أ/ هشام مصطفى عبد العزيز
حينما يرد إلينا مصطلح غربي؛ فغالبًا ما يثير طرحه العديد من الإشكاليات مع استقبال النخب المختلفة التوجهات في بلادنا لهذا المصطلح، كلٌّ يتلقاه وفق رؤيته الخاصة، وخلفياته الثقافية والأيديولوجية، ولا تنظر تلك النخب في العادة إلى طبيعة البيئة التي نبت فيها ذلك المصطلح، وكذلك طبيعة البيئة المجتمعية لبلادنا، وكيف يصلح هذا المصطلح لتطبيقه فيها؟ كما أنهم عادة لا ينظرون إلى مضمون وحقيقة ذلك المصطلح، ومحدداته الأساسية بقدر ما ينظرون إلى الظلال التي ألقتها بيئة الغرب العلمانية على هذا المصطلح الوافد والصبغة التي صبغتها به.
ولعل مصطلح الدولة المدنية يعد من أشهر تلك المصطلحات التي ثار بشأنها الجدل في الآونة الأخيرة، لاسيما مع موجات الحراك السياسي والاجتماعي التي تشهدها مصر من آنٍ لآخر، مع ما لهذا المصطلح من دور كبير في تحديد شكل الدولة المصرية التي يمكن أن يقبلها الجميع، وأن تكون منطلقًا لحل إشكالات الداخل المصري على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
وكالعادة؛ وجدنا هذا الاعتساف في تفسير أمثال هذه المصطلحات ما بين نخب علمانية تنتزعها من سياقها التاريخي، وتركز على صبغتها العلمانية الغربية، دون التركيز على تحديد مكوناتها ومحدداتها، سعيًا منها في فرض الأيديولوجية العلمانية على بلادنا، محاولة إفهامنا أنه لا دولة مدنية بدون علمانية وتنحية للشريعة الإسلامية عن كونها المرجعية العليا للدولة المصرية، وأن الدولة الإسلامية ما هي إلا صورة مكررة للدولة الثيوقراطية الكنسية التي سادت أوروبا في القرون المظلمة، والتي لم تتقدم إلا بعد أن نبذتها وحلت محلها الدولة العلمانية.
وما بين نخب إسلامية؛ بعضها يرفض كل ما هو غربي من خلال استدعاء نظرية المؤامرة، والنظرة الرافضة لكل وافد من الغرب، وبعضها يحاول تفصيل المفاهيم الإسلامية على وفق مصلحته السياسية، دون منهجية علمية ثابتة في تحديد الخطأ من الصواب.
وأما المنهج الصحيح في النظر إلى مثل هذه المصطلحات؛ فإنه يقوم أولًا على فهم مدلولاتها عند أهلها من المتخصصين في العلوم السياسية، بصورة حيادية ليس فيها اعتساف، ثم بعد ذلك يعرض هذه المحددات على المرجعية العليا التي ارتضتها الدولة المصرية حكومة وشعبًا، ممثلة في ثوابت الشريعة الإسلامية وقواطعها، مع اعتبار مدى قبول البيئة المجتمعية المصرية لهذه المحددات.
ونحاول في هذه الصفحات أن نصل إلى حكم موضوعي حول مدى اتفاق أو اختلاف مصطلح الدولة المدنية مع الشريعة الإسلامية، وهل يمكن أن تكون دولة مدنية في ظل شريعة إسلامية ومجتمع إسلامي أم لا؟
ولقد أجرت صحيفة الأخبار المصرية العديد من الحوارات في شهري أبريل ومايو الماضيين، مع جمع من المفكرين والسياسين تحت عنوان "رؤية للمستقبل: مصر دولة مدنية حديثة"، استعرض فيها هؤلاء المفكرون والسياسيون رؤيتهم للدولة المصرية ومستقبلها، ومفهوم الدولة المدنية من وجهة نظرهم.
وباستقراء ما قاله هؤلاء المفكرون وغيرهم حول مفهوم الدولة المدنية؛ نلاحظ أن هناك مقومات أساسية اتفق عليها الجميع كمقومات للدولة المدنية الحديثة؛ وهي: المواطنة، وسيادة القانون، والتعددية وقبول الآخر، ومحاسبة الحكومة، والتداول السلمي للسلطة.
وبناء على هذه المقومات؛ نستطيع أن نعرِّف الدولة المدنية بأنها: "دولة المواطنة وسيادة القانون، التي تُعطى فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة، فلا يكون فيها التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو اللغة أو اللون أو العرق، وهي كذلك التي تضمن كفالة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية واحترام التعددية، والتداول السلمي للسلطة، وأن تستمد السلطة شرعيتها من اختيار الجماهير، وتخضع للمحاسبة من قِبَل الشعب أو نوابه".
ولنبدأ بتحليل تلك المكونات الخمسة؛ لمعرفة مدى اتفاقها أو اختلافها مع الشريعة الإسلامية بفهمها الوسطي المعتدل.
مقومات الدولة المدنية الحديثة وموقف الإسلام منها:
أولًا: المواطنة:
إذا نظرنا إلى المقوم الأول من مقومات الدولة المدنية وهو المواطنة، فإنها تعني (العضوية الكاملة والمتساوية في المجتمع بما يترتب عليها من حقوق وواجبات، وهو ما يعني أن كافة أبناء الشعب الذين يعيشون فوق تراب الوطن سواسية بدون تمييز بسبب الدين أو الجنس أو اللون أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري) [المواطنة، منى مكرم عبيد، ص(9)].
والمواطنة لها طرفان، المواطن والدولة؛ مواطن يشعر بالانتماء ومن ثمَّ فهو ملتزم وفاعل، ودولة تحتضن هذا المواطن وقادرة على الوفاء باستحقاقات المواطنة.
والمواطنة جوهرها التسامح واحترام الآخر والقبول بالتنوع، والتسامح لا يعني التنازل أو التساهل، بل يعني قبل كل شيء اتخاذ موقف ايجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وعدم التحيز في التشريعات إلى طرف دون آخر، وفي إنفاذ القوانين والإجراءات القضائية، وهو يقتضي أيضًا إتاحة الفرص الاقتصادية والاجتماعية لكل شخص دون تمييز، فكل استبعاد أو تهميش إنما يؤدي إلى الإحباط والتعصب والعدوانية.
والمواطنة بهذا المعنى الذي بيناه لا تتعارض مع التصور الإسلامي في شيء، بل إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي قامت دولته على مراعاة حقوق المواطنين، ولم تفرِّق بينهم للون أو دين أو عرق، ووثيقة المدينة خير شاهد على أن الدولة المسلمة دولة مواطنة؛ ففي الوقت الذي تتفاخر فيه بعض الدول أنها أعطت حقوق المواطنة لجميع رعاياها، بلا تفرقة بينهم في لون أو جنس أو دين أو لغة، فإن الدولة الإسلامية التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطت حق المواطنة لجميع مواطنيها، الذين كانوا يختلفون بطبيعة الحال من الناحية الدينية؛ فمنهم اليهود ومنهم النصارى ومنهم المسلمون.
ومما ورد في هذه الصحيفة كما ذكر ابن هشام في سيرته (1/501-504)، وابن كثير في البداية والنهاية (3/224-225): (وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ [يُهلك] إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ ... وَإِنّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ).
فهكذا ساوى النبي صلى الله عليه وسلم في الحقوق والواجبات بين اليهود وبين المسلمين في المدينة، فأعطاهم حقوقهم وبيَّن واجباتهم تجاه المجتمع، إنها أعظم وثيقة تبرهن على احترام الدولة الإسلامية لرعاياها من غير المسلمين، وتعطي نموذجًا واقعيًّا لكيفية التعايش الصحيح بين الملل والأعراق المختلفة، تحت مظلة وطنية واحدة تجمع القاصي والداني.
على أننا لا يفوتنا هنا أن ننبه إلى أمر في منتهى الأهمية، وهي أن أي قانون في أرقى الدول المدنية لابد له من ضوابط خاصة، تكون نابعة من ثقافة وهوية الشعب الذي تحكمه، تحفظ عليه هويته الثقافية والحضارية؛ فعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة يمنع الدستور الأمريكي أن يتولى الرئاسة شيوعي، أو أن يقوم حزب سياسي على أساس اشتراكي؛ وذلك لأن الهوية الثقافية التي ارتضاها أغلبية الشعب الأمريكي هي الرأسمالية الليبرالية، ونحن في مصر أيضًا لسنا بدعًا من الدول؛ فلأننا دولة إسلامية ذات أغلبية مسلمة، فنحن بدورنا نمتلك ضوابط من شريعتنا لحقوق المواطنة، تقيم هذا التوازن المنشود، وتحفظ على بلادنا هويتها الإسلامية.
ثانيًا: سيادة القانون:
والدولة المدنية كذلك هي دولة سيادة القانون، التي يخضع فيها الحكام والمحكومون على السواء لقانون الدولة، دون أن يكون هناك امتياز أو استثناء لأحد لمنصب أو دين أو ثروة وغير ذلك، فجميع الناس متساوون أمام القضاء، كما تلتزم كل السلطات فيها بتوفير الضمانات القانونية والقضائية والإدارية لحماية حقوق الإنسان وكرامته وحرياته الأساسية.
ومن أهم النتائج الإيجابية لمبدأ سيادة القانون في المجتمع؛ ما يلي:
1. سيادة النظام في المجتمع: فيعرف كل فرد ما له وما عليه، وأن ما يعطيه القانون له لن يستطيع أحد أن يسلبه إياه.
2. المساواة أمام القضاء: إذ يكون لكل مواطن ذات الضمانات الدستورية والقانونية في اللجوء إلى القضاء للمطالبة بحقوقه، وفي الدفاع عنها أيضًا، دون أن يحرمه أحد من ذلك، ويكون ذلك على قدم المساواة مع غيره.
3. تكافؤ الفرص: فإذا تقدَّم مواطن لمسابقة للفوز بوظيفة مثلًا، فإنه يكون واثقًا بالنجاح إذا كانت الشروط اللازمة والكفاءة متوفرة فيه، دون الحاجة للجوء للمحسوبيات أو وسيلة أخرى غير قانونية.
4. تثبيت مفهوم المواطنة، وتحقيق الانتماء الوطني.
وإذا نظرنا إلى مبدأ سيادة القانون في الدولة الإسلامية الأولى لوجدناه مطبقًا في أرقى صوره، فقد كان القانون يُطبق على الجميع بغض النظر عن الشخص ونسبه أو درجته الاجتماعية، فهو إن أحسن العمل يثاب، وإن أساء يعاقب، ولا تمييز بين أفراد المجتمع حاكمهم ومحكومهم أمام القانون.
فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يعلنها صريحة جلية؛ فيقول: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله؛ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) [رواه البخاري، (3475)].
وذات مرة (سقطت درع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فوجدها عند رجل نصراني، فاختصما إلى القاضي شريح، قال علي رضي الله عنه: الدرع درعي، ولم أبع ولم أهب.
فسأل القاضي ذلك النصراني فيما يقول أمير المؤمنين، فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب، فالتفت شريح إلى علي رضي الله عنه يسأله: يا أمير المؤمنين، هل لك من بيِّنة؟ فضحك علي رضي الله عنه، وقال: أصاب شريح، ما لي بيِّنة.
وقضى شريح للنصراني بالدرع؛ لأنه صاحب اليد عليها، ولم تقم بينة عَلِيٍّ رضي الله عنه بخلاف ذلك، فأخذها هذا الرجل ومضى، ولم يمشِ خطوات حتى عاد يقول: أما إني أشهد أن هذه أحكام أنبياء! أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه؛ فيقضي لي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، الدرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين، فخرجت من بعيرك الأورق، فقال علي رضي الله عنه: أما إذ أسلمت فهي لك) [البداية والنهاية، ابن كثير، (8/4-5)].
المقصود بسيادة القانون:
وما نقصده بسيادة القانون هو القانون المستمد من قطعيات وثوابت الشريعة الإسلامية، فالسيادة في الدولة الإسلامية لا تكون إلا لشرع الله تعالى، فالمرجعية العليا والمطلقة للتشريع في دولة الإسلام هي لشريعة الله تعالى، المُتَمَثِّلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما انعقد عليه إجماع الأمة، فالتشريع المطلق هو حق خالص لله، بمعنى أن الذي من حقه أن يُحِلَّ ويحرِّم هو الله وحده سبحانه وتعالى.
وهذا الأصل العظيم في التصور الإسلامي ـ وهو كون السيادة للشرع ـ لاشك أنه الأصلح والأنفع للبشر؛ وذلك بمقتضى العقل السليم، ومقتضى التجارب الواقعية أيضًا.
فأما أنه الأنفع للبشر بمقتضى العقل السليم؛ فلأن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق الإنسان، وهو تعالى الذي يعلم تكوينه، ودقائق نفسه.
وأما كون السيادة للشرع أنفع للبشر بمقتضى الدروس التي تعلمتها البشرية من تاريخها الطويل؛ فذلك لأن الخلاصة العلمية التي انتهى إليها خبراء العلوم السياسية عبر رصدهم التاريخي لتطور النظم السياسية في العالم، هي: "أن كل تشريع من صنع البشر هو تعبير عن الطبقة التي شرعته، وأنه يمثل مصالحها على حساب بقية الطبقات".
فالإقطاع يشرع لحساب طبقة الإقطاعيين، ولحماية مصالحهم على حساب بقية الشعب.
ورأس المال يشرع لحساب طبقة الرأسماليين، ولحماية مصالحهم على حساب العمال.
ودكتاتورية البروليتاريا تشرع لحساب طبقة العمال ـ نظريًّا على الأقل ـ على حساب بقية الآدميين، ولم يحدث غير ذلك عبر مراحل التاريخ المختلفة.
وقد يفهم البعض خطأ من قاعدة (السيادة للشرع) أنه لا يحق للأمة أن تشرع مطلقًا؛ وهنا يصحح لنا الدكتور يوسف القرضاوي ـ حفظه الله ـ هذا الفهم فيقول: (وينبغي أن يعلم أن إقرار مبدأ التشريع والحاكمية لله تعالى لا يسلب الأمة سلطانها في الاجتهاد لنفسها في التقنين لحياتها وشئونها الدنيوية المتطورة، إنما المقصود أن يكون التشريع أو التقنين في إطار النصوص المعصومة، والمقاصد الكلية للشريعة وللرسالة الإسلامية.
فالنصوص الملزمة قليلة جدًّا، ومنطقة العفو أو الفراغ التشريعي جد واسعة، والنصوص نفسها من السعة والمرونة بحيث تتسع لأكثر من فَهم وأكثر من تفسير، ومن ثَمَّ تتعدد المشارب والمذاهب والآراء داخل إطار الإسلام الرحب) [أولويات الحركة الإسلامية، د.يوسف القرضاوي، ص(155-156)].
وإذا تأملنا في الواقع المصري؛ فسنجد أن مصر دولة إسلامية دينها الرسمي هو الإسلام ودستورها ينص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وهذا من الأساسيات الاجتماعية والقانونية في المجتمع المصري منذ عدة عقود، ولم تكن هذه المادة في يوم من الأيام مدخلًا أو بابًا للتفرقة بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع المصري، بل عاش الجميع في وئام واتفاق، سواسية أمام القانون، إلا من بعض الممارسات الخاطئة من الطرفين، والتي لا تهدد في أكثر الأحيان استقرار الأمن وتحقيق السلام الاجتماعي.
وإن كان من الإنصاف أن نقر أن هناك خللًا واضحًا في تطبيق هذه المادة بصورتها المرجوة، وأن الأفضل إن أردنا تطبيقًا فاعلًا لها أن يتغير نصها إلى: قطعيات الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، ونقصد بالقطعيات هو ما كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة في الشرع، وما عدا ذلك فما وسع الأمة فيه الخلاف قديمًا، فإنه يسعنا نحن أيضًا، ومساحة الاجتهاد كبيرة كما ذكرنا منذ قليل.
ومن المفيد أن نذكر هنا تصريحًا لوزير الدولة للشئون القانونية الدكتور مفيد شهاب، يؤكد ما ذكرناه أن المواطنة وسيادة القانون لا يتعارضان مع كون القوانين مستمدة من الشريعة، وكان قد صرَّح به في اتصال هاتفي مع برنامج 48 ساعة، والذي يُذاع على قناة المحور الفضائية المصرية، بتاريخ 30/9/2010م: (لم يرد على لساني أني أطالب بألَّا نحكم بالشريعة الإسلامية، كل ما قلته في محاضرة للشباب حول مفهوم المواطنة وهي المساواة بين كل أفراد الشعب الواحد، بغض النظر عن الديانة، وقلت: أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وشرحت لهم المادة الثانية من الدستور وقرأتها عليهم بأن مصر دولة دينها الإسلام ولغتها العربية ومبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدر كل القوانين، وأنا أرفض إصدار أي قانون يخالف الشريعة الإسلامية).
وقد يكون لدى المعارضين لمبدأ سيادة الشرع وجعل الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع مبرر، لما رأوه من ممارسات واقعية لفئات من الإسلاميين كانت تستخدم الدين في تحقيق بعض المكاسب السياسية؛ وهذا مما لا يليق ولا يوافق عليه عاقل.
فالدين ليس مطية أو لعبة نستخدمها حين نريد كما يحدث من البعض؛ فيحرِّمون المشاركة في الانتخابات ويعدونها من باب التعاون على الإثم والعدوان في عام، ثم بعد ذلك يتحول الحكم الشرعي إلى حرمة عدم المشاركة في الانتخابات وأن هذا الفعل كالتولي يوم الزحف.
أو كما يحدث من بعض الطوائف الأخرى التي انتقل حكم مسألة فقهية لديها (وهي مسألة المظاهرات) عبر مراحل ثلاثة: من التحريم والمقاطعة وعدم المشاركة فيها، مرورًا بوضع الضوابط، وانتهاء بالجواز بل والحض على المشاركة فيها وتنظيم بعضها إن لزم الأمر.
فمما لاشك فيه أن هذه الأخطاء وغيرها قد أغرت الكثيرين بالطعن في شريعة الإسلام، ولكننا نقول أن الإسلام هو الحجة على جميع المسلمين، وليس هناك من أحد هو حجة على الإسلام مهما علا قدره أو بلغت منزلته، فكلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
وفصل الدين عن السياسة لهو وعبث ولا يستقيم مع دين هو في أساسه شريعة وعقيدة، وضع لتنظيم حياة الناس وواقعهم في كل المجالات، ولم يستسغ هذه المقولة حتى بعض المنصفين من غير المسلمين من علماء الغرب، يقول الدكتور "فيتزجيرالد": (ليس الإسلام دينًا فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضًا، وعلى الرغم من أنه قد ظهر في العهد الأخير بعض أفراد من المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون، يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بُني على أساس أن الجانبين متلازمان، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر) [النظريات السياسية الإسلامية، د.محمد ضياء الدين الريس، ص(28-29)].
وقد يفهم البعض خطأ من خلال التصور السابق، أن الحاكم في الدولة المسلمة لابد وأن يكون من علماء الدين، باعتبارهم هم الأعلم بأحكام الشريعة، وهذا أمر لا يمكن أن يكون صحيحًا البتة، وقد بينته أكثر من مرة في بعض كتبي [راجع كتاب: نهضة أمة]، فإن الغالب على علماء الدين ضعفهم في سياسة الدنيا، وقلة خبرتهم في الحكم وما والاه؛ لأنهم صرفوا أذهانهم إلى التحصيل، ووجهوا فهمهم إلى العلم، ومن عانى شيئًا أوتي حكمته، وقلَّ أن تجد عالمًا ملمًّا بشئون الدنيا، خاصة ما يتعلق بشئون السياسة والحكم، لأن الحكم يحتاج إلى المراس والدربة أكثر من النقل، فلذا تجد الحاكم في الغالب وإن قل علمه بالدين أكثر حنكة ودربة، وأشد تجربة ومرانًا في الحكم من العالِم.
فتجد عند الحكام في الغالب من تقدير الأمور ومعرفة العواقب والدهاء، والخبرة بالحكم والناس ما لا تجده عند كثير من العلماء، مع علمهم وفضلهم وتقواهم، وقد ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ولايات لغزارة عقولهم وجودة أفكارهم وحسن نظرهم؛ كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأبي سفيان، وترك غيرهم من أمثال ابن عباس وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين؛ لأن العلم والفضل شيء، والحنكة والدراية والذكاء بأمور الدنيا شيء آخر.
وبنظرة سريعة عبر التاريخ الإسلامي؛ ترينا تكرر ثنائية القائد بجوار العالم بصورة تكاد تكون دائمة، بحيث نجد دائمًا أن القيادة السياسية لم تكن أبدًا بأيدي العلماء، وإنما بيد القادة السياسيين إلا فيما ندر، كما وجدنا مثلًا في ثنائية سيف الدين قطز والإمام العز بن عبد السلام، وفي العصر الحديث وجدنا ذلك أيضًا في ثنائية الإمام محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود، ونخلص من ذلك إلى أن دور العلماء في الدولة المسلمة إنما هو في بيان حكم الشريعة فيما يحتاجه المجتمع في أمور الدين والدنيا.
وكذلك أنه لا تعارض بين سيادة القانون وبين أن يكون هذا القانون مستمدًّا من قطعيات الشريعة الإسلامية، ولا تلازم أيضًا بين سيادة القانون وبين أن يكون هذا القانون علمانيًّا كما يحلو للبعض أن يروج.
ثالثًا: التعددية وقبول الآخر:
ومن مقومات الدولة المدنية القبول بتعدد الآراء والمصالح داخل المجتمع، على أن يُدار هذا التعدد بشكل سلمي، من خلال إقرار المجتمع بممارسة الحقوق والحريات السياسية، وكل ذلك في إطار قانوني يحمي ويصون ويضمن سلامة المجتمع وأمنه.
وكذلك أن تَبني الأطراف المختلفة مواقفها مع الآخر على أساس فهم منطلقاته ودوافعه، والالتقاء معه على الثوابت المشتركة والمصالح المتقاطعة، وحل الخلافات على أرضية الحوار وليس الصراع.
وإذا نظرنا إلى فكرة التعددية في التصور الإسلامي؛ لوجدنا أن الإسلام قد قدَّم جوهر هذه الفكرة، وجعل لها مضمونًا وضمانات أكثر موضوعية وفاعلية مما وُجد في الغرب الليبرالي.
وفي الوقت الراهن الذي لازلنا نجد فيه أنصارًا لفكرة صراع الحضارات، وفكرة تنميط العالم بنمط واحد وعولمته على قيم واحدة، وإزاحة القيم المغايرة والحضارات الأخرى، فإن الدولة الإسلامية التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسست للتعددية والحوار وقبول الآخر نظامًا يقوم على التسامح، وعلى إسباغ الوضع الإنساني والقانوني للتعددية، وقبول الاختلاف كشيء أصيل في نسيج المجتمع.
وليس أدل على ذلك من تعامل المسلمين مع غيرهم من غير المسلمين في البلاد التي فتحوها، ومن الحقوق والواجبات التي أوجبها الله على الدولة المسلمة حكومة وشعبًا تجاه غير المسلمين من أهل الكتاب، الذين يعيشون داخل المجتمع المسلم، كما زخر الفقه الإسلامي بهذه الميزة الرائعة؛ فلا تكاد تخلو مسألة من مسائل الفقه من اختلاف بين عالم وعالم، فمسائل الإجماع قليلة مقارنة بمسائل الاختلاف، ولهذا صنف الكثير من أهل العلم مؤلفات عدة في فقه الاختلاف.
فالتعددية سنة كونية لا سبيل إلى إزاحتها من المجتمعات الإنسانية؛ يقول تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118-119]، فلابد من قبول هذا الاختلاف والتعامل معه كواقع كوني؛ وتوظيفه كقوى فاعلة خيرة لخدمة المجتمع، لا لتفكيكه وإحداث الصراعات في داخله.
وهذا الاختلاف في الآراء والتوجهات والأفكار في المجتمع الإسلامي لم يُترك على إطلاقه، بل نظم بضوابط وقيود وتوازنات خاصة، انطلاقًا من واقعية الإسلام، حيث يقر بالاختلاف والتعدد لكنه ينظم هذا التعدد والاختلاف في إطار الثوابت الدينية والقانونية والوطنية، بحيث يتم بشكل سلمي ومنضبط ويؤدي إلى الخير العام، وإلا تحول التعدد إلى خلاف وشقاق وأصبح ظاهرة سلبية تهدد كيان المجتمع ووحدته.
وهذا ما يتفق مع العقل والمنطق، ولا يتعارض البتة مع الحريات وحقوق الإنسان، فقبول الآخر لا يعني هدم الثوابت الاجتماعية أو الدينية أو القانونية في الدولة، فلا يمكن بحال أن يتم القبول بإنشاء حزب يتبنى الأفكار الصهيونية داخل مصر، أو يتم القبول مثلًا بجمعية تدعو لحقوق الشواذ جنسيًّا، كما لا يُسمح كذلك بنشر الإلحاد وسبِّ الله تعالى والإسلام وغيره من الأديان بحجة حرية التعبير والقبول بالآخر، فمثل هذه الأمور الشاذة عن مجتمعاتنا لا يقبلها الشرع ولا القانون، ولا حتى المجتمع بأغلبيته المسلمة المتدينة، بل ولا حتى بأقليته القبطية.
وهذا الأمر ليس غريبًا ولا بدعًا من القول؛ فكل مجتمع ـ كما سبق ـ له ثوابته الوطنية والقانونية التي لا يجوز خرقها، حفاظًا على هوية الدولة الثقافية والحضارية التي تميزها عن باقي الدول.
رابعًا: محاسبة السلطة:
ومن المقومات الأساسية للدولة المدنية أيضًا وجود نظام وإطار حقيقي لمحاسبة ومساءلة السلطة، بما يحويه من ضمانات سياسية وقانونية وإدارية، وتهدف محاسبة السلطة إلى صون حقوق المواطن، وتحقيق رفاهيته، وتمكينه من محاسبة أولئك الذين يضطلعون نيابة عنه بممارسة السلطة.
وكان هذا المعنى واضحًا في أذهان المسلمين، لاسيما في عهد الخلفاء الراشدين؛ فقد أقروا جميعًا بحق الأمة في الرقابة على أعمالهم ومحاسبتهم عليها، وعلموا أن كل حاكم معرض للخطأ والمحاسبة، إذ أنه لا يستمد سلطانه من أي امتياز شخصي يجعل له أفضلية على غيره، وعهد الرسالات والرسل المعصومين قد انتهى.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه يقول في خطبته: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ... فإن أحسنت فأعينوني، وإن أنا زغت فقوموني) [تاريخ دمشق، ابن عساكر، (30/301-302)].
ومما قاله عمر رضي الله عنه في خطبته بعد أن وُلِّي الخلافة: (أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضار النصيحة فيما ولاني الله) [ المصدر السابق، (44/267)].
وها هو عثمان رضي الله عنه يرسخ في المسلمين نفس المنهج السديد؛ فيقول: (إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فضعوهما) [المصدر السابق، (39/358)].
وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيحث الناس على ذلك ويدفعهم دفعًا إليه؛ حين يقول: (فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني) [شرح نهج البلاغة، ابن أبي حديد، (11/102)].
من خلال ما سبق؛ ندرك بما لا يدع مجالًا للشك أن مراقبة الحكام ومحاسبتهم ومعارضتهم فرض كفاية في شريعتنا، شريطة أن يكون ذلك ابتغاء مرضات الله من غير تجنٍّ، أو ابتغاء فتنة، أو إفساد في الأرض.
ومن هذا المنطلق؛ فقد احتشد التاريخ الإسلامي بوقائع المحاسبة للإمام في عهود الراشدين، محاسبة كانت هادئة حينًا وثقيلة أحيانًا؛ "فها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جاءته برود (أثواب من قماش) من اليمن فقسمها بين المسلمين، فكان لكل رجل برد واحد، وأخذ لنفسه كعامة المسلمين بردًا واحدًا.
فلما صعد على المنبر وعليه البرد وقد فصله قميصًا، ليندب الناس إلى الجهاد، فما أن بدأ بقوله: اسمعوا يرحمكم الله، حتى صاح أحد المسلمين في وجهه: لا سمع ولا طاعة، فسأله عمر، ولِمَ؟ فقال الرجل: لأنك استأثرت علينا، لقد أعطيت كلًّا منا بردًا واحدًا وأخذت أنت بردين، فالبرد الواحد لا يكفيك ثوبًا فكيف فصلته قميصًا، وأنت رجل طوال؟ (وكان القميص عندهم أطول من الثوب)، فبحث عمر بعينيه بين الناس حتى رأى ابنه عبد الله بن عمر، فقال: أجبه يا عبد الله، فقال عبد الله بن عمر على الفور: لقد أعطيته من بردي فأتم قميصه منه، فقال الرجل: أما الآن فالسمع والطاعة) [الرياض النضرة في مناقب العشرة، المحب الطبري، ص183].
وإذا كانت هذه الشدة في محاسبة إمام شديد في الحق كعمر، فلنا أن نتوقع المستوى العام لمحاسبة السلطة في هذه الدولة.
ولئن كانت الدولة الإسلامية حينذاك قد خلت من أجهزة معينة للرقابة والمحاسبة، فإنما كان ذلك لأن الأمة كلها كانت تراقب وتحاسب أمير المؤمنين شخصيًّا، وتبعث إليه أحوال عماله تباعًا بحيث لم تكن تخفى خافية، وكأن الباحث في هذه الدولة يجد ما نطلق عليه "الشفافية" في أوج تطبيقها، بما لم يتوفر مثله في أرقى الدول الحديثة التي تثقلها الاحتكارات والرشاوى، وتتحكم هذه الاحتكارات في اختيار الرئيس نفسه، حيث لا يستطيع أي رئيس في بعض هذه الدول أن يتجاسر على ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة دون دعم هذه الاحتكارات.
ولا يوجد ثمة مانع في الإسلام يمنع من تشكيل مجلس للرقابة والمحاسبة، بل هذا ما حدث فعلًا في أدوار التاريخ الإسلامي بعد ذلك، حينما أنشئ في بعض الدول الإسلامية ديوان المظالم، الذي كان مهمته حصر الشكاوى والمخالفات التي تصدر من رجال الدولة وموظفيها من العمال والولاة.
وصارت هذه التجارب والأمثلة الإسلامية أساسًا لمحاسبة السلطة، عندما انتقلت هذه التجارب مع ما انتقل من تراث حضارة الإسلام في المشرق والمغرب إلى أوروبا، فتتلمذ عليها فلاسفة الفكر السياسي الغربي، وكانت نواة لما ينادون به الآن من قوانين الحريات وحقوق للإنسان.
خامسًا: التداول السلمي للسلطة:
أما عن المقوم الأخير للدولة المدنية وهو التداول السلمي للسلطة، فيقصد به وجود آليات لانتقال المنصب السياسي من فرد إلى آخر، سواء أكان شاغل المنصب رئيسًا للجمهورية أو للوزراء في النظم الرئاسية والبرلمانية على الترتيب، ولاريب أن وجود تعدد حزبي وتنافس سياسي حقيقي وانتخابات دورية حرة ونزيهة ورأي عام قوي وقادر على التأثير، ووسائل إعلام تقوم بدور رقابي فاعل في محاسبة المسئولين ـ يعتبر أمرًا جوهريًّا لتحقيق التداول السلمي للسلطة.
وبالنظر إلى التاريخ الإسلامي، نجد أن الدولة الإسلامية لم تطبق تداول السلطة اختياريًّا في عهود أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، لأن مدد تولي كلٍّ منهم رضي الله عنهم كانت قصيرة، ولأن كلًّا منهم قام بشروط الإمامة، ووفاها حقوقها، فلم تكن ثمة فرصة لتداول السلطة اختياريًّا في عهودهم.
ثم تحول الأمر إلى الأمويين والعباسيين والعثمانيين، فلم يكن كذلك ثمة تداول للسلطة، وكانت النظم العالمية كلها على هذا النحو، فلم تكن الدولة الإسلامية بدعًا في هذا.
وليس معنى ذلك أن الإسلام يمنع تداول السلطة، بل حتى ليس في اشتراط مدة للرئاسة أو توقيت عقد الإمامة ما يخالف نصًّا، أو يصطدم مع قاعدة من قواعد الإسلام، [راجع كتاب: الإسلاميون والديموقراطية]، فالذي يقود إليه النظر والتحقيق في هذه المسألة؛ أنه لا يوجد أدنى حرج في توقيت مدة معينة للرئاسة؛ وذلك للاعتبارات التالية:
1. أن الإمامة في الأصل عقد من العقود طرفاه الإمام والأمة، فعلى الإمام واجب وهو حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وعلى الأمة واجب الطاعة والنصرة، فما الذي يمنع إذًا من أن يدرج في عقد الإمامة شرط تقييدها بمدة زمنية معينة، طالما أن هذا الشرط لا يتصادم مع نصوص الشريعة، لاسيما والحاجة ماسة في هذه الأعصار إلى مثل هذا الشرط، بعد أن ضعف وازع الدين عند أكثر الحكام، وجنحوا إلى الاستبداد، وصادروا حق الأمة في رقابة الحكام ومحاسبتهم.
2. أن مبدأ تقييد البيعة عمومًا ليس بالأمر الغريب على قواعد السياسة الشرعية، فها هم الأنصار رضي الله عنهم يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية بيعة مقيدة؛ فقد بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، ولكن بقيد واحد وهو أن يكون داخل حدود المدينة.
3. أنه قد ثبت بالأدلة الشرعية أن الأمة هي مصدر السلطات في الدولة المسلمة، فإذا كان الحق في السلطة ابتداء هو لجماعة المسلمين والإمام نائب عنها بإرادتها في ممارسة السلطة تحقيقًا لمصالح المسلمين؛ فإن ذلك يعني أن للأمة أن تمكِّن الإمام من هذه السلطة، سواء أكانت مطلقة أو مقيدة بحسب ما يترجح لديها من المصلحة.
هذا ومن الجدير بالذكر أنه إذا جاز ذلك في حق الإمام الأكبر وهو خليفة المسلمين والحاكم العام للأمة الإسلامية؛ فجواز ذلك في حق من دونه من حكام الدول الإسلامية أولى، فالأمر فيه أيسر بكثير منه في حال خليفة المسلمين.
وفي ختام هذا البحث المختصر نجمل نتائجه فيما يلي:
1. الدولة المدنية ليست مرادفة للعلمانية، ولا يُشترط لتحقيقها في أرض الواقع أن تكون الدولة علمانية.
2. نحن نقبل بمصطلح الدولة المدنية إجمالًا؛ وهي عندنا دولة سيادة القانون المستمد من قطعيات الشريعة الإسلامية، والتي يكون التمييز فيها على أساس المواطنة، وتقبل بالتعددية والرأي الآخر في ظل الثوابت الدينية والوطنية والقانونية، وتحاسب الأنظمة والحكام بالوسائل القانونية المتعارف عليها، وتقبل بالتداول السلمي للسلطة.
3. نحن نقول أن الفصل بين الدين والسياسة أمر لا يمكن حدوثه مع الإسلام الذي أنزله الله شريعة وعقيدة، ولكننا لا نوافق أن يتم استغلال الدين كوسيلة لتحقيق بعض المكاسب السياسية كما حدث من بعض الحركات والجماعات الإسلامية على الساحة.
|
|
|
|
|
________________________________________
نصيحتى إلى العلمانيين
إن القارئ الجيد لنتائج الاستفتاء في مصر لا بد أن يخرج بمجموعة من الحقائق يمكن أن تضع له علامات على كيفية تشكيل المشهد السياسي والمجتمعي في مصر في المرحلة المقبلة.
وأهم النتائج التي يمكن أن تستخلص من هذا المشهد، أن الليبرالية المصرية تختلف بالكلية عن تلك الموجودة في الغرب، وأنه لكي تجد هذه التجربة موطأ قدم في المجتمع المصري فلا يمكن أن تصدم الشعب في أي من ثوابته ولا أن تقلقه بإمكانية العبث بها أو تجربة ذلك.
فالكلام عن المادة الثانية من الدستور وعن الدولة المدنية التي تحارب الدين أو تدعو إلى إقصائه هي دعوة إلى إقصاء من يقول بهذا الكلام في دولة كمصر.
فهناك فرق كبير بين فصل الدين عن الحياة وبين الاستخدام الخاطئ للدين في السياسة فالديموقراطية المصرية مجالها يبدأ بعد الثوابت الدينية والوطنية والقانونية وليست مطلقة كما يريدها بعض المثقفين المصريين.
الأمر الأهم أن لاعبي السياسة يترجمون رغبات الشعب عبر برامج ومسارات وليست وظيفتهم تعليم الشعب، فإطار الفكر غير إطار السياسة والمعارك الانتخابية تدار في الواقع وليس الفضائيات والواقع له استحقاقات لا بد من تحصيلها، ومن غير المعقول مثلا أن تكون قيادة اليسار المصري مثلا تعادي السواد الأعظم من الشعب بسبب التقدمية المزعومة ولذلك لو استمرت على هذا الوضع مئات السنين في ظل أفضل المناخات السياسية لن تحظى بالقبول.
والسبب ليس الدعاية الإسلامية ولكن اختيار مناهج وأفكار لا تتلاءم مع الواقع المصري، ولذلك الليبرالية الغربية الكاملة مما لا شك فيه لن تحظى بالقبول لنفس الأسباب.
فالصورة التي يمكن أن يقبلها الشعب ويمكن أن تثري الحياة السياسية في مصر وتحول دون الاستخدام الخاطئ للدين في السياسة تكون بقبول هذه الفئة لمجموعة من الثوابت المجتمعية وهي:
1. الدين أهم المقومات الاجتماعية المصرية، وله من العمق ما يجعله محركًا أساسيًا لكثير من التصرفات اليومية.
2. الدين الإسلامي يختلف من غيره من الأديان، فهو ليس علاقة فردية بين العبد وربه بل هو منظم لكثير من العلاقات الاجتماعية، ومنظم كذلك للعلاقة بين الفرد وحاكمه عبر مجموعة من المبادئ التي وضعها لهذه العلاقات وتمت ترجمتها من خلال سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وعبر الدولة الراشدة، والشريعة الإسلامية لها ضوابط ونصوص واضحة تحدد كل هذه المبادئ.
3. في مصر لا يوجد اضطهاد للأقباط ومحاولة اللعب على هذه الورقة يضر الأطراف المدنية ويشعر الجميع بالخطر على الثوابت الدينية.
4. الدولة المدنية في مصر حقيقة لا مفر منها ولكنها مدنية على الطريقة المصرية وليست الغربية.
5. وهم وجود إشكاليات بين المشروع الإسلامي والمرأة غير صحيح، ويشعر الناس أن السقف المطلوب لحرية المرأة ربما يكون خطرا على المجتمع، فالواقع أثبت أنه عند اللزوم نزلت المنقبات وشاركت بصورة كاملة وراقية في العملية السياسية.
6. طرح الإخوان لا يتشابه مع الدولة الدينية في طهران، بل هو طرح مدني، له مساحة أكبر من الثوابت الدينية، بل ومنهم أشخاص يحسبهم العلمانيون من أكثر الناس تطرفا ظهروا على الفضائيات في برامج محسوبة على العلمانيين، ومع مذيعات وأدلوا بتصريحات وأداروا حوارات تنم عن معرفة الواقع المصري معرفة دقيقة.
وبدون الاتفاق على هذه الثوابت المجتمعية ستتسع مساحة الاختلاف بين العلمانيين والمجتمع ولن يتعدى دورهم دور المنظرين السياسيين على شاشات الفضائيات بعيدا عن التأثير الواقعي الحقيقي في أوساط الناس.
تعليقات
إرسال تعليق