مسؤولية الآباء في تربية الأبناء

يقول الله تعالى : { والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه ، والذي خبث لا يخرج الا نكدا ، كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون } الاعراف 57

كذلك بيت الأسرة المسلمة ، يلزم أن يكون بلدا طيبا يخرج نباته باذن ربه ، ذرية طيبة مباركة ، صالحة مصلحة . فاذا كان من الوظائف الأساسية للأسرة المسلمة ومقاصدها ، الاحصان لحماية العرض ، و الانجاب لضمان النسل ، فان التربية هي الأهم والأسمى في رسالتها الدينية والدنيوية . ولكي تنجز هذه المهام ، على الوجه السليم القويم ، لابد ان تقوم على القواعد الشرعية والأخلاق الايمانية ، حتى تكون ربانية الوجود والحياة ، عقيدة وعبادة وأخلاقا . يسودها الجو الصحي المناسب للعشرة الطيبة ، والنافع للتربية الصالحة .

ان الأبناء هبة ربانية ، ونعمة عظيمة من المنعم الوهاب { يهب لمن يشاء اناثا ويهب لمن يشاء الذكور ، أو يزجهم ذكرانا واناثا ، ويجعل من يشاء عقيما ، انه عليم قدير } وهم من زينة الحياة { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } وذلك بقدرما يتصفون بالصلاح والاستقامة فيكونون قرة اعين لآبائهم ، و الاّ فهم مصدر فتنة و شقاء ، ولقد تعددت أدعية الأنبياء والمرسلين بسألون الله تعالى الذرية الصالحة الصالحة ، كقول ابراهيم الخليل عليه السلام :{ رب هب لي من الصالحين ، فبشرناه بغلام حليم } ودعاء زكرياء { رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين . فاستجبنا له ووهبنا له يحيا وأصلحنا له زوجه ..} ان الابناء عطاء رباني كريم يستوجب الشكر ، لا باللسان وحده ، ولكن بما هو أعمق وأبلغ ، وهو احسان تربيتهم على ما ير ضي الله تعالى ، ويجعلهم بررة صالحين ، وبذلك يكونون حقا قرة أعين ، كما هو مطلب عباد الرحمن المؤمنين :{ والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين اماما..} وانما تقر الأعين بصلاحهم وطاعتهم لله تعالى .

ولما كان بيت الأسرة هو المنبت الأول والمحضن الأساس لتربية الأبناء ، فانه يستلزم استكمال الشروط المادية والمعنوية التي تجعلة بيئة صالحة لتنشئتهم على ما ينمي قدراتهم وملكاتهم ، جسمانيا ونفسيا وعقليا وخلقيا ، ويوجههم التوجيه الحكيم الرشيد ،ويعدهم للاندماج السليم في الحياة ، فاعلين بالخير ، قادرين على مواجهة أعبائها وتحمل مسؤولياتها . وهنا أهمية دور الآباء ورسالتهم التربوية ذات الأمانة العظيمة والمسؤولية الجسيمة ، حملها ثقيل بالتكاليف ، وحسابها عسير يوم القيامة ، حيث يسأل الآباء قبل الأبناء . لأنهم يتحملون أمانة الفطرة الربانية النقية في أبنائهم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم } ، فطرة لا تنحرف عن وجهتها الربانية تلقائيا ، وانما يكون انحرافها بانحراف التربية عن النهج القويم، وبفساد الأجواء التي تنشأ فيها . كذلك يذكرنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فيقول : ( كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) رواه البخاري .

ان مسؤولية الآباء التربوية، واقعة بين دافع المحبة للأبنائهم ، وواجب الدين نحوهم . فاذا كان حب الذرية مركوزا في النفس الانسانية بالفطرة ، بمقتضى حكمة خلق الله تعالى ورحمته ، فعليها يبنى واجب الدين في تربيتهم على الايمان وحسن الخلق . والآباء في ذلك أمام اختبارين شديدين : فاما هي محبة للأبناء حقيقية صادقة ، فشاهدها صدق العناية بهم، أو هي طاعة لله تعالى فيهم بتنشئتهم على الايمان والصلاح ، فبرهانها العمل فيهم بالبرنامج التربوي الاسلامي . والا فان التفريط والتهاون في كلا الجانبين ، فاضح للمحبة الكاذبة والتنكر لأمر الله تعالى الذي يوصي بوقايتهم من مسالك الفساد والهلاك :{ يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا وقودها الناس والحجارة ..} والأبناء من الأهل ، ولا سبيل لوقايتهم من النار الا بحمايتهم من كل ما يؤدي بهم الى الانحرافات والضلالات والمعاصي ، ولا يكون ذلك الا بالتربية الاسلامية الصحيحة التي تجعلهم من أهل الايمان والتقوى والاستقامة .

ولقد قرر الاسلام كل القواعد والضوابط اللازمة لبناء بيت التربية الصالحة ، الذي تعمه أجواء الايمان والأمان والفضيلة ، بدءا من اختيار الزوجين ، الى علاقة المودة والرحمة بينهما ، الى ضمان حقوق الأبناء في الوجود والرضاع والانفاق والميراث وغيرها .وذلك لضمان صحة البيئة التربوية الأولى وهي البيت الاسري ، لتصح الأجواء المناسبة لرسالة التنشئة والتربية الصالحة النافعة . ثم كانت الوصايا والتوجيهات بين القرآن والسنة النبوية أساسا لبرنامج تربوي اسلامي دقيق وشامل لبناء الانسان المسلم الرباني .

فالقرآن الكريم مليئ بالقصص التربوي و المواعظ و التوجيهات في أحوال الآباء وأبناهم وأحوال الأبناء وآباهم ، وأنماط العلاقات بينهم ، وكلها أمثلة تعليمية تربوية واقعية في السلوكات المحمودة المطلوبة أو الافعال المذمومة المرفوضة ، تتخللها التوجيهات الربانية الحكيمة على اساس القدوة العملية المقنعة والمؤثرة .

خذ مثلا من وصايا لقمان لأبنه وهو يعظه ويرشده: { واذ قال لقمان لأبنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم ..} الى قوله تعالى { يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما اصابك ، ان ذلك من عزم الامور ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا ان الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك ، ان أنكر الأصوات لصوت الحمير } لقمان 14ـ18 . فهذه الوصايا برنامج الهي حكيم ومركز ، بأركان التربية الاسلامية المتكاملة ، حيث أوصاه أولا بالتوحيد ، وهو أساس الدين كله ، ثم الصلاة وهي عموده ، ثم كان الأمر بمكارم الاخلاق في السلوك والمعاملة ، فجمع له أركان الايمان والعبادة والمعاملة .

كذلك يوصي النبي صلى الله عليه وسلم بحمل الأبناء على اقامة الصلاة ، بالترغيب والترهيب : ( مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين ، واضربوهم عليها لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع ) أبو داود . و يبين عليه الصلاة والسلام قيمة التربية الخلقية فيقول : ( ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن ) الترمذي . ولكل طور من أطوار العمر عند الابناء ما يليق به من السلوك التربوي ، كما روي عن عمر ابن الخطاب (ض) قال : ( لاعب ابنك سبعا ، وأدبه سبعا ، واصحبه سبعا ، ثم اترك حبله على الغارب ) . وهذه الخطوات التربوية في توصية عمر ،من أدق ما تضافرت عليه النظريات التربوية في التدرج مع الأبناء تربويا وفق ما يناسب أعمارهم .

وأبلغ ما في المنهج التربوي الاسلامي ، هو التربية بالقدوة ، وذلك منطلق رسالة الدعوة مع جميع الأنبياء والرسل في أقوامهم ، ومع خاتم النبيئين الذي جعله الله تعالى :{ أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } فكان القدوة الرفيعة الحميدة في كل شيئ من أموره الدينية والدنيوية ، رسولا مبلغا و زوجا مثاليا واماما وقائدا ..{ فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } . وكذلك رسالة الآباء التربوية، عمادها وبرهانها المقنع والمؤثر هو في القدوة الصالحة. فالأبناء يتأثرون أكثر بأفعال وأحوال آبائهم . فحين يجدون آباءهم على الايمان والصدق والعبادة وحسن الخلق فيما بينهم ومع الناس ، يلمسون منهم الخطاب التربوي المقنع والفاعل فيما يؤمرون به أو ينهون عنه . لكنهم حين يؤمرون بما لا يجدون من آبائهم ، أو ينهون عما يجدون ، فان ذلك قاتل لعنصر الثقة بهم ومبطل لمصاقية توجيهاتهم . وتلك حال كثير منهم مع أبنائهم الذين لا يجدون فيهم مظاهر الايمان الحي ولا التزاما تعبديا ولا استقامة خلقية ، بل يرون ضعف الايمان والتقاعس في العبادات والكذب والغش والادمان على المحرمات والمنكرات كالدخان و الخمر و التبرج والملاهي وغيرها ، فكيف تجدي منهم الأوامر والنواهي نحو أبنائهم ، والله تعالى يقول { كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } فكم من منكرات وانحرافات في الأبناء ما هي الا انعكاسات وآثار لقدوات سيئة من الآباء ، لا يشعرون بها أو لا يكترثون .

لا تنــه عن خلـق وتأتـي مثلـــه عــار عليك اذا فعلـت عظيــــــم

ابـدأ بنفسك فانههــا عن غيهـــا فاذا انتهــت عنه فأنت حكيـــــم

فهناك يسمع ما تقول و يشتفى بالقــول منـك وينفــــع التعليـــم

جاء رجل الى عمر بن الخطاب (ض) يشكو اليه عقوق ابنه وسوء معاملته ، فهم عمر بتأنيب الغلام الذي بادره يقول :يا أمير المؤمنين ، اذا كان للوالد حقوق على ولده ، أليس للولد على والده حقوق ؟ قال عمر : بلى ، قال : فما هي ؟ قال : أن يحسن اختيار أمه ، ويحسن تسميته ، وأن يعلمه الكتاب . فقال الغلام : أما أبي فانه لم يفعل شئا من ذلك . فان أمي أمة زنجية يعيرني بها، وقد سماني \"جعل\" ( خنفساء) ولم يعلمني شيئا من القرآن. فالتفت عمر الى الرجل يقول : جئت تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك وأسأت اليه قبل أن يسيئ اليك ) .

ان كثيرا من مشاكل الأبناء وانحرافاتهم يمكن علاجها انطلاقا من تصحيح الأوضاع التربوية في البيوت التي تسربت اليها عوامل الفساد والاضطراب ، فدمرت فيها قابلية التربية السليمة كليا أو جزئيا . وهل تجدي صيحات الشكوى والاحتجاج و التسخط منا ، ونحن نلقي باللائمة على كل شيئ الا على أنفسنا. والأبناء في كل حال أبرياء ضحايا ظلم مضاعف واقع عليهم من جهتين : من الداخل بتفريط الآباء وتقصيرهم في أمانة التربية ومسؤولية الرعاية ، ومن الخارج بكثرة عوامل الغواية والتضليل والافساد . لكن ظلم ذوي القربى اشد مضاضة، وقد اصبح كثير من الأبناء أيتام التفريط و الاهمال :

ليس اليتيم من انتهى أبواه من هـم الحيـاة وخلفــاه ذليـــــلا

ان اليتيـم هو الذي تلقــى لــــه أمــا تخلــت أو أبـــا مشغـــولا

قد نلقي باللائمة على التلفاز والفيديو والانترنيت والشارع والرفقة السيئة والاعلام الفاسد عموما ، وكل أولائك عوامل مدمرة لأبنائنا ولا ريب . لكن السبب الأعمق في أوضاع البيوت أولا ، حين لم يجدوا من يشبعهم عاطفيا ويرشدهم سلوكيا ، ويأخذ بأيديهم في متاهة الفتن ، ويعمل على تقوية مناعاتهم الفطرية والايمانية تجاه المؤثرات الخارجية السلبية، ويحسن قيادتهم وتوجيههم . قد يزعم أكثرنا ، انهم لم يقصروا في شيئ من لوازم وضرورات عيش أبنائهم ، في المسكن والمطعم والملبس والعلاج والتمدرس والترفيه . و كل ذلك لازم ومحمود ، ولكن الأبناء أحوج الينا فيما هو أهم وأولى وأغلى ، وهو الغذاء الروحي الايماني والخلقي ،الذي يشبعهم بضرورات الاستقامة على الطاعة لله تعالى، والتزام النظام والنظافة والهدوء والسماحة في التعامل مع الغير ورباطة الجأش أمام المشكلات ، ونحو ذلك من الصفات النفسية الإيجابية التي هي من صميم الإسلام لبناء النفس الانسانية القوية السوية ، القادرة على التفاعل الحيّ مع قيم الحق والخير والجمال . فهل من ارادة قوية وصادقة في المراجعة والنقد الذاتي ، لتصحيح مفاهيمنا وتقويم سلوكاتنا ازاء اأبنائنا ، و تمثل البرنامج التربوي الرباني الذي لا بديل له ، في تنشئتهم واعدادهم للصالحات وخير دينهم ودنياهم وآخرتهم .

نفعني الله واياكم بالقرآن العظيم وسنة نبيه الكريم ، وأجارنا وذرياتنا جميعا من عذابه الأليم ، انه حليم كريم .

الخطبــــة الثــانيــــة

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ) مسلم عن ابي هريرة .

ايها الآباء الكرام ، ماذا يتبقى بعد الموت ، من حياة فانية ، الا الأعمال الصالحة النافعة الثلاثة : الصدقة الجارية التي يستمر نفعها فيدوم ثوابها ولو بعد الموت . والعلم النافع الذي يثمر الأجر لصاحبه كل حين . والولد الصالح البار الذي يدعو لوالديه بالخير . واذا تأملتم كل ذلك تجدوه ثمرة طيبة لتربية حسنة طيبة ، هي التي أنبتت ارادة الخير بالصدقات والعلم النافع والذرية الصالحة ، كذلك البلد الطيب يخرج نباته باذن ربه .

فماذا نريد أو نؤمل في أبنائنا الا أن يكونوا لنا قرة أعين . وهل لدينا ، بعد توحيد الله تعالى وحسن عبادته ،من مشروع حياة أهم وأولى من تربية أبنائنا والسهر عليهم بالعناية والرعاية والتوجيه والارشاد، ليكونوا صالحين مصلحين على نور من ربهم ، فانما سعادة الأسرة والمجتمع بمقدار سعادة الأبناء، والرضا عن مصائرهم في الدنيا والآخرة . فمن أراد الخير لأبنائه ، فليجعل البيت لهم محضنا طيبا ومدرسة تربوية رشيدة نافعة ، وليكن حاضرا معهم بقدوته ولسانه ، ليغرس فيهم محبة الله تعالى وكتابه ورسوله والمؤمنين ، ومحبة الخير للمسلمين وللناس أجمعين. و قبل أن نلوم أبناءنا او ندين الأوضاع الصعبة التي تحيط بهم، وعناصر الفتنة التي تتربص بهم ، علينا أن نسائل أنفسنا، هل نحبهم حبا حقيقيا يدفعنا بصدق واخلاص لنحسن تربيتهم ؟، وهل استجبنا فيهم لأمر الله تعالى بتنشئتهم على الايمان به وتوحيده والتنافس في طاعته ،والعمل على وقايتهم من سبل الغواية والهلاك في الدنيا والآخرة ، ، وهل أنشأناهم على كريم الاخلاق ، و عاملناهم منها بالرحمة والعطف والمواساة .؟.. أم ان مشاغلنا الدنيوية المادية ، من الأموال والمناصب والديار والمقاهي والملاهي ، هي أولى من فلذات أكبادنا ؟ أسئلة لابد أن نجيب عنها بضمائر حية وعقول نيرة ، معترفين بأننا مفرطون مقصرون ، وها نحن نرى في أجيالنا عواقب ذلك ، فهل من مدكر معتبر . فلنتق الله تعالى في أمانة أبنائنا وهي عظيمة،ومسؤولية تربيتهم وهي جسيمة ، ولنذكر قول النبي الكريم : ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) .

جعلني الله واياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب .

حسن السبيكي ـ المغرب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)