حقائق الحلال والحرام

خطبة منبرية حقائق الحلال والحرام

حسن السبيكي ـ خطيب منبرـ المغرب

يقول الله عز وجل : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ، ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } النحل 116

موضوع الحلال والحرام من أهم قضايا الاسلام التي تدعو الى التفقه والتدبر الدائم ، لأن عليها مدار الدين كله ،في قواعده ومقاصده ، في العقائد والعبادات والاخلاق والمعاملات ،

ومن المعلوم ان الله تعالى خلق العباد لعبادته،{ وما خلقت الجن و الانس الا ليعبدون } وتلك رسالة وجودهم على مسرح الحياة الدنيا ، فمن دخل في رحاب العبودية عابدا لله وحده فهو على نور من ربه وهداية ، وقد أصاب غاية وجوده ومغزى حياته، فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن هذه الغاية ، فهو على ضلال ، وان له معيشة ضنكا . والعبادة اسم جامع لكل ما يحب الله تعالى ويرضى مما يتقرب به اليه من الاقوال والافعال والاحوال ، الظاهرة و الباطنة ، على التوحيد والاخلاص . وشاهد ذلك في الاستجابة لله تعالى بالسمع والطاعة فيما يأمر وينهى مما انزل في كتابه وبلغ رسوله الأمين في سنته الثابتة . وعلى هذا الاساس قامت أحكام شريعة الله تعالى في الحلال والحرام .

ان أحكام الحلال والحرام ، حدود الله تعالى ، يختبر فيها عبودية العباد ، ويشرع لهم بها ما يصون كرامتهم الانسانية ويحقق لهم الحياة الطيبة التي تليق بهذه الكرامة . فمن دان لله فيها بالرضى والاستجابة والتسليم ، فهو على صراط مستقيم ، وعلى حقيقة الايمان وطريق الفوز والفلاح : ّ{ انما كان قول المؤمنين اذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم ، أن يقولوا سمعنا وأطعنا ، وأولئك هم المفلحون . ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون }. ومن تمرد فيها على شرع الله فقد تعدى حدوده واستوجب وعيده وكان من الظالمين : { تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .

لكن ، ومع الأسف الشديد ، انشغل كثير من المسلمين بهموم الدنيا على حساب الدين ، فضعف التفقه أو انعدم ، ثم ضاع معه وازع التعظيم لحرمات الله وحدوده في الحلال والحرام ، حتى أصبحوا يعيشون على تناقضات غريبة :

ـ فمنهم المبطلون الذين لا يحملون من الاسلام الا الاسم ، لأنهم لايعرفون لله حقا ولا توقيرا ، ولا لدينه اعتبارا . فلا يعنيهم بعد ذلك حلال ولا حرام لأنهم عابدون لأهوائهم : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } القصص 50

ـ ومنهم من ينتقي من الدين ويختار بحسب ذوقه أو تصوره ، ويدع ما لا تهوى نفسه ، فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ، مبررا أعماله بمختلف الذرائع والأعذار بغير علم ولا بينه من الدين ، ولا يعلمون أن لا خيار لهم بعد حكم الله ورسوله : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ، اذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم }

ـ و قليل هم المؤمنون الصادقون الملتزمون ، الذين يقدرون دين الله تعالى ، ويسلمون فيه الحكم لله ، ويلزمون حدوده في الحلال والحرام :{ وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير }

ان من أوجب الواجبات بعد الايمان والتوحيد ، أن يتفقه المسلم في دينه عامة وفي أمور الحلال والحرام خاصة ، ليعلم القواعد و الأحكام والضوابط الشرعية حتى يعبد الله ربه على علم ويقين وبصيرة ، ويتبين سبيل طاعته وابتغاء مرضاته ، فيلزم حدوده ، ويعتدل على صراطه المستقيم بين مختلف سبل الغواية والضلال : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } .

لهذا نود التذكير بمجموعة قواعد وحقائق لازمة في موضوع الحلال والحرام ،كما هي مبينة عند علماء الأمة ، عسى أن تزول عن الأذهان والنفوس غشاوة الغفلة والالتباس التي تكتنف كثيرا من أحوال الناس في الايمان والتدين :

ـ الحقيقة الاولى : ان حق التشريع والتحليل والتحريم هو لله تعالى بمقتضى ربوبيته وألوهيته { ان الحكم الا لله } ولحكمة وغاية . فلله الحاكمية، يتعبد عباده بأوامره ونواهيه ، فلا حق لأحد بعده في ذلك الا رسول الله عليه الصلاة والسلام بتفويض وتبليغ عن الله تعالى { وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى }.

ـ الحقيقة الثانية : ان الأصل في الأشياء الاْْباحة، فلا حرام الا ما حرم الله تعالى ورسوله ، ولا حلال الا ما أحل الله ورسوله . فكل ما ورد فيه نص صريح من القرآن الكريم ، أو نص صحيح صريح من السنة النبوية بالتحريم ، فهو حرام قطعا ، وما ليس كذلك بقي على اصل الاباحة . وهذا من حكمة الله تعالى ورحمته لتضيق دائرة الحرام وتتسع دائرة الحلال ، رفقا ورفعا للحرج والعنت { وما جعل عليكم في الدين من حرج } الا أمور العبادة فالأصل فيها أحكام التشريع لأنها توقيف واقتداء .

ـ الحقيقة الثالثة : ان الله تعالى لا يحل الا الطيبات ولا يحرم الا الخبائث . فمن حقه تعالى ان يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ، ولكنه لطيف رحيم بهذه الأمة ، فلم يحرم عليها الا الخبائث ، ولم يحل لها الا الطيبات : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم } الانعام 157 .فما من شئ طيب محقق النفع الا وهو حلال ، وما من خبيث محقق الضرر الا وهو محرم . وذلك بعلم الله تعالى وحكمته { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } وان كان أكثر الناس لا يعلمون :{ وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون }.

ـ الحقيقة الرابعة : ان الله تعالى لم يحرم على هذه الأمة تحريم عقاب ولا مشقة ولا اعنات ، وذلك رحمة منه وفضلا ،خلاف ما كان مع الامم السابقة مثل يهود بني اسرائيل ، وقد حرم عليهم طيبات أحلت لهم من قبل ، عقابا لهم على الكفر والجحود : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا }النساء 163 .

ـ الحقيقة الخامسة : اذا حرم الله تعالى شيئا فهو حرام في كثيره وقليله ، كبيره وصغيره ، لأنه حامل لعلة التحريم في كل حال وفي كل زمان ومكان . والأمر في الاصل قائم على طاعة الله في أوامره ونواهيه ،فلا يحتقر شيئ من الحرام ولو قل ، فان النبئ صلى الله عليه وسلم يقول : ( اياكم ومحقرات الذنوب ... فانها متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه ) مسلم وأحمد وأبو داود .

ـ الحقيقة السادسة : كل ما يؤدي الى الحرام فهو حرام ، وذلك من حكمة التشريع الالهي لمحاصرة الحرام وتضييق نطاقه و الوقاية من أثاره بسد الذرائع وقطع سبل الغواية :

. فحين حرم الله الزنا حرم كل مقدماته ودواعيه ، كالتبرج والخلوة الآثمة والاختلاط المريب والغناء الفاحش والسهرات الماجنة وغيرها .

. وحين حرم الخمر لعن فيها كل من يشارك أو يساهم فيها من قريب أو بعيد بكثير او قليل ( لعن الله في الخمر عشرة ...)

. وحين حرم الربا ، حرم كل عملياته ، فلعن آكله و مؤكله وكاتبه وشاهديه .

وهكذا يكون اثم الحرام شاملا لكل من شارك فيه أو ساعد عليه بمجهود مادي أو معنوي ، كثيرا كان أو قليلا .

ـ الحقيقة السابعة : التحايل على الحرام حرام ، لأن ذلك انما يضاعف الاثم ، مهما كانت الوسائل خفية أو شيطانية ماكرة ، كتسمية المحرمات بغير أسمائها للتمويه أو التسويغ و التبرير : ( الخمور مشروبات روحية ،والربا فوائد بنكية ،والتبرج والزنا حرية جنسية ، والوالدات بالزنا امهات عازبات ، والرشوة حلاوة ..) وقد أخبر النبئ الكريم بذلك فقال : ( لتستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ) رواه أحمد . فعلة التحريم لا يزيلها التحايل و الخداع . وهذا من فعل اليهود الماكرين مع الله ،كقصة اصحاب السبت ، وقد نالهم جزاء مكرهم واحتيالهم على حكم الله تعالى فقيل لهم كونوا قردة خاسئين .

ـ الحقيقة الثامنة : النية الحسنة لا تبرر الحرام ولا تشفع له ، ولو أن الأعمال بالنيات . فالحرام حرام مهما حسنت نية فاعله وشرف قصده . فلا يقبل الاسلام أن يبتغى الحرام لغاية نبيلة، ولا أن تستعمل الوسيلة المشروعة من أجل الحرام. فلابد من شرف الغاية ومشروعية الوسيلة ، لأن الله تعالى طيب لا يقبل الا طيبا ، والغاية لا تبرر الوسيلة الا بالضوابط الشرعية .

ـ الحقيقة التاسعة : الحلال بيـن والحرام بيـن . فمن حكمة الله تعالى ورحمته في التشريع أنه بين الحلال والحرام ، وفصل أمرهما حتى يكون المسلم على بينة من دينه { وقد فصل لكم ما حرم عليكم ـ وكل شيئ فصلناه تفصيلا } وما بين الحلال البين والحرام البين من الامور المشتبهة يطلب فيها الورع اتقاء للشبهات. وفي وهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح صريح جامع : ( ان الحلال بين وان الحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس.فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ألا وان لكل ملك حمى ، ألا وان حمى الله محارمه ...) الشيخان عن النعمان بن بشير .

فاتقوا الله ايها المؤمنون وتفقهوا في دينكم ، فان التفقه طريق التبين والتدين الصحيح ، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين . جعلني الله واياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب .

الخطبــــة الثـــانيـــة

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح : ( ان الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ) الدارقطني عن ابي ثعلبة الخشني .

أيها المؤمنون ، ان الله تعالى فرض الفرائض وحد الحدود وحرم ما حرم .. وتلك شريعته التامة الشاملة التي ارتضاها لهذه الأمة ، دينا قيما ، لا تستقيم الحياة الا به ، ولا تتحقق مصالح الدنيا والآخرة الا بقواعده .

ـ والحقيقة العاشرة : أن حكم الله تعالى في الحلال والحرام ثابت وشامل ومطرد ، لا يتغير بتغير الزمان والمكان، لأنه شرع الله العليم الخبير، فلا يقبل حكمه نقضا ولا تعديلا ولا استدراكا ولا تعطيلا . ومن فعل ذلك فقد أعطى لنفسه حق التشريع وجعل نفسه ندا لرب العالمين . فلا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه . ونحن مأمورون في ذلك بالتسليم والانقياد والسمع والطاعة . والمنهج القويم انما هو في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو أمر الله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا }

ايها الاخوة الكرام ، لقد أضحى مجتمع المسلمين كحقل الألغام ، لا يأمن المسلم فيه غوائل الفتنة والغواية ، الا بالتفقه في دينه والاعتصام بحبل الله المتين. فما أكثر المنكرات والفواحش ،وما أكثر الوسائل المغرية بالحرام في الصحف والمجلات والقنوات وغيرها .. حصار شديد أكيد ، أصبح فيه المتمسك بدينه كالقابض على الجمر . لكن طوبى لمن استقام على التقوى وعلم وعمل على بصيرة من دينه ، يحل الحلال ، ويحرم الحرام ، ويستعين بالله على ذكره وشكره وحسن عبادته ، فله نعم البشارة : { ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون . نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ..}

فاللهم اجعلنا وقافين عند حدودك ، راجين لعفوك ، متمسكين بكتابك وسنة رسولك ..وصل اللهم على خير خلقك محمد وآله وصحبه أجمعين ... الدعاء .

حسن السبيكي ـ المغرب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)