طاعون الـرشـوة

حسن السـبيكي ـ المغرب

يقول الله تعالى :

{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتاكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وانتم تعلمون }البقرة 187

ما زلنا مع موضوع المال ، وما يتعلق به من الاوامر والنواهي ، وما يقع الناس فيه من الفتن في كسبه وانفاقه ومعاملاته. وانما وضع الله تعالى القواعد والضوابط ،وبين الحلال والحرام ، ورتب على ذلك الجزاء والعقاب في الدنيا والآخرة، لتستقيم حياة الناس على الحق والعدل في مجتمع الامن والاستقرار والحياة الطيبة التي تليق بكرامة الانسان . فكل خرق لحدود الله تعالى في المعاملات المالية ، هو استحلال لما حرم الله ، وتنكر لمقتضيات الحق والعدل الذي قامت عليه السموات والأرض ، ويجب ان تقوم عليه الحياة البشرية: { لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } (الحديد 24) فان قام الناس بالقسط في الأعمال والمعاملات ، تحققت الحياة الطيبة التي ترضي الله عز وجل وترضيهم ، وان تمردوا قليلا أو كثيرا ، اضطربت حياتهم تبعا لذلك بالمفاسد والشرور .

وان من اشد الظواهر الاجتماعية والامراض الخلقية افسادا وتدميرا للدين والمجتمع والأمة والحياة ، داء الـرشـوة التي شاعت وانتشرت في مختلف مجالات الحياة والمعاملات ، وذلك لما ينتج عنها من ضياع الأمانات ، وتعطيل الواجبات ، وخرق العهود والمواثيق ، واكل أموال الناس بالباطل ، وافساد أخلاق المعاملات التي ينبغي أن تقوم على الصدق والاخلاص والعفة والنزاهة ، فاذا هي كذب ونفاق وخداع واحتيال ، وتمكين للفساد والمفسدين .

وفي التعريف ، يتسع معنى الرشوة لكل ما يعطى أو يؤخذ لأبطال حق أو غصبه أو اقرار باطل أو التملص من واجب أو مسؤولية . وهي في كل ذلك بيع للامانة والضمير والمسؤولية بمكسب مادي أو معنوي غير مشروع . وبهذا تكون الرشوة مفسدة كبيرة وخطيرة للأفراد والجماعات والمجتمعات ، ومن الإثم والعدوان اللذين نهى الله سبحانه وتعالى عن التعاون عليهما: {وَتَعَاوَنُوا على البِرّ والتَّقْوى وَلا تَعَاوَنُوا على الإثْمِ والعُدْوان } [المائدة:3

وهي في الاسلام من أفظع الجرائم الخلقية والاجتماعية ،ومن أخبث المكاسب، لذلك حرم تعاطيها بأي وجه كان ، لأن مدارها على مناقضة الحق والعدل، وأكل أموال الناس بالباطل: { ولا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتاكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون }. وسواء كانت مالا مدفوعا أو موعودا ، او مقابلا معنويا ، أو كانت هدية مغرضة أو مأدبة طعام للمرتشي ، أو تبادلا لمصالح وخدمات لغرض غير مشروع ، فالأمر سواء . وانما الأعمال بالنيات، فليستفت كل انسان قلبه ، ليعلم الدافع الذي يدعوه الى طلب عطاء أو دفعه بغير موجب حق أو عدل ( والبر حسن الخلق ، والاثم ما حاك في نفسك وكرهت ان يطلع عليه الناس ).

والرشوة من أخلاق اليهود الذين يقص القرأن الكريم علينا مكرهم وخداعهم وعيشهم على الربا والسحت : { سماعون للكذب أكالون للسحت } { وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون } .وقد فسر ابن مسعود السحت هنا بالرشوة .فهي مكروهة بالطبع ، مذمومة بالعرف ، محرمة بالدين والقانون ، وتعلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله :( وكل يدن نبت من سحت فالنار أولى به ) وان مصير المتعاطين للرشوة هو اللعنة من الله تعالى ، كما ورد على لسان النبي الأكرم :( لعن الله الراشي والمرتشي ، وفي رواية ، والرائش الذي يسعى بينهما ) رواه أحمد. واللعنة تعني الطرد من رحمة الله تعالى ، فمن يطيق غضب الله وسخطه ، وانه لخسران الدنيا والآخرة ، وأن آكل الرشوة أو غيرها من الحرام لا يستجاب له دعاء، فمن ذا الذي يستغني عن الله - عز وجل.

ـ فالراشي هو الذي يدفع الرشوة لقضاء حاجة بغير حق أو بطريقة غير مشروعة . ـ والمرتشي هو الذي يطلب الرشوة أو يتقبلها مقابل الاستجابة لمراد الراشي ـ والرائش الذي يتوسط بينهما في العملية بأية طريقة ، وقد يكون سمسار الصفقات الرشوية.

والرشوة كالادمان على السجائر والمخدرات ، تعدي بالاعتياد الذي يجعل الراشي لا يتصور قضاء حاجة بغير رشوة ، ويصبح المرتشي متقاعسا لا يقوم بواجبه الا مقابل رشوة، ويجد الرائش مجالا للتخصص في سمسرة الرشوة .وهكذا ينعدم بينهم جميعا خلق التعفف والامانة و المسؤولية ، ويتواطأون على الاثم والعدوان . ولا تتوقف عدواها عند الأغنياء ، بل تسري بين كل الفئات والطبقات وفي كل مكان ومجال ، في الأسواق والادارات ، والمحاكم والمستشفيات والمؤسسات التعليمية والسجون والطرقات وغيرها ، وفي صغار الأمور و كبارها و بأسماء ونعوت للتمويه والتبرير كما في كثير من المحرمات .

ان الرشوة داء يميت الضمائر ويحجر القلوب ويذيب المروءة والكرامة، لذلك تجد المرتشي وقد ضاعت هيبته ومات حياؤه ذليلا، يتلون ويتحايل ، ويستصعب القيام بالواجب ، حتى اذا رماه الراشي بقليل أو كثير ، تحول الى البشاشة و الخفة والنشاط .

ايها المؤمنون ، ان الرشوة خيانة وحرب على الدين والأمة والدولة . فلا يستقيم معها عدل ولا حق ولا أمانة ولا خلق ولا عيش كريم . تقلب الموازين وتفسد العلاقات وتنشر الاحقاد وتذيب الثقة بين الناس وتعطل المصالح العامة. و ما دخلت الرشوة عملاً إلا أفسدته ولا نظاماً إلا قلبته ولا قلباً إلا افسدته ولا بيتاً إلا خربته. فكم من مشاريع ضاعت بالرشوة ، وكم من أحكام عدل صارت ظلما ، وكم من الحقوق انتزعت من أصحابها لتقع في أيدي المغتصبين ، وكم من ظالم صار مظلوما او مظلوم أضحى ظالما ، أو برئ دخل سجنا ، بل ما اكثر الرشاوى التي أدت الى القتل والاجرام . خذوا لذلك مثالا من عمارة تبنى بالرشوة على غير المعايير القانونية ، ثم تنتهي الى الانهيار ليسقط تحتها أبرياء . أو معمل تغطي الرشوة على فقدانه شروط السلامة ، وحين تحدث كارثة قد يذهب ضحيتها العشرات ، او حكم قضائي جائر بالرشوة يحطم اسرة او يدفع مظلوما الى الجريمة ، بل انظروا الى حرب الطرقات كم تحصد يوميا لأسباب كثيرة من أهمها عامل الرشوة عند الفحوصات التقنية و المراقبات الطرقية وغيرها ، وهذا واقع مرير لا يحتاج الى دليل . فهل يدري المتعاملون بالرشوة فذ احة الشرور الناشئة عن أطماعهم الرشوية المقيتة؟

انه واقع يستدعي الحزم والعزم والصرامة في تفعيل حكم الدين وتطبيق القوانين الزجرية لمواجهة هذا الوباء الفتاك الذي لا تستقيم معه حياة ولا تنمية ولا رقي ولا حضارة .وما الاحوال المتردية بالفتن والاضطرابات والامراض والكوارث الطبيعية والاجتماعية الا بكثرة المعاصي والمظالم ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير ) . فاعتبروا يأولي الابصار .

جعلني الله تعالى واياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، ونفعنا جميعا بالقران الكريم وسنة سيد المرسلين .

الخطبـة الثــانيـة

في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي (ض) قال: ( استعمل النبئ صلى الله عليه وسلم رجلا على الصدقة(الزكاة) فلما قدم قال : هذا لكم ، وهذا أهدي لي . فقام النبئ مغضبا وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال العامل نبعثه فيأتي ويقول : هذا لكم وهذا أهدي لي ، فهلا جلس في بيت أبيه أو أمه فينظر أيهدى له أم لا ، والذي نفسي بيده ، لا ينال احد من ذلك شيئا الا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته .. ثم رفع يديه حتى رأينا عُفرتي إبطيه، ثم قال: \"اللهم هل بلغت؟\" مرتين).)

ايها المؤمنون ، اذا كانت الهدية مشروعة محمودة بالنية الطيبة البريئة ، لتقوية أواصر المحبة بين المسلمين، فانها عندما تحركها أطماع المصالح لشراء الضمائر ، فهي رشوة ممقوتة . فكم من الرشاوى لبست لبوس الهدايا و الاعانات والتبرعات، وهي مطايا لنصرة باطل أو تعطيل واجب أو غصب مال . والنبئ صلى الله عليه وسلم يقول : ( من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا (أجرا) فما أخذه بعد ذلك فهو غلول ) رواه أبو داود ورواته ثقات، . والغلول كل ما يؤخذ بغير حق ظلما وعدوانا ، والله تعالى يقول :{ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون }.

ألا ان الرشوة من الكبائر المهلكة للفرد والجماعة والمجتمع ، ومعول هدم وتخريب للدين والاخلاق والحياة. فلا دين ولا كرامة لمتعاطيها لأنها خيانة للعهد والامانة ( ولا ايمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ). فاتقوا الله عباد الله وتذكروا أننا جميعا مسؤولون (وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) .واجتنبوا التعامل بالرشوة أيا كانت ، صونا لدينكم واخلاقكم وسلامة حياتكم ، وتذكروا يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم .

سيقول قائل :ماذا يفعل صاحب الحق في مجتمع فشت فيه الرشوة، الى درجة لا يستطيع معها الوصول الى حقه إلا برشوة يدفعها ؟ ولقد قرر العلماء في مثل هذه الحالة أن الإثم يقع على الآخذ ويبرأ المعطي من الإثم إن كان عطاؤه بغرض التوصل إلى حق أو دفع ظلم قد يقع على النفس أو الدِّين أو المال .{فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه}

عباد الله ، اتقوا الله تعالى واستجيبوا لندائه ،فانه العهد والأمانة : {يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وانتم تعلمون ، واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ، وأن الله عنده أجر عظيم }

هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا انما هو اله واحد وليذكر أولو الألباب .

ألا وصلوا على رسول الله ....

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها