مفهوم قاعدة الاسـتخـلاف في الاقتصاد الإسلامي

تعتبر قاعدة الاستخلاف من أهم القواعد التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي وغيره من الأنظمة الإسلامية الأخرى كالنظام الاجتماعي والسياسي.

وترجع أهمية هذه القاعدة بالنسبة للاقتصاد الإسلامي إلى كونها تمثل أصلاً رئيساً له ينبني عليه كثير من المبادئ الاعتقادية والقيم الأخلاقية والقواعد الشرعية المرتبطة بالمال -كقاعدة الملكية .

والبحث متخصص في دراسة مفهوم القاعدة دراسة تأصيلية من خلال نصوص القرآن الكريم التي وردت في الاستخلاف ومقارنتها ببعضها.

وقد توصل الباحث بعد عرض الاتجاهات الواردة في مفهوم الاستخلاف إلى أنه: تمكين الله عزَّ وجلَّ للبشر عامة ولبعضهم خاصة في إحلالهم محل من كان قبلهم في ملكية الأرض والمال.

ثم تعرض البحث لأقسام الاستخلاف وأنها قسمان رئيسان: عام يشمل البشر كلهم , وخاص وهو نوعان: استخلاف الدول , واستخلاف الأفراد.

والاستخلاف يتضمن وجود أربعة أطراف:

1- المستخلِف: وهو الله عزَّ وجلَّ سواءً في الاستخلاف العام أو الخاص.

2- المستخلَف: وهو الإنسان سواءً في الاستخلاف العام أو الخاص.

3- المستخلَف فيه: وهو الأرض في الاستخلاف العام , والأرض والمال الخاصَّين في الاستخلاف الخاص.

4- المستخلَف عنه: وهو كل من كان قبل المستخلَف من الأمم والأفراد السابقين في ملكية الأرض والمال.

وأخيراً توصل الباحث إلى أنه ليس من مستلزمات استخلاف الله لعباده في أرضه وماله أن يكونوا خلفاء عنه فيهما, بل إن هذا التصور غير صحيح لمخالفته لأصول العقيدة الصحيحة والتصور السليم للاستخلاف: أن الله عزَّ وجلَّ استخلف عباده في أرضه وعلى ماله عن من سبقهم من الأمم والأفراد.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً كما يحب ربنا ويرضى , والصلاة والسلام على خير خلقه , الرسول المصطفى , والنبي المجتبى , وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

وبعد ؛

فتعتبر قاعدة الاستخلاف من أهم أصول الاقتصاد الإسلامي وركائزه, كما أن لها مساساً بغيره من الأنظمة الإسلامية الأخرى كالنظام الاجتماعي والسياسي وغيرهما.

وترجع أهمية هذه القاعدة في الاقتصاد الإسلامي إلى كونها تمثل أصلاً اعتقادياً رئيساً ينبني عليه كثير من المبادئ الاعتقادية والقيم الأخلاقية وبعض الأحكام الشرعية المرتبطة بالمال.

ذلك أن المسلم ينظر إلى المال على أنه مستخلَفٌ فيه من قِبل مالكه الحقيقي عزَّ وجلَّ, استخلفه فيه عمن سبقه بفضله وكرمه, وسيستخلف فيه من يأتي بعده, ومن ثمَّ فإن عليه القيام بحق هذا الاستخلاف المنوط به.

كما تظهر أهمية هذه القاعدة من جانب آخر وهو كثرة النصوص التي وردت فيها في القرآن الكريم , سواءً كان ذلك في الاستخلاف العام أو الخاص, الاستخلاف في الأرض أو في المال. ومن ثمَّ كان من المهم الوقوف على هذه النصوص وتأملها ودراسة هذه القاعدة وفقاً لهذه النصوص التي قامت عليها.

ومن جانب ثالث تظهر أهمية دراسة هذه القاعدة إلى الاختلاف الواسع بين الباحثين في الاقتصاد الإسلامي في مفهوم هذه القاعدة, حيث أن بعضهم فسَّر هذه القاعدة بأن: الإنسان هو خليفة الله في أرضه , وجعل هذه القاعدة - وفقاً لهذا المفهوم – هي الأصل الذي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي من أساسه, وأن ما بعدها من أحكام ونظريات إنما هو متفرع عنها وراجع إليها.

ولعل لهذا المفهوم الذي ظهر في بعض الدراسات الاقتصادية الإسلامية جذوره التي انطلق منها والمتمثلة ببعض الروايات والأقوال التي أُثرت عن بعض المفسرين وغيرهم في آيات الاستخلاف وفسرتها على أنها خلافة عن الله في أرضه وماله جلَّ وعلا.

ونظراً لهذه الجوانب وغيرها يتبين أهمية دراسة هذه القاعدة دراسة تأصيلية من خلال النصوص التي دلَّت عليها وتحليل الخلاف بين المفسرين في مفهومها.

حدود البحث ومنهجه :

البحث متخصص في بيان مفهوم القاعدة بتأمل النصوص الواردة فيها في القرآن الكريم ومقارنتها ببعض, وذكر أقوال المفسرين في معناها, وعرض الخلاف في المسائل ذات الصلة بمفهومها وجوانبها.

وقد راعيت عند تفسير الآيات المقارنة بين كتب التفسير وذكر الأقوال ذات الصلة بالنص الذي له علاقة بموضوع البحث, كما راعيت تباعد الأزمنة بين المؤلفين كتفسير الطبري, وابن كثير, والطاهر بن عاشور مثلاً , حتى يظهر الفرق عند المقارنة.

وقد قسَّمت البحث إلى أربعة مباحث :

المبحث الأول : مفهوم الاستخلاف وأقسامه .

المبحث الثاني : آيات الاستخلاف في القرآن الكريم .

المبحث الثالث : المستخلِف والمستخلَف والمستخلَف فيه .

المبحث الرابع : المستخلَف عنه .

وأخيراً ذيلت البحث بخاتمة ذكرت فيها أبرز ما توصلت إليه في هذه الدراسة .

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ؛؛؛

المبحث الأول : مفهوم الاستخلاف وأقسامه

المطلب الأول : مفهوم الاستخلاف:

أولاً : مفهوم الاستخلاف في اللغة :

الاستخلاف مصدر الفعل استخلف يستخلف استخلافاً.

ويذكر أحمد بن فارس في كتابه معجم مقاييس اللغة (1) أن : الخاء واللام والفاء في " خلف " أصول ثلاثة , تأتي لأحد معانٍ ثلاث :

المعنى الأول : أن يجيء شيء بعد شيء فيقوم مقامه .

فالخَلَف – بفتح أوله ووسطه – ما جاء بعد الشيء , يُقال : هو خَلَف صدق من أبيه , أو هو خَلَف سوء من أبيه , فإذا لم يذكر في الكلام خيراً ولا سوءً قيل للجيد : خَلَف بالفتح – وللرديء – خَلْف بالتسكين – ومن ذلك قوله تعالى : " فخلف من بعدهم خَلْف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات " . [مريم :59] وقوله : " فخلف من بعدهم خَلْف ورثوا الكتاب ..." [ الأعراف:169]

والخلافة: راجعةٌ إلى الخَلَف , سميت بذلك لأن الثاني يجيء بعد الأول قائماً مقامه .

وخَلَف فلانٌ فلاناً : إذا كان خليفته , يقال خلفه في قومه خلافةً , قال تعالى " وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي ... " [الأعراف:142] , ويقال في الدعاء : أخلف الله عليك , أي كان الله تعالى الخليفة عليك لمن فقدت من أب أو حميم , وخلَّف الله عليك " أي عوضك عن الشيء الذاهب منك ما يقوم بعده .

واستخلف فلاناً : جعله مكانه , يقال : خلَّفت فلاناً أُخلِّفه تخليفاً , واسْتَخْلَفه : جعله خليفة .

المعنى الثاني: خلاف قدَّام , ويكون هذا المعنى بتسكين الوسط " خَلْف " يقال : هذا خَلْفي, وهذا قدامي , ومنه قوله تعالى " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " [ البقرة : 207] وقوله : " وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم ... " [ يس :45] .


(1) معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن زكريا بن فارس (ت395هـ) صـ309_310 دار إحياء التراث العربي – بيروت – الطبعة الأولى 1422هـ .

المعنى الثالث : التَغيُّر – يقال : خَلَف فوه , إذا تغيَّر – ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : لَخَلُوف فَمِ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك "(1) , ومنه إخلاف الوعد , وفي الحديث: آية المنافق ثلاث : إذا حدَّث كذب وإذا وعد أخْلَف..."(2) .(3)

والذي يهمنا في هذا البحث من هذه المعاني الثلاثة المعنى الأول وهو مجيء شيء بعد شيء وحلوله مكانه. ومن مشتقاته التي وردت في القرآن " خليفة " وجمعه " خلائف " و " خلفاء " واسم المفعول منه " مستخلَف ".

(1) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الصوم, باب فضل الصوم برقم 1761 , صحيح البخاري للإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله (ت256هـ) دار القلم بيروت 1987م, وأخرجه مسلم في كتاب الصيام برقم 1942 , صحيح الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت261هـ) دار إحياء التراث العربي – بيروت 1954م.

(2) متفق عليه: أخرجه البخاري في كتاب الإيمان برقم32 , ومسلم في كتاب الإيمان برقم 89 .

(3) أنظر: لسان العرب لابن منظور(ت711هـ) 4/181- 184 طبعة دار إحياء التراث العربي – بيروت الطبعة الأولى 1408هـ , والقاموس المحيط للفيروز أبادي (ت817هـ) صـ1042-1044 مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثانية 1407هـ.

ثانياً: مفهوم الاستخلاف في الاصطلاح :

استخدم العلماء مصطلح "الاستخلاف" في كتبهم , ويقصدون به أحد أمرين:

1- أن يعهد الحاكم لشخص آخر في أن يقوم بالأمر بعده, سواءً كان ذلك مؤقتاً, بأن كان الحاكم موجوداً ولكن رغب في إحلال آخر محله لظرف ألمَّ به كسفر ونحوه, ومن ذلك استخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض صحابته على المدينة في حال سفره(1) . أو استخلاف الحاكم خليفة بعد موته على رعيته ومن ذلك استخلاف أبي بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما . وهذا الاستخلاف بمفهومه السياسي يطلق عليه " العهد " ويبحثه العلماء في كتب الأحكام السلطانية(2) . وهو ليس داخلاً في نطاق البحث.

2- أن تحلَّ أمة محل أخرى , أو فرد محل آخر في ملكية الأراضي والأموال. وهذا المفهوم يبحثه العلماء عند تفسيرهم لآيات الاستخلاف في القرآن الكريم , أو شرحهم لأحاديث الاستخلاف في الأموال في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ومن خلال إطلاعي على هذا الموضوع في كتب التفاسير وشروح الحديث لم أجد أحداً وضع تعريفاً للاستخلاف يبين ماهيته ويجمع أنواعه ويميزه عن غيره , ولعل السبب في ذلك الاكتفاء بمفهومه في اللغة لوضوحه.

ونجد أن العلماء – رحمهم الله – يتفقون في بعض المسائل المتعلقة بالاستخلاف , ككونه من الله , فهو المستخلِف جلَّ وعلا , وتقسيمهم الاستخلاف إلى قسمين عام لجميع البشر , وخاص لبعضهم , وأنه يكون في الأرض وفي المال , ويختلفون في بعض مسائله ولعل من أهمها مسألة الاستخلاف هل هو عن من سبق من الأمم والأفراد أم هو عن الله عزَّ وجلَّ ؟ ومن خلال تأمل ما كتبه العلماء في مسألة الاستخلاف نجد أن هناك اتجاهين رئيسين في مفهومه حسب التالي:


(1) أنظر: زاد المعاد في هدى خير العباد – لابن قيم الجوزية (ت751هـ) 3/529 , مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثانية 1401هـ.

(2) أنظر: الأحكام السلطانية والولايات الدينية – لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي (ت450هـ) صـ39 – مطبعة دار الكتاب العربي – بيروت – الطبعة الأولى 1410هـ . وتحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لبدر الدين بن جماعة (ت 733هـ) صـ53 طباعة دار الثقافة – قطر – الطبعة الثالثة 1408هـ.

الاتجاه الأول : أن الاستخلاف عن من سبق من الأمم أو الأفراد.

وهذا الاتجاه هو ما عليه جمهور المفسرين(1) , وهو ما يأخذ به بعض الباحثين في الاقتصاد الإسلامي(2) .

فالله عزَّ وجلَّ مكَّن البشر من الحلول محل من كان قبلهم من الأمم التي سبقتهم في الأرض وسخر لهم الانتفاع مما فيها من الطيبات , ومكَّن للدول أن تقوم مقام دولٍ سبقتها في وراثة الأراضي والممتلكات , كما مكَّن الأفراد من الحلول محل من كان قبلهم في ملكية الأموال .

وبناءً على هذا الاتجاه نستطيع تعريف الاستخلاف بأنه:

( تمكين الله للبشر عامةً ولبعضهم خاصةً في إحلالهم محل من كان قبلهم في ملكية الأرض والمال).

فقولنا " تمكين الله " ذلك أن المستخلِف هو الله عزَّ وجلَّ.

وقولنا " للبشر عامة " وهذا هو الاستخلاف العام للبشر في الأرض.

وقولنا " لبعضهم خاصة " أي لبعض البشر , وهذا هو الاستخلاف الخاص بنوعيه استخلاف الدول أو الأفراد.

وقولنا " في إحلالهم " ذلك أن الاستخلاف يقتضي حلول اللاحق محل السابق كما سبق في المفهوم اللغوي.

وقولنا " محل من كان قبلهم " سواءً كانوا شعوباً أو أفراداً أو مجتمعات.

وقولنا " في ملكية الأرض والمال " وهذا هو المستخلَف فيه , الأرض بما فيها في الاستخلاف العام , والأرض والمال في الاستخلاف الخاص.

وهذا الاتجاه في تعريف الاستخلاف هو الذي نراه راجحاً وهو الذي يظهر من خلال تأمل نصوص الاستخلاف.


(1) أنظر: المبحث الثاني في تفسير آيات الاستخلاف.

(2) أنظر: تأصيل الاقتصاد الإسلامي د. مصلح النجار صـ121 - مكتبة الرشد – الطبعة الأولى 1424هـ وهو ما يُفهم من كلام بعض الباحثين , أنظر النظام الاقتصادي في الإسلام د. محمود بن إبراهيم الخطيب صـ83 - مكتبة الحرمين – الرياض الطبعة الأولى 1409هـ , وفي الفكر الاقتصادي الإسلامي – دراسة مقارنة مع المذاهب الاقتصادية المعاصرة – د. فاضل الحسب , صـ28 – عالم المعرفة – بيروت – الطبعة الثانية 1401هـ.

الاتجاه الثاني : أن حقيقة الاستخلاف هي عن الله عزَّ وجلَّ سواءً في الأرض أو المال .

وهذا ما يراه بعض المفسرين وخاصة متأخريهم(1), وهو ما يأخذ به بعض الباحثين في الاقتصاد الإسلامي(2).

وبيان هذا المفهوم: أن الله عزَّ وجلَّ أنزل آدم أبو الجنس البشري إلى الأرض , واستخلفه وذريته فيها وفيما أوجد فيها من الأموال والثروات. فيجب عليهم أن يقوموا بحق هذه النيابة من عمارة الأرض واستغلالها كما أباح الله , وتسخير ذلك في طاعته جلَّ وعلا.

ويؤسس أصحاب هذا القول على هذا المفهوم : أن الإنسان خليفة الله في أرضه وماله. فالأرض أرض الله , والمال مال الله وهو الذي استخلف عباده فيها نيابة عنه , فهو المستخلِف والمستخلَف عنه جلَّ وعلا.

وسيظهر من خلال البحث أن هذا الاتجاه غير صحيح لما يترتب عليه من مخالفة لأصول العقيدة الإسلامية.

المطلب الثاني : أقسام الاستخلاف:

ينقسم الاستخلاف إلى قسمين عام , وخاص.

القسم الأول : الاستخلاف العام

وهو استخلاف البشر كلهم في الأرض , وقد بدأ هذا الاستخلاف من حين أن أهبط الله آدم عليه السلام وزوجته حواء إلى الأرض بعد معصيتهما, كما قال تعالى " وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " [البقرة:36] فالخطاب في الآية " اهبطوا " لآدم عليه السلام وحواء , وإبليس عليه لعنة الله , ولهذا قال بعدها " بعضكم لبعض عدو " أي الشيطان عدو لآدم وحواء.(3)


(1) أنظر: المبحث الثاني في تفسير نصوص الاستخلاف.

(2) أنظر: المذهب الاقتصادي الإسلامي د. عدنان خالد التركماني صـ120 – مكتبة السوادي – السعودية – الطبعة الأولى 1411هـ, و اقتصادنا د. محمد باقر الصدر صـ535 – دار المعارف للمطبوعات – دمشق – الطبعة العشرين 1408هـ , وموسوعة الاقتصاد الإسلامي د. محمد عبد المنعم الجمال صـ180 – دار الكتاب اللبناني – بيروت – الطبعة الثانية 1406هـ , والنظام الاقتصادي في الإسلام . مبادئه وأهدافه - د. فتحي أحمد عبد الكريم . ود. أحمد محمد العسال صـ43 – مكتبة وهبة – القاهرة – الطبعة الثامنة 1413هـ., وهو ما يُفهم من كلام بعض الباحثين , أنظر مثلاً : النظام الاقتصادي في الإسلام د. شوكت محمد عليان صـ102 – الطبعة الأولى 1421هـ , والنظرية الاقتصادية من منظور إسلامي د. شوقي أحمد دنيا صـ51 وما بعدها – نشر مكتبة الخريجي – الرياض – الطبعة الأولى 1404هـ , ومقومات الاقتصاد الإسلامي – عبد السميع المصري ص40 - مكتبة وهبة – القاهرة – الطبعة الأولى 1395هـ.

(3) أنظر: تفسير القرآن العظيم للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله 1/132 دار ابن الجوزي – الدمام – الطبعة الأولى 1423هـ, وقيل في تفسير الآية غير ذلك أنظر: تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي (ت516هـ) 1/34 طبعة دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى 1414هـ.

وقوله " ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " أي أنكم سوف تستقرون في الأرض , وتنتفعون بما أعطاكم الله وسخر لكم من النعم التي عليها , ولكن هذا ليس على وجه الدوام والخلود بل " إلى حين " أي إلى قيام الساعة(1) حيث ينتهي هذا الاستخلاف.

فمحل الاستخلاف العام : الأرض بما فيها وما عليها , وهو ليس خاصاً بفئة دون أخرى, أو بجنس دون آخر , بل يشمل ذرية آدم جميعها, مسلمهم وكافرهم , ذكرهم وأنثاهم , من دون تحديد بجنسٍ معين .

وبناءً على هذا الاستخلاف العام فإن الأصل اشتراك البشر جميعاً في الانتفاع مما أوجد الله في الأرض من خيرات وطيبات , فهم على حدٍ سواء فيها, إلا إذا كان هناك استخلاف خاص بنوعيه . استخلاف الدول أو الأفراد كما يُستفاد من نصوص الاستخلاف.

القسم الثاني: الاستخلاف الخاص:

وهو أن تستقل أمة من الأمم أو فرد من الأفراد في ملكية شيء من الأشياء.

وهو ينقسم إلى نوعين :-

النوع الأول: استخلاف الدول:

بأن تستقل أمة من الأمم في إقليم من الأرض تحكم فيه نفسها ويكون لها سلطان يحمي مصالحها ويدبر شئونها.(2)

فهذا النوع من الاستخلاف قائم على الاستخلاف العام.

وقد أشار القرآن إلى هذا النوع من الاستخلاف في قوله تعالى عن داود عليه السلام " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق " [ص:26] , حيث كان حاكماً في أرض مملكته في الشام وما جاورها(3) .

ويقول تعالى عن بني إسرائيل " ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين * ونمَكِّنَ لهم في الأرض ..." [القصص:4-5] وهي أرض مصر والشام فيجعلها لهم مكاناً يستقرون عليها ويقيمون فيها دولتهم(4).


(1) أنظر: تفسير ابن عثيمين 1/132-133 مرجع سابق.

(2) أنظر: السياسة الاقتصادية والنظم المالية في الفقه الإسلامي – د. أحمد الحصري صـ136 دار الكتاب العربي – بيروت – الطبعة الأولى 1407هـ .

(3) على قول من فسرها بذلك , وقيل أن داود خليفة في جميع الأرض, أنظر: تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور23/242 – الدار التونسية للنشر - تونس.

(4) أنظر: تفسير البغوي 3/373 .

وقد وعد الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالتمكين في الأرض واستخلافهم فيها كما حصل لمن كان قبلهم " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم " [النور:55] , وهذا من استخلاف الدول.

النوع الثاني: استخلاف الأفراد :

وهذا النوع يكون في استقلال الفرد في ملكية ما تحت يده من الأموال سواءً كانت أموالاً ثابتة أو منقولة , فهو مستخلف فيها استخلافاً خاصاً.

ومصدر هذا النوع من الاستخلاف راجع إلى أحد أمرين:

1) الاستخلاف العام: وذلك في حالة كون مصدر ملكية الفرد لهذا الشيء مباشراً من الملكية العامة كإحرازه بعض المباحات والصيد, أو من انتاج الفرد نفسه عن طريق استعماله وتفعيله لبعض المواد في الأرض كالزراعة والصناعة ونحوهما.

فالأفراد وفقاً لمبدأ استخلافهم العام في الأرض قد جعل الله لهم سلطاناً مباشراً على ما فيها من الخيرات والطيبات ومكَّن لهم الانتفاع منها بما أعطاهم ووهبهم من القوى العقلية والجسمية(1), قال تعالى " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون " [يس:71] , وقال " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض " [البقرة:267] .

2) استخلاف خاص: وذلك إذا كان مصدر ملكية الفرد للشيء من مالك سابق عليه كالإرث أو الوصية أو من عقد يترتب عليه انتقال الملكية , فيكون حل محل المستخلِف السابق عليه فيما استُخلِف فيه.


(1) أنظر: اقتصادنا د. محمد أبو يحيى صـ 224 دار عمار – الأردن – الطبعة اأولى 1409هـ.

وقد أشار الله سبحانه إلى هذا النوع من الاستخلاف في قوله تعالى " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " [الحديد:7] , حيث نسب الاستخلاف إلى الأفراد مباشرة , فهم مستخلفين فيما تحت أيديهم من الأموال . كما أن النصوص التي تثبت الملكية الخاصة تدل عليه.

فكل من ملك مالاً بطريق شرعي فهو مستَخْلَف فيه , سواء كان مسلماً أو كافراً , براً أو فاجراً أو غير ذلك كما قال تعالى " كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً " [الإسراء:20] , أي كلا الفريقين ممن كان يريد الدنيا , أو يريد الآخرة نعطيه من رزقنا , وما كان رزقنا ممنوعاً عن أحد من عبادنا إذا اتخذ الأسباب الموصلة إليه(1).

وقد بيَّن في آيات أخرى أنه يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر الرزق لمن يشاء منهم " الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له " [العنكبوت:62] .


(1) أنظر: تفسير البغوي 3/91 , والمنتخب في تفسير القرآن الكريم صـ412 المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – القاهرة – الطبعة التاسعة عشرة 1422هـ.

المبحث الثاني : آيات الاستخلاف في القرآن الكريم

نستعرض في هذا المبحث الآيات القرآنية التي وردت في الاستخلاف بلفظ الاستخلاف ومشتقاته التي تعني مجيء شيء بعد شيء آخر والحلول مكانه, وهذه الألفاظ هي: استخلف يستخلف بصيغة الماضي والمضارع , وخَلِيْفَة , ومسْتَخْلَف, وخَلَاِئف , وخُلَفَاء.

أما المشتقات الأخرى التي لا تعني هذا المفهوم فهي كثيرة منها, لفظ " خَلْف " و " خِلْفَه " و " الخَوَالف " و " مُخْلف " و " خِلاف " وغيرها(1) . وهي ليست داخلة في نطاق البحث.

اللفظ الأول : اسْتَخْلَفَ

ورد لفظ استخلف بصيغة الماضي والمضارع في القرآن الكريم في أربعة مواضع هي:

الآية الأولى : قال تعالى: " وربك الغني ذو الرحمة , إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء , كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين " [الأنعام:133]

تفسير الآية:

يخبر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه غني عن عباده , وهو مع ذلك رحيم بهم ,وقوله " إن يشأ يذهبكم " أي إذا خالفتم أمره " ويستخلف من بعدكم ما يشاء " أي يأت بخلق غيركم وأمم سواكم يخلفونكم في الأرض " كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين " أي كما أوجدكم بعد خلق آخرين سابقين عليكم , وفي هذا التشبيه بيان قدرة الله عزَّ وجلَّ فالذي أنشأكم من ذرية من كان قبلكم قادر على أن يهلككم ويأت بقوم غيركم يعبدونه ولا يشركون به شيئاً(2) , كما قال سبحانه في آيات أخرى " إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا "[النساء:133] وقال " وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " [محمد:38]


(1) أنظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم – محمد فؤاد عبد الباقي – دار الفكر والمعرفة – بيروت – الطبعة الثالثة 1412هـ - مادة خَلف.

(2) أنظر: تفسير الطبري لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) – طبعة دار الكتب العلمية – بيروت 1412هـ 5/347 , وتفسير البغوي 2/109 , وتفسير ابن كثير2/170 للإمام إسماعيل بن كثير القرشي (ت774هـ) – دار الجيل – بيروت – الطبعة الثانية 1410هـ , وتفسير التحرير والتنوير 8/86-87.

الآية الثانية: قوله تعالى:" فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أُرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ " [هود:57]

تفسير الآية:

هذا الخطاب من نبي الله هود عليه السلام إلى قومه يحذرهم فيه قائلاً : إنكم إن أعرضتم عما جئتكم به من عبادة الله وحده فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي رسالة ربي لكم.

" ويستخلف ربي قوماً غيركم " أي يبدلكم بقوم يعبدونه وحده ولا يشركون به شيئا.

" ولا تضرونه شيئاً " أي لا تقدرون له على ضرٍ إذا أراد هلاككم أو أهلككم.(1)

الآية الثالثة: قوله تعالى: " قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " [الأعراف:129]

تفسير الآية :

هذا الخطاب من نبي الله موسى عليه السلام لقومه بني إسرائيل حيث أوصاهم بالاستعانة بالله والصبر على ما أصابهم من فرعون وقومه , فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده , والعاقبة لمن اتقاه واتبع أمره , وبعد أن اشتكى بنوا إسرائيل أمرهم لموسى من أن فرعون قد آذاهم قبل مجيئه وبعده قال لهم على وجه الترجي " عسى ربكم أن يهلك عدوكم " وهو ما حصل حيث أغرق الله فرعون وجنده .

" ويستخلفكم في الأرض " أي يجعلكم تخلفونهم في سكنى الأرض من بعد هلاكهم لا تخافون أحداً من الناس(2).

" فينظر كيف تعملون " أي فيرى ربكم ماذا تعملون بعدهم من استجابتكم لأمره ومسارعتكم بطاعته, (3).


(1) أنظر: تفسير الطبري 9/60 , وتفسير البغوي 2/328 , وتفسير ابن كثير 2/170 , وتفسير التحرير والتنوير 12/101-102 .

(2) أنظر: تفسير الطبري 6/29 , وتفسير البغوي 2/159 , وتفسير النسفي1/434 لعبد الله بن أحمد النسفي (ت710هـ) دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى 1415هـ.

(3) أنظر المراجع السابقة .

الآية الرابعة : قوله تعالى :" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم " [النور:55]

تفسير الآية :

هذا وعد من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض والولاة عليها , وقد تحقق هذا الوعد بفضل الله تعالى وكرمه حيث دانت الجزيرة العربية لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته , ثم لم يمض القرن الأول الهجري إلا وقد مدَّ الله سلطان المسلمين من الصين شرقاً إلى الأطلسي غرباً.

وفي قوله تعالى " ليستخلفنهم في الأرض " أي ليورثنهم أرض الكفار فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها , وهذا التفسير هو ما عليه جمهور المفسرين(1) .

ويرى بعض المفسرين أن معنى الاستخلاف في الآية : جعلهم خلفاء عن الله في تدبير شئون عباده(2).

وقوله " كما استخلف الذين من قبلهم " وهم بنوا إسرائيل حيث مكنهم الله من أرض الشام بعد الجبابرة , ومن أرض مصر بعد فرعون وقومه(3).


(1) أنظر: تفسير الطبري 9/342 , والبغوي 3/300 , وابن كثير 3/291 .

(2) أنظر: تفسير التحرير والتنوير 18/285 .

(3) أنظر: المراجع السابقة .

اللفظ الثاني : خليفة :

الخليفة على وزن فعيله والأصل خَليف والهاء فيه للمبالغة , وجمعه خلائف وخلفاء . والخليفة هو الذي يقوم مقام الذاهب ويسد مسده ويُطلق على المفرد , وقد يُراد به الجمع(1). وقد ورد لفظ " خليفة " في القرآن في موضعين هما :

الآية الأولى : قوله تعالى : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة , قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " [البقرة:30]

تفسير الآية :

يخبر الله تعالى ملائكته بأنه سيجعل في الأرض خليفة , وقد اختلف المفسرون في المقصود بالخليفة في الآية , من هو؟ وخليفة عن من ؟ . سنأتي إلى بسط القول فيها في المبحثين القادمين(2).

الآية الثانية : قوله تعالى :" يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله... " [ص:26]

تفسير الآية :

يخاطب الله سبحانه وتعالى نبيه داود عليه السلام بأنه جعله " خليفة في الأرض " أي ملكاً ذا سلطان خلف من كان قبله وهو الملك طالوت , ثم أمره أن يقوم بحق هذه الخلافة من الحكم بالعدل وعدم إتباع الهوى(3) .

وقيل في تفسيرها: أي خلفاً لمن سبقك من الأنبياء والرسل(4).

ويرى بعض المفسرين أن معنى الآية : إنا جعلناك خليفة في الأرض عنا فاحكم بين الناس بالحق والعدل , فداود عليه السلام على هذا التفسير خليفة الله في إنفاذ شرائعه للأمة التي جُعل عليها(5).

(1) أنظر معجم مقاييس اللغة صـ310 , ولسان العرب 4/181 , والنهاية في غريب الحديث والأثر للإمام مجد الدين ابن الأثير الجزري (ت606هـ) 2/69 دار الفكر – بيروت – الطبعة الثانية 1399هـ.

(2) أنظر ص

(3) أنظر: تفسير الطبري 5/575 , وفتح القدير لمحمد بن علي الشوكاني (ت1250هـ) 4/429 دار الفكر – بيروت – 1403هـ.

(4) أنظر: المراجع السابقة .

(5) أنظر: تفسير التحرير والتنوير 23/ 242 , والمنتخب صـ677 .

اللفظ الثالث : مُستخـلَـفـــ :

مُستخلَف اسم مفعول لخلف , وقد ورد فيه آية واحدة هي قوله تعالى " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مُستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير " [الحديد:7]

تفسير الآية :

هذه الآية وردت في الاستخلاف بالأموال , فالله جلَّ وعلا يأمر بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل وبالإنفاق مما جعلنا مستخلفين فيه من الأموال .

وقوله " مُستخلفين فيه " أي ورثتموه عمن كان قبلكم , فالله جلَّ وعلا جعلكم مستخلفين فيه بعدهم , وهذا التفسير هو ما يراه جمهور المفسرين(1).

ويرى بعض المفسرين أن معنى الآية : أنفقوا مما جعلكم الله خلفاء عنه في التصرف فيه , فالأموال ليست ملكاً لكم وإنما هي ملك لله عزَّ وجلَّ فأنتم مستخلفين فيها نيابة عنه جلَّ وعلا.(2)

اللفظ الرابع : خلائف :

الخلائف : جمع خليفة , على وزن فعائل , كوصائف جمع وصيفة وظرائف جمع ظريفة(3).

وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم في أربعة مواضع هي :

الآية الأولى : قوله تعالى :" وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم " [الأنعام:165]


(1) أنظر: تفسير الطبري 11/671 , والبغوي 2/268 , وابن كثير 4/306 .

(2) أنظر: تفسير روح المعاني لشهاب الدين محمود الألوسي (ت1207هـ) 15/258 دار الفكر – بيروت – 1414هـ.

(3) أنظر: معجم مقاييس اللغة صـ310 , ولسان العرب 4/181 , وتفسير الطبري 5/422 , والنهاية في غريب الحديث 2/69.

تفسير الآية :

هذه الآية هي آخر الآيات من سورة الأنعام , والخطاب فيها موجهٌ إلى الناس كافة وقوله " خلائف الأرض " والخلائف هي: الأمم التي يخلف بعضها بعضاً , فجيلُ يموت فيرثه جيل وهكذا إلى أن تقوم الساعة(1).

ويُحتمل أن الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته في أنهم سيكونون خلائف الأرض بعد الأمم الكافرة التي سبقتهم , فتكون الإضافة إلى الأرض على معنى اللام , أي أنه سبحانه وتعالى جعلكم يا أمة محمد خلائف الأمم التي ملكت الأرض , فأنتم خلائف للأرض من بعدهم(2).

الآية الثانية : قوله تعالى :" ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون " [يونس:13-14]

تفسير الآية :

الخطاب في الآية موجهٌ للمشركين من أهل مكة وغيرها , بأن الله جلَّ وعلا قد أهلك القرون السابقة لما ظلمت ولم تستجب لرسله , وأن هذا هو جزاء أمثالكم من الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم, فالله جلَّ وعلا يخوف كفار مكة بعذاب الأمم السابقة المكذبة .

وقوله " ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم " أي جعلناكم أيها الناس خلائف من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم, تخلفونهم في الأرض وتكونون فيها بعدهم(3).

(1) أنظر: تفسير الطبري 5/422 , وتفسير البغوي 2/122 , وتفسير ابن كثير 2/190 , والنهاية في غريب الحديث 2/69 .

(2) أنظر: تفسير التحرير والتنوير 8/210 .

(3) أنظر: تفسير الطبري 6/538 , والبغوي 2/293 , وأيسر التفاسير لأبي بكر جابر الجزائري 2/454 دار السلام – القاهرة – الطبعة الرابعة 1412هـ.

ويرى بعض المفسرين أن الضمير في قوله " جعلناكم " للمشركين وأن المراد بـ " الأرض " بلاد العرب , فالتعريف فيها للعهد , لأن المخاطبين خلفوا عاداً وثموداً وغيرهم في منازلهم على الجملة(1).

الآية الثالثة : قوله تعالى :" وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره , ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً " [فاطر:39]

تفسير الآية :

الخطاب في هذه الآية للناس كافة بأن الله جلَّ وعلا صيرهم " خلائف في الأرض " أي خلائف من بعد الأمم السابقة التي هلكت كعاد وثمود وغيرهم(2) .

وقيل: أي يخلف بعضكم بعضاً, فكل جيل يهلك يخلفه الجيل الذي بعده(3).

ويرى بعض المفسرين أن الخطاب في الآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله مستخلفهم في الأرض وسيجعل لهم السلطان فيها ويُظهر دينه على غيره من الأديان(4).

الآية الرابعة : قوله تعالى :" فكذبوه فأنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذَرين " [يونس:73]

تفسير الآية :

الضمير في الآية راجع إلى نوح عليه السلام , فبعد أن دعى قومه ولم يستجيبوا له بل كذبوه أنجاه الله ومن ركب معه في الفلك وجعلهم " خلائف " أي خلائف في الأرض حيث خلف بهم من كان قبلهم في الأرض وجعلهم أجيالاً يخلف بعضهم بعضاً(5).


(1) أنظر: تفسير التحرير والتنوير 11/114 .

(2) أنظر: تفسير الطبري 10/419 وتفسير ابن كثير 3/538 .

(3) أنظر: تفسير البغوي 3/459 .

(4) أنظر: تفسير التحرير والتنوير 22/322 .

(5) أنظر: تفسير الطبري 6/587 , وابن كثير 2/407 , وروح المعاني 7/234 , والتحرير والتنوير 11/243 , وأيسر التفاسير 2/494.

اللفظ الخامـس : خلفاء :

الخلفاء: جمع خليفة , وهم الأفراد أو الأمم الذين يحلون محل غيرهم سواءً كان حلولاً زمانياً أو مكانياً(1).

وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع هي :

الآية الأولى : قوله تعالى :" أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون " [النمل:62]

تفسير الآية :

يبين الله لعباده على وجه الامتنان بعض نعمه عليهم من إجابة الدعوة وكشف السوء , وجعلهم خلفاء الأرض .

وقوله " خلفاء الأرض " أي بأن أورثكم سكناها والتصرف فيها ممن كان قبلكم(2) , وقيل: أي جعلكم أيها الناس خلفاء للجن الذين كانوا قبلكم في الأرض(3).

وقيل : أي يجعلكم خلفاء تتخالفون فيما بينكم , فكل جيل يخلف جيلاً قبله , وسيخلفه جيلٌ بعده , وهذا من نعم الله على الناس(4).

الآية الثانية : قوله تعالى :" أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجلٍ منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون " [الأعراف:69]

تفسير الآية :

هذا الخطاب من نبي الله هود عليه السلام إلى قومه يذكرهم فيه بأن الله امتن عليهم بأن جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح في تعمير الأرض والسلطان فيها حتى أصبحت لهم المكانة بين الأمم في زمانهم(5).

(1) أنظر: لسان العرب 4/181 .

(2) أنظر: تفسير البغوي 3/364 , والبيضاوي للقاضي عبد الله بن عمر البيضاوي (ت791هـ) 2/180 دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى 1408هـ.

(3) أنظر: تفسير البغوي 3/ 364 .

(4) أنظر: المرجع السابق .

(5) أنظر: تفسير الطبري 5/523 , والبغوي 2/142 .

ويذكر بعض المفسرين أن المقصود بالخلافة في الآية : خلافة في الزمان وليس في المكان لأن منازل عاد غير منازل نوح كما هو مذكور عند المؤرخين(1).

الآية الثالثة : قوله تعالى :" واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً " [الأعراف:74]

فقوله " خلفاء من بعد عاد " أي خلفتموهم في سكنى الأرض من بعد هلاكهم(2).


(1) أنظر: تفسير التحرير والتنوير 9/205 .

(2) أنظر: تفسير الطبري 5/537 .

المبحث الثالث : المستخلِف والمستخلَف والمستخْلَف فيه:

الاستخلاف يتضمن وجود أربعة أطراف: مستَخْلِف , ومستَخْلَف , ومستَخَلَف فيه , ومستَخْلَف عنه. وسنتكلم عن الثلاثة الأول في هذا المبحث , ونفرد المستخلف عنه في مبحث مستقل.

أولاً : المستَخْلِف :

من المسلَّم به في العقيدة أن الله جلَّ وعلا هو الذي يستخلف من يشاء من عباده على ما شاء من ماله وذلك بمشيئته الكونية القدرية(1) فهو الذي استخلفنا في الأرض وسخر لنا ما فيها مما نحتاج إليه في معاشنا , وهو الذي يستخلف الأجيال تلو الأجيال على هذه الأرض , والأيدي تلو الأيدي على الأموال .

والآيات التي وردت في الاستخلاف تدل على ذلك, فمنها قوله تعالى : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ". [البقرة :31] وقوله " ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض " [ص:26] , وقوله " وهو الذي جعلكم خلائف الأرض " [الأنعام:165] فالضمائر "إني ، أنا ، هو " تدل على نسبة هذا الفعل إليه جلَّ وعلا وهو الاستخلاف , هذا في الاستخلاف العام(2) .

كما أن الاستخلاف الخاص منه جلَّ وعلا , قال تعالى " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " [الحديد:7] , ففي قوله " جعلكم " دليل على أنَّ أصل ملك المال الذي يملكه الإنسان لله جلَّ وعلا وأنه هو الذي استخلف عبده فيه(3) .


(1) أنظر: ما يتعلق بالمشيئة الكونية القدرية شرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد بن صالح العثيمين 2/204 – دار ابن الجوزي – الدمام – الطبعة الرابعة 1424هـ.

(2) أنظر: تفسير قوله تعالى " جاعل " في كتاب تفسير فتح القدير 1/62.

(3) أنظر: تفسير التسهيل لعلوم التنزيل لأبي القاسم محمد بن جزي الكلبي (ت741هـ) 1/61 – دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى 1415هـ.

ثانياً : المستَخْلَف :

أولاً : الاستخلاف العام

اختلف المفسرون في تحديد المستَخْلَف في قوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " [البقرة:30] , على أقوال:

القول الأول : أن المستَخْلَف هو آدم عليه السلام دون ذريته.

وهذا ما رجحه الإمام البغوي(1) والكلبي(2) وغيرهم(3) , ويستدل أصحاب هذا القول بما يلي:

الدليل الأول: أن " خليفة " على وزن فعيله , فهي مفرد فتقع عيناً على آدم دون ذريته.(4)

ونوقش هذا الدليل : بأن الخليفة اسم يصلح للواحد وللجمع فيكون " خليفة " بمعنى خلف ,أي يخلف بعضه بعضا.(5)

الدليل الثاني: أن الله جلَّ وعلا لو أراد ذريته لقال " إني جاعل في الأرض خلفاء " أو " خلائف " فلما كان التعبير" بالخليفة " دلَّ على أن المستخلَف هو آدم عليه السلام.(6)

القول الثاني: أن المستَخلَف هو آدم والأنبياء من بعده .

ذكر هذا القول بعض المفسرين.(7)

ويستدل أصحاب هذا القول بما يلي:

الدليل الأول: أن الخلافة تشريف فلا تكون إلا لمن يستحقه وهم الأنبياء , حيث أنهم هم الذين يقومون بحق هذا الاستخلاف.(8)

الدليل الثاني: أن الله جعل نبيه داود عليه السلام خليفة في الأرض , ولم يرد في القرآن أنه جعل ملكاً من البشر خليفة فيها, فلا يقال " خليفة الله " إلا للأنبياء دون غيرهم من البشر.(9)


(1) أنظر: تفسير البغوي 1/31 .

(2) أنظر: تفسير التسهيل 1/61 .

(3) أنظر: تفسير فتح القدير 1/62 .

(4) أنظر: التسهيل 1/6 .

(5) أنظر: التفسير الكبير للإما فخر الدين الرازي (ت604هـ) 1/152 دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى 1411هـ.

(6) أنظر: فتح القدير 1/ 62 .

(7) جاء في تفسير النسفي ( أو خليفة مني لأن آدم كان خليفة الله في أرضه وكذلك كل نبي ) 1/14 وأنظر: تفسير روح المعاني 1/351 والمصباح المنير للفيومي 1/178.

(8) أنظر: تفسير روح المعاني 1/351 .

(9) أنظر: تفسير البيضاوي 1/49 وتفسير روح المعاني 1/351 .

القول الثالث: أن المستَخْلَف في الأرض هو آدم وذريته من بعده .

وهذا القول هو ما يراه جمهور المفسرين(1) , وهو قول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله(2).

ويستدل أصحاب هذا القول بما يلي:

الدليل الأول: أن اسم "خليفة" وإن كان يتناول آدم عليه السلام عيناً إلا أنه يعم ذريته من بعده, فهو كقوله تعالى " ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم " وقوله " خلق الإنسان من صلصال كالفخار * وخلق الجان من مارج من نار ".(3)

الدليل الثاني: أن الاستغناء بذكر الأب عن ذكر الذرية موجود في لغة العرب , فالعرب تقول : هاشم , مضر, وتقصد بذلك الذرية(4).

الدليل الثالث: قول الملائكة لربها : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " وهذا يشمل ذرية آدم من بعده(5).

الترجيح:

الذي يظهر رجحانه من هذه الأقوال – والله أعلم – هو القول الثالث , وأن المستخلَف في قوله تعالى " إني جاعل في الأرض خليفة " هو آدم عليه السلام وذريته من بعده فهو مفرد أريد به الجمع ومما يؤيد ذلك : أن آيات الاستخلاف في القرآن الكريم تبين أن الله جلَّ وعلا استخلف البشر جميعاً في الأرض , فمنها قوله تعالى " وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ...".[الأنعام:165] , وقوله " وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض " [فاطر:39]

فهي خلافة عامة لهذا الجنس البشري في الأرض .


(1) أنظر: تفسير الطبري 1/236 وتفسير الرازي 1/152 , وتفسير الكشاف لمحمود بن عمر الزمخشري (ت528هـ) 1/124 دار الريان للتراث – القاهرة – الطبعة الثالثة 1407هـ وتفسير ابن كثير 1/67 وتفسير ابن عثيمين 1/113 .

(2) أنظر: الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام بن تيمية (ت728هـ) جمع عبد الرحمن بن قاسم – رحمه الله – طُبع بإشراف الرئاسة العامة لشئون الحرمين الشريفين بالمملكة العربية السعودية 35/42 .

(3) أنظر: المرجع السابق .

(4) أنظر: تفسير الكشاف 1/124 وتفسير النسفي 1/44.

(5) أنظر: تفسير ابن كثير 1/67 .

ثانيا : الاستخلاف الخاص :

لا خلاف في أن المستَخْلَف في الاستخلاف الخاص هو من بيده المال الذي يملكه بطريق مشروع , سواءً كان اكتسابه لهذا المال مباشراً من الاستخلاف العام , أو كان قد انتقل إليه من مستَخلَف سابق عليه, يدل على ذلك قوله تعالى " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " [الحديد:7] حيث نسب هذا الاستخلاف إلى مالك المال , فهو المستَخْلَف فيه عمن قبله(1).

ثالثاً: المستَخلَف فيه :

أولاً: الاستخلاف العام :

المستَخْلَف فيه في الاستخلاف العام هي الأرض بما فيها وما عليها .

يدل على ذلك قوله تعالى " إني جاعل في الأرض " فقوله " في" للاستغراق: أي في جميع الأرض, فلا يختص ذلك بمكان دون آخر(2).

ويرى بعض المفسرين أن ذلك خاص بمكة شرفها الله فهي أم القرى , وهي التي أنزل فيها آدم عليه السلام حين أُهبط إلى الأرض.(3)

والذي يظهر أن الاستخلاف العام شامل لجميع الأرض دون مكان بعينه يدل على ذلك آيات الاستخلاف العام التي وردت بلفظ " الأرض " كقوله تعالى " ويجعلكم خلفاء الأرض " [النمل:62] , وقوله " وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض " , وهذا لا يخص مكاناً دون آخر.

ويرى بعض المفسرين أن في قوله تعالى " ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " [البقرة:36] دليل على أن بني آدم لا يمكنهم العيش إلا في الأرض التي استُخلفوا فيها. حيث سخرها الله لهم ويسر لهم سبل المعيشة فيها, أما غيرها من الكواكب والأجرام السماوية فلا يستطيعون العيش والحياة فيها(4), وما يؤيد ذلك قوله تعالى في آية أخرى " قال اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيهل تحيون وفيها تموتون ومنها تُخرجون " [الأعراف:24-25]


(1) أنظر: تفسير الطبري 11/671.

(2) أنظر: تفسير فتح القدير 1/62 وتفسير نظم الدرر لبرهان الدين البقاعي (ت885هـ)1/86 دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى 1415هـ, وتفسير التحرير والتنوير 1/401 .

(3) أنظر هذا القول: تفسير فتح القدير 1/62 , وتفسير روح المعاني 1/351 .

(4) أنظر: تفسير ابن عثيمين 1/133.

ثانيا ً: الاستخلاف الخاص :

المستَخْلَف فيه في الاستخلاف الخاص هو ما تحت يد الإنسان مما يملك سواءً كانت عقارات أو منقولات يدل على ذلك الآية التي وردت في الاستخلاف الخاص وهي قوله تعالى " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه "[الحديد:7] فالمستخلَف فيه هي الأموال التي بأيديكم أورثكم الله إياها عمن كان قبلكم فيجعلكم خلفاء لهم فيها(1) .

كما يدل على ذلك أيضاً الآيات التي أثبتت الملكية الخاصة للإنسان وأن هذا الملك من رزق الله كقوله تعالى " وأنفقوا مما رزقناكم " [المنافقون:10] وقوله " وآتوهم من مال الله الذي ءاتاكم " [النور:33]


(1) أنظر: تفسير الطبري 11/671 وتفسير الجلالين لجلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي صـ719 دار المعرفة – بيروت .

المبحث الرابع : المسْتَخْلَفْ عنه :

إذا كان من المسلَّم به أن الاستخلاف من عند الله عزَّ وجل فهو الذي استخلف عباده في أرضه وماله فهنا يأتي السؤال : عن من هذا الاستخلاف ؟ هل هو عن الله عزَّ وجل فيكون الإنسان خليفة عن الله في أرضه , استخلفه فيها وفي أمواله , ليقوم بعمارة الأرض وتنمية الأموال واستثمارها وفق ما شرع الله, وليقوم بواجبه في الدعوة إلى عبادة الله وتحكيم شرعه والحكم بالعدل بين خلقه , أم أن هذا الاستخلاف عن من سبقنا على الأرض من الأمم التي سكنتها, أو استخلاف عن البشر بعضهم عن بعض في وراثة الأرض والأموال سواءً كانوا أفراداً أو جماعات ؟.

هذه المسألة اختلف فيها المفسرون حين تفسيرهم لبعض آيات الاستخلاف وخاصةً عند تفسيرهم لقوله تعالى في سورة البقرة " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون " [البقرة:30] , ونظراً لأهمية المسألة بالنسبة للبحث فسنفصِّل القول فيها حتى تتضح الأقوال بأدلتها ثم نرجح ما نراه راجحاً بعون الله تعالى.

الخلاف في المسألة :

اختلف المفسرون في هذه المسألة على ثلاثة أقوال حسب التالي :

القول الأول : أن الخلافة عن الله عزَّ وجل في أرضه .

فالله أراد أن يجعل آدم عليه السلام والصالحين من ذريته خلفاء يخلفونه في عباده , بإبلاغ دينه والدعوة إليه والحكم بين خلقه , لا عن جهل أو عجز منه جلَّ وعلا , وحاشاه من ذلك , ولكنه يمنُّ على من يشاء من عباده.(1)


(1) أنظر: تفسير ابن عثيمين 1/113.

وعلى هذا القول تكون " خليفة " في الآية بمعنى اسم المفعول , أي أن الله جلَّ وعلا جعل آدم عليه السلام وذريته خلفاءه في أرضه لإقامة شرعه والحكم بالعدل بين خلقه .

وهذا القول ذكره ابن جرير الطبري في تفسيره ونسبه إلى عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم(1) وتبعه بعض المفسرين في نسبته إليهما(2) , وهو اختيار بعض المفسرين(3) .

وقد استدل أصحاب هذا القول بالأدلة التالية :

الدليل الأول : قوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة "[البقرة:30] والخليفة في اللغة التي نزل بها القرآن هو : من يخلف غيره ويقوم مقامه(4) , فيكون " الخليفة " في الآية - وهو آدم عليه السلام وذريته - خلفاء عن الله في أرضه وعلى ماله , فهو الذي خلقه لهم واستخلفهم عنه فيه.

ونوقش هذا الدليل : بأنه مكون من مقدمة ونتيجة , أما المقدمة فنحن نسلِّم بها وهي أن الخلافة عن الغير تقتضي النيابة عنه والحلول مكانه , أما النتيجة وهي أن الإنسان يكون خليفة الله في أرضه فلا نُسلِّم بها لأن الخلافة عن الغير تكون إما بسبب موته , أو رحيله إلى مكان آخر , أو عجزه , والله سبحانه وتعالى حيٌ قيوم لا يموت ولا يغيب وهو قادر على كل شيء(5) .

وأجيب عن هذه المناقشة : أنه لا يلزم أن تكون الخلافة عن الغير بسبب من الأسباب المذكورة والتي هي منتفية عن الله عزَّ وجل بلا شك , ولكن الخلافة قد تكون بسبب التشريف , أي تشريف المستخلف وتكريمه وتقديمه على غيره(6) , وهذا ما ذكره الراغب الأصفهاني حيث قال أن الخلافة: " النيابة عن الغير , إما لغيبة المنوب , وإما لموته , وإما لعجزه , وإما لتشريف المستخلف(7) " فاستخلاف آدم وبنيه من بعده من هذا الباب , والتكريم متحقـق في بـني آدم , كما قال تعالى " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً " [الإسراء:70]


(1) 1/ 237.

(2) أنظر: الجامع لأحكام القرآن , لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي 1/363 , دار إحياء التراث العربي – بيروت 1405هـ.

(3) منهم الإمام البغوي حيث قال في تفسيره بعد ذكره للأقوال في المسألة : والصحيح أنه خليفة الله في أرضه لإقامة أحكامه وتنفيذ قضاياه. تفسير البغوي 1/31 , وهذا القول هو ما يراه د. أحمد حسن فرحات في كتابه – الخلافة في الأرض صـ14 دار عمَّار – الأردن – الطبعة الأولى 1423هـ.

(4) أنظر: تفسير البيضاوي 1/51 .

(5) أنظر الفتاوي الكبرى 35/45 .

(6) أنظر: الخلافة في الأرض د. أحمد حسن فرحات صـ14.

(7) المفردات في غريب القرآن الكريم للراغب الأصفهاني (ت502هـ) صـ156.

ويناقش هذا الجواب : بأن النزاع ليس في سبب هذا الاستخلاف هل هو التشريف أو غيره , وإنما النزاع فيما تقتضيه الخلافة عن الغير : حيث أنها تقتضي الحلول محله والقيام بالأمر نيابة عنه , ومما يعني عدم وجوده , وهذا منتفٍ عن الله عزَّ وجل كما قال عن نفسه " وهو معكم أينما كنتم "(1) [الحديد:4]

الدليل الثاني: قوله تعالى : " ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " [ص:26] , ووجه الاستدلال من الآية : أن الله سبحانه وتعالى يستخلف من عباده من يشاء على من يشاء وداود عليه السلام قد استخلفه الله في أرضه , وبيَّن له ما يقتضيه هذا الاستخلاف من الحكم بالعدل وعدم اتباع الهوى(2) .

ويناقش هذا الدليل : أنه ليس في الآية ما يدل على أن داود خليفة عنه في الأرض , وإنما فيها بيان أن الله استخلف داود على الأرض , فهو مستخلف من الله على أرضه عن من كان قبله وهو الملك طالوت كما في آيات سورة البقرة(3), وهذا التفسير هو ما عليه جمهور المفسرين(4).

الدليل الثالث: دلت النصوص من السنة المطهرة على أن الإنسان قد يكون خليفة الله في أرضه(5) ومن ذلك :

1) حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ما بعث الله من نبيٍ ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه , وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه , والمعصوم من عصم الله" .(6)

ووجه الاستدلال من الحديث : أنه ورد فيه نسبة استخلاف الخليفة إلى الله عزَّ وجلَّ.


(1) أنظر في آيات المعية ومعناها – شرح العقيدة الواسطية – للشيخ محمد بن صالح العثيمين 1/400 وما بعدها .

(2) أنظر: تفسير ابن عثيمين 1/113 .

(3) أنظرالآيات 246- 251 من سورة البقرة .

(4) أنظر: تفسير الطبري 10/575 , وتفسير فتح القدير 4/429 .

(5) أنظر: الخلافة في الأرض صـ15-17.

(6) أخرجه البخاري في كتاب القدر باب المعصوم من عصم الله برقم 6121 .

2) حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن الخير والشر, وجاء فيه" قلت: ثم ماذا ؟ قال: ثم تكون دعاة الضلالة , فإن رأيتَ يومئذ خليفة الله في الأرض فالزمه وإن نهك جسمك وأخذ مالك , فإن لم تره فاهرب في الأرض ولو أن تموت وأنت عاضٌ بجذع شجرة .."(1) ووجه الاستدلال من الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسب الخليفة إلى الله " خليفة الله " مما يدل على أن الإنسان هو خليفة الله في أرضه.

3) حديث ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من خراسان فأتوها فإن فيها خليفة الله المهدي "(2).

ووجه الاستدلال من الحديث : أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسب هذا الخليفة إلى الله " خليفة الله " وهذا صريح في أن الإنسان قد يكون خليفة الله في أرضه وفي ماله.

ويناقش هذا الدليل بما يلي:

1- حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما ليس فيه دليل على أن الاستخلاف عن الله سبحانه وتعالى , وإنما الاستخلاف من الله وهذا محل تسليم ( ولا استخلف من خليفة ).

2- حديث حذيفة رضي الله عنه أصله في الصحيحين(3) وليس فيه لفظ " خليفة الله " بل فيه " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " , وكذا رواه ابن ماجه(4) , والإمام أحمد(5) من طريق آخر بلفظ " إن كان لله يومئذ في الأرض خليفة "وأبو داود(6) بلفظ " إن كان لله خليفة في الأرض" وفي جميع الحالات لا تدل هذه الروايات على أن الخلافة في الأرض عن الله بل تدل على أنها من الله جلَّ وعلا.


(1) رواه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (ت241هـ) في مسنده في مسند الأنصار باب حديث حذيفة رقم 22333- دار المعارف – القاهرة 1980م.

(2) رواه أحمد في مسنده في مسند الأنصار باب حديث ثوبان برقم 21353 .

(3) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب برقم 3338 و 3339 وفي كتاب الفتن برقم 6557 , ومسلم في كتاب الإمارة برقم 3434 .

(4) سنن ابن ماجه – كتاب الفتن برقم 3969 لأبي محمد بن يزيد القزويني (ت275هـ) – دار إحياء التراث العربي – بيروت .

(5) مسند الإمام أحمد في مسند الأنصار – باب حديث حذيفة برقم 22334 .

(6) سنن أبي داود – كتاب الفتن والملاحم برقم 3706 للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث (ت307هـ) – المكتبة العصرية - بيروت .

3- أما حديث ثوبان فإنه من رواية وكيع بن الجراح عن شَرِيْك عن علي بن زيد عن أبي قلابة عن ثوبان رضي الله عنه , وقد أعله بعض أهل العلم بالعنعنة وبأنه من رواية شريك عن علي بن زيد وقد تُكلِّم فيهما , أما شريك فهو شريك بن عبد الله النخعي قال عنه ابن حجر: صدوق يخطئ كثيراً , وقد تغير حفظه منذ وُلِّي القضاء بالكوفة(1) , وأما علي بن زيد : فهو ابن جدعان البصري وهو ضعيف,(2) وبناءً على ذلك فإن الحديث ضعيف فلا تقوم به حجة(3).

وعلى التسليم بصحة الحديث فإنه ليس فيه دليل على أن الخلافة عن الله عزَّ وجل وإنما نسبة الخليفة إلى الله " خليفة الله " وهذا أجازه بعض أهل العلم من باب أن الله هو الذي استخلفه بأمره وقضاءه(4).

القول الثاني : أن خلافة آدم وذريته عن من سبق من الأمم التي كانت موجودة في الأرض من قبلهم , فهم خلفوهم في سكنى الأرض من بعدهم.

وعلى هذا التفسير تكون "خليفة" في الآية بمعنى اسم الفاعل أي أنهم خلفوا من كان قبلهم من الأمم التي كانت في الأرض.

وهذا القول مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما(5) , وقال به بعض المفسرين(6) وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية "رحمه الله"(7) .

ويختلف أصحاب هذا القول في من هم الساكنين في الأرض قبل آدم , فقيل أنهم هم الجن , وقيل أنهم جنس آخر(8) ,ويرى النسفي أنهم الملائكة أنفسهم , فقوله " جاعل في الأرض خليفة " أي خليفة منكم حيث يعود الضمير المبهم إلى المخاطبين وهم الملائكة(9).


(1) أنظر: تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني (ت852هـ) برقم 2787 , دار الرشيد – حلب – سوريا – الطبعة الأولى 1406هـ.

(2) أنظر: المرجع السابق برقم 4734.

(3) ممن ضعَّف هذا الحديث الألباني أنظر: ضعيف الجامع الصغير وزياداته صـ72 برقم 506 المكتب الإسلامي – بيروت – الطبعة الثالثة 1410هـ .

(4) أنظر: تفسير التسهيل 2/410 , والمصباح المنير لأحمد بن محمد الفيومي 1/178 , المكتبة العلمية – بيروت – ويُستفاد من كلام ابن القيم رحمه الله عن مسألة هل الإنسان وكيل الله ؟ مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين – لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية (ت751هـ) 2/143 دار الجيل – بيروت – الطبعة الأولى 1412هـ.

(5) أنظر: تفسير الطبري 1/236 .

(6) أنظر: تفسير فتح القدير 1/62 , وقد رجَّح هذا القول فضيلة الشيخ بن عثيمين في تفسيره 1/113.

(7) أنظر: مختصر منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام بن تيمية (ت728هـ) اختصار عبد الله الغنيمان 1/66-67 , والفتاوى الكبرى 35/45 .

(8) أنظر: تفسير الطبري 1/236 , وتفسير روح المعاني 1/351.

(9) أنظر: تفسير النسفي 1/44 وأشار إليه الزمخشري في تفسيره الكشاف 1/124.

ويستدل أصحاب هذا القول بما يلي:

الدليل الأول: قوله تعالى على لسان الملائكة " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء "[البقرة:30]. ووجه الاستدلال: أن الملائكة تبادر إلى أذهانهم أن هذا الخليفة سيكون كمن سبق في الأرض فيفسد فيها ويسفك الدماء مما يدل على أن المقصود بالخليفة : الذي يخلف من كان قبله من الأمم.(1)

وقد وردت آثار متعددة تدل على أن الأرض كانت مسكونة قبل بني آدم , منها ما رواه ابن جرير الطبري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضاً فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة , فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال , ثم خلق الله آدم فأسكنه إياها , فلذلك قال " إني جاعل في الأرض خليفة "(2).

ونوقش هذا الدليل:

بأن هذه الروايات التي وردت في سكنى الأرض فيها نظر حيث لم يصح فيها شيء(3) فلا حجة فيها.

الدليل الثاني: أن الخليفة في الآية إما أن يكون عن الله , أو عن من سكن الأرض قبل بني آدم , أما التفسير الأول فهو منتفٍ عن الله عزَّ وجلَّ لأنه لا خليفة له فهو حيٌ قيوم لا يموت ولا يغيب , ولا كفؤ له , كما قال عن نفسه " ولم يكن له كفواً أحد " [الإخلاص:4] ,فلم يبق إلا التفسير الثاني وهو أن الخلافة عن من كان في الأرض قبل خلق آدم عليه السلام .

ونوقش هذا الدليل: لا يلزم من كون الإنسان خليفة عن الله جلَّ وعلا في أرضه عدم وجوده فالاستخلاف قد يكون لتشريف المستخلَف مع وجود المستخلِف(4).

ويُجاب عن ذلك: أن معنى الخلافة في اللغة: الحلول محل المستخلف عنه مما يقتضي عدم وجوده , والله جلَّ وعلا مستوٍ على عرشه عالم بما يفعله عباده يقدِّر ما يشاء كما يشاء فلا أحد خليفة عنه.


(1) أنظر المرجع السابق .

(2) أنظر: تفسير الطبري 1/236 وقد ذكر روايات أخرى غير هذا الأثر , وانظر: تفسير البغوي 1/31 .

(3) أنظر: الخلافة في الأرض د. أحمد حسن فرحات صـ11.

(4) المرجع السابق صـ14.

الدليل الثالث: أن الله جلَّ وعلا هو خليفة غيره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث دعاء السفر " اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل , اللهم أصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا "(1) , أما غيره فلا يكون خليفة له(2).

القول الثالث: أن المقصود بالخليفة خلافة البشر بعضهم عن بعض(3), ذلك أن من خصائص الإنسان المخلوق "آدم عليه السلام" أن يتناسل فيخلف بعضه بعضاً , فهو "خليفة" بمعنى مخلوف من ذريته , ثم إنهم خلفاء يخلف بعضهم بعضاً.(4)

وعلى هذا التفسير تكون "خليفة" في الآية صالحة لاسم الفاعل ,واسم المفعول, فهم خلفاء خلفوا من كان قبلهم , وسيخلفهم من يأتي بعدهم.

وهذا القول مروي عن الحسن البصري رحمه الله(5) , واختاره بعض المفسرين منهم ابن كثير رحمه الله(6).

ويستدل أصحاب هذا القول بما يلي:

الدليل الأول: أن الآيات التي وردت في القرآن الكريم بلفظ الاستخلاف ومشتقاته كـ" خلفاء" و"خلائف" تدل على أن الخلافة عن الأمم السابقة: فيحمل معنى آية الخلافة في سورة البقرة عليها وهذا من تفسير القرآن بالقرآن , وهو أولى من تفسيره بغيره(7).


(1) أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الحج باب ما يقول إذا ركب في سفر الحج وغيره برقم 2392 , ورواه الترمذي واللفظ له في كتاب الدعوات برقم 3369 سنن الترمذي لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي (ت279هـ) دار الكتب العلمية – بيروت , وأبو داود في كتاب الجهاد برقم 2232 .

(2) أنظر: الفتاوى الكبرى 35/43 , ومدارج السالكين لابن القيم 2/143.

(3) أنظر هذا القول: تفسير الطبري 1/237 وتفسير ابن عثيمين 1/114.

(4) أنظر: لا يصح أن يقال الإنسان خليفة عن الله في أرضه لعبد الرحمن حسن الميداني صـ34 - مؤسسة الريان – بيروت – الطبعة الأولى 1416هـ.

(5) أنظر: تفسير الطبري 1/237 .

(6) أنظر: تفسير ابن كثير 1/67.

(7) أنظر: المرجع السابق .

الدليل الثاني : أن الله سبحانه وتعالى لما قال لملائكته " إني جاعل في الأرض خليفة " سأل الملائكة ربهم: ما يكون هذا المخلوق , وما هي صفته وخصائصه , فأبان الله لهم صفاته ومنها أنه يكون ذا إرادةٍ حرة وصفات نفسيةٍ ينتج عنها الإفساد في الأرض ويسفك الدماء , فقالوا " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك "(1).

يدل على هذا المحذوف ما رواه الطبري أن الملائكة سألوا ربهم ما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يُفسدون في الأرض , ويتحاسدون , ويقتل بعضهم بعضا(2).

(1) أنظر: لا يصح أن يُقال الإنسان خليفة الله في أرضه صـ34.

(2) 1/ 236.

المناقشة والترجيح :

أولاً : مناقشة القول الأول :

القول بأن الإنسان خليفة عن الله في أرضه وماله قول غير صحيح يتعارض مع أصول العقيدة الصحيحة والعقل السليم .

وبيان ذلك: أم من أسماء الخالق جلَّ وعلا وصفاته الحسنى أنه حيٌ , قيوم , شهيد , رقيب , غني عن خلقه , ليس له شريك ولا ظهير , لا يكافئه أحد , تعالى وتقدس عن الشبيه والنظير " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ".[الشورى:11]

والقول بأن الإنسان خليفة عن الله في أرضه وماله ينافي هذا المعتقد ويناقضه , ذلك أن الخلافة عن الآخر تقتضي أمرين :

أ) الحلول محل المستخلَف عنه والقيام مقامه.

ب) ملكية المستخلَف فيما كان للمستخلف عنه وقيامه بالأمر نيابة عنه.

وهذا كله منتف عن الله عزَّ وجلَّ فالله ليس له نائب ولا وكيل ولا خليفة , بل هو جلَّ وعلا خليفة غيره , وكيل على كل شيء " والله على كل شيء وكيل "[هود:12]

ولعل السبب في هذا الخطأ , هو عدم التفريق بين منزلة المستخلِف والمستخلَف عنه , وتصور أن مقتضي كون الله مستخلِفاً لخلقه أنه مستخلَفٌ عنه , وهذا ليس لازماً لهذا , فالله جلَّ وعلا هو المستخلِف لخلقه في أرضه , ولعبده في ماله , بأمره وتقديره وحكمه الشرعي, ولكن عمن سبق من الأمم والأفراد الذين كانوا قبل المستخلِف.

وهذا كصفة المُلْك , فالله جلَّ وعلا " يؤتي ملكه من يشاء "[البقرة:247] ولا يقتضي ذلك أن يكون المُلك البشري مُلكاً عن الله سبحانه وتعالى.

وما يؤيد عدم صحة هذا القول ما يلي:

1- ما سبق استعراضه من النصوص القرآنية في الاستخلاف , والتي يُفهم منها بوضوح أن المقصود به خلافة البشر بعضهم عن بعض , بتعاقب الأجيال تلو الأجيال , والأيدي تلو الأيدي على الأموال , ولم يرد في أحد من هذه النصوص ما يدل على أن هذا الاستخلاف عن الله عزَّ وجلَّ(1).


(1) أنظر: المبحث الثاني

2- ما يستدل به أصحاب هذا القول مناقَش ومنقوض كما سبق بيانه, وغاية ما في بعض هذه الأدلة نسبة الخليفة إلى الله " خليفة الله " وهذه الإضافة هي بمعنى الملك ,وذلك أن الإضافة تكون بمعنى " اللام " وهذا هو الأصل وتفيد الملك كثوب زيد , وقد تكون بمعنى " من " إذا كان المضاف بعض المضاف إليه وصالحاً للإخبار به عنه كخاتم فضة , وتكون بمعنى في إذا كان المضاف إليه ظرفاً واقعاً فيه المضاف, ومنه قوله " بل مكر الليل والنهار "[سبأ:33]

ولم يسمع في كتب اللغة أن الإضافة تكون بمعنى عن(1) .

والإضافة في " خليفة الله " بمعنى اللام , والتي تفيد الملك أي خليفة لله , فالله سبحانه وتعالى جعله خليفة عمن كان قبله كما فسرت ذلك النصوص الأخرى, وهذه الإضافة منتشرة في لغة العرب ومنه قولهم " سلطان الله " و " جند الله " و " حزب الله " و " خيل الله "(2)

3- أن هذا القول ينتج عنه مفاسد كثيرة منها ما يلي:

أ) القول بوحدة الوجود , وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا القول من شطحات كبار الصوفية كابن عربي وأمثاله الذين فسَّروا " الخليفة " بأنه " الخليفة عن الله " فهو نائب عن الله تعالى وتقدس , وأخذوا من الفلاسفة مقولتهم: أن الإنسان هو العالم الصغير , وأن الله هو العالم الكبير(3).

ب) استغلال ذلك من بعض الملوك والحكام والأثرياء , فهم مالكون في الأرض أو المال عن الله , وعلى رعيتهم أن تسمع وتطيع في كل ما أمروا به من خيرٍ أو شر , وهذا التصور كان منتشراً في كثير من الدول قبل الإسلام كالدولة الرومانية والفارسية , واستخدمته بعض الطوائف المنتسبة إلى الإسلام كبعض فِرق الرافضة والصوفية لترويج طاعة رؤسائهم وذوي الشأن منهم بحجة أنهم نائبون عن الله.


(1) أنظر: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك , لجمال الدين بن هشام الأنصاري – 2/320 - مطبوعة مع شرحها ضياء السالك لمحمد النجار – القاهرة – 1401هـ .

(2) أنظر: المصباح المنير 1/178.

(3) أنظر: الفتاوى الكبرى 35/45.

ج) يؤدي هذا القول إلى أن الأقوى في وراثة الأرض واستثمار خيراتها وثرواتها وتسخير منافعها هو الأولى بالخلافة عن الله حتى لو كان كافراً به !!.

4- ما ذكر عن الاستخلاف العام من أنه استخلاف للإنسان بحسب جنسه لا بحسب أفراده وأنه من باب التشريف والتكريم غير صحيح لأن أكثر المجتمعات البشرية غير مؤمنين بالله كما قال تعالى " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين "[يوسف:103] وقال " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ".[الأنعام:116]

وتكريم الله بني آدم إنما هو بالعقل والعلم واعتدال الخلقة وتسخير ما في الأرض لهم , فإن كفر وأشرك بالله فإنه من شر الخليقة كما قال تعالى عن الكفار " أولئك هم شر البرية " [البينة:6] والحقيقة أن الاستخلاف , عامٌ أو خاصٌ , إنما هو فتنة وابتلاء للإنسان, وتكليف لا تشريف , تحمل الأمانة بعد أن ناءت بحملها الأرض والجبال , " وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً " [الأحزاب:72]

5- أن هذا القول ما أُثر عن الصحابة رضي الله عنهم ولا عن السلف الصالح بل الذي أُثر عنهم إنكار ذلك. فمن ذلك ما رواه ابن أبي مليكة أنه قيل لأبي بكر رضي الله عنه: يا خليفة الله , قال أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأنا راضٍ به , وأنا راضٍ به , وأنا راضٍ به(1).

أما ما رُوي عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم من القول بهذا التفسير فهو محل نظر , وهو من اجتهاد الطبري رحمه الله , وبيان ذلك أن الإمام الطبري ذكره بسنده عنهما عن أُناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , أن الله جلَّ ثناؤه قال للملائكة: ( إني جاعلٌ في الأرض خليفة ) قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض , ويتحاسدون , ويقتل بعضهم بعضاً.


(1) رواه الإمام أحمد في مسنده – مسند أبي بكر الصديق برقم 56و61.

ثم علَّق على هذه الرواية بقوله: " فكان تأويل الآية على هذا إني جاعل في الأرض خليفة مني في الحكم بين خلقي , وأن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله , والحكم بالعدل بين خلقه , أما الإفساد وسفك الدماء بغير حق فمن غير خلفائه(1)" فمن هذا النقل يظهر ما يلي:

أ) أن هذا اجتهاد منه في بيان مستلزم ما أثر عنهما, بينما يظهر أن هذه الرواية هي أقرب إلى القول الثالث.

ب) أن عبارة الإمام الطبري إنما هي بنسبة هذا الخليفة إلى الله لا عن الله " خليفة مني ".

ج) أنه احترز من ذرية آدم الذين يفسدون ويسفكون الدماء.

د) أنه ذكر رواية أخرى عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في أنه يرى أن الخلافة عمن سبق(2) , فيحمل معنى هذه الرواية التي فسرها الطبري على ما رُوي عنه في الرواية الأخرى.

هـ) أن الإمام الطبري ذكر هذا الكلام وهو في معرض سرده للروايات التي وردت في تفسير الخلافة , ولم يرجح هذا القول بل إنه فسَّر الآية حسب القول الثالث كما يُفهم من كلامه(3).

6- أن غالب المفسرين الذين أتوا بعد الإمام الطبري ونقلوا معنى هذا التفسير كالبغوي والقرطبي(4) وغيرهما لم يذكروا أن هذه الخلافة عن الله , وإنما أضافوها إلى الله , ولم أجد من صرَّح بنسبة الخلافة إلى أنها عن الله إلا متأخري المفسرين كالألوسي والطاهر بن عاشور ومن بعدهما(5).


(1) أنظر: تفسير الطبري 1/236.

(2) أنظر: المرجع السابق .

(3) أنظر: المرجع السابق .

(4) أنظر: تفسير البغوي 1/31 , وتفسير القرطبي 1/263 , وتفسير النسفي 1/44 , وانظر الموافقات للإمام أبي إسحاق الشاطبي (ت790هـ) 2/331 – دار المعرفة – بيروت - .

(5) أنظر: تفسير روح المعاني 15/258 , وتفسير التحرير والتنوير 18/285 , وانظر المبحث الثاني من الدراسة.

ثانياً : مناقشة القول الثاني :

ليس هناك دليل صحيح على تسمية من كان في الأرض قبل إهباط آدم وزوجته إليها , وهذه المسألة هي من علم الغيب ولذا لا نستطيع أن نحدد جنساً معيناً في الأرض قبل بني آدم.

ثالثاً : مناقشة القول الثالث :

القول بأن لفظ " خليفة " في الآية بمعنى مخلوف من ذريته فيه بُعد , ذلك أن الخليفة في اللغة هو من يجيء بعد شيء ويقوم مقامه , واللفظ في الآية متناول لآدم عيناً(1) , فيكون هو ثم ذريته من بعده خليفة خلف الله بهم من كان قبلهم في الأرض.

الترجـيح :

بعد تأمل المسألة وتفسير النصوص التي وردت فيها, يظهر لي – والله أعلم - ما يلي :

1) أن المستخلَف عنه في الاستخلاف العام هو من كان ساكناً في الأرض قبل إهباط آدم وزوجته إليها . وبيان ذلك :

أن لفظ " خليفة " يقتضي وجود مستخلَف عنه , فلفظ " خلف " يعني وجود شيء بعد شيء , فهو خليفة عنه , وقام بالأمر بعده .

ومستلزم ذلك: أن هناك من سكن الأرض قبل بني آدم فأتى آدم وذريته فخلفوهم عليها, فهم خلفاء عنهم في الأرض.

وإذا كانت النصوص لم تسمِّ لنا هذا الجنس فإن هذا لا يقتضي عدم وجودهم , فالله يخلق ما يشاء , وما نحن إلا خلق من خلقه.

ومما يؤيد ذلك سؤال الملائكة ربهم عزَّ وجلَّ " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء "[البقرة:30] أي كما فعل من كان قبلهم ممن سكن الأرض , وهذا الاستفهام من الملائكة للاستعلام والاستطلاع , وليس للاعتراض(2).


(1) أنظر: الفتاوى الكبرى 35/42.

(2) أنظر: تفسير ابن عثيمين 1/113 .

ولو أن الملائكة فهموا أن هذا الخليفة عن الله لما استفهموا لأنهم يعلمون أن الله لا يختار خليفة عنه إلا وقد اصطفاه واختاره , ثم كيف يكون خليفة عن الله ومن صفاته الإفساد وسفك الدماء.!!

فلم يبق إلا أنه خليفة لمن كان قبله في الأرض وإن لم يسم لنا هذا المخلوق .

2) أما الاستخلاف الخاص سواءً كان للدول أو الأفراد وسواءً كان في الأرض أو الأموال فإن المستخلف عنه هو المالك السابق للشيء المستخلَف فيه قبل انتقاله إلى يد الملك الأخير .

وهذا الترجيح فيه الجمع بين القولين الثاني والثالث وهو ما يدل عليه المفهوم اللغوي للاستخلاف وما تدل عليه الأدلة التي وردت فيه.

والله أعلم وأحكم ؛؛؛

الخـــــــــاتمــــــة

واذكر فيها أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال هذا البحث وهي ما يلي:

1- يُقصد بالاستخلاف في اللغة: مجيء شيء بعد شيء وقيامه مقامه , أما في الاصطلاح فيوجد اتجاهين في مفهومه , اتجاه يرى أنه عمن سبق من الأمم أو الأفراد , واتجاه يرى أنه عن الله عز وجل.

2- المنهج الصحيح في مفهوم الاستخلاف أنه عمن سبق من الأمم والأفراد , وعليه يعرَّف الاستخلاف بأنه: تمكين الله للبشر عامة ولبعضهم خاصة في إحلالهم محل من قبلهم في ملكية الأرض والمال.

3- ينقسم الاستخلاف إلى قسمين رئيسين : عام وهو يشمل البشر كلهم , واستخلاف خاص وهو نوعان : استخلاف الدول واستخلاف الأفراد.

4- ورد لفظ الاستخلاف ومشتقاته - التي تعني مجيء شيء بعد شيء في القرآن الكريم في أربعة عشر موضعاً , ومشتقاته هي:

استَخْلَف , يسْتَخْلِف , مُسْتَخْلَف , خَلِيفَْة , خَلاَئِفْ , خُلَفَاء , وجمهور المفسرين فسَّروها على أن المقصود بها: الخلافة عمن سبق من الأمم أو الأفراد ,كما تدل على ذلك صراحة أغلب النصوص التي وردت في الاستخلاف , ويُفهم من بعضها الآخر.

5- المستخْلِف هو الله عزَّ وجلَّ , والمستخْلَف هو الإنسان سواءً كان في الاستخلاف العام أو الخاص.

6- المستخلَف فيه: هو الأرض بما فيها وما عليها في الاستخلاف العام , والأرض والمال الخاصَّين في الاستخلاف الخاص.

7- اختلف المفسرون في تحديد المستخلف عنه في قوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " وفي بعض آيات الاستخلاف الأخرى.

فقيل أنه هو الله عزَّ وجلَّ , وقيل: أنه من كان في الأرض قبل إهباط آدم عليها, وقيل المقصود بـ" الخليفة ": المخلوف , فهو مخلوف من ذريته .

وقد توصل الباحث بعد مناقشة الأقوال إلى أن القول الصحيح في المستخلَف عنه أنه من كان في الأرض قبل إهباط آدم عليها , ومن دون تعيين جنس له. وهذا في الاستخلاف العام.

أما في الاستخلاف الخاص فإن المستخلَف عنه هو من كان مالكاً للشيء المستخلَف فيه أو حالاً به.

8- القول بأن " الإنسان خليفة عن الله في أرضه وماله " قول غير صحيح لمخالفته أصول العقيدة الصحيحة والعقل السليم, ولما يترتب عليه من مفاسد , والصحيح أن الإنسان مستخلَف من الله في أرضه وماله عمن سبق فيهما ممن كان مالكاً لهما أو حالاً فيهما.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ,

وصلى الله وسلم على نبينا محمد ؛؛؛

إعداد

د. عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله النـاصر

الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلاميـة

كلية التربية – جامعة الملك سعود – الرياض

تعليقات

  1. ما المقصود بنظرية الاستخلاف في الاقتصاد الإسلامي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها