منظمة التجارة العالمية وسياسات الخصخصة

عبد الحليم فضل الله

يمكن اعتبار منظمة التجارة العالمية آلية للتفاوض أكثر مما هي مؤسسة، فلا زالت تفضل حتى الآن اتخاذ قراراتها على أساس التوافق لا التصويت، ويرتبط وجود المنظمة التي أقرت وثيقة إنشائها عام 1994 وانبثقت من جولة مفاوضات الغات الثامنة، بالمبدأ الذي يرى أنّ "التجارة الدولية هي محرك التنمية" وليس العكس، ومع أنها تركز على إزالة العوائق من أمام تدفق السلع والخدمات والاستثمارات عبر الحدود، فإنها تفتح الباب واسعاً أمام مفهوم أشمل للتحرير يطال الأطر التي تنظم المبادلات الداخلية وشروط التزود بالخدمات الأساسية وحدود تدخل الدولة.

ويظهر بوضوح نفوذ الدول الكبرى في رسم مسار المنظمة من تركيز الاتفاقيات على إلغاء القيود الكمية وتخفيض الرسوم الجمركية المنخفضة إجمالا في دول الشمال مقارنة مع دول الجنوب، هذا عدا بعض القطاعات كالمنسوجات في الولايات المتحدة والمنتجات الزراعية في الاتحاد الأوروبي، فيما استبعدت قضايا تهم الدول النامية كنقل التكنولوجيا، وانتقال العمالة والديون الخارجية، مع ذلك فقد نجح تكتل الدول النامية (مجموعة العشرين) الذي برز دوره في المؤتمرات الثلاثة الأخيرة، وتقوده كل من الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا في تحويل المنظمة من منتدى تفاوض وتجاذب ثنائي بين أوروبا والولايات المتحدة إلى إطار متعدد الأطراف، وهنا نلاحظ غياب التنسيق ما بين الدول العربية المنضوية في المنظّمة.

سنعالج في هذه الورقة السؤال التالي:

هل يؤدي انضمام الدول إلى المنظمة إلى تسريع عمليات خصخصة الخدمات فيها أم لا؟

هناك وجهتا نظر:

الأولى: تعتبر أن الخصخصة وتحرير التجارة والخدمات هما مساران منفصلان، فالاتفاقيات الـ21 الملحقة باتفاقية الانضمام بما فيها اتفاقية تحرير الخدمات (الغاتس) لا تحد من قدرة الدول على اعتماد تنظيمات داخلية خاصة بها لطرق توريد الخدمات حتى أنها لا تمنع في هذا الصدد قيام احتكارات عامة أو خاصة.

الثانية: تجد أن تطبيق بنود الاتفاقيات سيؤدي إلى "لبرلة" الخدمات بما فيها الخدمات الأساسية ويؤول بالتالي إلى فتح أسواق الدول النامية أمام الشركات الكبرى وهو ما يشمل القطاعات الحيوية كالمياه والطاقة، ويمس بالتالي بالأمن المعيشي والحياتي للمجتمعات.

بين هاتين الوجهتين هناك مجال لوجهة نظر ثالثة، تجد أن الاتفاقيات تمنح الدول حرية شكلية في تحرير أو عدم تحرير قطاعات بعينها، ولا تنص مباشرة على تخلي القطاع العام نهائياً عن تملك أو إدارة الخدمات العامة، لكنها تمهد لعملية ستنتهي دون شك بالتحرير الشامل داخل كل دولة من الدول وفيما بينها.

مدخل حول المنظمة:

يبلغ عدد اتفاقيات المنظمة 35 اتفاقا ووثيقة مقسمة كما يلي: 12 وثيقة سابقة على قيام المنظمة وأصبحت جزءا ً من اتفاقيتها، 21 وثيقة وردت كملاحق باتفاقيّة الانضمام إلى المنظمة، إضافة إلى الوثيقة الختامية لمؤتمر 1994، ووثيقة الاتفاقية نفسها.

تتألف اتفاقية تأسيس المنظمة من 16 مادة وقعت عليها الدول المشاركة في جولة الاورغواي، بتاريخ 15/4/1994، ويمكن توزيع ملاحقها على الشكل التالي: 13 اتفاقاً لتحرير السلع ومن ضمنها إجراءات الاستثمار في التجارة (ترمس) واتفاقية الزراعة والمنسوجات، اتفاقية الغاتس لتحرير تجارة الخدمات، اتفاقية الملكية الفكرية Trips وملحق حول تسوية النزاعات. هذا إلى جانب أربع اتفاقيات متعددة الإطراف وغير ملزمة (اتفاقية الطائرات المدنيّة، المشتريات الحكوميّة، منتجات الألبان ولحوم البقر..)

تقوم اتفاقيات منظمة التجارة العالمية كما هو معروف على المبادئ العامة التالية:

1- مبدأ الدولة الأكثر رعاية: أي أن على كل دولة أن تعامل منتجات وشركات الأعضاء بالتساوي ودون تفضيل واحدة على الأخرى مع استثناءات تشمل الاتحادات الجمركية والمناطق الحرة والأسواق المشتركة.

2- النفاذ إلى الأسواق: أي أن على كل دولة أن تفتح حدودها لشركات ومنتجات الدول الأعضاء الأخرى من دون تحديد كميّة الخدمات وكيفية تقديمها. وهذا يستلزم تحويل القيود النوعيّة على حركة البضائع والسلع إلى قيود جمركية مع العمل على تحرير التعريفات تدريجيا وصولاً إلى إلغائها، وذلك عبر مفاوضات دوريّة وعلى أساس ثنائي.

3- المعاملة الوطنيّة: لا تستطيع الدولة أن تعطي معاملة تفضيليّة للشركات والمنتجات المحليّة تفوق ما تمنحه للشركات والمنتجات الأجنبيّة.

4- شفافيّة السياسة التجاريّة: على كل عضو في المنظمة نشر القوانين والقرارات والإجراءات التفصيلية المرتبطة بالخدمات، وإعلام مجلس تجارة الخدمات التابع للمنظمة مرّة سنوياً على الأقل بالتعديلات، ويحق لكل عضو طلب معلومات في هذا الشأن شرط أن لا يضر ذلك بالمصلحة العامة أو مصالح الشركات.

وقد عرفت المادة الأولى من "الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات" (الغاتس)، ماهية التجارة في الخدمات بأنها توريد الخدمة وفق الأنماط الأربعة التالية: من أراضي عضو ما إلى مستهلك في أراضي عضو آخر (مثلاً الاتصالات السلكية واللاسلكيّة)؛ من أراضي عضو ما إلى مستهلك الخدمة في أراضي عضو آخر(السياحة والتعليم والصحة)؛ من خلال التواجد التجاري لمورد الخدمة من دولة عضو في أراضي أي من الدول الأعضاء الأخرى؛ ومن خلال وجود أشخاص طبيعيين من دولة في أراضي أي دولة اخرى..

وجهة النظر الاولى:

يلجأ أصحاب الرأي الذي يرى وجود فصل بين مساري الخصخصة وتحرير تجارة الخدمات إلى الحجج التالية:- تتمتع الدول الاعضاء حسب الاتفاق العام للتجارة في الخدمات (الغاتس) بكامل الحرية في تحديد لائحة التزاماتها وإخضاع ما تشاء من خدمات لمبدأ النفاذ إلى الاسواق ، كما ان لديها الحق بتحديد درجة عمل مزودي الخدمات الاجانب في السوق (تحديد الدخول إلى السوق)، وتحديد المعاملة الوطنية[1].

- تغطّي الغاتس فقط الخدمات التي يمكن المتاجرة بها دوليّاً باستثناء الخدمات التي تزوّد إلى الجمهور في إطار ممارسة لحكومة لسلطتها، وقطاع النقل الجوي وكافة الخدمات المتعلقة بممارسة حقوق المرور.

- الغاتس لا تمنع الحكومات من فرض قيود على مزودي الخدمات الأجانب في السوق، ويشمل ذلك ستة أنوع من القيود: على الكمية، وعلى حصة رأس المال الأجنبي، وعلى نوع الكيان القانوني المسموح به، إضافة إلى قيود على المعاملة الوطنيّة.

- إن المعاملة على أساس الدولة الأكثر، رعاية الذي يشمل جميع الخدمات المدرجة وغير المدرجة في الجدول، يعني معاملة الشركاء التجاريين بالتساوي، لكنه لا يتطلب بأيّ حال درجة محددة من انفتاح السوق على الخارج. فبوسع الحكومة فرض قيود على مزودي الخدمة بشرط أن تشمل أيضاً المزودين المحليين.

- بوسع الحكومات الانسحاب من الخدمات التي أبدت التزامها بضمان المنافسة فيها، بصورة مؤقتة (ثلاث سنوات) أو بصورة دائمة في حال حدوث مشاكل خطيرة في ميزان المدفوعات.

- الدولة العضو غير ملزمة بضمان المنافسة المحلية وإزالة الاحتكارات الخاصة أو العامة بالنسبة للمزودين، ووفق المدافعين عن الاتفاقية فإنّ اتفاق الغاتس لا يستلزم خصخصة أو تحرير أي خدمة وخصوصاً الخدمات العامة، وأمام أي عضو الخيار في الحفاظ على الخدمة كاحتكار أو فتح باب المنافسة، وهو مخيّر أيضاً ما بين إدراج أو عدم إدراج الخدمة في باب الالتزامات الوطنية تجاه المنظمة.

- يؤكد داعمو الاتفاقيّة إنها لا تتسبب بإلغاء التمويل الحكومي للمؤسسات الوطنيّة على أساس إنها تضعف التجارة الحرّة، وليس هناك من إجراءات خاصة في الغاتس تمنع دعم مزودي الخدمات.

- تعترف اتفاقية الغاتس بحق البلدان الأعضاء بتنظيم واقتراح أنظمة جديدة حول توفير الخدمات ضمن مناطقهم بما يتناسب مع تحقيق أهداف سياساتهم الوطنية.

وجهة النظر الثانية:

في مقابل تلك الحجج يورد المعارضون الآراء التالية:

- سيؤدي فتح الأبواب أمام الشركات العملاقة تلقائيّاً إلى استبعاد الشركات الوطنية وتدمير أنظمة الخدمات المحلية بما فيها الخدمات العامة.

- اتفاق الغاتس هو الأخطر ذلك انّ هدفه الرئيسي هو خصخصة جميع الخدمات العامة، وبوتيرة سريعة وهذا ما يشمل 12 فرعاً رئيسياً وحوالي 160 قطاعاً فرعياً، بما يشمل الصحة والتعليم والماء والكهرباء وتكنولوجيا الاتصالات والسياحة والثقافة والطاقة والخدمات المالية...

- إنّ الخدمات المستثناة من أحكام الغاتس، والتي تعرفها الاتفاقية على أنها الخدمات التي تقع في نطاق ممارسة الحكومة لسلطتها وغير القابلة للتقديم على أساس تجاري، تشمل بالتعريف فقط القطاعات السياديّة كالشرطة والجيش والعدالة ولا يشمل الخدمات التقليدية.

- تخضع جميع الخدمات لقاعدة الدولة الأولى بالرعاية، بينما تنحصر المعاملة الوطنية بالخدمات التي تضمها الدولة إلى لائحة التزاماتها. لكن ممارسة هذا الحق بالنسبة للدول النامية لا يرتبط فقط بإرادتها الوطنية بل يتأثر كثيراً بالضغوط التي تمارسها الدول الكبرى عليها لتحرير جميع قطاعاتها.

معالجة أخرى:

يمكن القول أنّ الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات لا تلزم الدول الموقعة عليها بالخصخصة الشاملة، لكن الإطار العام للاتفاقيات والسياسات التي تواكب تطبيقها ستؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق ذلك كما يتبين من التالي:

- تهدف منظمة التجارة العالمية إلى إيجاد منتدى دائم للتشاور والتفاوض بين الدول الأعضاء لحلّ المشكلات التي تواجه التجارة العالمية، والتقدم المطّرد في تحقيق مستوى أعلى من التحرير ودخول الأسواق، وتفرض معظم اتفاقيات منظمة التجارة العالمية على الدول الأعضاء إخطار غيرها بالتشريعات التجارية وغيرها من الأنظمة والأحكام ذات العلاقة والتأثير على شؤون التجارة الدولية. نحن إذاً في صدد مسار عام يتطور باستمرار وصولاً إلى بناء نظام عالمي جديد قائم على "تعظيم المنافع والمكاسب" الناشئة عن التبادل الحر وتعميم مبدأ فتح الأسواق. بالتالي فإنّ ما يتم الاتفاق عليه وتطبيقه في مرحلة، يمهد للدخول عبر التفاوض إلى مرحلة جديدة أكثر شمولاً وتحرراً، من هنا يمكن اعتبار جداول الالتزامات الوطنيّة التي يستند إليها المدافعون عن الغاتس على إنها خطوة في مسار تعميم النفاذ للأسواق والمعاملة الوطنيّة لتشمل كلّ أنواع الخدمات دون استثناء.

- تعمل المنظمات الدوليّة الثلاث البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية في إطار ضمني من الاعتماد المتبادل، وتبدو المهام متكاملة: مهمّة المؤسّستين الماليتين تغيير سياسات الاقتصاد الكلّي للدول ودفعها نحو التحرير الشامل بما في ذلك إلزام القطاع العام الخروج نهائياً من المساهمة في تملك وإدارة القطاعات الحيوية، ومهمة منظمة التجارة فتح الباب على مصراعيه أمام المزودين الأجانب، مستفيدة من مبدأي المعاملة والوطنية والدولة الأولى بالرعاية، وتشترك المنظمات الثلاث بأنها سلطة دولية للتشاور والتنسيق، لكنها تمتلك في الوقت نفسه حق إنشاء القواعد واتخاذ الإجراءات واعتبار مبدأ المشروطيّة ركناً أساسياً من أركان سياساتها، وهي تتقيّد في هذا المجال بالتوافق الذي يجمع بين هذه المؤسسات ووزارة الخزانة الأميركية، والهادف إلى: تحرير المبادلات، الخصخصة، الرقابة على السياسات الاقتصادية الوطنية للدول، تقليص موازنات الدعم الاجتماعي وتحرير أسواق الصرف. وفي هذا الصدد، يقول جان زيغلر المقرر الخاص للأمم المتحدة من أجل الحق في الغذاء، "إن البنك الدولي على غرار منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي، هو أيضاً أحد معاقل العقيدة النيوليبرالية، فهو يفرض في كل مناسبة وعلى جميع الدول المقترضة رضا واشنطن ويحض على خصخصة الممتلكات العامة والدول كما يفرض سلطة أسياد العالم الجدد".

وعلى أي حال فإن التعاون والتنسيق بين المنظمات الثلاث يأخذ طابعاً منظماً عبر اللجنة الثلاثية المشكلة منها لتحقيق الأهداف المشتركة، وقد جاء في الفقرة الثالثة من الإعلان عن مؤتمر الغات عام 1994 أن "الوزراء يؤكدون على العمل من أجل تحقيق انسجام شامل وأكبر للسياسات في مجال التبادل والنقد والتمويل بما في ذلك التعاون بين منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي من أجل هذا الهدف" وتشير الفقرة الخامسة من البند الثالث إلى أنه "بالنظر إلى تحقيق انسجام أكبر في صنع السياسات الاقتصادية الشاملة فإن منظمة التجارة العالمية سوف تتعاون، كما ينبغي، مع صندوق النقد والبنك الدوليين لإعادة الأعمار والتنمية" وهذا ما يؤكد على دور المؤسسات الثلاث في نشر وتعميم الايدولوجيا الليبرالية الجديدة[2].

بالنتيجة فإنّ مفهوم التحرير محكوم بالتطور والتحول الدائم، في إطار مسار للخصخصة يقوم أولا على نقل الملكية من القطاع العام إلى القطاع الخاص المحلي وتالياً على نقلها من الشركات الوطنيّة إلى الشركات الأجنبية في ظل عجز القطاعات المحلية في الدول النامية عن منافسة المؤسسات الدولية الكبرى.

- تعتمد اتفاقية تحرير التجارة والخدمات على مفاهيم محددة يمكن التوسع في تفسيرها في الوقت المناسب، كالتحرير والمنافسة وإزالة العوائق أمام التجارة والشفافية ومساواة المزودين المحليين والأجانب بالنسبة لحقوق الدعم ...، أضف إلى ذلك ما نصت عليه اتفاقية الغاتس صراحة لجهة ضمان عدم احتواء المعايير المتعلقة "بالإجراءات والمقاييس الفنية ومتطلبات الترخيص قيوداً غير ضرورية للتجارة في الخدمات" مما يبعث على الاعتقاد بأنّ المزودين الأجانب سيستولون تدريجياً على القطاعات الحيوية المخصخصة.

- هناك دينامكية تحرير آخذة بالتوسع والتقدم مع تقدم المفاوضات تتجاوز المبادلات الدولية لتؤثر على السياسات التجارية الوطنية، وخصوصاً منها ما بات يعرف بمواضيع "سنغافورة الأربع" ( العلاقة بين التجارة والاستثمار، والتفاعل بين التجارة وسياسة المنافسة، الشفافية في إمداد الحكومات بالخدمات والبضائع، والتسهيلات التجارية)، وقد أضيف موضوع المنافسة في المؤتمر الوزاري الأول للمنظمة الذي عقد عام 1996 في سنغافورة وبقي على أجندة المنظمة في المؤتمرات التالية وقد نصت مسودة إعلان كانكون الوزاري 2003 على البدء بمفاوضات حول "التفاعل بين التجارة وسياسات المنافسة" فيما مثل إعلان هونج كونج اندفاعه للأمام بتوسيعه لأجندة منظمة التجارة العالمية.

وتعني سياسات المنافسة بحسب المؤتمر الوزاري الأول للمنظمة (1996)، السياسات والقوانين الحاكمة على المعاملة المضادة للمنافسة، والإجراءات الأربع المضادة للمنافسة المقصودة هنا هي: التقييد الأفقي، التقييد العامودي، سوء استعمال الموقع المسيطر(الاحتكارية (monopolization والاندماج، وهذا ما سيؤثر حكماً على قدرة الدول الأعضاء على رسم سياساتها الوطنية الخاصة بإدارة المرافق العامة.

مع ذلك فلا زالت وجهات النظر متباعدة بين الدول النامية والدول المتقدمة حول سياسات المنافسة، فالمجموعة الأولى تركز على الممارسات التقييدية للشركات متعددة الجنسيات، فيما تركز الثانية على سياسات المنافسة الوطنية والمتمثلة خصوصاً باحتكارات القطاع العام، وقد اتفق في مؤتمر سنغافورة على تشكيل مجموعة عمل خاصة بالتجارة وسياسات المنافسة تحددت مجالات عملها بالتالي[3]:· وضع قوانين وتشريعات وطنية للتصدي للاحتكارات الوطنية (وجهة النظر الأميركية)· دراسة القوانين والمعايير الدولية لسياسات المنافسة على الصعيد الدولي (الدول النامية)· دراسة الإجراءات المضادة للإغراق والدعم (موقف اليابان ودول آسيان)

وكانت الولايات المتحدة أكثر المعارضين لتناول الممارسات التقييدية على الصعيد الدولي في الوقت التي ركزت فيه على مكافحة القوى الاحتكارية الوطنية ولا سيما في القطاع العام، التي تمنع شركاتها من اختراق أسواق مهمة في دول كالبرازيل والصين والهند.

الجدير ذكره أن المادة الثامنة من اتفاقية الغاتس التي أعطت الحق للأعضاء بالإبقاء على احتكار توريد الخدمات العامة، اشترطت أن يكون هذا الوضع سارياّ قبل الاتفاقية، أمّا في حالة الاحتكارات الجديدة فإنه يتعيّن إخطار مجلس التجارة في الخدمات، الأمر الذي يستلزم عند إقرارها اعتبارها تعديلاً في الالتزامات تقضي بتعويض الأطراف المتضررة بالتزامات أخرى مقبولة ومساوية في القيمة التجاريّة.

- تعتبر إجراءات الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية بحدّ ذاتها إطاراً يسمح للمنظمة والدول الكبرى بفرض سياساتها على الدول الصغيرة والنامية، وفي مقدمها الخصخصة.هذا مع العلم أن الدول النامية عندما أعادت تنظيم صفوفها وعمدت إلى التكتل أثناء المفاوضات، تمكنت من انتزاع أو عرقلة اتخاذ قرارات لا تتناسب مع مصالحها، كما فعلت مجموعة العشرين في مؤتمر كانكون 2003 . ومن وسائل التحكم بسياسات الدول النامية: · فحص السياسات: يقوم المجلس العام للمنظمة بفحص دوري لسياسات الدول الأعضاء على فترات منتظمة تختلف باختلاف الدول (مرة كل 6 سنوات بالنسبة للدول النامية ومرة كل سنتين للدول المتقدمة أو الغنية كالولايات المتحدة)، ويهدف هذا الفحص إلى التأكد من مدى مراعاة الدول لالتزاماتها متعددة الأطراف، لكن غالباً ما تتناول تقارير مراجعة السياسات مسائل أخرى تتخطى هذه الالتزامات، مثل إصلاحات الاقتصاد الكلي، وانتقاد تدخل الدولة بالحياة الاقتصادية، وسياسات الإنفاق والضرائب. وحيث أنّ المنظمة لا تمتلك أجهزة متخصصة لدراسة السياسات التجارية ميدانياًً فإنها تستعين بمؤسسات دولية أخرى خاصة صندوق النقد الدولي، وكانت اتفاقية الاوروغواي قد نصّت على أهمية هذا التعاون بحيث بات مألوفاً أن تعتمد تقارير فحص السياسات على برامج التصحيح الهيكلي التي يعدها الصندوق للبلدان النامية، والتي تركز كما هو معروف على معالجة مشاكل الموازنات الحكومية، وتقليص النفقات الاجتماعية وتحرير سياسات الصرف وتعزيز دور القطاع الخاص.· هناك إجراءات معقدة تنتظر الدول الراغبة بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، فعليها أن تقدم عرضاً أولياً بالتزاماتها المحددة ضمن الإطار العام المتفق عليه بين الأعضاء، وليس هناك من معايير تلقائية بشأن حدود ومدى هذه الالتزامات بل هي خاضعة للتفاوض الثنائي ضمن مبدأ المنافع المتبادلة، وبنتيجة المفاوضات الثنائيّة بين الدولة المرشحة للانضمام وشركائها التجاريين، تقوم الدولة بإعداد جداول عروض أولية بشأن النفاذ للأسواق في قطاعي السلع والخدمات، ونطاق التغطية، والقيود على المعاملة الوطنية، وأساليب النفاذ، وغيرها[4]...

وتكون هذه الجداول والالتزامات عرضة لمفاوضات صعبة من قبل الدول الراغبة الأعضاء الراغبة بالتفاوض والتي قد تلزم الدولة المرشحة بتقديم تنازلات في حقول مختلفة، بما في ذلك تعديل جداول التزاماتها وفتح أسواق لا ترغب بفتحها (مثلاً؛ المفاوضات بين الولايات المتحدة وسلطنة عمان أجبرت الأخيرة على تعديل قانونها التجاري لزيادة المساهمة الأجنبية في رأس المال من 49% كحد أقصى إلى 70%). بعد ذلك يتم وضع شروط للانضمام تختلف من دولة إلى أخرى، لكنها تركّز كثيراً على تخفيف سيطرة الدولة على الاقتصاد، وبعد توفر الشروط المطلوبة يحال الترشيح على المؤتمر الوزاري ويقر بغالبية الثلثين.ويتبين التأثير الضاغط لهذه المفاوضات الثنائية التي يتم من خلالها استفراد الدول النامية من كون أكثر من ثلث الدول الأعضاء ضمت إلى قوائم التزاماتها الوطنية قطاعات حيويّة كالصحة والتعليم والمياه، فيما أعدت حتى الآن أكثر من 80 دولة قوانين جديدة للمنافسة على الرغم من المنظمة لم تقر بعد سياسات المنافسة الجديدة.17/8/2007


[1] الاتفاق هو عبارة عن قسمين، إطار الاتفاق والجداول الوطنية للالتزامات، التي يحدد فيها العضو درجة الدخول المتاح امام المزؤدين الاجانب.لمزيد من التوضيح راجع: World Trade organization; Gats Fact And Fiction; WTO;2000

[2] د. نبيل مرزوق : حول العولمة والنظام الاقتصادي العالمي الجديد ,, مجلة الطريق ,, بيروت ,, العدد الرابع ,, السنة 56 ,, 1997 ,, صـ 82

[3]راجع: د.ماجدة شاهين؛ كانكون بداية جديدة للدول النامية؛ السياسة الدولية العدد 158 أكتوبر 2004ص:211-223

[4] -راجع: صباح نعوش؛ الوطن العربي ومنظمة التجارة العالمية؛المستقبل العربي العدد 282؛ 8/2002؛ ص: 114-134.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها