مليلية المغربية وخمسة قرون من الاحتلال

إعداد: محمد القاضي

المغرب

مليلية والتاريخ القديم

كانت مليلية أول هدف رسمه الإسبانيون للنيل من الوحدة الترابية للمغرب عملاً بوصية عاهلة إسبانيا (إزابيلا) قبل وفاتها حيث أوصت بما يلي: "أرجو من ابنتي ومن زوجي فيرناندو تجنيد أنفسهما كلياً لاحتلال إفريقيا وخوض الحرب ضد المغاربة في سبيل العقيدة". وقد تكلف بذلك القائد (بيدرو دي إيسطوبينيان) الذي نال لقب "دوق مدينة شيدونة"(1) وذلك يوم 17 سبتمبر 1497م ومنذ ذلك التاريخ وهي محتلة من طرف الإسبان الذين احتفلوا بالذكرى المئوية الخامسة للاحتلال في شتنبر سنة 1997م.

وتقع المدينة على الجناح الشرقي من الشاطئ المطل على البحر الأبيض المتوسط، على بعد عشرة كيلومترات من مدينة الناظور، وتبلغ مساحتها ما يربو على اثني عشر كيلومتر مربع "وتعتبر منطقة مليلية من أعرق المناطق المغربية نظرا لاكتشاف آثار بها يرجع تاريخها إلى ما بين: 4000 و4500 سنة، فهي من أقدم ما خلفه الإنسان في القارة الإفريقية، وقد عثر في المغارة الواقعة قرب حي الدستور في طريق (فرخانة) على بقايا هياكل عظمية بشرية ومواد خزفية، ربما رجعت – حسب بعض التقديرات – إلى أوائل عصر البرونز. والواقع أن تاريخ مليلية وكذلك سبتة التي لا ينفصل تاريخهما الواحدة عن الأخرى يرجع لعهد الفينيقيين الذين جعلوا منهما مرحلتين في مسارهم نحو السواحل الإفريقية في المحيط الأطلسي. وكان تأسيس مليلية باسم (روسادير RUSADIR) (رأس الدير الفينيقي) يدخل ضمن خلق مراكز حضارية فينيقية على الساحل المتوسطي، وهي التي ستتحول فيما بعد إلى حضارة بونيقية بعد سقوط الدولة الفينيقية في شرق البحر الأبيض المتوسط ... وكان القوط آخر من ملك العدوة الشمالية للبحر المتوسط طوال نحو أربعمائة سنة حسب ابن خلدون، ووصل موسى بن نصير إليها عام 710م/92هـ"(2).

وتحيط بمدينة مليلية جماعة فرخانة، بالإضافة إلى جماعتين هما: بني انْصارْ وبني شِيكِرْ وهي كلها قبائل ريفية بربرية، كما أن لها سبعة أبواب للدخول إليها خمسة من بين هذه الأبواب مغلقة بصفة دائمة وهي: باب رُوسْتِرُوغُودُو وباب بَارْيُو تشِيكُو وباب مَارِي وَارِي وباب بني شِيكِرْ وباب أيَاسينَا، وبالإضافة إلى هذه الأبواب الخمسة هناك باب فرخانة التي تفتح نهاراً فقط وباب بني انصار المفتوحة باستمرار وبصفة دائمة والمؤدية إلى مدينة الناظور.

مليلية بعد الفتح الإسلامي


شملها الفتح الإسلامي للمغرب، ورحبت كباقي مدن المغرب بالفاتح الجديد، واعتنق سكانها الإسلام، وأصبحت منذ ذلك التاريخ تحمل اسم (مليلية). استقر بها في القرن الأول للهجرة أمراء بني يفرن، ثم جدد بناءها موسى بن أبي العافية، كما احتلها أمويو الأندلس سنة 926م، ثم امتلك يوسف بن تاشفين أمير المرابطين جميع بلاد الريف من مليلية إلى سبتة من حيث زحف عام 479هـ نحو الأندلس ليحقق انتصاراً على النصارى في معركة الزلاقة الشهيرة. كما أنشأ بها الموحدون والمرينيون عدة منشآت.

وقد ورد ذكرها عند البكري والحسن الوزان (ليون الإفريقي) والزياني وغيرهم من جغرافيي المغرب والأندلس. فقد جاء في كتاب: "المغرب في ذكر إفريقيا والمغرب" أن مليلية مدينة مسورة بسور حجارة. وداخلها قصبة مانعة، وفيها مسجد جامع وحمامات وأسواق. وأن عبد الرحمن الناصر قد احتل المدينة سنة 314هـ/926م.

وكانت لمليلية وظيفة تجارية، وتؤكد هذه الوظيفة، زيادة على الأسواق المشار إليها بعض القوانين الصارمة التي كان يخضع لها التجار الغير الأهليون، حيث أن هؤلاء كانوا بموجبها، موضوعين تحت مراقبة شديدة يقوم بها أحد سكان المدينة. والقوانين هذه تذكرنا من بعض الجوانب وإلى حد ما بالقوانين التي كان العمل بها جارياً ببيزنطة في نفس الفترة.

أما فيما يخص نشاط الميناء يكتفي البكري بالإشارة إلى هذا الأخير شبيه بالموانئ الأخرى الواقعة في المنطقة الساحلية من البحر الأبيض المتوسط وإنه (صيفي). وأن الميناء الذي يواجهه بالشاطئ الأندلسي هو مرسى مدينة (شلوبينة) وهي في الخرائط الحديثة تقع بين مدينتي (المُونِيكَارْ) و(مُوتْرِيلْ) الإسبانيتين. أما سكان هذه الناحية فهم برابرة من غساسة وهم من نفزاوة(3).

ويذكر الحسن الوزان في كتابه "وصف إفريقيا": بأن مليلية مدينة كبيرة قديمة، أسسها الأفارقة على رأس خليج بالبحر المتوسط وفيها نحو ألفي كانون، وقد كانت مزدهرة جداً لأنها كانت عاصمة المنطقة، ولها إقليم كبير ينتج كمية هامة من الحديد والعسل، ومنه اشتق اسمها مليلية الذي يعني العسل بالبربرية (تامنت) في لغة الأفارقة.

وفي القديم كان يصاد في المرسى نفسها صدف اللؤلؤ، وكانت مليلية حيناً من الدهر خاضعة للقوط، لكن المسلمين فتحوها بعد ذلك وهرب القوط إلى الأندلس التي تبعد عن المدينة بمائة ميل، وهو عرض البحر عن هذا المكان(4).

ويرى الباحث الأستاذ عبد العزيز بنعبد الله: أن مليلية لم تبرز طوال هذه الفترة كمرسى حربية وهي محاطة بموانئ على ساحل البحر الأبيض المتوسط لها أهميتها مثل ميناء (بني انصار) قرب مليلية الذي جهز ليصبح من أكبر موانئ المتوسط، وكذلك المرسى الذي أطلق عليها الأتراك اسم (الميناء الجديد وهي حصن (مَارْتْشِيكَا) وتوجد مرسى ثالثة هي مرسى (غساسة) التي كانت ترسوبها أساطيل الأندلس الواردة إلى المغرب. وتوجد بجانبها مرسى (هرك) وهي من مراسي (نكور) و(مرسى ورك) التي تبعد عن مليلية غرباً بخمسة عشر كلم. تتوفر على ملاحات كانت تستخرج منها في الماضي أملاح تنقل إلى قبائل الريف بحراً عن طريق الميناء المذكور.

أما مرسى مدينة الناظور الواقعة على بعد أميال من مليلية فإنها تشكل مع المراسي المذكورة طاقماً سياحياً واقتصادياً بليغ الأهمية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، يعزز منطقة مليلية التي تزخر بالمراكز التجارية والصناعية، وخاصة منها مصانع الأسماك. وتشكل التجارة والصيد البحري عماد الاقتصاد في المدينة(5).

مليلية والاحتلال الإسباني


لم يكد الإسبانيون ينهون ما يسمونه بحملة استرجاع الأندلس بسقوط مملكة غرناطة يوم ثاني يناير 1492م في أيدي "الملكين الكاثوليكيين" حتى شرعوا يغيرون على الشواطئ المغربية والعمل على الاستقرار بها عملا بوصية الملكة "إزابيلا" حتى لا يعود المسلمون إلى فتح الأندلس مرة أخرى. وكانت مملكة البرتغال قد شرعت حينذاك تنافس الدولة الإسبانية الناشئة في حملة الاعتداء على المغرب. وقد استطاع ملك البرتغال في معاهدة: ALCAGAVAS المبرمة يوم 4 سبتمبر 1479م أن يحمل إسبانيا على اعتبار مليلية جزء من المملكة المغربية بعد أن كانت تعتبرها تابعة لمملكة تلمسان. وكان السلطان محمد الشيخ الوطاسي قد اتفق مع سلطان تلمسان على أن يهجر مدينة مليلية إثر الخلاف المحتدم الطويل الذي نتج بينهما حول ملكيتها. فاستغل الإسبانيون هذا الخلاف وما نتج عنه فاغتصبوا مليلية في 17 سبتمبر 1497م، وفتح الاحتلال الإسباني للمدينة باب الصراع بين السكان (الريفيين) والإسبان والذي ظل سجالا بينهم وأثر على حياتهم اليومية.

وما أن نزل الجنود الإسبان بهذه المدينة حتى بدأ المغاربة سلسلة المحاولات لاسترجاعها دون أن يكتب لها النجاح أبداً حرباً وسلماً. وقد ضرب الحصار على المدينة بصفة تكاد تكون مستمرة خلال ما يزيد على أربعة قرون.

ففي سنة 972هـ/1564م قاد المجاهد المرابطي محمد الكزنائي مسيرة شعبية سلمية نحو مليلية من أجل رد التحدي الإسباني وصيانة المنطقة من تكريس الاحتلال والتوسع. وظل المغاربة خلال القرن السابع عشر الميلادي يقومون بعدة أعمال عسكرية تتفاوت خطورتها وأهميتها. فقام جيش السلطان إسماعيل العلوي بمحاصرة المدينة حولين كاملين في أعقاب القرن السابع عشر، إلا أن متانة التحصينات حالت دون تحقيق الانتصار والتحرير. وكثيرا ما رددت المراجع الإسبانية أن مليلية لم تشهد حصاراً أعنف مما عرفته أواخر القرن السابع عشر، وأشارت بالذات إلى سنتي 1678م و1679م معلنة عن سقوط سلسلة من الأبراج الهامة، وتراجع الإسبان خلال هذه المدة إلى أسوار المدينة القديمة.

أما المحاولة الثانية لاسترجاع مليلية فكانت في عهد السلطان محمد بن عبد الله، وذلك خلال سنة 1771م ثم عام 1774م بعد ذلك. ولكنها انتهت بعقد الصلح وعدم الاعتداء في 30 ماي 1780م وبذلك استمر احتلال إسبانيا للمدينة مرة أخرى، لأن سيطرة الأسطول الإسباني على البحر ضمنت تمويل المدينة بالإضافة إلى نجاحه في الحيلولة دون وصول الذخيرة والعتاد إلى المغرب من الخارج. ولكن المغاربة لم ييأسوا من الجهاد فقاموا سنة 1844م بمهاجمة المدينة، ومع ضعف السلطة المركزية وجهت الحكومة الإسبانية إنذاراً إلى السلطان تطالبه بوقف أعمال "الاعتداء" حسب تعبيرها وبتخويل إسبانيا أرضاً تمكنها من ضمن الدفاع عن المدينة بالإضافة إلى إجبارها على إرسال كتيبة من القوات النظامية لتحول بين القبائل الريفية وبين مواصلة هجماتها على المدينة(6).

مليلية : المقاومة والتصدي


في سنة 1893م نشبت الحرب المعروفة (بحرب مليلية) التي كانت بداية مرحلة جديدة في تاريخ المدينة اقترنت بتطورها ونموها. وفي سنة 1909م هاجم أهل الريف على أحواز مليلية والسكة الحديدية التي مدها الإسبانيون لحمل ما يستخرجونه من مناجم الحديد لتصديره من مينائها الهام "وكان رئيس المجاهدين الشريف محمد أمزيان بطل الريف الأول، قد أصدر أوامره بالهجوم على العمال الإسبانيين الذين كانوا يقومون ببناء الجسور ومد طريق السكة الحديدية، فصدع بالأمر الشيخ المختار بن بوعرفة البويفروري ومعه نحو خمسة وعشرين من مختلف رجال قبائل "قلعية"، وهو أول اصطدام وقع بين المغاربة الريفيين والإسبان، فقتلوا البعض وجرحوا البعض وقبضوا على البعض وفر الباقون إلى مليلية"(7).

أما الهزيمة الكبرى التي مني بها الإسبانيون طيلة احتلالهم لمليلية فقد نزلت بساحتهم سنة 1921م في ساحة "أنوال" أو كارثة أنوال كما يسميها المؤرخون الإسبان(8). وانهيار القيادة العليا بمليلية في هذه السنة بعد هجوم القائد البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي عليها فكبدها أفدح الهزائم التي شهدها الجيش الإسباني بتراب المغرب على اختلاف عصور وجوده بهذه الديار وتفاوتها(9). إذ تمكن هذا الزعيم من ملاحقة القوات الإسبانية انطلاقا من أنوال إلى جبل العروي على مدى 70 كلم، كان خلالها المنهزمون مرتبكين وهاربين في شكل فوضوي بدون رد فعل أو مقاومة، ورغم محاولة الجنرال (نافرو) المسؤول الثاني بعد (سلفستر) الذي انهزم في أنوال إيقاف هذا الاندحار العام بجمعه لحوالي ثلاثة آلاف جندي بمركز العروي فإنه فشل بعد حصار المجاهدين لهذا المركز وقضائهم نهائيا على هذه المحاولة اليائسة وحرروا باقي المناطق والمراكز إلى أن وقفوا عند أبواب مليلية نفسها. وكانت الأوساط الإسبانية تترقب في ذعر وهلع بين الفينة والأخرى دخول المجاهدين إليها وتحريرها. وقد وصف المقيم العام الإسباني (بيرنكير) في قصته (مليلية المرغوب فيها) الأجواء العامة للمدينة قائلاً: في صباح 23 يوليوز 1921م نشر أحدهم خبر زحف المغاربة على الطريق الأمامي للناظور واستعدادهم للدخول إلى مليلية، وكانت بعض الدقائق كافية لينتشر الخبر في كل أرجاء المدينة، مما أدى إلى حركة لا تنسى، في الشوارع يهرع الناس طائشين طالبين ملجأ بالقلعة القديمة... الناس يهرعون ويصرخون في الشوارع وكأن المتمردين قادمون(10).

من خلال هذا النص يظهر جلياً أن ميزان القوى كان لصالح محمد بن عبد الكريم الخطابي والمجاهدين لتحرير مليلية، إذ أن دخولهم إليها كان مرتقباً ومنتظراً من قبل الإسبانيين الذين كانوا ينظرون إلى البحر استعداداً للهروب باحثين عن باخرة تقلهم إلى مدينة مالقة الإسبانية. إذاً فالسؤال المطروح هو لماذا لم يقدم المجاهدون وزعيمهم على تحرير مليلية ؟ سؤال بقي معلقاً بدون جواب شاف رغم التبريرات والتصريحات والافتراضات، ربما قد يكشف عنه الزمن في المستقبل !

وهكذا نرى أن قضية الوجود الإسباني بمليلية كانت مطروحة بحدة على المستوى الشعبي والمركزي، ولم يكن الاختيار سوى حل واحد وهو : الحث على الجهاد ومحاولة التخلص من الاحتلال وصد الاستعمار، وقد عانت إسبانيا الويلات من جراء هذا النوع من النضال، ولم يهدأ لها بال إلا بعد إبرام المعاهدة السرية الإسبانية الفرنسية لتقسيم المغرب وفرض الحماية عليه سنة 1912م والتي استمرت قرابة نصف قرن، عرفت فيها إسبانيا أحداثاً مهمة وتحولات خطيرة (المقاومة المغربية في الشمال، انهيار الملكية، قيام النظام الجمهوري، الحرب الأهلية (1936 – 1939م) استبداد فرانكو بالحكم، عودة الملكية في شخص الملك الحالي خوان كارلوس).

مليلية وتجدد الصراع بين المغرب وإسبانيا


ولكن المغرب ما فتئ يطالب باسترجاع مدينة مليلية وشقيقتها سبتة سواء في المحافل الدولية أو فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية بين البلدين إلا أن إسبانيا تمعن في تجاهل الطرح المغربي، ويرى الباحث محمد العربي المساري أن المجادلين من الجانب الإسباني في حق المغرب في استرجاع المدينتين يستعملون حججاً متنوعة أشهرها نكتة طالما لاكتها الألسن مفادها أن المدينتين إسبانيتان (من قبل أن توجد الدولة المغربية) والواقع يدحض ذلك بطبيعة الحال، لأن إسبانيا في حد ذاتها كمملكة موحدة لم تظهر إلا في نهاية القرن الخامس عشر. أما المغرب ككيان دولي فهو يسبق ذلك بستة قرون(11).

والشيء الغريب في موقف الحكومة الإسبانية، أنها تنظر بمنظارين مختلفين لمشكلة جبل طارق من جهة ومشكلة مدينتي مليلية وسبتة من جهة ثانية. ففي الوقت الذي ترفض فيه إجراء استفتاء في جبل طارق وتصر على إعادته رغماً عن رغبة أهله إلى إسبانيا على أساس أنه جزء من أرضها، ترفض في الوقت نفسه إعادة المدينتين المغربيتين إلى الوطن الأم المغرب بحجة أن ذلك مخالف لرغبة السكان.

وكان المغرب قد اقترح في يناير 1987م على إسبانيا تكوين خلية للتفكير في مشكل الجيوب التي لا زالت تحتفظ بها هذه الأخيرة على السواحل المغربية الشمالية. وفي صيغة الاقتراح هذا جاءت عبارة : الحقوق الثابتة للمغرب والمصالح الحيوية لإسبانيا في المنطقة. إشارة للإطار الذي يجب أن يوجد فيه حل لهذه الجيوب.

وفي نهاية مؤتمر الدار البيضاء الاقتصادي الدولي، صرح رئيس الحكومة الإسبانية السابق (فيليبي غونثاليث): إننا لا نستبعد أبداً الإشارة إلى الحوار. ولا تعني (الخلية) شيئاً غير هذا، موضوعاً للحوار، ما لا نعرفه هو إن كانت معاهدة صداقتنا تستوعب حواراً يسمح أيضا بالتعاون مع مدينتي مثل سبتة ومليلية، وهذا شيء يمكن أن نأخذه فـي الاعتبار(12).

أما الأديب الإسباني الكبير خوان غويتسولو فقد صرح سنة 1987م لصحيفة الاتحاد الاشتراكي المغربية بما يلي: "إن معرفة الماضي هي من الأهمية بمكان للحكم على الحاضر للوقاية من المستقبل لأن من لا علم له بأخطاء الماضي محكوم عليه بارتكابها من جديد، ومن ثمة فإنه من الضروري التوفر في آن واحد على معرفة تاريخية ونظرة تاريخية ولو كانت وجيزة للإلمام بهذه المشاكل بكيفية تعريفية وعدم ابتاع سياسة النعامة التي كنت قد أدنتها ونددت بها منذ سنوات، وفي الوقت الذي لم يكن يوجد فيه، ظاهرياً أي مشكل في مدينتي سبتة ومليلية، إذ ذاك، كنت أردد أن تلك الظروف السياسية كانت ملائمة لفتح مفاوضات على المدى البعيد وبدون أي استعجال، حول مستقبل هذه الجيوب التابعة للسيادة المغربية. وجدير بالذكر أن اقتراحي هذا كان قد لقي في تلك الآونة عدة عراقيل نتيجة الضجة السياسية التي أثارتها الأحزاب الإسبانية"(13).

مليلية : الواقع والحلم

إن الزائر للمدينة لابد وأن يمر عبر إحدى النقطتين الحدوديتين: بني إنصَار – أو فرخانة. وعلى الضفة الأخرى من الحدود تنتشر العديد من المتاجر الكبيرة لبيع المواد الغذائية والآلات الإلكترونية المستوردة من دول شرق آسيا، وذلك تسهيلاً لعملية التهريب وتجنباً للاكتظاظ وسط المدينة التي شهدت في السنوات الأخيرة حركة عمرانية غير عادية وخصوصاً القسم الأوربي منها. أما الأحياء التي يقطنها المغاربة وتوجد فـي المدينة القديمة (M.VIEJA) فإن نصيبها الإصلاح والترميم فقط. وقد سمح لهم بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية الخامسة 1997م ببناء منازلهم حتى ولو كانت عشوائية بينما كان يمنع عليهم ذلك في بداية السبعينات بدعوى أن ذلك قد يساهم في تكريس الطابع المغربي للمدينة‍‍!

وتشكل ساحة إسبانيا الدائرية الشكل القلب النابض للمدينة ومنها ينطلق الشارع الرئيسي الذي يصل إلى الحي التجاري المغربي، والمعروف بحي RASTRO الذي يقطنه المغاربة ويؤمه التجار المسلمين القادمين من مدينة الناظور أو من الجهات القريبة من مليلية، حيث تكثر المحلات التجارية وبائعي الأرصفة الذين يعرضون بضاعتهم على المارة‍!. كما يوجد بالمدينة القديمة مسجدان كبيران وحوالي خمسة أو ستة مساجد صغيرة منتشرة في الأحياء المغربية ذات الأزقة الضيقة والخالية من أي مظهر من مظاهر الفن المعماري العربي والإسلامي، كما توجد مقبرة للمسلمين ومدرسة إسلامية يتناوب عليها معلمون مغاربة تعينهم وزارة التربية المغربية.

إن أهم ما يميز المدينة القديمة هو وجود أسوار وبروج قديمة والقصبة التي تعتبر أول مكان تم احتلاله سنة 1497م. وتشكل الساكنة ذات الأصل الإسباني (ستون ألف نسمة يكون الجنود ورجال الأمن الإسبانيين نسبة هائلة منهم مقابل ثلاثين ألف نسمة من المغاربة) إضافة إلى التجار الهنود واليهود الذين يشكلون جالية هامة بالمدينة.

هذه هي مدينة مليلية المغربية السليبة، وقد احتفل مغتصبوها بالمائة الخامسة منذ أن وطئت قدمهم أرضها. إنها الواقع والحلم! الكائن والممكن والمستحيل! ونردد مع الشاعر المغربي علي الصقلي على لسان ابن مليلية هذه الأبيات:

أمي، وليس بقلبي
ولا سنىً ملء عيني
ولا بهاء تصبَّى

يفيض غير هواك
يشع مثل سناك
روحي كسحر بهاك

ما لــي أراك وما لـــوَّحــت بـبـشـرى يــداك؟

ولا وشت ببريقٍ
تراك تطوين نفساً

من الرضى مقلتاك
على جروح؟ تراك؟

* * * * * * * * *

غداً أراك وقد أيْنَعَ الهنا من ذَرَاكِ
وسار يسحب ذيل العلى كأمس فتاكِ
وليس ما قد تردى إلا نسيجَ عُلاَكِ
عهد السماء على كُلِّ مغربي فداكِ

هوامش

v ملاحظة:

(مليلة) هو الاسم المغربي الأصيل الذي عرفت به في جميع المصادر المغربية والأجنبية والخرائط الأوربية إلى غاية القرن السابع عشر حيث بدأ التحوير بصفة رسمية فأصبحت (مليلية) وهو الاسم الذي فضلنا كتابته كما ينطق به اليوم.

1) انظر مجلة (البحث العلمي)، ع.35، ص. 263.

2) انظر صحيفة (العلم المغربية، ع.6، نونبر 1994، ص.4. (مقال عبد العزيز بنعبد الله عن (سبتة ومليلية).

3) نقلا عن صحيفة العلم، نفس المرجع، ص 4.

4) انظر كتاب: "وصف إفريقيا"، ج.1، ص 265 و266.

5) صحيفة العلم، مرجع سابق، ص 4.

6) انظر مجلة (دعوة الحق) المغربية، ع.8، السنة 3، 1960م (مليلية في تاريخ المغرب القديم والحديث) الأستاذ عبد اللطيف الخطيب، ص 32.

7) انظر كتاب: "الكشف والبيان عن سيرة بطل الريف الأول" للأستاذ العربي الورياشي، ص 119.

8) انظر كتاب الصحفي الإسباني :

Manuel Leguineche, Annual (1921) – Madrid – 1996.

9) انظر دراستنا عن معركة (أنوال) في مجلة "الفيصل"، ع.338/2004.

10) لماذا نطالب باسترجاع سبتة ومليلية، ذ. محمد ابن عزوز حكيم، ص 83، تطوان 1979م.

11) انظر صحيفة (القدس) ع.18 نونبر 1993م، ص 11.

12) انظر الجريدة الإسبانية: EL MUNDO، ع.3 نونبر 1994م، ص 1.

13) عدد 26 فبراير 1987، ص 8.

أجرى الاستجواب الأستاذ بوغالب العطار.

14) مجلة المناهل، ع.25، دجنبر 1982، ص 208 – 210.

المراجع

1) المقاومة المغربية للوجود الإسباني بمليلية (1697 – 1859م) الدكتور حسن الفكيكي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1997م.

2) المقاومة الريفية، د. محمد خرشيش، سلسلة شراع، ع.22، 1997م.

3) لماذا نطالب باسترجاع سبتة ومليلية، ذ. محمد ابن عزوز حكيم، ج.1، تطوان 1979م.

4) مجلة حفريات الريف، عدد 2، 1999م.

5) Historia de Marruecos, Manuel Pablo Castellanos. Madrid – 1916.

6) Marruecos – Tomas Garcia Figueras – Madrid – 1939.

7) Ceuta y Melilla, Doble Vertiente de un problema de descolonizacion, Documento – 2.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)