البناء المؤسساتي لدولة الحق و القانون

إعداد الأستاذ محمد اشماعو

تقــــــديم :

من المفارقات الكبرى اللافتة للنظر في التاريخ السياسي و الدستوري للمغرب أن تكون كل مطالب الإصلاح و تحديث المؤسسات التي عبرت من خلالها النخب السياسية المغربية عن طموحها إلى التطور ، هي وفي المقام الأول ، موضع مبادرة تصدر عن مراكز القرار السياسي في البلاد .

فسواء تعلق الأمر بالإصلاح أو بدمقرطة الحياة السياسية و تقوية المؤسسات التي تحمي المواطن و تضمن له الحق في الحياة الكريمة ، أو في المحاكمة العادلة أو الحد من الظلم و العسف الملازم لبعض أشكال استعمال السلطة ، فنحن دوما نجد الفعل السياسي و التشريعي الذي يترجم تدخل الدولة و حضورها هو البادئ إلى صوغ و تقنين هذه المطالب ضمن إطار مؤسساتي رسمي ، و هو المحدد لمضمونها و طبيعتها و آفاتها النهائية .

و هكذا فطبقا لهذا المنحى العام ، جاءت التحولات السياسية الكبرى في الفترة الأخيرة داعية إلى مراجعة الأداء السياسي السلطوي المطبوع بالسلبية و مظاهر القصور ، و استبدال ذلك عبر تقويم آليات عمل السلطة من خلال تبني مفهوم جديد لها . فصار الإعلان عن هذا المفهوم المرجع الرئيسي لحركة سياسية و ثقافية، أفرزت ميلاد شبكة متكاملة من المؤسسات المؤثرة و الفاعلة في مجال حقوق الإنسان ، كالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بحلة جديدة ، و ديوان المظالم فكيف يمكن إذن التوفيق بين مطالب سياسية و اجتماعية في إقامة مؤسسات حرة تضمن علاقات متوازنة بين المجتمع المدني و المجتمع السياسي ، و كذا بين المواطن و الدولة و بين ما نشاهده من سعي الدولة إلى مأسسة هذه المطالب . و صياغتها في ترسانة قانونية تجعل من مراكز السلطة القوة الوحيدة القادرة على الاضطلاع ، بتحديث الصرح المؤسساتي و تعيين صيغة التواصل المطلوبة بينه و بين المطالب الاجتماعية في العدالة و إقرار سلطة القانون ؟ و هل نحن أمام مجرد إعادة رسم لحدود و صلاحيات الجهاز المؤسساتي للدولة ، بحيث يكون قيما على تعريف الحقوق و الحريات و صيانتها ، أم نحن أمام مشروع سياسي متكامل ، يؤسس و يسعى إلى تجاوز الممارسات المنحرفة عن حدود القانون ، و يبني قضاءا ديمقراطيا يعزز قيمة المواطنة و يتبنى في غير رجعة حقوق الإنسان كمرجعية له في نطاق احترام مبدأ المساواة أمام القانون ؟

إن الطابع الإشكالي الذي تحمله هذه الأسئلة يستمد مشروعيته من مجموعة مؤشرات عامة ، ينعكس حضورها في بنية هذه المؤسسات ، و في وضعها العام و طبيعة منحاها فهي و إن هدفت إلى تقويم النسق الإداري ، و إلى إصلاح القضاء ، أو إلى ترسيخ قيمة الحق و العدالة ، إلا أنها من حيث درجة السلطة و الفعالية ، قد لا يكون لها في أغلب الأحيان طابع الإلزام القانوني ، فيؤول دورها إلى الهامشية على اعتبار أن تدخلاتها لا تخرج في أحسن الأحوال عن دور الوساطة أو الاستشارة . كما أن حجم السلطة الضئيل الذي تمتلكه على الإدارة لا يتناسب مع تضخم الطلب عليها و تراكم عدد المشكلات التي تفوق طاقتها ، و التي لا تحتمل إلا حلا واحدا ، هو ضرورة التعجيل بإصلاح إداري و قضائي شامل يجعل من الشكايات و التظلمات المختلفة مجرد استثناء عارض يبت فيه على وجه السرعة ، و تصحح فيه العلاقة المختلفة بين المواطن و بين مؤسسات الدولة .

و لأجل تسليط المزيد من الضوء على خصوصيات البناء المؤسساتي الحقوقي الرسمي ارتأيت إجراء دراسة مقتضبة عن الإطار القانوني و الوظيفي الذي يحكم مؤسستي ديوان المظالم و المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان مستحضرا في ذلك إرهاصات و دواعي إحداث كل منهما ، و كذا مواقف الفاعلين الحقوقيين ، سواء تلك المعبر عنها ، أو تلك التي لم يتأت لأصحابها الاستمرار في تبنيها رغم أن بنية النماذج المؤسسية الحقوقية التي راكمها الإصلاح السياسي في المغرب لا تعكس طموحاتهم و آمالهم .

1- المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان : من التأسيس إلى التحديث :

لقد تم إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في سياق ظرفية خاصة عاشها المغرب ، كان من إفرازاتها بروز وعي حقيقي بفظاعة الخروقات التي طالت حقوق الإنسان و حرياته ، و هو وعي كرسه المجتمع المدني بهيئاته الحقوقية و السياسية في إطار مطالب ارتبطت بمشروع تاريخي تضمن بداية ضرورة الاعتراف بوجود تجاوزات ، و كذا تبني مسار تصحيحي في اتجاه وضع حد لممارسات الماضي و طي صفحة سوداء من تاريخ المغرب .

واستجابة لشروط الانخراط في المحيط الحقوقي الدولي و ما تفرضه من تطبيق للمعايير الدولية لحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا ، أعلن المرحوم الحسن الثاني عن إحداث المجلس بمقتضى الظهير رقم 12-90-1 بتاريخ 20 أبريل 1990 ، بصفته هيئة استشارية لها صلاحية تقديم الاقتراحات الملائمة للقضايا المطروحة ، و بذلك خطا المغرب خطوة إلى الأمام نحو تحقيق مجموعة من المطالب الملحة ، التي حضت عليها قرارات الهيئات الدولية و منها توصيات لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة إبان الموافقة على المبادئ التوجيهية الخاصة بهياكل المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان بتاريخ 14 دجنبر 1976 ، و في 14 مارس 1979 و كذا قرار الأمم المتحدة رقم 44/64 المؤرخ في 8 دجنبر 1989 حول المؤسسات الوطنية لحماية و تطوير حقوق الإنسان ، هذا القرار الذي حدث على إحداث أجهزة حقوقية فعالة طبقا للقوانين .

و لأجل استكمال غاية إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وفق ما حدده من اختصاصات خلال ظرفية الأحداث ، شكل جلالة الملك محمد السادس هيئة مستقلة مكلفة بتعويض ضحايا الاختفاء القسري و الاعتقال التعسفي ، أوكل إليها النظر في الملفات التي تقدم بها الضحايا أو ذويهم ، و قد اعتبر ميلاد هذا الجهاز اعترافا ضمنيا بالسجل الأسود لحقوق الإنسان ببلادنا و إن لم ترق المبادرة إلى محاسبة و فضح المسؤولين المباشرين عن تجاوزات الماضي .

و في سبيل تفعيل المؤسسات الوطنية القائمة بدا أنه من الضروري إعادة النظر في اختصاصات المجلس الاستشاري و هيكله ، بعد استنفاذ بعض مهام تأسيسه ، و بعد بروز الحاجة إلى جعله هيئة لها من الوسائل ما يمكنها من تجاوز مستوى التفكير و الاقتراح أو المشورة إلى التصدي لحالات خرق حقوق الإنسان و الاندماج في جبهة الدفاع عن الحريات تماشيا مع إعلان باريس الذي أقرته المم المتحدة بتاريخ 20 دجنبر 1993 المتعلق بإنشاء المؤسسات الوطنية المكلفة بحقوق الإنسان و استجابة كذلك لتعليق المفوضة السامية لحقوق الإنسان ماري روبنسون خلال زيارتها للمغرب في ربيع 2000 حيث دعت إلى مراجعة هيكلة المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان و جعله ذا صبغة تقريرية و إلغاء عضوية الوزراء ضمانا لاستقلاليته .

و في هذا الاتجاه أعلن جلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى 52 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان حين استقباله لكل من عضوية المجلس و هيئة التحكيم المستقلة ، أعلن عن إصلاح و توسيع اختصاصات المجلس ، و تجديد تركيبته و عقلنة عمله و تأهيله على نحو أفضل لترسيخ الحقوق المدنية و السياسية . و كان لهذه البادرة الملكية أن خلفت ارتياحا بالغا لدى الفاعلين الحقوقيين ، خصوصا بعد صدور ظهير إعادة تنظيم المجلس الاستشاري و ما حواه من مقتضيات اتضح أنها تنسجم إلى حد ما و مقترحاتهم ، كتقليص مشاركة الهيئات السياسية و نزع الصفة التقريرية عن أعضاء الحكومة الممثلين ، و إتاحة المجال الأوسع لتموقع هيئات المجتمع المدني ، على مستوى تشكيلة المجلس بحلته الجديدة . و بالنظر إلى أهمية الدور الذي أصبح يضطلع به المجلس الاستشاري في ظل التعديلات التي لحقت الظهير المؤسس ، يمكننا القول أن القانون الجديد قد أضفى على هذا الجهاز صفتي الفعالية و الاستقلال في التدبير المالي و الإداري ، الأمر الذي أهله لشغل مركز حجر الزاوية في النسيج الحقوقي المغربي ، و هو ما تأكد عقب أحداث ديوان المظالم بمقتضى الظهير الشريف رقم 01/1/298 الصادر في 12 دجنبر 2001 ومنح والي المظالم صفة العضوية التقريرية في المجلس الاستشاري .

و حتى نصل إلى تسليط المزيد من الضوء على أهم المستجدات التي حملها الظهير المعدل ارتأيت بدءا إجراء قراءة في حصيلة و منجزات المجلس القديم ، و الدور الذي قام به في معالجة بعض القضايا ذات الصلة بحقوق الإنسان إزاء ما استجد من تعديلات :

1 –حصيلة إنجازات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان :

أ – تسوية وضعية السجون و العمل التشريعي المقترن بالحريات:

شكل موضوع السجون المغربية محور نضال الهيئات الحقوقية المغربية و مراكز الرصد المحلية و الدولية ، التي وجهت اهتمامها لدراسة تردي و تقهقر مراكز الاعتقال ، و خلصت في ذلك إلى إعداد تقارير و تعليقات ، فصلت فيها الوضعية الخطيرة التي يوجد عليها آلاف السجناء داخل السجون ، تنعدم فيها أبسط شروط الحياة ، على اعتبار البنية التحتية ، لحد تسخير إسطبلات خيول خلفها الاستعمار الفرنسي في إيواء المحكوم عليهم ، إضافة إلى عدم توافق الطاقة الاستيعابية لعدد من السجون مع عدد النزلاء و ما ينتج عن ذلك من مشاكل صحية و أخلاقية تحول دون تحقق حاجات الإصلاح و التأهيل التي تبرر دورها .

و على خلفية هذا الوضع الشاذ ، جاءت الكلمة التوجيهية للمرحوم الحسن الثاني إثر الإعلان عن إحداث المجلس الاستشاري و فيها قوله لعضوية المجلس " هذه أمانة على أعناقكم حتى لا يبقى في هذا البلد رجل لا يتمتع و لو كان محكوما عليه بالكرامة الإنسانية " توجيه حدا بالمجلس إلى إعطاء الأولوية لمسألة إصلاح و تسوية وضعية السجون ، و حل معضلاتها سواء ما تعلق منها بالبينة القانونية القديمة أو تلك الناجمة عن استشراء ضروب المعاملة اللاإنسانية ، و اعتماد أساليب التعذيب و الرشوة و المحسوبية . و لهذه الغاية درجت مجموعة العمل المعنية بدراسة السجون على القيام بزيارات ميدانية ، و تهيئ دراسات وصفية لأجل العرف على مكامن الخلل و معيقات الإصلاح و استنارة بما أنجزته في هذا المضمار ، انكب المجلس الاستشاري على دراسة الحلول الملائمة لتسوية وضعية السجون المغربية ، فأقر بمناسبة اجتماعه الثالث المنعقد في فبراير 1991 الرأي الاستشاري الذي حمل كما من الاقتراحات و التوصيات ، انصبت في مجملها على تطوير مستوى البنيات التحتية و تحسين الظروف الصحية و الغذائية للمعتقلين ، و كذا تفعيل دور النيابة العامة في تفقد السجون و حثها على عدم تعميم مسطرة تقديم المتابعين في حالة اعتقال ، إذا تعلق الأمر بجرائم لا تكتسي طابع الخطورة من قبيل الترامي على ملك الغير أو حوادث السير .

و دعما لهذه الاقتراحات انكب المجلس على دراسة مشروع المرسوم المنظم للمؤسسات السجنية ، الذي أعدته وزارة العدل ، و خلص في ذلك إلى الإشادة بتفوق المشروع في بعض بنوده على الاتفاقيات الدولية ، و القواعد النموذجية الدنيا ، و في نفس النطاق تقدم المجلس بلائحة مقترحات إضافية تم رفعها إلى الملك عقب انتهاء أشغال الاجتماع الثامن المؤرخ في 23/24 فبراير 1994 و من هذه الاقتراحات ما يلي :

تضمين سجل الاعتقال يوم وساعة دخول المعتقلين للسجن و خروجهم منه .

فصل المحبوسين احتياطيا عن المحبوسين المحكوم عليهم و المحبوسين لأسباب مدنية عن أولائك المحبوسين لارتكابهم جرائم جنائية .

توفير الخدمات الصحية بما فيها إقامة الطبيب العامل بالسجن بصفة دائمة .

إمكانية توصل المعتقل بالجرائد و الدوريات و الكتب المسموح ببيعها في السوق المغربي .

و ما تجدر الإشارة إليه في هذا الباب ، هو أن المجلس قد توقف فعلا في الإطاحة بملف السجون عبر آرائه الاستشارية ، و مقترحاته التي مهدت الطريق لصدور الظهير الشريف المؤرخ ب 25 غشت الخاص بتنفيذ القانون رقم 98/23 المتعلق بتنظيم و تسيير المؤسسات السجنية .

و ارتباطا بمسار اهتمام المجلس بالجانب التشريعي فقد صاغ في سنة إحداثه الأولى تعديلات همت بعض بنود قانون المسطرة الجنائية ، تعديلات ضمنها في رأيه الاستشاري حول الوضع تحت الحراسة و الاعتقال الاحتياطي .

و أحيلت وقتها على الملك في شكل مقترح عام لقي رضاه بصدور الظهير 30/12/91 الذي تم بناءا عليه نشر القانون رقم 90/67 الصادر في مجلس النواب بتاريخ 25أبريل 1991 و ظهير 10/9/93 الخاص بنشر القانون 92/02 ،و بمقتضى هذين الظهيرين عدلت كل من المواد 68 و 69 (ق.م.ج) المتعلقة بأمد الوضع تحت الحراسة و إشعار عائلة المحتفظ بهم ، و المواد 76 و 127 المرتبطة بتكريس مبدأ الحق من الدفاع ، و كذا المادة 154 المحددة لعدد التمديدات القانونية أثناء فترة الاعتقال الاحتياطي ، و المادة 156 التي قلصت أجل البت في طلبات السراح المؤقت بالنسبة للقضايا الجنحية ، هذا إلى جانب البند 406 القاضي بالإفراج عن المتهمين في قضايا الجنح الضبطية رغم استئناف النيابة العامة ، عدا أمام حالات المس بالمقدسات أو النظام العام أو قضايا المخدرات .

ب- معالجة ملفات الاعتقال السياسي و الاختفاء القسري :

كما سبق و ذكرت فقد تزامن الإعلان عن إحداث المجلس الاستشاري ، مع حالة تردي شاملة عانت منها حقوق و حريات المواطنين بوجود العديد من السجناء السياسيين و معتقلي الرأي ، يقبعون داخل سجون مجردة من أدنى شروط الحياة الإنسانية ، تمارس فيها أنماط مختلفة من التعذيب و ضروب الإذلال في ظل تعتيم شديد و مضايقة صارمة للعاملين في مجال حقوق الإنسان أفراد و منظمات وطنية دولية .

و ما كان للوضع أن يبقى على ما كان عليه من افتضاح حقائق مريعة ، عرت جزءا يسيرا من ممارسات أذناب السلطة ، و المسخرين لانتهاك حقوق الإنسان الذين ساهموا في تدبير عمليات قتل و اعتقال خارج نطاق القانون ، كما عملوا على طمس معالم جرائمهم باعتماد أساليب الإخفاء في سجون لم تطلها قط يد القانون ، بل ترك أمر الإشراف عليها لشرذمة من المرضى النفسيين ممن تلذذوا لعقود طويلة بمعانات المواطن المغربي .

و في ظل هذا الوضع تكاثفت نضالات أسر الضحايا و المنظمات الحقوقية و الدولية التي بادرت بدورها إلى الكشف عن حقيقة مأساة المعتقلين ، في إطار حركية زكتها مكونات المجتمع المغربي المدنية منها و السياسية ، حركية كانت وراء إحداث المجلس الاستشاري كهيئة استشارية أوكل إليها معالجة هذا الوضع الشاذ و تصفية القضايا العالقة ، و ذلك بمد الملك بما يتعين فعله في هذا الباب بناءا على تعليماته .

و عليه كان أول و أهم ما طلب من هذا المجلس ، هو البحث و التقصي في موضوع حالات الاعتقال السياسي و ضحايا الاختفاء القسري ، و في هذا جاء خطاب المغفور له بمناسبة عيد الشباب 1994 ، ليعطي الانطلاقة الفعلية لبدء أوراش التصحيح بهدف تجاوز عثرات الماضي و تكريس واقع جديد ، و كانت أولى خطواته إعلان العفو الملكي الذي شمل وفق لائحة أعدها المجلس فئة المعتقلين السياسيين و عددهم 11 ، و فئة المحكوم عليهم في أحداث مؤلمة و حصرت في 413 شخص .هذا إلى جانب حالات الاغتراب الاضطراري منها و الاختياري .

و بقدر ما نتج عن هاته الخطورة من ارتياح في أوساط الشعب المغربي ، فقد أثارت طريقة التعامل مع هذا الملف مواقف تراوحت بين انتقاد الأسلوب الانتقائي الذي نهجه المجلس في إقصاء بعض المعتقلين ، و بين تحفظات صدرت عن بعض الهيئات الحقوقية حول جدوى هذه المبادرة إن لم تكن لتؤدي إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين و فك الغموض الذي أحاط بملف المختفين المغتربين .

و من جانب آخر انكب المجلس ، سعيا منه إلى إقفال ما بقي عالقا من ملفات على دراسة و حصر حالات الاختفاء منتهيا في ذلك إلى إصدار بيان عقب اختتام أشغال اجتماعه الثاني عشر المؤرخ ب 13/10/1998 ، ضمنه لا ئحة للمختفين حددت انطلاقا مما توصل إليه المجلس من مصادر مختلفة مغربية و أجنبية في 112 حالة عرض أمر البحث و التقصي عن مصيرهم للسلطات المختصة ، بيد أن هذا البيان لقي عدة انتقادات من المنظمات الحقوقية المغربية ، و في طليعتها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي ردت عليه ، معتبرة أن العدد المدرج لا يتوافق و الحالات التي تولت تتبعها ، و دعا رئيسها حينها إلى الكشف الصريح و الصادق عن مصير المختطفين و تسليم جثت المعلن رسميا عن وفاتهم و تعويض من أفرج عنهم و عائلات المتوفى منهم ، و فتح متابعة قضائية ضد المتورطين في اختطافهم

و ضمن نفس النطاق ، اقترح المجلس على جلالة الملك محمد السادس تمتيع جميع المعنيين بالأمر و أهاليهم بالتعويضات الملائمة على أن تتولى هيئة تحكيمية مستقلة مهمة نظر الطلبات و تحديد التعويضات لمستحقيها . اقتراح تبناه الملك و رصدت له حكومة التناوب 890 مليون درهم تمت بواسطتها تسوية وضعية أكثر من 1200 شخص من الضحايا و ذوي الحقوق .

و على أي ، فحصيلة المجلس الاستشاري بخصوص تصفية الملفات المشار إليها لا يمكن أن توصف إلا بوجهها الإيجابي ، لاعتبارات عدة ، منها ظرفية تأسيسه كجهاز استشاري و جد لسد الفراغ في مجال الاعتناء بحقوق الإنسان ، و توليه ترجمة توجه المؤسسة الملكي في هذا الباب ، و منها كذلك محدودية مجال و آليات اشتغاله بوجود قضايا معينة شكلت محور اهتمامه ، على نقيض ما أضحى عليه المجلس الحالي من تحديث الاختصاصات و توسيع دائرة الاستقلالية في التدبير المالي و الإداري .

2 – قراءة في الظهير الجديد .

برجوعنا إلى ما جاء به ظهير إصلاح و إعادة هيكلة المجلس الاستشاري ، نخلص إلى ملاحظة أولية منتهاها ، أن التعديل جاء محملا بمقتضيات متطورة من شأنها مواكبة التحولات التي تعرفها بلادنا على مستوى انفتاح الدولة على المجتمع المدني و التطلع إلى ترسيخ التوجه التشاركي في تدبير و إدارة الشأن العام . و بإجمال يمكننا تحديد أهم محاور التحديث في ظهير التأسيس كالتالي :

أ - التنصيص على مرجعية القانون الدولي لحقوق الإنسان :

انسجاما مع التعديل الذي طال ديباجة دستور 1992 و الذي تم بفعله إقرار البعد العالمي لحقوق الإنسان و تكريس سمو المعاهدات الدولية ، نجد ظهير التحديث يسير في اتجاه رفع اللبس الذي يحيط بتأويل المادة 31 من الدستور في جانب التمركز القيمي للمواثيق الدولية في تراتبية أولوية التطبيق .

و عليه فقد اعتبر خطاب جلالة الملك بتاريخ 10 دجنبر 2000 المرجعية الأساسية لاختصاصات المجلس في هذا الباب حين قال جلالته في معرض خطابه المذكور : "ما نحن مقبلون عليه من إصلاح يتوخى توسيع اختصاصات المجلس و تركيبه و عقلنة طرق عمله و تأهيله على نحو أفضل لترسيخ الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية .

لهذه الغاية يقول جلالته يتعين توسيع صلاحية المجلس لتشمل علاوة على القضايا التي نعرضها عليه للاستشارة ، التصدي لحالات خرق حقوق الإنسان و تقديم توصيات بشأنها ، و بحث ملائمة التشريع الوطني مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان " . انتهى خطاب جلالته .

فخلافا لما كان عليه الظهير القديم من عدم إشارته لجانب حقوق الإنسان في بعدها الدولي فإن موجبات نزول الظهير المعدل أكدت التزام المغرب و وفائه بالالتزامات الدولية في مجال حقوق الإنسان كشرط أولي لترسيخ دعائم دولة الحق و القانون ، كما أن المادة الثانية فتحت آفاقا جديدة أمام اختصاصات المجلس حينما أوكلت إليه ملاءمة النصوص التشريعية و التنظيمية الوطنية للمعاهدات الدولية المصادق عليها أو المنظم إليها ، و في نفس السياق أصبح بوسع عضوية المجلس المساهمة في إعداد التقارير التي يتعين تقديمها لأجهزة الأمم المتحدة و للمؤسسات الدولية .

ب – العضوية و صفة التمثيل :

مما لا شك فيه ان المقتضيات الجديدة التي صاغها الظهير المعدل ، تواكب إلى حد ما مبدأ الانفتاح على المجتمع المدني بفاعليه الحقوقيين و الجمعويين ، على خلاف ما كانت توحي به النسب التمثيلية التي وضعها الظهير المؤسس ، و التي اعتمدت مشاركة موسعة للأحزاب و المركزيات النقابية في أشخاص ممثليها ، مما حدا بالهيئات الحقوقية المتتبعة لعمل المجلس حينها إلى توجيه انتقادات همت معدل التمثيل النقابي و السياسي و المعايير المعتمدة ، و خصوصا ما يتعلق منها بعنصر التكوين و التخصص في مجال حقوق الإنسان ، الأمر الذي نبه إليه الظهير المعدل في مادته الثالثة حيث اشترط تمتع الممثلين ذوي الصفة التقريرية بالجرد و النزاهة الخلقية و الكفاية الفكرية و التشبت المخلص بحقوق الإنسان و العطاء المتميز في سبيل تعزيزها .

و من بين ما يتعين التطرق إليه حول صفة التمثيل داخل المجلس الجديد ، مسألة تجريد الوزراء الأعضاء من الصفة التقريرية و انحصار دورهم في المشاركة الاستشارية ليس إلا ، و كذلك عضوية والي المظالم المأمول من تواجده تقوية فعل التكامل بين المجلس الاستشاري و بين ديوان المظالم المنوط به رفع الحيف عن الأفراد و توجيه الإرادة نحو خلق علاقات تواصلية مع المواطنين ، الأمر الذي يبشر بميلاد درع حام ، جدير به صيانة و ترسيخ أسس دولة الحق .

و بصفة عامة تتشكل عضوية المجلس كما حددها القانون الجديد وفق ما يلي :

- يتألف المجلس من رئيس يعين لمدة 6 سنوات قابلة للتجديد و 44 عضوا ذوي صفة تقريرية ، يتم اختيارهم على أساس التقسيم المفصل كالتالي :

14 عضوا يقترحون من قبل الجمعيات الفاعلة في مجال حقوق الإنسان و المعروفة بنشاطها المكثف في سبيل النهوض بها ، بما فيها الجمعيات المختصة بالقضايا الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية .

- 9 أعضاء تقترحهم الأحزاب و النقابات .

- 6 أعضاء يمثلون كل من رابطة علماء المغرب و جمعية هيئات المحامين بالمغرب و هيئة الأطباء الوطنية و الودادية الحسنية للقضاة لإضافة إلى ممثل عن كل من هيئة الأساتذة الجامعيين و مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج .

و يتم تعيين الفئة الواردة أعلاه لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد من ضمن قائمة تضم ثلاثة أشخاص تقترحهم الهيئات المعينة .

- 14 عضوا يتم اختيارهم من طرف جلالة الملك .

و إلى جانب الأعضاء ذوي الصفة التقريرية يضم المجلس ضمن أعضائه بصفة استشارية الوزراء المعنيين بمجالات اختصاصه ، كما أوجد الظهير الجديد إمكانية إحداث لجن خاصة تعتني بملفات معينة تتكون عضويتها عن الاقتضاء من أشخاص خارج المجلس ، و ذلك باقتراح من الرئيس بعد الحصول على إذن الملك .

ج – حول الصلاحيات الجديدة .

حمل ظهير إعادة تنظيم المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان تعديلات جديدة أدخلت بمقتضاها إصلاحات جوهرية مست صلاحياته و أوجه تدخله ، و أهلته ليكون جهازا قادرا على معالجة قضايا حقوق الإنسان ، و تحقيق الرقابة على حالات انتهاكها بفضل وسائل مصنفة ضمن اختصاصاته من قبيل مد الملك بتقارير و اقتراحات على حال حقوق الإنسان ببلادنا ، فضلا عن إعداد تقرير سنوي شامل يحوي رصد مجال تدخله و حصيلة و آفاق عمله .

و حيث إن مستجدات القانون الجديد تتلاءم إلى حد ما و معاير التأسيس المفترضة في المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان فإن أبرز ما يميز المهام التي أنيطت بالمجلس تلك المتعلقة باتساع صلاحيته لتشمل التصدي لحالات خرق حقوق الإنسان ، بصفة تلقائية أو بطلب ممن يعنيهم الأمر ، و بالتالي لأصبح بوسع المجلس الاستشاري إحالة القضايا على نفسه ، و اتخاذ آراءه الاستشارية و تصوراته بشأنها و هنا لابد من الإشارة إلى دور ديوان المظالم المرتقب منه تفعيل هذا المكسب بالنظر إلى عضوية القائم على أعماله ضمن تشكيلة المجلس و تداخل اختصاص الجهازين معا في هذا الباب . و زيادة على ما ذكر تتنوع اختصاصات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وفق الظهير المعدل بين المجال التشريعي و بين دوره في توفير سبل التنسيق و التعاون مع الهيئات الحقوقية الوطنية و الدولية . و في هذا الاتجاه أضحى بإمكان المجلس بحث ملاءمة النصوص التشريعية و التنظيمية الوطنية للمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان التي صادقت عليها المملكة أو انضمت إليها و كذلك التشجيع على مواصلة المصادقة عليها ، هذا إلى جانب إعداد التقارير التي يتعين على السلطات العمومية تقديمها للأجهزة الدولية و الجهات المختصة .

و من جهة ما أوكل للمجلس من صلاحيات في علاقة بتقوية قنوات التواصل و التعاون و دعم مبادرات الدفاع عن حقوق الإنسان ، أشار الظهير إلى دور المجلس في تسيير التعاون بين السلطات العمومية و ممثلي الجمعيات الوطنية و الدولية و الشخصيات ذات الكفاءة في الحقل الحقوقي و كذا التنسيق مع هذه المؤسسات بخصوص حماية حريات المغاربة القاطنين بالخارج و صون حقوقهم .

و على عموم القول يمكننا عبر ملاحظة الصلاحيات التي بات المجلس الاستشاري يختص بها ، تسجيل أوجه مختلفة من السمات الإيجابية و المتطورة ، تعكس وجود إرادة حقيقية لتعزيز حال حقوق الإنسان ، سمات زكاها الإعلان عن إحداث جائزة محمد السادس لحقوق الإنسان بمقتضى المادة 8 من الظهير الجديد ، ف مبادرة من شأنها أن تشكل حافزا قويا للناشطين في ميدان النضال من أجل صون حقوق و كرامة المواطن المغربي ، كما أنها تحمل في طياتها اعترافا بضرورة رد الاعتبار للحركة الحقوقية الوطنية و احترام محورية دورها في إرساء دعائم دولة الحق و القانون .

3 – موقف الجمعية المغربية لحقوق الإنسان حيال التعديلات الجديدة .

على الرغم من مقاربة التعديلات المدخلة في اختصاصات المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان لما حضت عليه المعايير الدولية بخصوص ضوابط تأسيس المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان ، فقد برزت جملة من المواقف الخلافية ، عبرت عنها هيئات حقوقية و وطنية بمناسبة تدارسها لجديد الظهير المعدل ، مواقف عكست تحفظ هاته الهيئات و عدم رضاها على ما استجد كما حملت في الآن ذاته مقترحات بنيت في مجملها على ضرورة لإخضاع المجلس و مطابقة ظهيره لقواعد إحداث مؤسسات حقوق الإنسان الوطنية ، وفق المرجعية الدولية في توصيات مؤتمر باريس .

و لأجل تسليط الضوء على أهم الانتقادات التي واكبت الإعلان عن إعادة هيكلة المجلس سأعمل على تتبع ردود فعل الحركة الحقوقية الوطنية مكتفيا في ذلك بما خلصت إليه مداولات و دراسات الجمعية المغربية لحقوق الإنسان .

انسجاما مع المواقف التي تبنتها الجمعية طيلة عمر المجلس القديم ، فقد عزت سبب الاستغناء عنه إلى فشل تجربته في القيام بالمهام المنوطة به ، معيبة عليه الانحياز للسلطة و ممارسة التعتيم على أوضاع حقوق الإنسان ، و كان لها عقب اتضاح ملامح الظهير الجديد أن سجلت ارتياحا مشوبا بالحذر على اعتبار سبق تمسكها بمقترحات و أفكار حول ما يجب أن يكون عليه المجلس ، سواء من حيث السند التشريعي لإحداثه أو من حيث اختصاصاته و تشكيله و تمويله . و عليه ركزت الجمعية على مواطن الضعف و عوائق التفعيل الحائلة دون الاستجابة لضوابط التأسيس المفترضة في المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان و أجملتها كنتيجة لمداولاتها و بياناتها في ما يلي :

- ترى الجمعية المغربية في احتلال الملك ، كسلطة مركزية في مراقبة أعمال المجلس تكريسا لهيمنته على الحياة العملية للمجلس القادم على اعتبار دوره في منح ادونات إحداث اللجن و تفويض رئيس المجلس لبعض من الاختصاصات ، و كذا توقف إعمال القانون الداخلي للمجلس على مصادقة الملك إلى جانب شرط اطلاعه القبلي على نتائج المجلس حتى يتسنى نشرها .

- تنتقد الجمعية وضع رئيس المجلس المعين و الغير المنتخب من طرف الأعضاء ، و احتكاره تهيئ مشروع جدول الأعمال و مشروع الميزانية و الأمر بصرفها ، زيادة على مشروع القانون الداخلي ، و كذا كونه الناطق الرئيسي باسم المجلس .

- تعيب الجمعية على الظهير المعدل تحديده لطريقة تعيين ممثلي المجتمع المدني من خلال قائمة مقترحة تضم ثلاثة أشخاص ، و هي ترى في ذلك وصاية غير مقبولة تمس استقلالية مؤسسات و هيئات المجتمع المدني ، و في نفس السياق عبرت الجمعية عن خشيتها من تجاوز الصفة التطوعية لعضوية المجلس و تحويل التعويضات عن المهام إلى تعويضات جزافية قارة .

و من بين الانتقادات الحرية بالاهتمام تلك الخاصة بشكليات الإحالة المقترنة باختصاص التصدي لخروقات حقوق الإنسان ، فالجمعية تشترك في موقفها في هذه النقطة مع غيرها من الهيئات الحقوقية ، و تعتبر مقتضيات الظهير في هذا الباب تضيقا لمبادرة المجلس الذاتية على اعتبار أن اشتراط توفر أغلبية الثلثين ، يجرد مكسب التصدي من الفاعلية المرتقبة و يجعل من النسبة اللازمة لأعماله أمرا تعجيزيا يتنافى و قواعد الاحتكام للفصل الديمقراطي .

و إضافة إلى ما ذكر ، عابت الجمعية على الظهير الجديد إغفاله مسألة إقالة المجلس في حالة التنافي مع صفات التجرد و النزاهة و مؤهلات الكفاءة و التشبت بحقوق الإنسان ، و كذلك فعلت إزاء عدم الإشارة إلى حصانة أعضاء المجلس من أي ملاحقات قضائية بسبب الأقوال أو الأعمال الصادرة عنهم أثناء ممارستهم لمهامهم ، كأعضاء في المجلس ، و غياب التنصيص على فرض إجراءات في مواجهة السلطات العمومية و الخاصة الممتنعة عن تسهيل مأمورية المجلس ، و كذا افتقار هذا الأخير لقنوات خاصة كفيلة بتوفير فرص التواصل مع المواطنين و تسهيل عملية إحكامهم له .

II – ديوان المظالم بين المرجعية التقليدية و متطلبات الحداثة السياسية .

1 – ولاية المظالم في التاريخ العربي الإسلامي .

إذا كان تاريخ افسلام السياسي تاريخ توظيف للدين بما هو إيمان ، و منبع فضاءل و تشريعات فإن الدولة في هذا المستوى ، بما هي جهاز لإنتاج القوة و السلطة و رعاية التوازن الاجتماعي ، قد انحصر دورها في عقلنة هذا الاستثمار الروحي عبر الجمع بين سلطة التشريع و سلطة الدولة و تجاوز الظلم المرتبط بالدولة عبر إعطائها مضمونا سياسيا حقيقيا ، يساهم في إقرار الحق و تحقيق العدل .

و إذا كان تاريخ السياسة الإسلامية قد تكرس عبر الصراعات التاريخية ، كتاريخ تقهقر مستمر من ثورة العدل الإلهي المجسدة في النبوة و الخلافة ، إلى نموذج الدولة السلطانية ، فإن ذلك لم يكن يعني قيام قطيعة بين الجماعة و الدولة أو التضحية بمبدأ العدالة في فضاء السلطة المؤسسية و القانون ، خاصة و إن كل الدول الحاكمة التي تعاقبت في المجال العربي الإسلامي ، و منه المجال السياسي العربي ، كانت تستمد مشروعيتها من أرضية دينية و سياسية هدفت إلى الجمع بين حاجات الجماعة الدينية و متطلبات الدولة ، عبر الربط بين النسق العقدي ، و ممارسة العدالة .و هذا ما يفسر في تاريخنا اعتناء الإمبراطوريات المتعاقبة بتقوية سلطة المؤسسات القضائية ن المتبلورة خارج جهاز الدولة و دون أن تجنح الدولة إلى التحرر من كل قيد أو قانون . فالرقابة على مؤسسات و ممارسات النخبة الحاكمة كانت تتم أساسا من خلال ديوان رد المظالم تلك المظالم التي كانت تنزل على الرعية من العمال و الولاة و جباة الضرائب . و الملاحظ بخصوص الوظيفة المؤسساتية لديوان المظالم أنه مؤسسة موازية لقضاء المحاكم الشرعية ، حيث كان الخليفة أو السلطان يقصده للبث بنفسه أو بمساعدة الفقهاء و أهل الإفتاء و يقرر رفع الظلم و مراجعة الأحكام و زجر تصرفات الولاة و ما ارتكبوه من جور و عسف .

لقد استمرت هذه الممارسات المخزنية ، الهادفة إلى تقويم مسار العدالة منذ العهود المرابطية و الموحدية و السعدية ، و شكلت إحدى الدعائم و الأدوار الوظيفية التي قامت عليها المؤسسة المخزنية في العهد العلوي ، حيث تم إطلاق سلطة والي المظالم لمواجهة كل جنوح إلى تعطيل العدالة ، على اعتبار أن المؤسسة السلطانية كانت تقوم على مبدأ التمثيل الرسمي و الديني المسحوب على الدولة . و حقيقة الأمر أن جوهر الممارسة القضائية لديوان المظالم ، كانت ذا طبيعة سياسية إذ كان يمس مسألة نفاذ نوعية من الأحكام كانت سلطات القاضي تعجز عن تنفيذها ضد النخبة السياسية الحاكمة و الأشخاص الذين استمدوا قوتهم من الارتباط بها ، فهذه التي لا تنالها المحاكم الشرعية و تعجز أمامها سلطات التنفيذ هي المستهدفة أصلا في ديوان المظالم .

أ – تعريفها و تطور تنظيمها .

عرف الإمام المارودي نظر المظالم بأنه دفع المتظالمين إلى التصانف بالرهبة و زجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة ، و وصف ابن خلدون في مقدمته ولاية المظالم على أنها وظيفة ممتزجة من سلطة السلطنة و نصف القضاء ، و تحتاج إلى علو يد و عظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين و تزجر المعتدي .

كما عرفها الشيخ محمد أبو زهرة بأنها "كولاية القضاء و كولاية الحرب و كولاية الحسبة مما يتولاه ولي الأمر الأعظم ، أو يقيم فيه نائبا عنه ، من تكون فيه الكفاية و الهمة لأدائه ، و يسمى المتولي لأمر المظالم ناظرا و لا يسمى قاضيا ، و إن كان له مثل سلطان القضاء و مثل إجراءاته في كثير من الأحوال لأن عمله ليس قضائيا خالصا ، بل هو قضائي و تنفيذي ، فقد يعالج الأمور الواضحة بالتنفيذ أو بالإصلاح ، أو بالفعل الذي يرد لصاحب الحق بحقه ، فهو قضائي أحيانا و تنفيذي إداري أحيانا أخرى " .

و لرتبة قاضي المظالم في الإسلام مكانة أغلى من القاضي و المحتسب فعمله ينصب على رد المظالم و إنصاف المظلوم ، و النظر في كل ما يعجز عنه القاضي ، بينما يتولى قاضي الحسبة فض المنازعات المتعلقة بالنظام العام و الجنايات و كل ما يستدعي السرعة ذاتها في الفصل .

و تستمد ولاية المظالم سلطتها من مؤسسة الخلافة أو الملك ذاتها . و للقائم على هاته المؤسسة أن يتولاها بنفسه بالنظر إلى سموها و مكانتها الرفيعة في النظام القضائي الإسلامي و يمكن حصر اختصاصات ولاية المظالم وفق ما حدده الفقهاء فيما يلي :

1 – النظر في تعدي الولاة على الأفراد و الجماعات ، و إنصاف من لحقهم الظلم .

2 – مراقبة كتاب الدواوين في ما أوكل إليهم و زجرهم في حال ما أثبتوا في دفاترهم عمدا أو خطأ ما يخالف الحقيقة .

3 – السهر على شرعية جباية الضرائب ، و رد ما زيد بغير حق ، و نظر أمر عمال الخراج أن أخذوا لأنفسهم ما استوفى من مال .

4 – ينظر قاضي المظالم في تظلم المرتزقة ( الموظفون ) من نقص أرزاقهم أو تأخر دفعا لهم .

5- تنفيذ أحكام القضاة التي استحال عليهم تنفيذها لعلو قدر المحكوم عليه و قوة يده .

6- النظر فيما يعجز عن نظره ولاة الحسبة في المصالح العام .

7 – مراعاة إقامة العبادات الظاهرة ، كالجمعة و الأعياد و الحج و الجهاد ، لأن حقوق الله أولى أن تستوفى ، فروضه أحق بين المتنازعين .

9 – النظر في الأوقاف ذات المصارف العامة ، مثل الأوقاف على المساجد و الفقراء و غيرها ، فوالي المظالم يشرف عليها ليجري ريعها على سبيلها ، و يمضيها على شروط وافقها .

10- رد الغصوب السلطانية ، أي ما يغتصبه ولاة الجور و أصحاب النفوذ من غير وجه حق و ذلك إما بإخذه لأنفسهم ، أو على سبيل التعدي فقط .

و ولاية المظالم عرفت منذ القديم ، إذ كان ملوك الفرس يرونها من قواعد الملك و قوانين العدل و كانوا ينتصبون لذلك بأنفسهم أياما معلومة ، لا يمنع عنهم من يقصدهم فيها من ذوي الحاجات و أرباب الضرورات ، و سبب تمسكهم بذلك أن أصل قيام دولتهم هو رد المظالم ، ذلك أن أول ملوكهم كيومز كان سبب ملكه شيوع الجور في الناس .

و أدرك العرب في الجاهلية جدوى هاته المؤسسة ، فعقدت القبائل حلفا لرد المظالم بينها أسموه (حلف الفضول ) على خلفية ما تعرض له تاجر يمني من بني زيد ، حين أنكره رجل من بني سهم في ثمن بضاعة اشتراها منه ، فقام أبو العباس عم الرسول (ص) و أبا سفيان بإرجاع المال إلى التاجر المستجير . و أجمعت بطون قريش فتحالفت في بيت عبد الله بن جدعان على الرد المظالم بين الناس في مكة ، و ثبت في السيرة النبوية أن (حلف الفضول ) ظل قائما بعد الإسلام إذ جاء في الحديث الشريف قوله (ص) : " قد دعيت في الجاهلية إلى حلف لو دعيت في الإسلام لأجبت " .

كما ثبت في السيرة أيضا أن والي المدينة و اسمه الوليد ظلم الحسين بن علي فقال له الحسين " و الله إن لم ترد لي حقي لأنادي بحلف الفضول " ، فقال عبد الله بن الزبير ممن شاهدوا الواقعة : " و الله لو نادى بحلف الفضول لأشهرن سيفي حتى يرد له حقه أو أموت دونه " فرد الوالي الحق للحسين بن علي .

و استمر حلف الفضول بعد وفاة النبي (ص) و أقره الإسلام كمؤسسة ترفع المظالم عن الناس و أول تنظيم لتكوين هذه المؤسسة الفريدة وقع في القرن الخامس الهجري ، حيث حددها المارودي و ابن يعلى الفراء في مجلس رهيب تجتمع فيه أصناف خمسة من الرجال هي :

1- رئيس المجلس و سمي والي المظالم .

2- الحماه و الأعوان .

3- القضاة و الحكام .

4- الفقهاء و المفتون .

5- الكتاب .

6- الشهود .

ب – ولاية المظالم في تاريخ المغرب :

يقول المرحوم علال الفاسي في كتابه دفاع عن الشريعة " لقد حافظ المغرب طيلة عهوده الإسلامية على إقليمية القضاء و إقليمية التشريع ، فكانت المحكمة الشرعية هي القضاء و إقليمية التشريع ، فكانت المحكمة الشرعية هي القضاء الوحيد الذي يرجع إليه المتقاضون من أي جنس كانوا ، و لم تكن مصلحة المظالم محكمة بالمعنى الحقيقي للكلمة ، و إنما كانت مرجعا لتطبيق الأحكام التي يقضي بها القضاء على من لا تنالهم الأحكام ، أو يصعب على القاضي تنفيذها عليهم ، فكان والي المظالم يقوم بتطبيقها عليهم و إجبارهم على العمل بمقتضاها ، و كذلك الشكايات كانت مرجعا للناس يبتون فيها شكواهم مما يظنون انه حيف وقع عليهم فيصدر أمرا بتنفيذ الحكم أو إعادة النظر فيه إلى القاضي ".

فعبر تاريخ المغرب الإسلامي ، عرفت ولاية المظالم و مورست برعاية السلاطين الذين تعاقبوا على حكم البلاد و مناطق النفوذ ، فقد اعتنى بها المرابطون و جلس المنصور الموحدي بنفسه لفضل القضايا و نظر التظلمات و تطورت هاته المؤسسة على عهد الدولة السعدية فكان للقائم عليها منصب وزير بين وزراء البلاط ، كما ترأس السلطان المنصور مجلس رد المظالم و كان يصدر الأحكام بنفسه ، و من مآثر المنصور أمره بإحضار الظلمة من العمال و هم مكلبون و السلاسل في أعناقهم ، بعد أن بالغوا بجورهم على الرعية .

و خلال عهد الدولة العلوية تطورت ولاية من محكمة للسلطان إلى وزارة للشكايات تولاها فقهاء أجلاء ، فقد كان الملك المولى الرشيد ينظر المظالم بنفسه في جلسات أسبوعية و كذلك فعل المولى اسماعيل و باقي السلاطين الذين تلوه في اعتلاء عرش المغرب وصولا إلى المولى الحسن الأول الذي عمل تأسيس وزارة للشكايات أوكل إليها نظر المظالم و تتبع تصرفات رجال السلطة .

و على نفس النهج سار كل من المولى عبد العزيز و المولى عبد الحفيظ إلى حين الحماية الفرنسية .

و في سنة 1956 تم الاستغناء عن وزارة الشكايات و أنشأ كبديل لها مكتب الأبحاث و الإرشادات التابع للقصر الملكي و جعل من اختصاصاته تلقي و فحص الشكايات الواردة عليه و إجراء الاتصالات اللازمة بالجهات الإدارية المعنية ، و كذلك مد الملك بمذكرات حول أحوال الرعية .

2- ديوان المظالم في البناء المؤسساتي الحقوقي .

من المؤكد أن هناك علاقة جد وثيقة بين إعادة الثقة للمواطن في جدوى الممارسات السياسية و القضائية باسم القانون . و عليه بات من الضروري تفعيل هاته العلاقة باستدعاء أنماط مؤسسية تقوم على تقاليد و شبكات مفاهمية ، تصوغ مؤسسات الدولة في صيغة ديمقراطية جديدة ، مبتغاها رفع المواطن إلى درجة الفاعلية و المشاركة في القرار ، و من تم تحويله من مجرد شاهد جامد متظلم ، إلى فاعل سياسي يمتلك أدوات مشروعة للنقد و الطعن و ممارسة حقه الرقابي على أجهزة الدولة الإدارية .

و على هذا الأساس يمكننا تلخيص مرحلة الانتقال الديمقراطي التي شهدها المغرب في الإجماع على دعم و تقوية دور المؤسسات ، و تجديد عملها و على رأسها المؤسسات القضائية و الحقوقية ن التي هي أداة لتحصين المجتمع و حمايته من التجاوز و الانحراف ، و في هذا السياق جاء الظهير المحدث لديوان المظالم ليضع لبنة جديدة في بناء صرح دولة الحق و القانون ، إضافة إلى ما حققه المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ، و ليضيف مكسبا آخر إلى الأفراد في ميدان الحرية و العدالة ، يتمثل في ميلاد جهاز رقابي لا يخضع في سبيل اللجوء إليه لأي إجراءات مسطرية معقدة و لا يتطلب أية مصاريف ، و له صلاحيات موسعة بخصوص البت في الحالات التي تفلت بطبيعتها في الرقابة القضائية .

و إذا كان إحداث ديوان المظالم ينطوي على تجل من تجليات فلسفة التجديد من ممارسة السلطة فإن الإرهاصات الأولية و النقاشات سبقت الإعلان عنه كانت توحي بتبني البناء المؤسساتي الوطني لنموذج من نماذج الوساطة على غرار ما جرى العمل به في أوروبا ، و هذا بالفعل ما مهدت له حكومة التناوب في إطار اهتمامها بتطوير قنوات التواصل مع المواطنين ، عبر منشور الوزير الأول ، رقم 99/13 الذي دعا فيه أعضاء حكومته إلى إيلاء الاهتمام بتظلمات المواطنين ، و السهر على إحداث خلايا للتواصل على صعيد الوزارات و المؤسسات العمومية ، و كذا عبر خطابي الوزير الأول أمام كل من مجلس النواب و مجلس المستشارين ، حيث اتضحت من خلالهما معالم المؤسسة الوطنية التي انعقد عليها عزم الحكومة ، مؤسسة قال بشأنها الوزير الأول أنها ستكون على غرار مؤسسة الوسيط التي تعرفها بعض الدول ، و تعني بتظلمات المواطنين و تعمل على حمايتهم من كل أشكال الحيف .

و في غمرة انشغال الحكومة و الباحثين الإداريين و القانونيين بدراسة النماذج المقارنة لأجل الوصول إلى شكل قانوني قابل للاندماج في الهيكل المؤسساتي الوطني ، انبثقت مؤسسة ديوان المظالم بفحوى الرسالة الملكية التي تلاها الأمير مولاي رشيد على عضوية أكاديمية المملكة المغربية بتزامن مع ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان ، و بها انقضى الجدل حول صورة و سند مشروعية جهاز رد الحيف و تقويم الإدارة ، و تجدد اعتماد آليات المرجعية الإسلامية في ضبط علاقات السلطة و المواطنين ، في هيئة ديوان أنشأ إلى جانب الملك و فاءا لنهج ملوك الأسرة العلوية الشريفة .

و في سبيل إبراز تموقع ديوان المظالم في البناء المؤسساتي لدولة الحق و القانون كجهاز رقابي تواصلي مستقل ، ارتأيت ضرورة إجراء قراءة موجزة في موجبات و مرتكزات الإحداث قبل التطرق للإطار التنظيمي و الوظيفي الذي يحكم أوجه تدخل هاته المؤسسة و علاقتها بغيرها من مؤسسات الدولة .

أ – دواعي و مرتكزات الإحداث :

تميزت العلاقة بين الإدارة و المواطن لعقود طويلة بنوع من التشنج ، حيث أثقل كاهل المواطن بتجاوزات رافقها ازدياد الشعور باليأس اتجاه أداء الإدارة ، في ظل استمرار إنتاج العوائق بفعل تعقد المسالك و المساطر الإدارية و ضعف التنسيق و انغلاق قنوات التواصل و التظلم ، و كذا تفشي مظاهر سلبية من قبيل المحسوبية و الرشوة و الحزبية و ضعف الشفافية و عدم الاكتراث بتنفيذ أحكام القضاء أمور استرعت اهتمام أحزاب الكتلة الوطنية التي ترجمت انشغالاتها في هذا الباب بالدعوة إلى إحداث مؤسسة لنظر تظلمات المواطنين ، في إطار مطلب أدرج ضمن المقترحات الإصلاحية التي كانت قد تقدمت بها بمناسبة التعديلين الدستوريين ، 1992 و 1996 كما سارت الفعاليات الجمعوية المهتمة بحقوق الإنسان في نفس التوجه ، ففي مذكراتها المرفوعة إلى السيد الوزير سنة 1998 أبرزت الجمعيات المنتمية على النسيج الجمعوي ، أهمية الدعم المؤسساتي في تخليق الحياة العامة و مقاومة الشطط في استعمال السلطة ، من خلال إيجاد هيئة مستقلة لا تخرج عن نظام الوسيط المتداول لدى مجموعة من دول أوروبا الغربية .

و على عكس التيار الذي جسده مشروع الحكومة المستوحى من نموذج مؤسسة محامي الشعب الإسباني ، إرتأت المؤسسة الملكية سد هذا الفراغ بتبني نمط تقليدي موسوم بسمات الحداثة ، و فيه مزج بين الأصالة و المعاصرة للنظام السياسي المغربي ، الذي يستمد خصوصيته من الفصل 19 من الدستور باعتباره حجر الزاوية في دستور المملكة ، و تبعا له فالملك أمير المؤمنين و حامي الدين ، و به تصان حقوق المواطنين و الجماعات و الهيئات .

و النظام الملكي بالمغرب نظام متجذر في التاريخ تحظى فيه مؤسسة الملك بمرتبة القداسة ، امتدادا لنظم الخلافة الإسلامية التي عرفها تاريخ الإسلام . و بناءا على هذا المعطى أريد لديوان المظالم أن يكون هيئة استشارية إلى جانب الملك ، ينظمها ظهير شريف لا مرسوم و لا نص دستوري ، شأنه في ذلك شأن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ، و هنا تبرز خصائص انفراد هاته المؤسسة الحقوقية عن نظيرتها في الدول الأخرى .كمثل مؤسسة الامبدسمات السويدي أو المدافع عن الشعب الإسباني أو الوسيط الجمهوري الفرنسي التي يجري تعيين القائمين عليها إما بنهج أسلوب الانتخاب البرلماني أو باختيار من الحكومة و تعيين من رئيس الدولة . في حين أن الطريقة التي أسست للنموذج المغربي تعطي للملك كسلطة عليا مكانة محورية في توجيه عمل هذه المؤسسة و انتقاء عضويتها ، من الوالي إلى المندوبين الخاصين ، أو المندوبين المساعدين للولي ، عدا تلك الفئة من المواطنين الذين لا يتوقف إلحاقهم على إذن الملك .

هاته الوصاية التامة تجد تبريرها في اتجاه إرادة الملك نحو درء أي تأثير سياسي ، و كذا ضمان استقلال هاته عن باقي السلط الثلاث ، و في هذا الصدد يأتي قول جلالة الملك محمد السادس " و يقينا منا بأن إحداث المؤسة المزمع إنشاؤها بجانب جلالتنا الشريفة ، و تحت رعايتنا السامية من شأنه أن يوفر لها الاستقلال اللازم عن الأجهزة التنفيذية و التشريعية و القضائية ، و يمكنها من التجرد التام في التظلمات المحالة عليها " .

ب – التنظيم الإداري و الوظيفي لديوان المظالم :

أ – عضوية ديوان المظالم :

يتشكل ديوان المظالم من والي المظالم و المندوبين المساعدين له ، و كذا مندوبين مكلفين بالتواصل .

* والي المظالم :

يعد والي المظالم المسؤول الأول و العلى لمؤسسة ديوان المظالم ، و لهذه الأخيرة ارتباط بشخصيته المفروضة فيها أن تجمع بين صفات العلم و المعرفة و خصوصا الإلمام بالثقافة القانونية و الخبرة العلمية في المجال الإداري و بين الخصال الأخلاقية و خصوصا الإخلاص في العمل و النزاهة و حسن السلوك .

و بالنظر إلى مقتضيات الظهير الشريف رقم 01/1/298 الصادر في 12 دجنبر 2001 المتعلق بإحداث ديوان المظالم ، نجد جلالة الملك يعين والي المظالم لمدة ست سنوات قابلة للتجديد يعهد إليه بممارسة الاختصاصات المسندة لديوان المظالم ، و يعتبر والي المظالم بهذه الصفة عضوا ذا صفة تقريرية في المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان .

و تتعدد اختصاصات والي المظالم كالآتي :

- تعيين مندوبين له بعد إذن الملك لدى كل من الوزارة الأولى و القطاعات الوزارية.

- تعيين مندوبين جهويين في المراكز الرئيسية للجهات .

- تولي النظر في الشكايات و تظلمات المواطنين و إجراء الأبحاث اللازمة بشأنها .

- تلقي الشكايات الداخلة ضمن اختصاصه من رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان .

- تقديم تقرير سنوي للملك حول نشاط المؤسسة ، و كذا مد المجلس الاستشاري بتقارير دورية .

- إعداد النظام الداخلي للمؤسسة .

- القيام بمهمة الأمر بالصرف و له أن يفوض ذلك لأحد موظفيه .

* المندوبون الخاصون للملك :

ميز الظهير الذي أحدث بمقتضاه ديوان المظالم بين المندوبين الذين يتولى والي المظالم تعينهم لمساعدته في ممارسة الاختصاصات المعهودة إليه و بين المندوبين الخاصين الذين يتولى تعينهم الملك للقيام بتنمية التواصل بين الأفراد و الإرادة .

فبمقتضى الفقرة الثانية من الظهير المحدث لديوان المظالم يعين جلالة الملك عند الاقتضاء مندوبين مكلفين بتنمية التواصل بشأن القضايا ذات الصلة بالصعوبات التي تواجه المواطنين في علاقتهم بالإدارة .

و هؤلاء المندوبون ستكون لهم مهمة مؤقتة أو دائمة تتمثل في تدعيم آليات التواصل بين الإدارة و المدارين ، و بالتالي القيام بدور الوساطة لمعالجة ما قد يعترض الأفراد من عراقيل ، و هي مهمة خاصة و أساسية ، كانت في الأصل هي الداعي وراء إحداث هذه المؤسسة كما جاء في المادة الأولى من الظهير ، و كما أوضحت الرسالة التي سبقت إعلانها الرسمي .

و يتميز هؤلاء المندوبين عن غيرهم من المندوبين المساعدين لوالي المظالم بالإضافة إلى المهام المحددة التي ستوكل إليهم ، بنمط تعيينهم ، و بالتالي إمكانية مراقبتهم و عزلهم لأنهم تابعون بصفة مباشرة للملك . و عليه ، فإن العلاقة التي تربطهم بوالي المظالم مجرد علاقة تعاونية و تنسيقية و ليست علاقة رئاسية كما هو شأن باقي المساعدين له .

* المندوبون المساعدون لوالي المظالم :

عملا بالمادة الرابعة من الظهير المؤسس لديوان المظالم ، فإن والي المظالم يقوم بعد موافقة الملك بتعيين و إنهاء مهام مندوبين له في كل من الوزارة الأولى و القطاعات الوزارية ، و يمكنه أيضا تعيين مندوبين جهويين في المراكز الرئيسية للجهات . فوالي المظالم يقوم باختيار و تعيين مجموعة من الشخصيات لمساعدته في مهامه لدى الوزارة الأولى و القطاعات الوزارية ، بما يمكنه من الاتصال المباشر مع مصالح الوزير الأول و أعضاء الحكومة .و على ذلك فهو من يمتلك السلطة المباشرة عليهم بما فيها حق تعيينهم و إعفائهم أو عزلهم إن وجد سبب لذلك ، كما يتولى مراقبتهم و تأديبهم .

* مجال اختصاص مؤسسة والي المظالم :

تعتبر هذه المؤسسة وفقا لمقتضيات الظهير المنشئ و المؤسس لها امتدادا و نسخا لمؤسسة مكتب الأبحاث و ا لإرشادات لدى جلالة السلطان المنشئ بمقتضى الظهيرين الشريفين رقم 279/156 الصادر في 10 نونبر 1956 و رقم 325/156 الصادر في 16 أبريل 1957 . و قد كانت مهمة هذا المكتب هي إجراء الأبحاث حول الشكايات و التظلمات التي يتقدم بها المشتكون و المتضررون ضد أي كان ، شخصا ذاتيا أو معنويا . إلا أن النظام الجديد عمل على نسخ هذه المهام و تطويرها عبر خلق مؤسسة خاصة بها ، أوكل إليها إلى جانب ما ذكر ، توجيه عمل الإدارة بدعم قنوات التواصل مع المواطن و إخضاع نشاطها لمبادئ العدل و الإنصاف .

و إذا حاولنا تحديد اختصاصات هاته المؤسسة وفق ما جاءت به المادة 5 من الظهير المؤسس نجدها كما يلي :

- البت في الشكايات و التظلمات المتعلقة بسيادة القانون و الإنصاف و رفع الصعوبات الناشئة بين الأفراد و الجماعات من جهة و بين الإرادات العمومية و شبه العمومية و الجماعات المحلية من جهة .

- الشكايات و القضايا التي لم يتم عرضها على القضاء .

- التظلمات المتعلقة بالأحكام القضائية غير النهائية .

على أن الظهير حدد الحالات التي لا يجوز لوالي المظالم أو مندوبيه معالجتها أو النظر فيها و هي :

- الشكايات المتعلقة بالقضايا التي أوكل البت فيها للقضاء .

- التظلمات الرامية إلى مراجعة حكم قضائي نهائي .

- الملتمسات المتعلقة بقضايا من اختصاص المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان .

- القضايا التي لم يقم صاحب التظلم في شأنها بأية مساعي رسمية أو التماس عفو و لم يستفد كافة الطعون أو جبر الإضرار المزعومة أو استرجاع حقوقه المهضومة .

بيد أنه يمكن لوالي المظالم أو مندوبيه في الحالات المذكورة أعلاه أن يبحث بطلب من الأطراف المعينة عن الحلول الكفيلة بإيجاد تسوية عاجلة و منصفة للخلاف .

و من خلال هاته الاختصاصات المحددة على وجه الحصر ، يتبين بأن ديوان المظالم في حلته و تنظيمه الجديد هو نوع من المؤسسات الرقابية المكملة للسلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية ، و أن الغاية منها منح المواطن المتضرر سواء كان شخصا ذاتيا أو معنويا حق اللجوء إلى سلطة مؤسسة ملكية للتظلم و المطالبة بحقوقه من باقي السلطات الدستورية الأخرى .

و عن مسطرة التظلم أمام ديوان المظالم ، فإنه يتم تقديم الشكايات و التظلمات إلى والي المظالم أو مندوبيه الوزاريين أو الجهويين بصفة مباشرة من طرف المتضرر أو من ينوب عنه و يشترط لقبول التظلمات و الشكايات أن تكون مكتوبة و مبررة و موقعة من صاحب الملتمس شخصيا حتى و إن قدم شكايته بواسطة وكيل أو محام

و يقوم والي المظالم أو مندوبيه بإجراء الأبحاث و التحريات اللازمة للتأكيد من حقيقة الأفعال التي بلغت إلى علمه ، و على رؤساء الإدارات و المؤسسات و الجماعات المعينة تقديم الدعم و الوثائق لهم لتمكينهم من الإحاطة بكافة جوانب النزاع ، ما عدا تلك المتعلقة بأسرار الدولة ، و له القيام بمساعي للتوفيق بين الطرفين ، و على الإدارات المعنية تسوية الخلافات وفقا لاقتراحات والي المظالم .

ب – علاقة ديوان المظالم بالسلط الثلاث :

* علاقة ديوان المظالم بالسلطة التنفيذية :

تتنوع أوجه الروابط التي تجمع بين كل من ديوان المظالم و السلطة التنفيذية ، و ذلك لاعتبارات عدة منها مسؤولية أعضاء الحكومة عن أنشطة الإدارات و القطاعات التابعة لوزارتهم ، و منها كذلك دورهم الرئاسي على المسؤولين الإداريين و الموظفين التابعين لهم .

فالعلاقة بين ديوان المظالم و الوزير الأول تنطلق من تعيين والي المظالم لمندوب له لدى الوزارة الأولى ، تتحدد مهمته كسائر المندوبين المعنيين لدى الوزارات الأخرى في القيام بمساعدة والي المظالم في اختصاصه عن طريق البت في الشكايات المتعلقة بالقطاعات التابعة للوزارة الأولى و رفع التقارير بشأنها إلى والي المظالم ، كما أن هاته العلاقة تتقوى بالتقارير التي يرفعها هذا الأخير إلى الوزير الأول فيما يتعلق بتمادي الجهات المعنية في الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية النهائية .

و من جهة أخرى فإن والي المظالم يمتلك صلاحية تعيين مندوبين له على صعيد الوزارات المعنية ، يتولون من نطاق مهامهم بحث الشكايات المقترنة بالقطاعات التي تعنيهم و رفع التوصيات و التقارير المتضمنة لاقتراحاتهم بشأن إصلاح و تقوية عمل هذه القطاعات و تفعيل إطارات تنظيمها القانونية .

* علاقة ديوان المظالم بالسلطة التشريعية و التنفيذية :

إن ديوان المظالم لا يخضع للنظام القضائي رغم ممارسته لاختصاصات قد تحمل ملامح شبه قضائية ، و توحي أحيانا بوجود تداخل مع صلاحيات القضاء الإداري . و لأجل رفع اللبس الذي يمكن أن يمس خصوصية و تفرد جهاز رد المظالم ، فقد حظر الظهير المحدث له على مكوناته و أجهزته معالجة التظلمات المتعلقة بالقضايا التي أوكل البت فيها للمؤسسات القضائية إلى جانب الشكايات الرامية إلى مراجعة الأحكام القضائية النهائية و كذا القضايا التي لم يقم صاحب التظلم في شأنها بمساعي رسمية أو التماس للعفو ، و لم تستنفذ كافة الطعون التي يخولها القانون لرفع التعسفات و إحقاق الحقوق .

و مع ذلك فقرار المتضرر باللجوء إلى ديوان المظالم ، هو بمثابة إقامة دعوى احتياطية لا قيد ممارستها باحترام أجل الطعن أو التقادم شريطة عدم عرض التظلم أو الشكاية في إطار دعوى أمام القضاء المختص ، و بالتالي نخلص إلى أن هناك علاقة تكاملية وطيدة بين الجهازين بالنظر لاتحاد أهدافهما في الحرص على خدمة مبادئ العدل و الإنصاف .

أما عن علاقة ديوان المظالم أو مندوبيه من معالجة أو نظر الملتمسات المصنفة بطبيعتها ضمن اختصاص البرلمان ، لكن و مع وجود هذا الفصل تظل قنوات التواصل بينه و بين السلطة التشريعية قائمة من خلال إمكانية ترجمة التوصيات ذات الصبغة القانونية التي تحال على الوزير الأول إلى مشاريع قوانين يتم التداول بشأنها على مستوى مجلسي النواب و المستشارين ، كما أن وجود الديوان كهيئة استشارية إلى جانب الملك سيمكنه بحكم موقعه من التأثير على الجهاز التشريعي ، اعتبارا لما يختص به الملك من صلاحيات دستورية في هذا المجال .

زيادة على ذلك فإن وسائل التشهير و التأثير التي يمتلكها ديوان المظالم بمناسبة ممارسته للدور الرقابي على أنشطة الحكومة و أجهزتها ، سيتيح للجان النيابية و الفرق السياسية استغلال المعلومات التي توفرها التقارير ، ومن تم بلورتها إلى مطالب إصلاحية يواجه بها أداء الحكومة ، ومن جهة أخرى فقد أتاح الظهير لنواب الأمة في نطاق واجباتهم التمثيلية اللجوء إلى ديوان المظالم سعيا وراء رد الحقوق و رفع القهر عن الأفراد .

لائحة المراجع :

- إصلاح و توسيع اختصاصات المجلس الاستشاري ، مقال منشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 6 دجنبر 2000 عدد 692 .

- المجلس الاستشاري في صيغة جديدة ، مقال منشور بجريدة الأحداث المغربية بتاريخ 18 أبريل 2001 .

- ديوان المظالم نموذج مغربي بين الوسيط و الأمبدسمان ، بحث للعربي بلا نشر بجريدة الصباح العدد 545 .

- ديوان المظالم ، بحث نشر بجريدة الأحداث بتاريخ 13 دجنبر 2001 .

- إطلالة على القانون الجديد بإعادة تنظيم المجلس ، بحث للمرحوم عبد الصمد الزعنوني ، نشر بمجلة كتابة الضبط العدد 9 .

-القانون الجديد للسجون و المعايير الدولية لمعاملة السجناء ، أشغال الدورة التكوينية التي نظمها مركز التوثيق و الإعلام في مجال حقوق الإنسان .

- أبو الحسن المارودي ، الأحكام السلطانية .

- مؤسسة الوسيط بين الأصالة و المعاصرة ، بحث للأستاذ لحسن سيمو ، نشر بالمجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية ، سلسلة مواضيع الساعة عدد 20 .

- ولاية المظالم و القضاء الإداري ، بحث للأستاذة فائزة بلعسري ، نفس المرجع .

- حول مؤسسة الوسيط ، تجربة المدافع عن الشعب في إسبانيا ، بحث للأستاذ محمد أشركي ، نفس المرجع .

- أضواء على المغرب الراهن ، بحث للأستاذ زين الدين ، نشر بجريدة الاتحاد الاشتراكي ، العدد 6714 .

- تموقع ديوان المظالم ضمن المؤسسات الإدارية و القضائية و الاستشارية ، بحث الأستاذ أجدعون عن المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية ، سلسلة مواضيع الساعة العدد 34 .

- مؤسسة الوساطة الإدارية ، بحث لسعيد أولعربي ، م.م.إ.و.ت ، العدد 34 .

- ولاية المظالم في كتاب ( الأحكام السلطانية و الولايات الدينية ) لأبي الحسن المارودي :

* بحث لعبد اللطيف العمراني :

* نفس المرجع .

- مؤسسة ديوان المظالم : مقاربة لتكريس دولة الحق و القانون ، بحث لسعاد بنور ، نفس المرجع .

- تدخلات المشاركين في أشغال اليوم الدراسي المنظم من طرف المجلة المغربية للإدارة و التنمية بتاريخ 25 يناير 2002 .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)