباء من ذوي الكفاءة باللغتين المرسلة والمستقبلة ظلت معظم الترجمات العربية الشائعة تعاني من ضعفٍ شديد في مختلف المجالات المعرفية، وكان قراء الترجمات إلى العربية يشتكون بوجه خاص من ضعف لغة المترجمين واستهانتهم بقواعد اللغة العربية وجماليات أساليبها، وأحياناً ينفرون من أية استعمالات لغوية مستعارة حتى لو كانت شائعة على المستوى العالمي من مثل : يلعب دوراً play a role واللاعبون الكبار Grand players ، وعبارات أخرى كثيرة كثيرة كان يشمئز منها أساتذة اللغة العربية، ثم أصبحت مألوفة في هذه الأيام بعد أن أخذت اللغات بمبدأ الاستعارة اللغوية ولاسيما حين يبلغ المصطلح درجة الانتشار العالمي.

بدأت بهذه المقدمة لكي أوضح أنني لست من المتشددين في مسألة الاستعارات اللغوية على المستوى العالمي، ومن الواضح أن جميع لغات العالم اليوم تتفاعل وتتكامل من خلال هذا التفاعل. ولكن مشكلة المترجمين في المجال العربي لها وجه آخر يتمثل في الضعف اللغوي المستشري في الترجمات بسبب غياب أي تأهيل لغوي عربي لدى المترجمين. وأكثرهم لا يكلفون أنفسهم مشقة تحسين معرفتهم باللغة الأم. وهنا نتذكر مقولة كان يرددها الموسيقار والمترجم الأمريكي تيد روريم مفادها أن فن الترجمة يكمن في إتقان اللغة الأم بمستوى أعمق من معرفة اللغة الأجنبية. وبالطبع هذا الحكم ينطبق على الترجمة من وإلى الأزواج اللغوية المختلفة.

ومن المؤسف جداً أن تعليم اللغات الأجنبية في البلاد العربية أخذ يوغل يومياً في التركيز على اللغة الأجنبية قبل العربية، كما أن المدارس الأجنبية التي يشتد الإقبال عليها أخذت تدرّس اللغة العربية للأجيال الناشئة بطريقة هجينة تكاد توحي للمتعلم أن اللغة الأصلية هي الأجنبية وليست اللغة العربية سوى مكمّلة للغة الأجنبية، ربما على سبيل رفع العتب والتحايل على القوانين والتعليمات الرسمية المتعلقة بتدريس اللغة الأم. ولكن حتى هذه القوانين، أخذت تسترخي في بلاد عربية كثيرة ولاسيما في معظم منطقة الخليج العربي. وفي هذه الحالة لا نتوقع تحسناً في مستوى الترجمة من العربية وإليها، بل قد لا نحتاج إلى الترجمة.

وهكذا يتضح أن مستقبل الترجمة العربية قاتم جداً لأن أقسام اللغات الأجنبية في الجامعات العربية ترفض أيضاً تخصيص مقررٍ لتدريس اللغة العربية، ولا ندري هل مدرّس الترجمة في هذه الأقسام مؤهل لإعطاء لغته الوطنية الاهتمام الكافي، ومعظمهم طبعاً من متخرجي الجامعات الأجنبية. وهناك استثناءات عائدة طبعاً إلى وعي الأسرة بضرورة الاهتمام باللغة العربية في مراحل التعليم المبكرة.

وقد يقول قائل إن معظم الناشرين العرب لديهم مصحح لغوي. ولكن كما ذكرنا سابقاً ليس كل من يحمل الإجازة في اللغة العربية يمكن أن يتصدى لمسألة المراجعة. ولذلك نجد كثيرين –وكاتب هذه السطور منهم- حين يبعث مخطوطاً ينبه إلى ضرورة عدم عرضها على المصحح اللغوي لأن تجاربنا تدل على أن المصحح اللغوي يكون في العادة مدرساً للغة العربية (ويا ليتهم يتقنونها بعد أن تدنى مستوى التعليم)، ومعظمهم لا يطالعون سوى الكتب المقررة التي تكون عادة متخلفة عن المصطلحات والاستعمالات اللغوية المستجدة لأن اللغات المصاحبة للاكتشافات العلمية والعلاقات الدولية متجددة باستمرار، وفي كثير من الأحيان يكون موضوع المخطوط المطروح للطباعة غريباً عن ثقافة المصحح فتؤدي تدخلاته إلى تشويه الكتاب المعدّ للطباعة. وبالمناسبة نشير إلى أن دور النشر المحترمة في العالم لا تسمح بنشر أي كتاب إلا بعد مراجعته على يد متخصص قدير ليس في اللغة فقط بل في المجال المعرفي المقصود في المشروع المترجم.

يضاف إلى كل ما تقدم أن لغات العالم المعاصر تحتاج دائماً إلى تغذية تناسب التطورات العلمية والتجارية والعلاقات الدولية ذات المفردات المتغيرة باستمرار. ولا يجوز للمترجم ولا للمصحح اللغوي الإغضاء عن هذه التغيرات التي تطالعنا يومياً. ثم إن الدلالات اللغوية وإيحاءاتها تخضع للتطورات الناجمة عن حركة العولمة إلى جانب التطورات الطبيعية التي تحكم لغة المجتمع الذي تتطور احتياجاته ومفاهيمه تحت وطأة التطورات الطبيعية للعلاقات الاجتماعية. وهنا يحسن أن نتذكر الحكاية الطريفة التي حدثت للرئيس الأمريكي جيمي كارتر. إذ حين أتيحت له زيارة بولونيا في أواخر ولايته اصطحب معه المترجم البولوني العامل في البيت الأبيض، وكان المترجم المسنّ من البولونيين الذين هربوا مبكراً من الحقبة الشيوعية. وفي خطاب للرئيس كارتر على جمع حاشد في العاصمة البولونية لاحظ الرئيس ومرافقوه أن الجمهور كان يصفق ويضحك مع أن الرئيس كارتر هو من أكثر الناس جدية ووقاراً. وبعد الانتهاء من الخطبة حقق المسؤولون في الموضوع وتبيّن لهم أن المترجم البولوني الذي غاب عن بولونيا أربعين سنة لم يكن على اتصال بتطورات لغة وطنه، فكانت عباراته مضحكة. وعند عودة الرئيس أنهى عمل المترجم فوراً وعزله، ولكن الصحافة الأمريكية لأسباب سياسية وربما إنسانية، احتجت على عملية طرده إلى درجة أن الرئيس اضطر إلى إعادته إلى وظيفته (ربما ليدرس البولونية من جديد!!).

وتقودنا حكاية كارتر إلى مسألة أخرى شديدة الأهمية وهي الحساسية اللغوية التي بغيرها لا تنجح الترجمات ذات المستوى الفني الرفيع. ويظهر ذلك جلياً في ترجمة الشعر وهناك مناقشات عويصة وطريفة حول هذا الموضوع تبرهن على الصحة النسبية للمقولة الإيطالية الدارجة : المترجم خائن.

ثم إن الدراسات الأنثوية Feminine Studies فتحت النار مجدداً بقيادة سوزان باسنت التي رفعت من شأن الترجمة ودعت إلى اعتبارها مساقاً علمياً بديلاً للأدب المقارن. ومهما يكن من أمر ننادي مع ميخائيل نعيمة :"فلنترجم"؛ ولكن نضيف إليها الدعاء : ارحموا الترجمة وارحموا اللغة العربية وامنحوها من الاهتمام بعض ما تمنحونه للإنكليزية والفرنسية وإلا فلِمَ الترجمة إلى العربية؟ ذلك الشاب العربي الذي يتقن الانكليزية أو غيرها من اللغات الأجنبية لا يحتاج إلى اللغة العربية لقراءة الترجمات من اللغات الأخرى.



[1] . كتبت عنها الكثير في مجلة "مركز تعريب التعليم العالي في الوطن العربي"، التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تصدر من دمشق منذ عدة سنوات.

[2] . للتفصيل راجع : عبد اللطيف اللعبي " تلقيت سيلاً من رسائل الشعراء والنقاد يثنون على [الفرنسي]، جريدة الحياة، في 13/3/1992، ص 16. ولكن بعد ذلك تعاقبت ردود تنقض هذا الثناء.

[3] . للتفصيل تمكن مراجعة كتاب قديم لحسام الخطيب بعنوان : " ملامح في الأدب والثقافة واللغة " ، وزارة الثقافة ، دمشق 1976 ، ص 322-...

[4] . للتوسع تمكن مراجعة :

Suzan Bassnett-Mc. Quire:

Translation Studies. Methued : London and New York, 1980.

[5] . انظر مثلاً مشروع " فرنسا والعروبة" الذي يتميز بترجمات مختارة من الثقافة العربية القديمة والحديثة إلى جانب الترجمات من الفرنسية إلى العربية.

أ.د. حسام الخطيب

مشرف عام مركز الترجمة

وزارة الثقافة والفنون والتراث

الدوحة ، قطر

تعليقات