تطور الثقافة الرأسمالية وتأثيرها على الثقافة العربية

في كتابه الدولة المستوردة " L’état importé" يرى برتران بادي أن انتصار الرأسمالية كان انتصاراً إعلامياً،فالنظام الرأسمالي لم ينتصر و إنما هوليوود هي التي انتصرت[1].وهو يوسع مفهومه للأعلام ليقترب به من الثقافة كمفهوم أعم وأشمل ، وهو ما أهمله كثيراً من الباحثين في النموذج الرأسمالي، البعد الثقافي لهذا النموذج نشأته وتطوره، اطروحاته ومردوداته وتأثيره علينا وعلى ثقافتنا العربية وكيفية التفاعل معه. فالبعد الثقافي في الوطن العربي من وجهة نظري هو الرابط الأول والعامل المحرك في المنطقة العربية، فالثقافة العربية كما يقول د. عابد الجبري" يمكنها إن ارتفعت أن ترتفع بالوطن العربي من مجرد رقعة جغرافية إلى وعاء للامة العربية"[2].

إن التحول الذي شهدته المجتمعات الرأسمالية في القرن قبل الماضي من النظام الإقطاعي إلي النظام الرأسمالي لم يشهد قطيعة بين النظامين إنما كان تطوراً طبيعياً في سياق تاريخي متصل لا يمكن إغفال تأثيراته وموروثاته، ولعل أهم ما ورثته الرأسمالية ثقافياً من النظام الإقطاعي مفاهيمه عن التعددية والطبقية والعبودية وقد طورت الرأسمالية من مفهوم التعددية إلى حماية حقوق الفرد وطرحت من خلاله مفهوم الديمقراطية الغربية فالصراعات بين الطبقة الإقطاعية والملكية من جانب والبرجوازية والشعب من جانب أخر دون أي تدخل خارجي في ظل نظام رأسمالي استعماري جعلت الديمقراطية هي مطلب أساسي لنظام يحاول الخروج من عباءة الإقطاع ، وهو ممالا شك فيه تطور إيجابي[3].إلا أن هناك موروثات سلبية لم يستطع النظام الرأسمالي محوها أو طمسها ولعل أبرزها النظرة الطبقية بين نبلاء وعامة وهو ما انعكس في النظرة الطبقية للثقافة الغربية سواء في بنيتها الداخلية أو في تعاملها مع الدول الأخرى خاصةً التي كانت تحتلها، كما كان هناك نظام العبودية وهو ما يمكننا اعتباره نظام اقتصادي أخذت به الرأسمالية في بدايتها لحاجتها اقتصادياً له ثم قامت بعد فترة بالتخلص منه . إلا أنه ظل حتى يومنا هذا متمثل في العنصرية الشديدة التي تظهر بشكل بارز في المجتمعات الغربية دون غيرها وخاصة إذا نظرنا لقضية الهجرة إلي هذه الدول واستغلال المهاجرين في الأعمال الشاقة بأجر زهيد دون أدنى حقوق لهم،و هو استمرار بشكل أو أخر للعبودية التي سادت في ظل النظام الإقطاعي ولم يستطع النظام الرأسمالي تطوير أو تهذيب هذين المفهومين بالرغم من طرحه لفكرة الحراك الاجتماعي و إلغاء النظام الصريح للعبودية.ظل النظام الرأسمالي ثقافياً نموذج مختلط معبر عن نقله مرحلية في ثقافة الحضارة الغربية إلى أن ظهر النموذج الثقافي الاشتراكي بعد الثورة البلشفية في الاتحاد السوفيتي وخوض النظام الرأسمالي للحروب العالمية. ثم ظهور المنظومة الشيوعية ، وحركات التحرر في العالم الثالث وانتهاج معظمها للفكر الاشتراكي كنموذج ، فتحولت الثقافة الرأسمالية إلى ثقافة بديلة في ظل الحرب الباردة تطرح مفاهيم ترتكز في الأساس على نقد النموذج الثقافي الاشتراكي وطرح بدائلها و إخفاء جوانب الضعف فيها فكان مفهوم الحرية واحترام الفرد هو خير نواه لنموذج ثقافي تطرحه في وجه النموذج الثقافي اليساري . و لكن يظل السؤال هل النموذج الثقافي الرأسمالي نموذج متكامل، وهل يمكن لمفهوم الحرية والديمقراطية أن يخفيا العنصرية والطبقة في هذا النموذج وهل يمكننا في الوطن العربي نقل هذا النموذج أو الاقتباس منه بمعنى أخر هل هو نموذج صالح لنا ؟ وهو ما يدفعنا قبل الإجابة على هذه التساؤلات إلى البحث عن معنى الثقافة وتعريفها فالثقافة مثل معظم المفاهيم التي تدرسها العلوم الاجتماعية لها تعريفات عديدة يجب علينا قبل البحث فيها توضيح المعنى المراد به للمفهوم في إطار بحثنا. إن البحث الايتمولوجي لمفهوم الثقافة يساهم إلى حد بعيد في فهم الموضوع بشكل عام دون تحديد مضمون هذا المفهوم وهو ما قد يجعل الثقافة تشمل كل شئ في حياتنا، لذلك فالتعريف المصطلحي قد يكون في هذه الحالة اكثر دلالة. وقد اختلف المفكرين بين من يعرفه على انه السمات المميزة لمجتمع ما و آخرون يرونه مجموع التراث الاجتماعي للمجتمع[4].وقد عرفه اليونسكو على انه" جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمع بعينه أو فئة اجتماعية بعينها وهي تشمل الفنون والآداب وطرق الحياة كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان والقيم والتقاليد والمعتقدات"[5] وهذه التعريفات تنحي كلها إلى أن الثقافة هي ما يميز بين مجتمع و آخر وهي بذلك تسقط أجزاء من عقل أي أمة لا لسبب إلا انه يتفق مع باقي الأمم والمجتمعات 0 أي أنها تنفي بشكل أو بأخر فكرة التواصل الحضاري الذي خلف العديد من المبادئ الثقافية التي لا تختلف فيها الثقافات البشرية بشكل عام.كما شهد مفهوم الثقافة تطوراً في العقدين الماضيين لا يمكن إغفاله بداية من عودة مصطلح البعد الثقافي في التنمية بعد الأزمات الحادة التي شهدتها دول العالم الثالث خاصة في أفريقيا في مطلع الثمانينات مروراً بمؤتمر السياسات الثقافية في المكسيك عام 1982 ومفاوضات الجات 1993 ومحاولات فرنسا من خلالها طرح مبدأ الاستثناء الثقافي وصولا إلى فكر ة العولمة وبروز البعد الثقافي في هذا المفهوم لذلك اصبح من الملح بذل جهد منهجي خاص لتحقيق مبادرات معرفية في المجالات التي يغطيها مضمون الثقافة[6].فالثقافة ليست مفهوم عام يقتصر على المجتمعات وما يميزها من غيرها كما سبقت الإشارة فالكل فرد ثقافته التي تتمثل في رؤيته الفكرية للعالم وسلوكه العملي والاجتماعي والوجداني فيها، كما أن لكل طبقة مثقفيها كما أشار جرامشي في فكرة المثقف العضوي وهو ما يمكن أن نطبقه على المجتمعات بشكل أوسع بحيث تصبح الثقافة هي الرؤية العامة للمجتمعات والسلوكيات السائدة فيها، أي أنها التركيبة العقلية السائدة في المجتمع والتي تحكم رؤيته بشكل عام وهو ما يعطي للثقافة بعدها العام ويوضح مضمونها بشكل محدد أي انه لا ينفي خصوصيتها كما لا يخل بالجوانب المشتركة بين مختلف الثقافات[7].

وقد واكب التطورات في تعريف مفهوم الثقافة تطور هام للثقافة الرأسمالية حيث مثلث من وجهة نظر معتنقيها ومبشريها الثقافة الخاصة بالمنظومة المنتصرة في الحرب الباردة وقد أدي ذلك إلى ظهور فكرة البعد الثقافي للتنمية في ظل الإطار الشامل للعولمه التى أصبحت أمرا واقعاً واختلطت باقتصاد السوق ولعل ابرز دليل على ذلك ما قاله "ميشيل كامديسوس" المدير العام لصندوق النقد الدولي، الذي يطلب من كل الشعوب أن تجري التجارة في عروقها مجرى الدماء حتى لا تكون هناك ثقافة متناقضة مع الرأسمالية. كما ظهرت كتابات مبشرة بهيمنة الثقافة الرأسمالية مثل أطروحة Jean Lardieur" أو مروجة للثقافة الرأسمالية على أنها البديل الصالح لكل المجتمعات مثل كتابات" Guy Sorman"[8] وقد استخدمت هذه الكتابات على اختلافها المفهوم الثقافي كأساس لعملية التنمية فركزت على آن الثقافة الرأسمالية هي ضرورة لنجاح أي تجربة تنموية وقد توافق مع هذه الحملة نشاط ملحوظ لاعتماد نظرية الانتشار الثقافي ومؤداها أن الثقافة تتبلور في مجتمع ما و تنتشر فى المجتمعات الأخرى.وتدعو هذه النظرية إلى ضرورة الاحتكاك والتواصل ومحاكاة الثقافات غير المتطورة- من وجهة نظرها الثقافات غير الرأسمالية - للثقافة الأكثر تطوراً - الثقافات الرأسمالية- وبالرغم من الانتقادات العديدة التي توجه لهذه الكتابات والمفاهيم إلا انه مما لا شك فيه أنها شهدت انتعاش وانتشار في التسعينيات حيث كما سبق الذكر اعتبرت نفسها المنتصرة في الحرب الباردة وقد أدى هذا الشعور في داخل المجتمعات الرأسمالية إلى سقوط حاجز الخوف من وجود ثقافة بديلة يمكن آن تحل تدريجياً أو بشكل ثوري محل الثقافة الرأسمالية التي تخدم في الأساس أهداف و مصالح الطبقات المسيطرة في هذه الدول، وبسقوط هذا الحاجز بدأت الثقافة الرأسمالية في التطور بشكل اكثر شراسة ووحشية مع إسقاط كل التطورات التي كانت قد شهدتها في مرحلة الحرب الباردة للحد من الآثار السلبية لها. ولعل ابرز الشواهد الدالة على ذلك عودة العنصرية إلى الازدياد بشكل ملحوظ وقد ظهر ذلك في عودة سوء المعاملة من جانب الشرطة للمواطنين السود في الولايات المتحدة وهو ما كان قد شهد انحصار في الفترة السابقة ،و ظهور النازيين الجدد في ألمانيا و اعتداءاتهم على الأتراك، و سوء معاملة العرب المقيمين في فرنسا. كما بدأت تظهر تلويحات دانمة للمهاجرين بصدور قوانين قد يكون من شأنها ليس فقط الأضرار بمصالحهم و أوضاعهم بل والإساءة إلى كرمتهم ، كما شهدنا في قانون الهجرة الذي كان قد أعده جيبية رئيس وزراء فرنسا السابق.أو كما يبرز في القانون المعروض الآن أمام البرلمان الإيطالي . كما بدء التراجع عن الضمانات الاجتماعية والمفاهيم التي آخذت بها الرأسمالية في ظل مفهوم دولة الرفاه وقد جاء هذا التراجع مرتكز على بعدين أولهما اقتصادي والذي يركز على ضرورة ذلك لإحداث تعديلات هيكلية اقتصادياً والثاني ثقافي يقوم على فكرة أن العاطلين و المحالين على المعاش والعاجزين هم عبء على المجتمع وأن الفقر هو خطأ الفقراء مع إغفال أي أسباب مجتمعية لذلك ، ومحاولة إعادة صورة العاطل على انه كسول ولا يريد أن يعمل وانه يعيش على حساب باقي أفراد المجتمع وغيرها من الأفكار التي كانت محجوبة خلال العقود الماضية. وكل هذه الاطروحات والمضامين تصب في النهاية في نفس فكرة فوكوياما وهي نهاية التاريخ لصالح المنظومة الرأسمالية وأنه لا بديل عن نشر هذه الثقافة في مختلف المجتمعات وهو ما يثير قضية نقل الثقافة والانتشار الثقافي والغزو الإعلامي والاختراق الغربي وغيرها من المسميات التي تحتاج إلى بحث وتدقيق ولكن ما يلفت النظر هنا وبشده هو محاولة التنميط الثقافي أي نقل الثقافة الرأسمالية إلى وطننا كنموذج لا يقبل إعادة البلورة آو الاقتباس ويرفض غير المحاكاة كأسلوب للنقل ، ومما لا يخفي على أحد أن ذلك سيؤدي إلى ترويج بضائع الغرب الفكرية والتجارية و إعادة السيطرة على مقدرات هذا الوطن وغيره من المجتمعات التي تمر بنفس الأزمات في الفترة الحالية.بالإضافة إلى هدم هذه الأمم ثقافياً وحضارياً حيث لن تصبح غير نمط مشوه للمجتمعات الرأسمالية وهو ما عبر عنه سيرج لاتوش في كتابه تغريب العالم بالحديث عن الكم والكيف في نقل المعلومات عن طريق المؤسسات الإعلامية الرأسمالية فقال "أنه لا يمكن إلا أن يشكل رغبات وحاجات المستهلكين ، أشكال سلوكهم و عقلياتهم ، مناهج تعليمهم وأنماط حياتهم وتعد هذه الدعاية الخبيثة هبة لا تقاوم تشهد على الحيوية الطاغية للمجتمعات العالية التطور، التي تخلق كل إبداع ثقافي لدى أسرى السلبيين للرسائل"[9] وقد بنى سيرج لاتوش هذا الرأي على مفهوم اقرب إلى مفهوم التبعية حيث ينطلق فيض ثقافي من المركز إلى الأطراف وان كان لم يربط بين هذه المنظومة التبعوية والنظرية الاقتصادية للتبعية أي أنه لم يوضح العلاقة بين الاقتصاد والثقافة ، وان كنت أرى أن نظرية التبعية نظرية لا تغفل الجانب الثقافي بل انه يحتل جانب هام منها حيث أن السبيل إلى استمرار حالة التبعية بين دول المركز ودول الأطراف هو ربط الأطراف بالمركز اقتصادياً ، وثقافياً عن طريق تنميط دول الأطراف بحيث يخلق مجتمعات يسيطر عليه الفكر الاستهلاكي مما يجعلها مشوهه غير قادرة على الإبداع و إظهار هويتها لمواجهة دول المركز أو لإقامة مشاريع مستقلة عنه فقد أثبتت الخبرة التاريخية انه لا غنى عن البعد الثقافي لأي مشروع وطني مستقل.

إذا ألقينا نظرة على الحالة الثقافية العربية الحالية سنجد مظاهر عدة لأزمة ثقافية بعضها ينبع من مفهوم التبعية الثقافية وأخري تنبع من هيكل الثقافة العربية ذاتها والمجموعة الأخيرة تعود إلى أسباب سلطوية تتعلق بالأساس بالنخب الحاكمة في الوطن العربي .و يظهر ذلك في أن الأيديولوجية العربية المعاصرة نقلت الفكر الغربي دون تدقيق النظر في مضمون أو آثار ما ننقله و إلى أي فترة في الفكر الغربي تنتمي هذه الأفكار فعبد الله العروي يرى أن النقل من الغرب جاء في مرحلة الهبوط وليس مرحلة الصعود ويطرح بناء على ذلك تساؤل هام هو أي فكر ننقل ؟ وهل استوردنا المضامين الحقيقية أم قنعنا باستيراد المظاهر؟ وهذه التساؤلات تقود إلى قضية هامة هي قضية تشوه الأفكار المنقولة لاختلاف الطبيعة الاجتماعية[10] ولعل أبرز مظاهر التشوه في الأفكار هو سيادة الفكر الاستهلاكي في الوطن العربي بدلاً من ثقافة الإنتاج وهو ما بداء في السبعينات ووصل إلى درجة ملموسة في الثمانينات، ولعل هذا المظهر يوضح بجلاء علاقة التبعية الاقتصادية والتبعية الثقافية وأهمية الأخيرة لاستمرار الأولى بل وتدعيمها، ومثل هذه الثقافة تجعل هناك رباط ذهني بين معتنقيها والغرب ولا يخفي على الكثير منا الحلم الأمريكي الذي اصبح يراود كثير من مفكرين بل ومن الشباب أيضا كما أنها تؤثر بشكل مباشر في هياكل الإنتاج في وطننا وتجعله يتجه إلى إنتاج السلع الاستهلاكية على حساب السلع ذات الثقل الاقتصادي في عملية التنمية وهو بالضرورة يؤدي إلى زيادة الارتباط والاعتماد على الغرب.أما عن الأسباب النابعة من الثقافة العربية في ذاتها فيرجعها د. عابد الجابري إلى" أن ثقافتنا لم تستوعب بعد استيعاباً فاعلاً أسس الحضارة المعاصرة، أسسها العلمية والتقنية، لا على مستوى الفكر ... ولا على مستوى العمل ... وما نزال نعيش صدمة الحداثة على مستوى الفعل ورد الفعل الذين يحركهما التنافر والتناقض وليس التفاعل والتكامل إن هذا يعني آن ثقافتنا ما زالت محكومة إلى حد بعيد ببنى التقاليد الجامدة وان هذه الأخيرة لم تترك بعد مكانها لبنى حديثة قادرة على أداء وظيفة البني القومية"[11]. ويرجع د. حسن حنفي في بحثه الفكر العربي المعاصر الجذور والثمار أسباب الكبوة إلى عدم تطابق المنطلقات النظرية مع حجم تحديات الواقع وكأننا من" يصطاد بنبله أو كمن يفرغ محيط بكوب وتتعدد المحاولات وتفشل وتتسع الهوة بين المنطلقات النظرية والواقع العملي، فيفلت الواقع من إمكانيات الإدراك الذهني فتتحول المنطلقات النظرية إلى حالة من التجمد ما تلبس أن تحولها إلي عقائد". وإذا أضفنا إلى ذلك المحاولات المستمرة لتوحيد وتنميط القيم وتكريس الأوضاع السائدة والمعبرة عن مصالح الطبقة أو التحالف الطبقي الحاكم من رقابة على الحريات التي تصل إلى حد المصادرة والاعتقال تحت أي تهمة من الخيانة إلى الزندقة إلى غيرها من الأسباب التي تدعيها هيئات أو أفراد لتكريس وضعها المتميز والحفاظ عليه، وهو ما يدفع الأنظمة العربية إلى لجم المثقفين وشل نشاطهم واحتكار السلطة لوسائل الأعلام والتعليم والتثقيف عامة كل ذلك يصب في طبيعة سلطوية و هشاشة المشروعات التنموية وبهذا نرى أن السلطة مسئولة مسئولية أساسية بشكل مباشر عن مستوى الفكر العربي و تأزمه وإشكالياته.

ولعل كل هذه التحليلات لأسباب الأزمة سنجدها تنعكس كلها" في ثقافة يتصرف فيها الإنسان بفقر ويفكر بفقر أفكار تؤدي إلى فقر أكثر واحتياج للغير اكثر، بمعنى أخر هو مرض يصيب الاقتصاد ويصيب العقول ويصيب الخيال أيضا"[12]. ومظاهر هذه الأزمة عديدة ومتنوعة، ويمكن أن نرى ابرز ملامحها في قول د. محمد عابد الجابري عن سيادة القبلية في السلطة و الريعية في الاقتصاد والتعصب العقيدي في الفكر[13] أما على المستوى المجتمعي فيظهر جالياً في انفصال العلم عن الثقافة وعدم اندماجه في حياة المجتمع ولعل ابرز دليل على ذلك أن معظم معتنقي الأفكار المتطرفة في وطننا العربي نجدهم اكثر انتشاراً في كليات العلوم الطبيعية وذلك لأنها تعطي طلابها العلم دون الثقافة، كما تقدم العلم كقوانين مما يرسخ الدوجمائية والنظرة الأحادية المغلقة والشعور بامتلاك الحقيقة المطلقة مما يؤدي إلى التعصب والتطرف وهذا ينقل لنا بوضوح أن هناك أزمة بنيوية في الفكر العربي لا بد أن نتجاوزها بشكل واقعي ولا بد أن نتيقن للفرق بين الواقعية و الراهنية و الوقوعية، فالواقعية تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الواقع والمستجدات الدولية والإقليمية دون افتقاد البوصلة الهادية والمرجعية القومية من ناحية، وبين وقوعية تقوم على تهميش الذات والاستسلام للواقع والإعلان عن عجزنا الكامل عن ممارسة تقرير المصير[14]. و الراهنية التي لا تفرق بين ما هو آني وما هو ظرفي من ناحية وما هو آت أو مستقبلي من ناحية أخري[15] والنظرة الوقوعية هي التي تسيطر على الفكر العربي في المرحلة الراهنة فهي تقوم على الراهنية والاستسلام لها دون أي إمعان للنظر أو محاولة للفكاك من قيودها وهو ما يقود إلى حالة استسلامية تسقط فيها كل القيم والمسلمات دون مراجعة لأهميتها . فأخذت في الفكر العربي تستشري الاتجاهات القطرية ، الاتجاهات التي تزعم الليبرالية وتدعو للاندماج في نظام شرق أوسطي اندماجاً تابعاً بالضرورة للنظام الرأسمالي العالمي، إلى جانب تفاقم التوجهات اللاعقلية و اللاتاريخية و ارتباطهما بالدين والتعصب الديني الجامد وجموحه نحو الإرهاب، أضف إلى ذلك سيادة قيمة الاستهلاك على حساب الإنتاج وتزداد الخطورة في ظل ظاهرة تغيير بعض المثقفين والمفكرين لمواقعهم ومواقفهم الفكرية من نقيض إلى نقيض دون تطور واضح وسنراهم كلهم قد اتجهوا إما إلي يمين تطمئن إليه السلطة ، أو إلى التعصب الأصولي الطامح للسلطة.

هذه الحالة الثقافية التي يعيشها الوطن العربي الآن وارتباطه الشديد بثقافة وافدة بدأت تؤثر في المفاهيم الثقافية العربية بشكل مباشر وقد كان لها رد فعل غير مباشر متمثل في المجموعات الشعبية الواسعة التي ترفض هذه الأنماط الثقافية الوافدة والتي تتعارض في كثير من مبادئها مع القيم والمبادئ العربية والتي لم تجد في الفترة الحالية بديلاً سوى التيار السياسي الإسلامي، فخلقت هذه الحالة الثقافية شعبية التيار المتطرف في الوطن العربي فإذا كان قادة هذا التيار ورموزه سبب مباشراً لنكسة يونيو ومحاولات الحكومات العربية ضرب التيارات القومية واليسارية فيها فإن شعبيتهم تعود في الأساس لطرحهم أنفسهم كبديل عن الثقافة الرأسمالية. ولعل ابرز المشاريع الدالة على ذلك هو مشروع الشرق أوسطي والذي يظهر بعده الثقافي في سؤال بيريز لعصمت عبد المجيد في مؤتمر الدار البيضاء عن متى تنضم إسرائيل إلى الجامعة العربية؟ فجاء جواب عصمت عبد المجيد أن ذلك لن يحدث إلا حينما تقرر إسرائيل التحدث باللغة العربية وهو سؤال له دلالته فهو يعبر عن الطمع الإسرائيلي لإذابة الهوية العربية من خلال الهيئة التي ترمز لكيانها وجاء الرد يحمل معنى القطيعة وعدم الانتماء الإسرائيلي لتراثنا الحضاري / الثقافي العربي[16].و تعود جذور هذا المشروع إلى رؤية قيود تيدور هيرتزل لوضع الكيان الصهيوني في إطار العالم العربي فتحدث عن أهمية قيام كومنولث عربي يهودي بين إسرائيل والاقتصاديات العربية يتم بموجبه خلق مصالح اقتصادية متبادلة تسمح بدخول إسرائيل في النسيج الاقتصادي العربي[17] لتصبح أشبه بسنغافورة في الشرق الأوسط. وجاء مشروع بيريز / خليل في منتصف الثمانينيات كتطبيق عملي لفكر هرتزل حيث أطلق على هذا المشروع مشروع مارشال للشرق الأوسط وفحواه تكمن في استيعاب الثروة الخليجية وإدماجها في اقتصاديات الغرب.عن طريق برنامج مشترك برصيد قدره 30 مليار دولار تديره الولايات المتحدة والدول الأوربية والدول العربية النفطية[18] وقد جاءت حرب الخليج الثانية وما صاحبها من أحداث فرصة مناسبة للبدء في هذا المشروع فكان مؤتمر مدريد وما تلاه من مؤتمرات اقتصادية. ومن مدريد إلى مؤتمر الدار البيضاء حدث تطور هام حيث بدأت المفاوضات في مدريد من نقطة أن السلام هو شرط التطبيع، إلا أن إعلان الدار البيضاء جاء بمضمون مخالف أساسه إن التنمية الاقتصادية المتوازنة هي الدعامة الرئيسة للسلام الشامل، وهو ما يدل على أن صيغة مدريد لم يكن مخطط لها سوى أن تكون البداية لما يريده الإسرائيليون وهو التطبيع بدون سلام ولاستكمال هذا المشروع سعت إسرائيل إلى اختراق الوطن العربي ثقافياً فبدأت عقد ندوات ومحاضرات حول التعليم، من اجل السلام وتم الإشارة إلى ضرورة تغير ما هو مكتوب الآن عن الدول العربية في كتب التعليم من حيث كونها تعمل على عرقلة وإعاقة العلاقات والمبادلات التجارية الإسرائيلية مع دول الشرق الأوسط، كما ستضاف موضوعات جديدة مثل اقتصاديات الشرق الأوسط ومواضيع جيوساسية مستحدثة كليا، ويضيف دورون شوحاط أن الموضوعات الأدبية والفنية والسينما العربية ستكون من الموضوعات التي تساعد في عملية التطبيع الثقافي بين إسرائيل والعرب. كما بدأت في شق صف المثقفين العرب وهم اكثر الجبهات قدرة على مجابهة التغلغل الثقافي الصهيوني من خلال إنشاء جمعيات السلام والتي وضح في اجتماع أحدها في سفارة دولة النرويج في نوفمبر الماضي بالقاهرة أن هناك خلاف جذري في فهم الطرف الإسرائيلي والطرف العربي لأسباب وجود هذه الجمعيات حيث كان أعضاء هذه الجمعية من الإسرائيليين قد أعلنوا تأييدهم قبل هذا الاجتماع بأيام لإنشاء مستوطنات جديدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعندما نقد أحد الحضور من الجانب العربي ذلك، كان رد المشاركين من الجانب الإسرائيلي أن على المثقفين العرب أن يهتموا بالتواصل الثقافي بين العرب وإسرائيل وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدولة الإسرائيلية. كما يمكننا أن نلاحظ أن دائرة الشرق أوسطية التي يروج لها الاستراتيجيون الإسرائيليون ما هي سوى إحياء لدعوات تكررت في الماضي منذ الخمسينات كمشروع مضاد لمشروع التنمية والتوحيد العربي فالاختلاف ليس كبير بين هذا المشروع ومشروع حلف بغداد الذي طرح في الخمسينات.وهذا المشروع يفتح أمامنا باب جديد لتنمية تابعة وغير متكافئة منفصلة عن الإطار الحضاري الثقافي العربي ولا يحقق سوى آمل بيريز في أن يكون" شعبنا حرا في أرضنا المحبوبة الموعودة الشرق الأوسط" [19].

أما عن الأثر الغير مباشر لهذا الارتباط غير المتكافئ بالثقافة الرأسمالية فجاء لصالح التيار السياسي الإسلامي فقد أصبحت شعاراتهم بالنسبة للعامة بديلاً عن الثقافة الرأسمالية الوافدة عليهم خاصة في ظل غياب وتراجع المشروع القومي نتيجة سياسات النخب الحاكمة وتأزم المشروع الاشتراكي في ظل أزمته العالمية. فكان رد الفعل غير المباشر في دعم الاستمرارية والتعمق للجوانب الماضوية وليس لجانب الاحتكام إلى العقل والمنهج التجريبي على الرغم من الخبرات التاريخية التي بدأت قبل منتصف القرن الماضي[20] فلم يعد الدين والأيديولوجية النابعة منه في القرن العشرين هما الدين والأيديولوجية الذين شرعهما محمد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بل تقاليد زائفة في معظمهما خزعبلات.

كانت البداية لهذه المشاريع مع منتصف السبعينات عن طريق إعادة الكمبرادورية في المنطقة بأسم "الانفتاح" ومضمونه معروف هو فك الصناعة من خلال تدمير محاولات ضمان تكاملها واستقلالها والتخلي عن مشروعات الاكتفاء الذاتي والخضوع للرأسمالية العالمية والاجتياح الثقافي من قبل الثقافة الغربية الاستهلاكية المتناقضة مع الواقع العربي[21]. وما سبق يؤكد ضرورة فك الارتباط ثقافياً وهو لا يعني الانعزال أو الانغلاق كما يسيء الكثيرون فهم مفهوم فك الارتباط و إنما معناه امتلاك حرية تحديد القيم الثقافية الخاص بنا دون الانعزال جغرافياً عن باقي العالم أو زمنياً عن تاريخنا والحضارات المختلفة على مستوى العالم وهو ما يتطلب منهج علمي وعملي تأخذ به الأمة لإحداث النهضة المرجوة.

و أول ما يتطلبه هذا المنهج عقلية عربية ذات بعد واضح ومحدد معد إعداد عصرياً يقوم على العلم والتكنولوجيا يتخلص فيه من التراث الاستبدادي ويتسم بالأساس الشعبي الواسع الضروري لضمان بقاء المجتمع وتقدمه وهو أساس لنمو الثقافة التي يجب أن تتجاوب و حاجات المجتمع،و يقوم على الإيمان بالعقل والحقيقة التي يكشف عنها وهو ما لن يتأتي إلى من خلال جهد بحثي متراكم في مختلف المجالات وهذه العقلانية لا تعنى انفصالها عن ماضيها بل تتأصل بماضيها الإيجابي تستمد منه القوة والإيمان ، واستمرارية الإرث الذي يتناقله مجتمعها جيلاً بعد جيل دون انخداع فتكون العقلانية أساس كذلك لتقبل أحكام هذا الماضي غير منفصلة عن العالم فثقافتنا المنشودة يجب أن تكون متفتحة لخير ما أنتجه الإنسان من خلال جهده التاريخي فالثقافات كلها تلتقي في ثقافة إنسانية شاملة [22].

وهذا التحول الجذري في كافة مجالات الحياة يتطلب إعادة تكويناتها البنيوية ابتداء من خصوصيتها التاريخية في قلب المعاصرة وهذا يقتضي اختيار عملية التحديث النقدية وكل ما يلحق بها من نتائج بالضرورة وهذه الحركة النقدية يجب أن لا تقع في شرك الازدواجية التي قامت في الأساس لمحاولة تعدي ذاتها فأصبحت أكثر عمقاً عن طريق تدابير يراد لها أن تتحقق وتندرج في إطار تجديد التراث مع إقامة عناصر الحداثة وكأنها عدد من العلامات على طريق مواز، دون إعلان قطيعة ودون أحداث اندماج حقيقي لها في الفكر[23] والتعامل مع هذه القضية بعقل استراتيجي قادر على التعامل مع المحتمل والمتوقع والثابت والمتحول والمدبر والمقبل معاً ، أن هذا العقل الاستراتيجي يقوم على حدثيات المعالجة في عصر عدم اليقين والاضطراب والغموض[24]. والروح العلمية التي يجب أن نأخذ بها أول ما تتميز به المرونة والأخذ بالنسبية ، وظروف ومعطيات الحداثة المادية والفكرية وتحمل معها مظاهر من الديمقراطية الصريحة مظاهر يمكن أن تتحول إلى تربة صالحة وخصبة لغرس الديمقراطية في جسم المجتمع العربي[25]. ونرى مما سبق أن العقلنة والمنهجة والمأسسة هم الطريق نحو ثقافة عربية قوية وحرة تتعامل مع الأخر لا من منطلق التبعية إنما من منطلق محاولة المشاركة والتغذية باتجاهيها فيما يتعلق بالحضارة الإنسانية العامة و المشتركة مع الحفاظ على الهوية من خلال مقاومة محاولات الهيمنة وطمس الخصوصيات القومية والثقافية[26] الذي ظهر بارزاً بعد انهيار المنظومة الاشتراكية والتقدم التكنولوجي خاصة في مجال المعلومات والاتصال فبدأ يرتفع اليوم المخطط الرأسمالي العالمي الداعي إلى إزالة الحواجز اقتصادياً وثقافياً والدعوى إلى العولمة على حساب السيادة أي عملية تنميط لمصلحة الهيمنة الرأسمالية ويجب أن نلتفت أن صندوق النقد والبنك الدولي يلعبان دور هام في هذا المجال وكل ذلك لصالح جيوب الطبقة الرأسمالية الكومبرادورية في الداخل وجيوب محركيهم في الخارج[27] ويجب أن تتأسس هذه المفاهيم على حقوق الإنسان وبالذات حق المساواة والحرية وهناك قضايا هامة لا يمكن أن نتجاهلها في هذا الإطار لأنها تمس جوهر هذا المنهج المطروح وتؤثر فيه بشكل مباشر و أول هذه القضايا هي التراث والحداثة وهي القضية المثارة بشدة في المجتمعات العربية الآن ويجب أن نوضح أن النهضة الثقافية تعني إدراك الواقع بحرية وإبداعية واستيعاب بما فيه من تراث وجده في الوقت نفسه، فمبدأ الخصوصية القائمة على مطلب الاستقلال والسيادة والتمسك بالهوية لا يقل أهمية عن مبدأ المعاصرة الذي يقوم عليه إمكانية تحقيق هذه الرغبة وتجسيد هذا الشعور[28] وفي الوقت ذاته يجب أن نعي أن تفضيل عوامل النهضة داخل الثقافة غير مقصود به الانعزال إنما المقصود به التواصل مع ما هو أنساني في مختلف الحضارات.

إلا أن شكل التعامل مع التراث أومع الحداثة يجب أن يكون واضح ومحدد فيجب أن لا نستسلم لأي منهما وان نمتلك في إطار دراستنا لهما نظرة نقدية شاملة فلا بد أن تكون علاقتنا بالتراث تقوم على إعادة بناءه لنحتويه بدلا من أن يحتوينا[29] وان يكون تفاعلنا مع الآخر على أساس تبادلي وليس في اتجاه واحد يقوم على الانبهار بالأخر وطمس الهوية.و على هذا يجب أن تكون عملية الحفاظ على الهوية والتحديث عمليتان متكاملتان بينهما علاقة شرطية فالتحديث ضرورة لكي امتلك قدرات الحفاظ على الهوية ، والهوية أساس لإحداث عملية تحديث مستقلة فكريا[30]ً.

فهذه العملية ليست مجرد عملية تلقيح لعدد من العناصر الثقافية يسيطر فيها الآخر وليس عملية يتحكم فيها العنصر الذاتي القومي بشكل شوفيني فالهدف هو الإبقاء على الهوية بلغة العصر [31] وليس تغليب أحدهم على الأخر فالثقافة العربية يجب أن تتمثل بسرعة التجديدات التقنية الحديثة وتهضمها و التأقلم مع الحضارة الحديثة دون أن تضطر إلى التخلي عن قيمها الروحية وحيوية تقاليدها لكن مع تطويرها من خلال تحديث المجتمع العربي وبناه التقليدية وقراءة التراث قراءة علمية وواقعية وتفسير الإسلام تفسيراً تقدمياً سوياً كمحاولة لتأسيس أو صياغة رؤية أكثر عقلانية وموضوعية للواقع العربي من الرؤية العاطفية والجامدة و ألا تاريخية المغلوطة أو غير المطابقة للواقع[32] وهو ما يتطلب منا إسقاط القدسية عن التراث وعن الحداثة بمعنى فصل ما هو اللاهي في ديننا عن كل ما هو إنساني في تاريخنا ودراسته بمنهج التحليل والتفسير والنقد لا الاحتفال والتوقير، وعدم تقديس البشر واعتبار الاجتهادات السابقة نهائية وصائبة فيه، وفتح باب الاجتهاد و إطلاق حرية البحث[33] فلا أحد في الإسلام له حق إغلاق باب الاجتهاد حيث انه لا كهنوت في الإسلام وهو حق لكل مسلم توفرت فيه الشروط المعرفية التي تمكنه من ذلك و لكن هل الشروط المعرفية ما تزال هي نفسها منذ نيف ومائة عام؟إن التغير الهائل في الحضارة الصناعية والعلمية جعل الإلمام بأمور الفقه ومعرفة ضرورة الحياة اليومية غير كاف للاجتهاد بل من اللازم الانفتاح على كافة العلوم و أسسها المعرفية و نتائجها وهو ما ينقص الغالبية العظمى من علماء الإسلام اليوم " إن المناداة بالاجتهاد وفتح بابه ستظل كلا ما في الهواء ما لم يتم فتح العقل الذي يقع عليه مهمة الاجتهاد[34] وذلك لان الذي اغلق ليس باب الاجتهاد وإنما الفكر اللازم له إحياء التراث المنسي والمنسي عنه مثل فكر المعتزلة الذي أعلى قيمة العقل والإرادة الإنسانية الحرة ، وخرج بالدين من غياهب الخرافات وإشكاليات الميتافيزيقا ليضعه في مكانه من الواقع الإنساني[35]. وفي نفس الوقت إسقاط نظرة الانبهار بالغرب أو أي حضارة أخرى والنظر إلى سلبياتها بقدر نظرنا إلى إيجابياتها ، و إعمال النظرة النقدية والعقلانية في التعامل معها على نفس القدر الذي نتعامل به مع التراث وفي هذا المجال لا يمكن أن نتجاهل دور الحكومة ودور المثقفين في ذلك فالحكومة الحديثة يجب أن تعد نفسها ملتزمة بتعضيد الثقافة الراقية على أساس أنها قد تضمحل وتنتهي لعدم وجود قاعدة عريضة تهتم بها[36]. أما المثقفين فعليهم أن يأخذوا بزمام المبادرة في هذا المشروع فبدونهم لن يكون هناك مشروع للنهضة في الأساس فكما يقول عبد الله العروي في كتاب الأيديولوجية العربية المعاصرة لن يصلح حاضر أمتنا إلا بصلاح مفكرينا.

وهناك خطى أساسية وضرورية لإنجاح فك الارتباط وتحقيق النهضة اللازمة لمجتمعنا تبدأ من إزالة كل المعوقات التي تحول دون إطلاق حرية الإبداع في مختلف المجالات، وتطوير التعليم ليصبح آداه لتنمية روح العقلانية والنقد والإبداع والنظرة الديناميكية التاريخية الشاملة مع تطوير شامل لوسائل الإعلام والثقافة عامة وتحرير المرأة واحترام حقوق الأقليات[37]، مع توفير مستوي من العناية الصحية للمواطنين عامة وتوفير الحاجات الأساسية للمواطن العربي دون تمييز أو محاباة مع ترسيخ قيمة العلم الذي يؤدي إلي الإنتاج وليس النقل فالتجربة يجب أن تكون هي الأساس للمعرفة وليس الأحكام المسبقة وهو ما يكرس العقلانية والمنهجية وهما الأساس لأي نهضة ، إن كان من الضروري مأسستهم أي توفير المؤسسات اللازمة لتحقيق هذه النظرة العقلانية وتكوين منهج فكري للنهضة.وفي هذا على الدولة أن تقوم بدورها من صيانة وحرمة الثقافة وعدم استخدامها لتحقيق أغراضها فالثقافة" يجب أن لا تستخدم بل تخدم"[38] كما يجب عليها أن توفر وسائل النشر والإعلام وفتح الباب لتطوير مناهج التعليم بالشكل الذي يقوي المدارك العقلية بالاستنتاج والاستقراء والتنشئة على الاستقلال الفكري وتقدير القيم الأخلاقية وتنمية الشخصية الذاتية والحس بالكرامة القومية والإنسانية وإنشاء مؤسسات البحث والتنقيب ورعايتها وتعزيز شأنها مع الحفاظ على استقلاليتها والإضافة إلى رعاية الموهوبين ورعايتهم فالإنتاج الحضاري ليس إلا محصلة إبداع فردي وعلى المثقفين في ذلك صيانة حرمة الثقافة فإذا هم استخدموا ما يحلون من ثقافة لتحقيق مأرب أو خدمة غرض، خانوا رسالتهم ولم يحق لهم أن يدعوا سواهم إلي احترامها.[39]وفي إطار هذا المشروع نستطيع أن نحقق فك الارتباط ليس بالنموذج الرأسمالي وحده و إنما كذلك بقيود التراث الجامدة دون خوف من فقدان الهوية فالثقافة تصنع خياراتها والاستعارة الثقافية لها حدودها فالحفاظ على الهوية والتحديث عمليتان متكاملتان بينهما كما أشرنا علاقة شرطية فالتحديث ضرورة لامتلاك قدرات الحفاظ على الهوية ، والهوية أساس لإحداث عملية تحديث مستقلة فكرياً[40].

ويبقى تساؤل عن إمكانية نجاح مثل هذا المشروع في ظل الأوضاع الدولية الحالية إعلاميا واقتصادياً وسياسياً.انه مما لا شك فيه أن مثل هذا المشروع يجب أن تتوفر له كتلة تتبناه وتحركه، و الكتلة المرشحة لمشروع ثقافي في حالتنا هي بالتأكيد الكتلة العربية المتحدة فالاختلافات بين أقطارنا العربية لا تطمس معالم التشابه بيننا كما أن الفروق لا يجدي في مواجهتها علمياً أو قومياً التجاهل في سبيل الوحدة الجغرافية أو تجانس طبيعي باهت موهوم فليس علينا جناح أن نتكلم عن التفرد الشخصي فيكل منهم رغم التشابه الواسع المدى ، ودون أن يعني ذلك أي تنافر أو تضاد بينهم[41] فمبدأ التنوع في الوحدة أو الوحدة في التنوع ينبع من أن الوحدة السياسية وحدة وظيفية والوحدة الوظيفية لا تأتي من الوحدة التركيبية بل من التنوع التركيبي[42] فالوحدة الثقافية في الوطن العربي لا تعني فرض نمط ثقافي معين على الأنماط الثقافية الأخرى المتعددة والمتعايشة عبر تاريخنا المديد داخل الوطن العربي الكبير ولا حتى داخل كل إقليم من أقاليمه ، بل العكس لا بد من توظيفها بوعي في أغناء وإخصاب الثقافة القومية وتطويرها وتوسيع مجالها الحيوي[43]. فالتكتل العربي ضروري لإنجاح فك الارتباط عن النموذج الرأسمالي بكل أضراره في مجتمعنا مع عدم اتخاذ موقف العداء أو القطيعة منه. كما هي أساس لنهضة حقيقية في مجتمعنا فالتخطيط للمستقبل جزء من عملية صنع هذا المستقبل والمستقبل في العالم المعاصر هو للمجموعات المتكتلة المتحدة وليس للطوائف ولا الجماعات ولا الشعوب ولا الأمم المجزاة الضيفة ولا شئ يضمن له النجاح إذ لم يكن التخطيط للثقافة العربية ككل[44] ثقافة الماضي والحاضر والمستقبل، تخطيطاً يعتمد على النظرة العلمية النقدية ويستهدف إعادة ترتيب العلاقات داخل ثقافة الماضي والحاضر في الوقت نفسه الذي يعمل فيه على بناء علاقات متينة بين خصوصيتنا الثقافية وعمومية عطاءات وأفاعيل العلم والتكنولوجيا في إطار عربي شامل.

-محمد احمد العجاتى-



[1] برتران بادي

الدولة المستوردة ، كتاب العالم الثالث،القاهرة 1996.

[2] د.محمد عابد الجابري وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت 1994 0

[3]د.سمير أمين

أزمة المجتمع العربي ، دار المستقبل العربي، القاهرة 1985.

[4] د.فاروق يوسف الرأي العام، مكتبة عين شمس، القاهرة 1987 0

[5]د. نازلي معوض

المتوسطية في الفكر المصري الحديث ، بحث للمؤتمر العاشر لمركز الدراسات والبحوث السياسية،القاهرة 1996.

[6]ورقة عمل لكوديسريا

المسألة الثقافية في أفريقيا السياقات و الركائز أفاق البحث،مركز البحوث العربية،القاهرة 1989.

[7]محمود أمين العالم

مفاهيم و قضايا إشكالية ، دار الثقافة الجديدة ، القاهرة 1989

[8]د.جلال معوض

العلاقة بين الديمقراطية و التنمية دراسة نقدية،بحث مقدم لمؤتمر العلاقة بين الديمقراطية و التنمية الخبرة الآسيوية،مركز الدراسات الآسيوية ،كلية الاقتصاد و العلوم السياسية،القاهرة ،1997 0

[9] سيرج لاتوش تغريب العالم،ترجمة خليل كلفت، كتاب العالم الثالث، القاهرة،1992 0

[10]محمود أمين العالم

الفكر العربي بين الخصوصية والكونية ، دار المستقبل العربي،القاهرة،1996.

[11]د0محمد عابد الجابري

مرجع سابق(2).

[12] د.يوسف إدريس فقر الفكر و فكر الفقر،دار الجماهيرية للنشر و التوزيع و الإعلان ،

ليبيا،1989 0

[13]د0 محمد عابد الجابري

مرجع سابق(2)0

[14]كلوفاديس مقصود

الحياة ،5/6/1992 .

[15] د0 محمود عبد الفضيل في كشف الغمة و سبل استنهاض الأمة،الواقع و الوهم حول الشرق

أوسطية ، دار سينا ،القاهرة،1995 0

[16]محمد سيد أحمد

سلام أم سراب،دار الشروق، القاهرة ،1996 0

[17] محمد زكريا إسماعيل

الهوية العربية في مواجهة السلام الإسرائيلي ، المستقبل العربي، بيروت،--0

[18]د.نيفين عبد الخالق

المشروع الشرق أوسطي و المستقبل العربي،المستقبل العربي العدد 193،بيروت،مارس 1995 .

[19]د.ناصيف حتي

مستقبل العلاقات العربية الأوربية بين الشرق الأوسط و المتوسطية،ورقة عمل المستقبل العربي،العدد 20 بيروت،1996

[20]د0يونان لبيب رزق

الحلقة النقاشية:الثقافة السياسية و التطور السياسي في مصر أفاق مستقبل الثقافة السياسية في مصر بين الاستمرار و التغير،أعمال المؤتمر السنوي السابع للبحوث السياسية ،تحرير د0 كمال المنوفي و د0حسنين توفيق،المجلد الثاني،مركز البحوث و الدراسات السياسية،القاهرة،1993 0

[21] د0سمير أمين

ما بعد الرأسمالية،مركز الوحدة العربية ،بيروت،--0

[22]قسطنطين زريق نحو ثقافة عربية افضل ، الأدب إبريل 1954.

[23] د0 أنور عبد الملك نهضة مصر ، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة ، 1983 0

[24] د0 محمود عبد الفضيل مرجع سابق(15) 0

[25]د.محمد عابد الجابري مرجع سابق(2)0

[26]0محمود أمين العالم مرجع سابق (7)0

[27]المرجع السابق 0

[28]د. برهان غليون اغتيال العقل العربي بين السلفية

و التبعية، مدبولي،القاهرة،1990.

[29]د0 محمد عابد الجابري مرجع سابق (2).

[30] المرجع السابق 0

[31]د0 أنور عبد الملك

مرجع سابق (23)0

[32]د0 برهان غليون مرجع سابق(28) 0

[33]نصر حامد أبو زيد التفكير في زمن التكفير،ضد الجهل و الزيف و الخرافة،سينا للنشر،

القاهرة،1995 .

[34]د.محمد عابد الجابري مرجع سابق(2)0

[35]زهدي الجار الله المعتزلة،المؤسسة العربية للدراسات و النشر،بيروت 1990 0

[36]محرر:د.نيفين مسعد معجم المصطلحات السياسية،مركز البحوث و الدراسات

السياسية،القاهرة،1994 0

[37] محمود أمين العالم مرجع سابق(7)0

[38]قسطنطين زريق مرجع سابق(22) 0

[39]المرجع السابق

[40]د0محمد عابد الجابري مرجع سابق(2).

[41] د.جمال حمدان شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان،دار الهلال،

القاهرة،1993 0

[42]المرجع السابق0

[43] د.محمد عابد الجابري مرجع سابق(2)0

[44] المرجع السابق0

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها