الحراك المدني والسياسي.

لعل معيار تقدم أمة عن أخرى هو مدى تقدم وتطور اللبنة الأولى فيها، ألا وهو الفرد الواحد في مجتمعها. استغرق التطور في المجتمعات الحديثة في الغرب قرون عديدة عبرت فيه من نير حكم الامبراطوريات المتعددة وصولا إلى دول قومية ذات مجتمعات مدنية فعّالة، تحولت إلى ديمقراطيات تحكم نفسها بفعل نتائج الانتخاب الحر وسط حراك سياسي مقنن، التعامل بين الحكومات وفئات الشعب تضبطها القوانين والدساتير التي صارت نبراسا ومرجعية للعلاقات بينها باحترام بل وبتقديس الجميع لها؛ وتم كل ذلك وسط نظام تربوي وتعليمي ما فتأ يتطور عبر العصور وأخرج أجيالا بلغوا شأوا عظيما في العلوم والبحوث والاختراع والاقتصاد، النشاط التربوي التعليمي كان هو المحرك الرئيس لتنمية الفرد ومن ثم الأمة بكاملها. الذي دفع بهذه النهضة إلى الأمام كان في كثير من الأحوال مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة وأحيانا المؤسسة الدينية في بلداننا العربية، أو في أمتنا بوسعها، وبعد فترات اندحار وتراجع وهيمنة أجنبية مباشرة لم تحدث التنمية والتقدم بعد الاستقلال وفق المأمول ويرجع ذلك لإرث تخلف وقبلية حلت محل الدولة وتصارع على مقاعد السلطة للوجاهة والتكسّب، ولم يتغير حال الإنسان الفرد في أوطاننا كثيرا فما زالت تتنازعه الولاءات ولم يحظ بحقوقه كاملة ولم يتعلم حتى كيف يطالب بها ضمن حراك مدني سلمي وفعّال وبقيت المؤسسات الحاكمة منصاعة بشكل أو آخر للمستعمر السابق وإن قيل لهم غير ذلك.

الدول التي حظيت بالنفط صارت دولا ريعية لا اقتصاد حقيقي بها، بل تنفق من دخل حققه لها الغير، وأخرى تصدر العمالة لدول أخرى لديها فرص عمل إلا أن هذه أيضا صارت تعاني لتعقد سوق العمل على مستوى العالم وتقلص الحاجة للعمالة غير الماهرة، ولما كانت تنمية الإنسان الفرد وتطويره لمواكبة المستجدات غير موجودة فلم يعد لهذه الدول فرصا متاحة أمام عمالتها التي لا تستطيع حتى منافسة العمالة الآسيوية، بل صرنا نحن نستورد هذه العمالة ونبقي عمالتنا عاطلة.

تنمية الإنسان الغائبة

لن نخوض في المسببات فليس هذا محله، ولكننا نركز على تنمية الإنسان الغائبة عنا ونبحث في إمكانية إطلاقها هذه المرة من خلال حراك المجتمع المدني، وهذا المفهوم لا يزال ملتبسا عندنا؛ نلقي نظرة على ما عندنا :

المجتمع المدني، وهو هنا ليس التضاد مع ‘مجتمع عسكري’ بل هو مجموعة الأنشطة والمؤسسات التي يقوم بها مجموعة أفراد في سبيل الصالح العام دون طموح لكسب مادي وهو بحكم تعريفه لا يسعى للسلطة، فالسلطة وشؤونها عمل سياسي وكثير من المشتغلين بالنشاط الاجتماعي المدني يستنكفون عن الاشتغال بالسياسة عموما وإن فعلوا فهم لا يخلطون بين الاثنين، وصحيح أن الخطوط ما بين النشاطين (السياسي والمدني) قد تتقاطع ولكن يظل ذلك ضمن مصلحة المجتمع ككل والفارق بين الاثنين هو أن الأول يعمل ضمن برنامج ورؤية معينة تتفق عليها مجموعة ما تعرضها على الشعب، والثاني يسعى فقط لتأدية الخدمة وبذل الجهد في سبيل رفعة الإنسان وتعريفه لحقوقه وواجباته وكيفية المطالبة بها وكذلك مد يد الغوث والسعي لنشر التعلم ورفع الكفاءة المهنية والتخفيف من وطأة الكوارث ونجدة المعوزين إلى آخر ذلك.

هذه المهام لا يقوم بها إلا الأفراد الذين بلغوا مبلغا من صفات الإثرية وحب عمل الخير ودرء الشر ومقاومته، أي كل ما يمكننا توصيفه بالإنسان السويّ!

وفي تراثنا الإسلامي

في تراثنا الإسلامي، توصيف يماثل هذا الإنسان، أي الذي يحب الخير لأخيه وينجده عند الحاجة ويدله عندما يظل عن طريقه وهو وإن كان يسعى بذلك لمرضاة الخالق، إلا أن المحصلة أن الإنسان المسلم الصحيح هو الإنسان السويّ الذي يسلم الناس من يده ولسانه وهو فعال الخير لا يرجو جزاء أو شكورا، وهو الخدوم البشوش دائم الابتسام وضيئ الطلعة حسن الهندام نظيفه وهو المبادر بالقول الحسن المتفهم لأخيه وحاجاته وخلفياته وهو المعلم لمن جهل والمربي والمغيث.

هذا يجعلنا نتساءل، ألم يكن ممكنا لما صار يعرف عندنا بالحركات الإسلامية، القيام بمثل الدور الذي قامت به مؤسسات المجتمع المدني في الغرب لتحقق على الأقل جزءا من المطلوب الملح؟ أي بناء الإنسان وتنميته؟

الحركات الإسلامية، وهذا أمر مفهوم، كانت في معظمها منشغلة بالجهاد ضد المحتل في فترة الاستعمار، باعتباره من دين مغاير، واليوم صار العديد منها يواصل ذلك ‘الجهاد’ عشوائيا ضد ذات المحتل بمسميات أخرى بطريق العنف والعنف المضاد في معارك غير متكافئة، إلا أن مجرد نظرة عابرة نجد أمامنا سجالات وحروب لا تنتهي، ولم نجد الكثير تحقق من حيث تنمية الإنسان وتطويره وجعله قادرا على مواجهة أعباء الحياة الحديثة وأزماتها وتسليحه بالعلم والتقنية وتدريبه على إعمال الفكر لكي يستطيع اللحاق بالأمم الأخرى التي تقدمت، بل نجد وللأسف أن العديد من الحركات الإسلامية اصطنعت لنفسها أعداء جددا، محليين هذه المرة، أي أنظمة الحكم في بلدانها المختلفة التي خشيت على أمنها ناهيك عن الأعداء الأغيار.

الإخوان المسلمون مثالا:

لعل من بين أبرز الحركات الإسلامية في أمتنا هي حركة الإخوان التي استطاعت التواجد لأكثر من ثمانيةعقود منذ تأسيسها وانتشرت عبر رقاع عالمنا على الرغم من التضييق والمنع في الكثير من البلدان. قبل توجيه الاقتراح أو النقد البناء نعطف على أهم السمات التي اتسمت بها الحركة فنستطيع القول بأنها نجحت إلى حد ما في ‘استقطاب’ أو’ تربية’ عناصر يشار إليها بالبنان من حيث التحلي بالخلق الكريم والتميز في العلم وحب عمل الخير والبشاشة في التعامل مع غيرهم، وهذه لا شك تحتسب لهم وتثير الإعجاب وكان من الممكن أن تكون الحركة مثالا لحراك المجتمع المدني، أو الإسلامي هذه المرة يحتذى به، إلا أن في رأيننا هنالك خلل ما نحاول تقصيه..

بين التسمية والتماثل:

لا شك أن التسمي ‘بالإسلامي’ يثير حفيظة البعض الذي قد يقولون: أوَ لسنا مسلمين أيضا؟ هذه ‘الحفيظة’ تتجلى بوضوح عند الولوج في معترك السياسة فتصير كأنها اتهام للغير وإقصاء ، لذلك ومن باب المودة وحث على استثمار النهج الدعوي أو بالأحرى التربوي في سبيل إفراز ‘الإنسان السويّ- المسلم’ لتمكين مجتمعاتنا على النهوض من تخلفها، نتساءل كم سيكون مجديا ومثمرا التركيز على هذا الجانب في خضم الحراك المدني، ولن يثير ذلك في حسباننا حفيظة أحد؛ فمن الذي يكره أن يكون لديه شعبا واعيا فاعلا متعلما وقادرا؟

بطبيعة الحال، لا نغمط حق جماعة الإخوان من الاشتغال في مجال السياسة ولكن على أن يتم ذلك بمسميات أخرى- وليس بالضرورة أن تكنى بالإسلامية، من قبل بعض من الذين تربوا في مدرسة الجماعة، بل ولما لا يكون هنالك عدة منظمات عوضا عن واحدة؟ أو حتى عدة أحزاب، ففي نهاية الأمر السياسة تتكون من رؤية وبرنامج وقد نجد، ولا بد أن نجد؛ تعدد في الآراء والرؤى. وممارسة السياسة سواء في المعارضة أو الموالاة تخطئ وتصيب، وتنجح وتتعثر، وفي هذه الحالة من العدل أن يحمل عبأ القصور وجائزة الفوز من قصّر ومن نجح، وليس الإسلام بذاته الذي يجب أن يظل بعيدا عن مناورات وسياسات الأفراد الذين لن يستطيعوا حتما الادعاء بالكمال واحتكار القول الفصل في الإسلام، الإسلام بالدرجة الأولى سلوك الفرد في مجتمعه، والفرد حسن السلوك والسيرة يستطيع أن يبذل ويعمل بدون السياسة مباشرة، ولنا عبرة في التجربة التركية التي التزمت بعد تعثر فأخرجت لنا أناس متمسكين بأخلاقيات الإسلام ونهجه وسلكوا مسلكه فحققوا، على قصر التجربة، نجاحا أيما نجاح، وكان التأييد لهم نابعا من نجاحهم، وإن كان همهم الإسلام، فلقد صاروا أفضل الدعاة له بسلوكهم.

عدونا بالدرجة الأولى ليس الغرب أو الفساد أو أنظمة حكمنا، إنه تخلف الإنسان الفرد عندنا وقصوره، فمن باب أولى أن نسعى لنهج تربية تخرج لنا إنسانا فعّالا فاعلا، ومن بينهم سنرى قادة ومفكرين على كل المستويات يدفعون الغير لاتباعهم لحسن صيتهم وعلمهم وقدرتهم والثقة التي يستدعونها.

ما نقوله ينطبق على كافة الحركات الإسلامية، وهاجسنا ليس سوى الحث على رفعة ‘الإنسان’ وترقيته، مواطن سويّ سينهض بوطنه ويقوم به … فيا ليت مزيدا من الدعوة والتربية وقليلا من السياسة والمناورة.

رمضان جربوع

تعليقات