الفقهاء والواقع التاريخي.. محنة السياسة في الفكر الإسلامي

لم تؤسس الكتابات السياسية في الاسلام في بداياتها على التجربة السياسية التاريخية الاسلامية، كما لم تستند ابتداءً على الاصول المبدئية والضوابط المقررة للسياسة كما وضعها الاسلام، ولذلك لم يعهد الفكر الاسلامي الكتابات السياسية المستقلة حتى منتصف القرن الخامس الهجري، أي حتى بدء أبي الحسن الماوردي (عاش ما بين 364 ـ 450هـ) وضع كتابه (الاحكام السلطانية). ذلك لا يعني انعدام الجدل السياسي في الاسلام، قبل هذا التاريخ، وإنما الكلام عن تلك الكتابات السياسية التي تعالج موضوعة السلطة بكونها موضوعاً رئيسياً ومستقلاً عن باقي موضوعات الفكر الاسلامي.

ومن المعروف أن الكتابات السياسية في بلاد المسلمين بدأت بمجموعة "مرايا الأمراء" التي صّبت اهتمامها في توجيه النصح للحكام، ويعد عبد الله بن المقفع (ت 137 أو 139هـ ـ 759م) أول من بدأ هذا النوع من الكتابات، وقد ساعده لسانه الفارسي على نقل التراث السياسي الفارسي كما في ترجمة كتاب (كليلة ودمنه)، وحاول عبر كتابات سياسية أخرى (رسالة الصحابة نموذجاً) استيعاب تجربة الملك الفارسي ضمن المجال السياسي الاسلامي النظري، انطلاقاً من "إن الحكومة في التاريخ الاسلامي قائمة منذ البداية على الآراء والاجتهادات العقلية وليس على الدين الموحى(1)" حسب إ.روزنتال.

وقد تركت هذه الكتابات تأثيراً واضحاً على سيرة حكام الدولة الاموية، ولذلك قيل "أن النظام السياسي في الدولة الاموية كان متأثراً بالنظام الذي كان سائداً في الدولتين الفارسية والبيزنطية(2).

وتواصلت حركة الترجمة، للكتابات السياسية اليونانية والفهلوية، حيث نقلت رسائل أرسطو الى العربية، فيما بدأ ابو عثمان الجاحظ (159 ـ 252هـ/775 ـ 868م) في هذا الفترة وضع كتابيه:التاج واستحقاق الامامة. وكان الجاحظ معتزلياً وضمن حاشية المأمون العباسي. وقد خصّ كتابه (التاج) الامير الفتح بن خاقان، والكتاب في مجمله يحاول استعادة اخلاق ملوك ساسان واعادة شرحها وتكييفها مع المُلك العربي، ويبدي الجاحظ في هذا الكتاب اعجاباً كبيراً بتجربة السياسة الفارسية في الحكم والادارة، ولا يخفي هذا الاعجاب إذ أكد ذلك بما نصه "عنهم ـ أي عن ملوك العجم ـ أخذنا قوانين الملك والمملكة وترتيب الخاصة والعامة، وسياسة الرعية، والزام كل طبقة حظّها، والاقتصار على جديلتها(3)". فأراد من هذه السيرة الملوكية الفارسية أن يتعلم العرب كيفية التعامل مع ملوكهم "إن أكثر العامة وبعض الخاصة، لما كانت تجهل الاقسام التي تجب لملوكها عليها، وإن كانت ممسكة بجملة الطاعة، حصرنا آدابها في كتابنا هذا(4)..".

ويذكر ايضاً في سياق الكتابات السياسية المترجمة عن اليونانية كتاب (سلوك المالك في تدبير الممالك) لإبن أبي الربيع، ألفه في زمن الخليفة المعتصم العباسي(218 ـ 227هـ)، وقد "اعتبر أول عمل سياسي في الاسلام(5)"، ولكنه اعتمد فيه على الفكر السياسي اليوناني وبخاصة فكر ارسطو وافلاطون، وأكد على شكل موحد للحكومة وهو الشكل الملكي، الذي يقوم على حكم الفرد، مشفوعاً بالتفويض الالهي للحكام "إن الله خصّ الملوك بكرامته، ومكّن لهم في بلاده، وخوّلهم عباده(6)..".

واجمالاً، اذا تجاوزنا ما نقل عن اليونانية والفهلوية، فإننا لن نعثر على كتابات متخصصة حول قضايا السياسة والدولة. نعم أنتجت الفتنة الكبرى داخل مجتمع المسلمين في مرحلة مبكرة نقاشات سياسية تبلورت لاحقا مع الانتقال من مرحلة الخلافة الى مرحلة الملك مع وصول بني امية الى الحكم(7)، والتي احتسبت بداية نشوء الملك العضوض، وبداية الدولة العصبية في التاريخ الاسلامي، ايذاناً بانفصال المؤسسة السياسية عن المؤسسة الدينية، بحيث جعلت الدولة الدين تحت اشرافها مستبعدة الفقهاء ومستقلة في سن القوانين والتشريعات الدينية..

لقد دشّنت الفترة الانتقالية مابين زوال الدولة الاموية ونشوء الدولة العباسية التي توسلت في احتواء موجات الاحتجاج ضد الامويين بشعار (الرضا لآل محمد)، دشّنت مرحلة استحقاقات هامة، وحفّزت الجدل الكلامي حول الامامة والخلافة المؤسسة على الصورة المثالية التي تكوّنت لدى كل فريق حول مبدأ الحكم في الاسلام، فكتب الشيعة والمعتزلة حول الامامة(8)، ودخلوا بها في معارك كلامية، فيما بدأت فرق المسلمين جميعاً تولي في بحوثها الكلامية عناية خاصة للامامة، وتفرد باباً خاصاً تؤسس فيه لاطروحتها في الحكم بما ينطوي على ردود وردود مضادة.

الامامة

أجمع المسلمون على وجوب الامامة وقال ابن حزم (ت 456هـ) في (الفصل في الملل والاهواء والنحل):"اتفق جميع أهل السنة، وجميع المرجئة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج على وجوب الامامة، وأن الامة واجب عليها الانقياد لامام عادل يقيم فيها أحكام الدين، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي اتى بها الرسول (ص) حاشا ـ عدا ـ النجدات من الخوارج فإنهم قالوا:"لا لزم فرض الامامة(9)"، واختلفت الفرق في طبيعة هذا الوجوب، وحسب تلخيص عضد الدين الايجي (ت 756هـ): "نصب الامام عندنا (أهل السنة) واجب علينا سمعاً، وقالت المعتزلة والزيدية بل عقلاً، وقال الجاحظ بل عقلاً وسمعاً، وقالت الامامية والاسماعيلية بل على الله، الا أن الامامية أوجبوه لحفظ قوانين الشرع والاسماعيلية ليكون معروفاً لله، وقالت الخوارج لا يجب أصلاً(10)".

وبحسب تقسيم العلامة الشيخ حسن ابن المطهر الحلي(:اختلف الناس في نصب الامام فقال بعضهم:

ـ بوجوبه عقلاً. واختلف هؤلاء فقال بعضهم بوجوبه من الله تعالى وهم الاسماعيلية، وقال بعضهم بوجوبه على الله تعالى وهم الشيعة، وقال بعضهم بوجوبه على الخلق وهم المعتزلة.

ـ بوجوبه سمعاً. وهم أهل السنة.

ـ بلا وجوبه. وهم الخوارج والأصمّ من المعتزلة(11).

ولكن وراء هذا الاجماع، وقع انشعاب عظيم سالت على جنباته الدماء واندلعت بسببه الحرب الاهلية في الاجتماع الاسلامي، يقول الشهرستاني:"وأعظم خلاف بين الامة خلاف الامامة، اذ ما سل سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الامامة في كل زمان(12)".

وقد انبعث الجدل السياسي في بدايته بين الفرق الاسلامية حول الامامة متمحوراً حول مشروعية امامة الخلفاء الراشدين، فكان السعي يتجه للبحث عن نصوص تسهم في تعضيد مركز الخلافة ورمزها، ومن المعلوم أن الشيعة بدأت في منتصف القرن الثاني الهجري التنظير في الامامة، وقالت بأن الرسول (ص) قد نصّ على علي وبنيه بالامامة من بعده(13)، قبل أن يضع ابن قتيبة (213هـ ـ 276هـ) كتابه (الامامة والسياسة) للرد على الشيعة بنفس المنهجية الشيعية، أي التوسل بالنص، ويروى أن جماعة من علماء السنة استنبطت خلافة أبي بكر من آيات القرآن فأخرج البيهقي عن الحسن البصري في قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" قال: هو والله أبو بكر واصحابه لما ارتدت العرب جاهد أبو بكر وأصحابه حتى ردوهم الى الاسلام. وأخرج ابي حاتم عن جبير في قوله تعالى:(قل للمحلفين من الاعراب ستدعون الى قوم أولي بأس شديد) قال هم بنو حنيفة قال ابن ابي حاتم وابن قتيبه هذه الآية حجة على خلافة الصديق لأنه الذي دعا الى قتالهم وقال تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض..الآية) قال ابن كثير: هذه الآية منطبقة على خلافة ابي بكر(14).

ويعتبر ابو الحسن الاشعري (260 ـ 324هـ) في طليعة المتكلمين في موضوع الامامة من المدرسة السنية، والمؤسس الاول لبنى الامامة وفق اصول الفقه السني على مذهب الامام الشافعي (150 ـ 204هـ) وهي (الكتاب والسنة والاجماع والقياس)، حيث أمكن رؤية دور غير معهود لهذه الاصول في تحليل وتشريع الحوادث التاريخية ذات الصلة بالامامة، فها هو في كتابه (الابانة عن اصول الديانة) ينحو منحى الفرق الشيعية في الاستدلال على امامة ابي بكر بالنص، ومما ذكره "وقد دلّ الله تعالى على امامة ابي بكر الصديق (رضي الله عنه) في سورة براءة فقال تعالى للقاعدين عن نصرة نبيه (صلى الله عليه وسلم) والمتخلفين عن الخروج معه: {فقل لن تخرجوا معي ابداً ولن تقاتلوا معي عدواً} وأورد عدداً من الايات الدالة على امامة ابي بكر، ومنها أثبت صحة امامة عمر بن الخطاب كونها تمت بنص من ابي بكر، كما نصّ الستة الشورى على عثمان ونص الصحابة على علي(15).

ويرى الدكتور حسين فوزي النجار في لجوء الاشعري الى النص في اثبات امامة ابي بكر رداً على الشيعة بما نصه:"ولعل ما ذهب اليه أهل السنة في وجوب الخلافة شرعاً كان للرد على ما ذهب اليه أهل الشيعة في الوجوب والنص الالهي ضماناً للعصمة(16)".

وأياً كان السبب، فإن التوسل بالدليل النقلي في الاحتجاج السياسي المتصل بالامامة والخلافة، لم يكن خياراً شيعياً محضاً، بل إن الروايات السنيّة المروية بطرق مختلفة وفي أزمان مختلفة تشي بأن ثمة جدالاً واسع النطاق بين مختلف الفرق الاسلامية حول الامامة النصّية صرفت الكثيرين من أعلام هذه الفرق للتفتيش عن نصوص يمكن التعويل عليها في إثبات امامة هذا الخليفة أو ذاك.

ويحلل المفكر المغربي محمد عابد الجابري آراء الأشعري في الامامة بأنها:"حصرت مهمة الكلام في الامامة في التشريع للماضي، الشيء الذي جعل الفكر السياسي السني يبقى سجين هذا التوجيه الماضوي الذي يجعل الناس يستعيدون باستمرار صراعات الماضي وينخرطون فيه(17)".

والواقع، أن التشريع للماضي لم تكن مهمة الاشعري وحده، بل هو ديدن علماء الفرق الاسلامية المتمذهبة عموماً، ويكفي ما ضخّته السجالات المذهبية بين السنة والشيعة من مصنفات في الامامة، رهنت اتباعهما للسكون في التاريخ والانحباس في أحداثه وملابساته، وهي سجالات ومن أي زاوية نظرنا اليها لا تخرج عن اطار التشريع للماضي، والتوجيه الماضوي.

وعلى أية حال، ان كلام الاشعري في الامامة أصبح الاساس الذي اعتمده أكثر الباحثين في موضوع الامامة، بل اقتفوا جميعاً المنهج الاشعري في إخضاع الفقه وفي شقه السلطاني حصراً لجهة تبرير وشرعنة الواقع التاريخي، واعتبار كل ما جرى في التاريخ بما في ذلك خصومات الصحابة وحروبهم قابلاً للتبرير، في مقابل تنامي الاتجاه الكلامي الشيعي في الامامة لجهة تفسير وتالياً تبرير مواقف أئمة أهل البيت (ع) وخصوصاً المتصالحة منها مع الواقع، وإخضاعها لمنطق التقية وصولاً الى تقويض المنهج السني في الامامة. وبالرغم من أن الشيعة توسلت بالنصوص للتنظير للامامة المنشودة الالهية، فيما نظّرت السنة بالنصوص للامامة العظمى، الا أن الفرقتين تسالمتا على سلطة الامر الواقع، كما سيظهر لاحقاً.

الفلسفة والسياسة

في مقابل انخراط الفرق الاسلامية المتمذهبة في الشان السياسي من بوابة الامامة والخلافة، كان هناك مجال آخر يشق طريقه نحو التبلور والاتساع مستمداً من الضخ الفلسفي المندفع من أواسط العصر الاموي، ومتأثراً من جهة ثانية بالنقاشات السياسية الجديدة داخل الدائرة الاسلامية حول الامامة والخلافة.

استطاع فلاسفة المسلمين وفي مرحلة مبكرة هضم التراث السياسي اليوناني الذي أفادوا منه في تحديد النظام الافضل، واستعانوا به في وعي الشريعة، ولكنهم باينوا الفقهاء في طرق المعرفة، فبينما التمس الفقهاء والمتكلمون من الشريعة ما يوجب الخلافة، أرجع الفلاسفة هذا الوجوب الى العقل الذي أخذ يمد سلطانه الى كافة موضوعات الشريعة، وأجازوا لأنفسهم الخوض حتى في حقل اليقينيات بما في ذلك التوحيد والنبوة، بما يتيح لهم تأمين الحق في تشكيل رؤية خاصة في الشريعة.

والواقع، أن آراء أرسطو وافلاطون شكلت على امتداد التاريخ الاسلامي حافزاً نشطاً لأغلب فلاسفة المسلمين الذين بالغوا في تعظيم الفلسفة واظهار تفوقها على غيرها من العلوم، باعتبارها المدخل الى كل العلوم واكتساب الفضائل، حتى ذهب ابن رشد (520 ـ 595هـ) الى أولوية الحكمة على الشريعة، والمحور الذي يدور حوله الشرع وكتب ما نصه "وعلى العلماء أن يجمعوا بين الحكمة والشريعة وأن يعملوا من الشريعة ما يوافق الحكمة وأن يتأوّلوا من الشريعة ما لا يوافق الحكمة حتى يكون عملهم في كل شيء موافقاً للحكمة(18)". فيما اعتبر ملا صدرا الشيرازي (ت 1050هـ) الحكماء هم العلماء الحقيقيين، وعد الفلاسفة "أولياء الله وقوام الدين وفقهاء شريعة سيد المرسلين(19)".

وفي المضمار السياسي، بدأ المشتغلون بالفلسفة باحتواء الفلسفة السياسية اليونانية وبخاصة رسائل ارسطو وافلاطون في المدينة الفاضلة داخل مجال الفكر السياسي الاسلامي، فبينما كان الاشعري مشتغلاً بالتنظير للامامة، كان ابو نصر محمد بن طرخان المشهور بـ (الفارابي) (257 ـ 339هـ/870 ـ 950م)، يؤسس بنى اطروحته في المدينه الفاضلة. نذّكر هنا بأن الفارابي عاش فترة اضطراب سياسي في بلاد المسلمين أي بين فترتي حكم المعتمد (256 ـ 279هـ) وحتى حكم المطيع (334 ـ 336هـ)، التي سادت فيها الفتن والثورات بفعل عوامل دينية وسياسية وثقافية.

تمثل الفارابي منهج أرسطو وافلاطون في السياسة، فكان يربط بين السياسة والاخلاق، والفلسفة، ويرى بأن الدولة ـ المدينة يجب أن تشتمل على صفات: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة.

والرأي الفلسفي في الدولة للفارابي يتلخص في كون الانسان يميل فطرياً الى الاجتماع بجماعات كثيرة متعاونين "يقوم كل واحد لكل واحد ببعض ما يحتاج اليه في قوامه، فيجتمع، مما يقوم به جملة الجماعة لكل واحد، جميع ما يحتاج اليه في قوامه وفي أن يبلغ الكمال" ولذلك فإن الكمال "إنما ينال أولاً بالمدينة، لا باجتماع الذي هو أنقص منها(20)". ولذلك يرى الفارابي بأن دولة ـ المدينة هو النموذج الاعلى للنظم السياسية مطلقاً، وسنجد أن الفاربي ينفصل عن التجربة السياسية التي عاش فيها ويسعى الى التأسيس لبنى سياسية نظرية خالصة مقطوعة الصلة بالواقع التاريخي. ويميل الفاربي في رئيس المدينة الفاضلة الى الرأي الشيعي ـ والذي صاغه فميا بعد الخواجة نصير الدين الطوسي في الامام المعصوم ـ "فليس في فطرة كل انسان أن يعلم من تلقاء نفسه السعادة ولا الاشياء التي ينبغي أن يعلمها بل يحتاج في ذلك الى معلم ومرشد(21)".

ولذلك فهو يستوحي مواصفات رئيس المدينة الفاضلة من المواصفات المرصودة في الامامة الشيعية "ورئيس المدينة الفاضلة ليس يمكن أن يكون أي انسان اتفق، لأن الرئاسة إنما تكون بشيئين: أحدهما أن يكون بالفطرة والطبع معداّ لها، والثاني بالهيئة والملكة الارادية. والرياسة تحصل لمن فطر بالطبع معداً لها. فليس كل صناعة يمكن أن يُرأس بها..(22)".

وقد تأثر الفارابي في هذا الرأي بما قاله افلاطون في رئيس المدينة ـ الدولة:"ما من دولة، ولا نظام، ولا فرد، عليه أن يبلغ الكمال ما لم تلق مقاليد الحكم فيها الى ايدي الفلاسفة(23)..".

أما ابو علي ابن سيناء (373 ـ 430هـ/980 ـ 1037م) الذي تعمق في درس فلسفة أرسطو وتأثر بالافلاطونية المستحدثة، وكان يعد الفارابي معلمه الأكبر، ورغم غموض رؤية ابن سينا في المدينة ـ الدولة، الا أنه وجد في آراء الفارابي في المدينة الفاضلة نطاقاً ممتازاً شجّعه على صياغة تلك الآراء في عبارات أخرى أكثر وضوحاً، وقدّم لذلك بما نصه: "يجب أن يفرض السان، طاعة من يخلفه، وأن لا يكون الاستخلاف الا من جهته، أو باجماع من أهل السابقة على من يصححون علانية عند الجمهور أنه مستقل بالسياسة، وأنه اصيل العقل حاصل عنده الاخلاق الشريفة من الشجاعة والفقه وحسن التدبير، وأنه عارف بالشريعة حتى لا أعرف منه، تصحيحاً يظهر ويستعلن ويتفق عليه الجمهور عند الجميع ويسن عليهم أنهم اذا افترقوا أو تنازعوا للهوى والميل أو أجمعوا على غير من وجد الفضل فيه والاستحقاق له، فقد كفروا بالله (24)"، وخلص في ذلك الى أن "الاستخلاف بالنص أصوب فإن ذلك لا يؤدي الى التشعب والتشاغب والاختلاف(25).."، ولكن هذا التصويب لا يلغي في وعي بن سينا صحة الخلافة غير المنصوصة، طالما أن المتقدّم يحسن الايالة، على أن يعضده الخليفة المنزوع في تدبير السلطة "ويلزم أعقلهما أن يعتضد به ويرجع اليه، مثل مافعل عمر وعلي(26)".

ولكن بن سينا الذي يلج ساحة الجدل الامامي متطفلاً، لا يلبث أن يعود سريعاً الى الفضاء الارحب الذي يحقق فيه ذاته الفلسفية، ليستأنف بناء مدينته الفاضلة، في وقت كانت عساكر قبائل الترك قد توغلت في خراسان والعراق والشام، والتي ضربت بأمواجها العاتية أسوار المدينة الفاضلة كما يتصوّرها ابن سينا، الذي عبّر عن معارضته الشديدة لاختلاط الترك والزنج في المجتمع الاسلامي أي الذين نشأوا حسب ابن سينا في غير (الاقاليم الشريفة) وهي كما يعرفها "التي أكثر أحوالها أن ينشأ فيها امم حسنة الامزجة صحيحة القرائح والعقول".

ويحدد ابن سينا وظائف السلطان والتي بتمامها وكمالها تستقر المدينة "واما ضبط المدينة ـ الدولة، يعد ذلك بمعرفة ترتيب الحفظة ومعرفة الدخل والخرج واعداد اهب الاسلحة والحقوق والثغور وغير ذلك فينبغي أن يكون ذلك الى السايس من حيث هو خليفة، ولا يفرض فيها احكاما جزئية، فإن فرضها فسادٌ لأنها تتغير مع تغير الاوقات وفرض الكليات منها مع تمام الاحتراز غير ممكن، فيجب أن يجعل ذلك الى اهل المشورة ويجب أن يكون السان يسن ايضاً في الاخلاق والعادات سنناّ تدعو الى العدالة التي هي الوساطة، والوساطة تطلب في الاخلاق والعادات بجهتين: فإما ما فيها من كسر غلبة القوى، فلأجل زكاة النفس خاصة واستفادتها الهيئة الاستعلائية وأن يكون في تخلصها من البدن تخلصاً نقياً. وأما ما فيها من استعمال هذه القوى فلمصالح دنيوية، واما استعمال اللذات فلبقاء البدن والنسل، واما الشجاعة فلبقاء المدينة).

وقال ابن سينا فإن من فاز في كسب الفضائل الثلاثة: التوسط في الشهوات (الطعام والنكاح..) والتوسط في الغضبيات (الخوف والغضب والغم والحقد والحسد..) والتوسط في التدبيرية.. ورؤوس هذه الفضائل عفة وحكمة وشجاعة ومجموعها العدالة، "ومن اجتمعت به معها الحكمة النظرية فقد سعد، ومن فاز مع ذلك بالخواص النبوية كاد أن يصير رباً انسانياً وكاد أن تحل عبادته بعد الله تعالى وهو سلطان العالم الارضي وخليفة الله فيه(27)".

ولعل من اللفتات الهامة، أن بن سينا وهو يشيّد بنيان المدينة ـ الدولة يهب حكومتها سلطة تشريعية غير عادية، إذ يجوز لها تغيير الاحكام ذات الصلة بالمعاملات بحسب تبدّل الظروف والاحوا ل"يجب أن تكون السنة في العبادات والمزاوجات والمزاجر معتدلة لا تشدد فيها ولا تساهل، ويجب أن يفوّض كثير من الاحوال خصوصاً في المعاملات الى الاجتهاد فإن للاوقات احكاماً لا يمكن أن تنضبط(28)..".

إن أول ما يظهر من قراءة الفلسفة السياسية للفلاسفة المسلمين بدءا من الفارابي وابن سينا وابن طفيل (1100 ـ 1185م) في قصة (حي بن يقظان) وابن باجه (ت 1138م) في (تدبير المتوحد) و(رسالة الوداع)، وابن رشد وحتى ابن خلدون، وهؤلاء جميعاً ممن اشتغلوا بشرح أو دراسة ارسطو، وحاولوا التوفيق بين الفلسفة والدين، أن ثمة قاسماً مشتركاً لدى كل هؤلاء أنهم سعوا للتفتيش عن معرفة المضمون الفلسفي للرابطة السياسية، ومبررات وجودها، وتكييف هذه المعرفة مع الشريعة، ولكنهم اختلفوا في العلاقة بين النظام السياسي للجماعة والشريعة، فبينما ذهب بعض الفلاسفة (الفارابي وابن رشد) الى ضرورة وجود الجماعة السياسية كإطار لمزاولة وتنمية الفضائل والملكات الانسانية، فأن بعضهم وبخاصة ابن سينا يرد وجود الجماعة السياسية الى الشرع الذي يتولى تأسيس الجماعة وفق مقتضيات الشريعة، وإن كان الجميع متفقاً على أن الرابطة السياسية مهما اختلفوا في كيفية نشوئها والطريق الموصلة اليها كفيلة بأن تؤمّن بيئة خصبة لتنمية الفضائل والمواهب وملكات الخير، ولذلك أيضاً فهم متفقون على أن النظام السياسي الافضل هو المشدود الى الشريعة وأحكامها كما نزلت على الرسول (ص)، ولذلك رأى ابن رشد في الشريعة التي بعث بها رسول الله "القانون الكامل للدولة الكاملة أو الفاضلة:الاسلام(29)"، ولكن مع فارق يميّز الفلاسفة عن الفقهاء والمتكلمين، وهو العقل، فالفلاسفة يولون العقل اهتماماً أكبر ويفوّضوه دوراً رئيسياً في وعي مقاصد الشريعة فيما يكتفي الفقهاء بحيز الشرع الموحي المنصوص مع الاحتفاظ بحق اشراك العقل في وعي أحكام الشريعة، وافترق الفلاسفة عن الفقهاء أيضاً في نقطة جوهرية: رأس السلطة، فبينما قبل الفقهاء بسلطان حائز على قبول العامة، اشترط الفلاسفة وجود شخص فريد بمواصفات خاصة لا تتوفر في فرد آخر من رعاياه، شخص يتسم بالذكاء والملكات الخيّرة والفضائل، التي تسري في سياسته للجماعة، وتتربى الرعية عليها حتى ترتقي لنيل الفضائل. وهذه ليست سوى نظرة متشائمة تعكس الى حد كبير الاوضاع السيئة للسلطة التي عاش فيها الفلاسفة حتى باتوا ينشدون حلاً طوباوياً، ممثلاً في المدينة الفاضلة أو جمهورية افلاطون.

أصالة النظام

شدّد فقهاء المسلمين في أبحاثهم السلطانية على ضرورة الرابطة السياسية للجماعة وعدّوا ذلك اصلاً وركيزة أساسية لوحدة الجماعة، دون تفريق في أشكال السلطة المختلفة: الخليفي والسلطاني والملوكي، من ذلك قولهم بأن النظام أصل، وإن كان تحت سلطان جائر، جاهل، غاصب، الامر الذي بالغ الفقهاء معه في مناجزة السلطان، بناءً على أن وحدة السلطة وتماسكها حائل دون اضطراب حبل الامن، وشياع الفوضى، وارتكاب المنكرات وتالياً تشتت الجماعة، وحسب رأي الشريف المرتضى (355 ـ 435هـ) "إن وجود الرئيس المطاع المهيب المنبسط اليد أدعى الى فعل الحسن وأردع عن فعل القبيح..وأن الناس عند الاهمال وفقد الرؤوساء يبالغون في القبيح، وتفسد أحوالهم ويختل نظامهم(30)" ليخلصوا من ذلك الى التشدد في مبررات خرق النظام أو الاطاحة به لما في ذلك من فساد وفتنة ما لم يثبت العكس، ومقصدهم في ذلك حفظ النظام الاجتماعي لا طاعة الحاكم وإن كانت الثانية متحققة بالاولى ولازمة لها.

ويقول الاشعري (260 ـ 330هـ) "ونرى الدعاء لائمة المسلمين بالصلاح والاقرار بإمامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم اذا ظهر منهم ترك الاستقامة. وندين بإنكار الخروج بالسيف وترك القتال في الفتنة(31)".

وقد أجمع على ذلك علماء المسلمين قاطبة، يقول الامام احمد بن حنبل (164 ـ 241هـ) ما نصه"ومن غلبهم ـ أي المسلمين ـ صار خليفة وسمي أمير المؤمنين ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم والآخر أن يبيت ولا يراه اماماً براً كان أو فاجراً فهو أمير المؤمنين(32)".

وقال الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (385 ـ 460هـ) من كبار علماء الشيعة الامامية بأن "تصرف الغاصب لأمر الامة اذا كان عن قهر وغلبة، وسوغت الحال للامة الامساك عن النكير، خوفاً وتقية، يجرى في الشرع مجرى تصرف المحق في باب جواز أخذ الاموال التي بقيت في يده، ونكاح السبى، وماشاكل ذلك، وإن كان هو بذلك الفعل موزوراً ومعاقباً(33)".

قراءة في الفكر السياسي الاسلامي

بعد أن هدأ الجدل الكلامي حول الامامة، و توارت مبررات الخوض في سجالات الماضين، انطلقت الحاجة في وقت متأخر، أي إبان ضعف الخلافة العباسية التي أصبحت رهينة السلطنات المنبعثة من داخل دولة الخلافة والمستحوذة على صلاحيات الخليفة، بدأ البحث عن النظام السياسي الاسلامي، وربما بسبب سوء الاوضاع العامة في بلاد المسلمين، أصبحت التجربة السياسية الماضية أملاً منشوداً يرتجى استئنافها، فتمّثل العلماء في التأسيس لأبنية نظرية للدولة الاسلامية، التجربة السياسية التاريخية في بلاد الاسلام، وحاولوا التعرف على الحكم الاسلامي من خلال سيرة الخلفاء والولاة الماضين، وكان المشتغلون بوضع الاحكام السلطانية أمام تجربتين: الاولى ـ القديمة تمثل النموذج الاعلى، والثانية ـ الراهنة، تمثل النموذج الواقعي.

فقد وضع أبو الحسن الماوردي (ت 450هـ) أول كتاب حول شؤون الدولة باسم (الاحكام السلطانية والولايات الدينية) بطلب من أحد الخلفاء من بني العباس كما يظهر من مقدمة الكتاب(34). وقد اعتبر دارسو كتاب الماوردي بأنه نزعة مثالية انفصامية عن الواقع كما عدوّه تصوراً نظرياً يتناقض والواقع كما قال بذلك بروكلمان وسوفاجيه.

ولا شك، إن وعي الماوردي للسلطة لا ينفك عن الرابطة الوثيقة مع الخلافة العباسية، والتي دافع عنها باعتبارها مؤسسة تاريخية ضرورية لاستمرار وحدة الامة(35). وقد عاصر الماوردي القادر بالله (ت422هـ) والقائم بأمر الله (ت 467هـ)، وظل على ولائه للخلافة العباسية ودافع عنها في وجه البويهيين والسلاجقة، وإن أضفى في كتابه على مشروعية الدويلات التي نشأت داخل الخلافة العباسية كما يشير لذلك في (امارة الاستيلاء)(36)..بل إن الماوردي لم يقف الى جانب الخلافة نظرياً فحسب، بل عمل موظفاً في خدمة الخليفتين(37)، وحمل لقب (أقضى القضاة) عمل في بلاط القادر بالله وبعد موته عمل وبشكل علني في بلاط القائم بأمر الله وموظفاً رسمياً في حكومته لا متطوعاً وعهد اليه بمهمات سياسية وأرسله موفداً الى البويهيين والسلاجقة، فكتابات الماوردي تأتي في سياق العلاقة الوطيدة بالخلافة العباسية، فصنّف (الاحكام السلطانية) وعالج فيه موضوعات الامامة، وحين تولى ابن المسلمة (ت 450هـ) وزيراً للخليفة ألّف الماوردي (قوانين الوزارة وسياسة الملك) لتكون عوناً للوزير في ادارة شؤون وزارته.

واستناداً لما تقدم، يصيغ الماوردي أفكاره في الاحكام السلطانية، مستعيراً من الواقع التاريخي والواقع الذي يحيا فيه، ما يسعف على توكيد هذه الاحكام وتبريرها دون اسقاط من الحسبان تحريه الدقة في تحصيل الادلة الشرعية من الكتاب والسنة على موضوعات الدولة الواردة في الابواب العشرين من الكتاب بدءا من الامامة وانتهاء بالولايات. واستعارته من الواقع التاريخي تبدو واضحة في باب الامامة حيث حصر انعقاد الخلافة في وجهين: أحدهما باختيار أهل الحل والعقد، وثانيها: بعهد الامام من قبل(38). فاستند في ذلك على عصر الخلافة الراشدة، أعني خلافة ابي بكر (رض) في السقيفة واستخلافه عمر (رض) قبل وفاته، بل أسقط ـ في الوجه الثاني ـ دور أهل الحل والعقد وأفرد للخليفة القائم الحق في اختيار خليفة له دون الرجوع الى أهل الحل والعقد، أو الحاجة الى تحصيل الرضا منهم تجاه الخليفة المنصوب، "وأما انعقاد الامامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الاجماع على جوازه ووقع الاتفاق على صحته.." وقال في رده على علماء البصرة القائلين برضا أهل الاختيار كشرط لانعقاد البيعة "والصحيح أن بيعته منعقدة وأن الرضا بها ـ من قبل أهل الاختيار ـ غير معتبر، لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف على رضا الصحابة، ولأن الامام أحق بها فكان أختياره أمضى، وقوله فيها أنفذ(39).."، وأيّد ذلك ابي يعلي الفراء الحنيلي (ت 458هـ) بقوله "ويجوز للامام أن يعهد الى امام بعده، ولا يحتاج في ذلك الى شهادة أهل الحل والعقد وذلك لأن أبا بكر عهد الى عمر رضي الله عنهما، وعمر عهد الى ستة من الصحابة رضي الله عنهما، ولم يعتبر في حال العهد شهادة أهل الحل والعقد(40)"، وقد سبق القاضي عبد الجبار المعتزلي(ت 415هـ) الماوردي في إمضاء عهد أبي بكر الى عمر رضي الله عنهما واعتبار نفاد العهد في الامة أنه (يكشف عن صحة الطريق الذي صار به اماماً)(41)، كما سبق الامام الاشعري للقول بأنه يمكن لرجل واحد من أهل الحل والعقد أو أهل الاختيار أو أهل الشورى أن يرشح الامام أو ينفرد باختياره. ويعلّق إي.روزنتال على ذلك "وهذا ولا شك استعارة صريحة من الواقع السائد(42)" وأسقط ابي يعلى الفراء كما الماوردي مبدأ الشورى في فصل (مايلزم الامام من أمور)، كما أسقطه أيضاً في (حقوق الآدميين).

وهكذا التمس الفقهاء من سيرة الخلافة نظرات في النظام السياسي الشرعي، وفتحوا باب الاجتهاد على مصراعيه لتثبيت عمل الاولين دليلاً على عمل المتأخرين، وسرى ذلك على كل الدول التي قامت في تاريخ المسلمين، ومن هنا احتسبت سلطة الامويين والعباسيين شرعية بكل المعايير بناء على تنظير الماوردي، حيث تتماهى الشرعية بالخليفة حال وصوله الى الخلافة فهو مصدر الشرعية لخلافته ولخلافة من يرثه، بمعنى آخر أن شرعية السلطة تعد ناجزة حال تحقق السلطة ذاتها، وذهب الماوردي الى حد إهمال (الشورى)، لا لكونه أعرض عن اعتبارها مبدئاً للحكم الشرعي وصفة له، ولا حين عارض الزامية الشورى، وإنما حين اسقطها من الواجبات العشرة للامام، وفوّض له سلطة مطلقة في التشريع والقضاء والتنفيذ، دون أن يشير ولو عن طريق الخطأ الى حق الامة أو (مايلزم الامام) تجاه الامة.

ونجده في كتاب (أدب الدنيا والدين) يخوض بحماسة في بحث مسألة السلطان القهري ويعده قاعدة من القواعد الست التي يتم بها صلاح الدنيا وانتظام احوالها والتئام أمرها فهو في وصفه لسلطان القهر يقول "تتألف برهبته الاهواء المختلفة، وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، وتنكفّ بسطوته الايدي المتغالبة، وتنقمع من خوفه النفوس المتعادية لأن في طباع الناس حب المغالبة على ما آثروه، والقهر لمن عاندوه، مالا ينكفون عنه الا بمانع قوي ورادع ملي" وهو كلام قال به فقهاء المسلمين الشيعة والسنة وردده حرفياً ابن حزم كما ينقله ابن رضوان المالقي (ت 783هـ) في كتابه (الشهب اللامعة في السياسة النافعة) حيث نقل عنه "لما كانت الخلافة عن الله على منهاج رسوله، واقامة شرائع دينه، احتاج الناس الى من يقوم فيهم مقام نبيهم (ص) لتتألف (أو لتأتلف) برهبته الاهواء المختلفة وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة وتنكف بسطوته الايدي المتغالبة وتنقمع من خوفه النفوس المعاندة، لأن في طباع البشر من حب المغالبة والقهر ما لاينكفون عنه الا بمانع قوي ورادع كفي(43).." وأعطى الماوردي لسلطة القهر رجحاناً على العقل والدين في العلة المانعة من الظلم وقال:"لأن العقل والدين ربما كان مضعوفين، أو بدواعي الهوى مغلوبين فتكون رهبة السلطان أشد زجراً وأقوى ردعاً(44)".

وواضح من كتابات الماوردي السياسية عموماً أنه كان كثيراً ما يجعل من الواقع أصلاً عملياً وأساساً لنظريته. فكل ما جرى في الواقع التاريخي يصيغه في اطارات نظرية، ما تلبث أن تكتسي رداءا دينياً يجري التعويل عليها في استنباط رؤية شرعية للسلطة، وهي الطريقة المتبعة لدى اغلب المتلبسين بالكتابات السلطانية حتى أمكن القول بأنها ـ أي الرؤية ـ الاستثناء الذي أصبح أصلاً، وهو يكشف من زاوية أخرى عن الاوضاع الاستثنائية التي شهدتها التجربة السياسية التاريخية الاسلامية.

صدر في نفس الفترة كتاب آخر بنفس الاسم (الاحكام السلطانية) لأبي يعلى الفراء الحنبلي (ت458هـ) وهو نسخة طبق الاصل من كتاب الماوردي، باستثناء طرق الاستدلال، فلم يحد أبي يعلى الفراء الحنبلي عن طريقة الماوردي في استنباط الرؤية الشرعية لنظام الحكم في الاسلام من سيرة الخلافة، فقال بأن:" الامامة واجبة ودليلها السمع لا العقل ـ كما ذهب الماوردي ـ وهي فرض كفاية مخاطب بها طائفتين من الناس: أحداهما أهل الاجتهاد حتى يختاروا. والثانية: من يوجد فيه شرائط الامامة حتى ينتصب أحدهم للامامة(45)".

وأخذ أبي يعلى في الوجه الاول لانعقاد الامامة برأي الامام أحمد بن حنبل "أن الامام الذي يجتمع عليه أهل الحل والعقد كلهم(46)"، وخالف الشيخ ابن تيمية (661 ـ 728هـ) ـ في هذه المسألة ـ الامام أحمد بقوله "ولا يقدح في اتفاق اهل الحل والعقد شذوذ من خالف(47)"، والتزم عبد الرحمن بن خلدون رأي ابي الفراء بقوله "واذا تقرر أن هذا النصب ـ نصب الامام ـ واجب بالاجماع، فهو من فروض الكفاية وراجع الى اختيار أهل العقد والحل، فيتعين عليهم نصبه، ويجب على الخلق جميعاً طاعته(48)"، وأخذ بنفس الرأي الشيخ أبو بكر الجزائري حين قال بأن الحاكم "يعيّن باختيار أهل الحل والعقد له(49)".

وأهل الاختيار ـ حسب ابي يعلى الفراء ـ من توفرت فيهم شروط ثلاثة: العدالة والعلم الذي يتوصل به الى معرفة من يستحق الامامة والثالث أن يكونوا من أهل الرأي والتدبير المؤديين الى اختيار من هو للامامة أصلح" وأعطى لأهل الاختيار في بلدة الامام ميزة خاصة ومتقدمة على نظرائهم في البلاد الاخرى وقال "ليس لمن كان في بلد مزية على غيره من أهل البلاد يتقدم بها، وإنما صار من يختص ببلد الامام متولياً لعقد الامامة لسبق علمه بموته، ولأن من يصلح للخلافة في الغالب موجودون في بلده(50)"، ولكن لم يورد أبي يعلي نصاً يستدل به على تلك الميزة المجعولة.

وقد اشترط ابي يعلى الفراء شروطاً أربعة للامامة: القرشية مبنياً على قاعدة (لا يكون من غير قريش خليفة) دليلها حديث نبوي (الائمة كلهم من قريش). وقد أفضى هذا الشرط الى انسداد خطير في الفكر السياسي الاسلامي (والسني بخاصة)، بالنظر الى ولاية غير القرشي للسلطة مرة بعد مرة في التاريخ الاسلامي حتى اضمحلال النسب القرشي وضياعه نهائيا، وقد جرى توجيه شرط "القرشية" في السلطان في مراحل متأخرة، وقد رأى ابن خلدون وابي عبد الله بن الازرق (توفي سنة 896 هـ): أن قصد الشارع في اشتراطه ليس لمجرد التبرك به، وإن كان ذلك حاصلاً، بل لرفع التنازع، لما كان لقريش من العصبية والغلب، وقصد ذلك لا يختص بجيل ولا عصر، فمتى وجدت العصبية في القائم بأمر المسلمين وكانت هي العلة المشتملة على المقصود من القرشية، لا سيما وقد تلاشت عصبيتها شرقاً وغرباً(51)".

ويمثل هذا التأويل محاولة للخروج من مأزق ليس بالامكان تسويته سوى بالانعتاق من الحيز المرسوم للفهم المتوارث للنص، إذ لا نجد هذا التخريج والتوجيه للقرشية قبل عهد ابن خلدون، الذي استوعبه وعالجه ضمن رؤيته التاريخية ـ الاجتماعية واطروحته في العصبية كأساس لتكوّن السلطة "إن الرئاسة لا بد فيها من التغلب الموقوف على العصبية..". وهي نظرية كما يحللها د.كوثراني "صدرت عن ملاحظة معطيات التجربة التاريخية للدولة في مراحل من التاريخ العربي الاسلامي، يتجاذبها هذا العنصران المشار اليهما: العصبية من جهة والدعوة من جهة ثانية، فهو عندما يؤكد على اهمية العصبية في قيام الدولة، يشدد في الوقت نفسه على اهمية الدعوة في بروزها واضفاء القوة عليها(52)".

لقد أسست الكتابات السياسية التي وضعها الماوردي طريقة التنظير الشرعي للدولة، وجاءت الاوضاع الاستثنائية وحالة الطوارىء التي شهدها الواقع السياسي التاريخي بفعل استبداد السلطة لتعزز هذه الطريقة، بالنظر الى ما أصاب الفقهاء من عسف السلطان وامتهانه لهم، مما شجّع على جنوح البعض الى اعتزال السلطة، والتماس البعض الآخر العذر الشرعي حفاظاً على وحدة الامة، فغلب على كتابات الفقهاء بعد القرن الخامس الهجري، طابعاً تصالحياً من حيث تنظيرها لحكم قائم، ودوران تلك الابحاث ـ بصورة اجمالية ـ حول اخلاقيات الحاكم فحسب، فأصبح البحث ينحو باتجاه نوع من الحكم عرف باسم (حكومة الغلبة) أو (امارة الاستيلاء) حسب تعبير الماوردي بتجاوز شرعية النشأة وأدلة السلب والايجاب في الكتاب والسنة، حيث يتولى حاكم بالقوة على بلاد المسلمين فيكون الحاكم مستبداً ولكن في استبداده حفظ النظام، فأجاز الفقهاء هذا النوع من الحكم، ومن المفارقات المأساوية أن يمتد هذا النوع من الحكم الى زمان متأخر، حتى ملأ ذاكرتنا التاريخية حتى أصبح هذا النموذج الأمل في انبعاث الامة، كما تتحدث عن ذلك مقالة الشيخ محمد عبده بعنوان (إنما ينهض بالشرق مستبد عادل)، يقول فيها "هل يعدم الشرق كله مستبداً من أهله، عادلاً في قومه، يتمكّن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرناً(53)"، وينطلق الشيخ عبده من تراث الفقهاء في الاحكام السلطانية، بحيث أصبح السلطان القهري، النموذج الغالب في التنظير الفقهي، حتى صار الغلب هو الطريق للرئاسة بحسب ابن خلدون "أن الرئاسة لا تكون الا بالغلب" وفي مكان آخر" وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر(54)"، وأمام هذا القدر التاريخي، اكتفى الفقهاء قبالة هذا النموذج السلطاني بافراد بعض الاخلاقيات التي يلزم على الحاكم التحلي بها في سياسته وتدبير حكمه، وأغفل الفقهاء أن العدل يتوقف على ممارسة السلطة فلا يمكن تصوّر سلطة مستبدة تحقق العدل أو تقيم الشرع.

وبدا ذلك واضحاً بظهور مجموعة كتابات تهدف الى تأصيل شرعية السلطة الملوكية، فقد نسب الى ابي منصور عبد الملك بن محمد بن اسماعيل الثعالبي (ت 429هـ) كتابين لتعضيد الدولة الخوازمية وهما (الملوكي) والثاني (تحفة الوزراء) وقال في مقدمته "وبعد، فإني حين خدمت مولانا ملك الزمان، وفريد العصر والاوان خوارزمشاه ثبّت الله تعالى ملكه، وجعل الدنيا كلها ملكه بالكتاب المسمى بالملوكي خطر لي أن أخدم وزيره الاعظم ومشيره الأفخم ابا عبد الله الحمدوني، بهذا الكتاب في سياسة الوزراء، وإن كان مقامه الشريف مستغنياً عن ذلك لسلوكه تلك المسالك وإنما قصدت به استجداء مواهبه الجسام، ومكارمه العظام(55)".

وتكاد ترسم الكتابات المكثفة حول السياسة الملوكية صورة للواقع السياسي الشرقي وأزمة الشرعية التي عاشتها السلطنات الامر الذي دفع بها للحاجة الى التماس وسيلة لتسوية الانشطار في بنية السلطة، ولم يكن غير العلماء جهة قادرة على تسوية هذه الازمة، ففي هذه الفترة وما بعدها نجد ظاهرة غريبة في حقل الكتابات السلطانية، وهي كثرة الكتب الصادرة بطلب من السلطان أو الملك أو الامير، أو المهداة اليهم كتقليد مبتدع، فالى جانب كتب مثل (سياسة الملوك) للوزير نظام الملك (ت 485هـ) و(غياث الامم) لامام الحرمين الجويني (ت 478هـ) نجد كتاب (السياسة أو الاشارة في تدبير الامارة) لأبي بكر محمد بن الحسن المرادي الحضرمي (ت 489هـ) في عهد دولة المرابطين التي تأسست في المغرب في القرن الخامس الهجري على يد عبد الله بن ياسين الجزولي، وقال محقق الكتاب د. سامي النشار بأنه: "كتب بناء على طلب من الامير ابا بكر بن عمر "ليكون دستوراً له، ودستوراً للمرابطين من بعده" وقال بأنه "كتب بعد أن فقد الجزء الاكبر من ملكه على يد ابن عمه يوسف بن تاشفين، واراد أن يعرف اسرار السياسة"، الا أن الظاهر من مقدمة الكتاب أن المرادي قد أعدّه لتقديمه هدية للامير كما يذكر ذلك في المقدمة "اما بعد: أطال الله بقاءك في عز لا يزال الولي يحمد، والعدو يحسده، وأدام ارتقاءك (أو بقاءك) في مجد لا تزال الايام تجدده والتوفيق يوطده.. وإني وجدت أول ما يتحف به الاحباب، وأجدى ما يتهاداه الاجلاء والاصحاب آداباً منظومة تحكم، وآراء مسبوكة تفهم.. فلذلك نظمت لك هذا الكتاب درراً من آداب الامارة والوزارة، وفصلت لك في ثناياه فصولاً من أنواع الادارة والاستشارة(56)". وتحدث في الباب الثالث بعنوان (في الاستشارة وصفة المستشار)، فأشار الى حاجة الامير الى الاستشارة ومواصفات المستشير دون أن يأتي على الشورى باعتبارها حجر الزاوية في بنية شرعية السلطة، والكتاب في مجمله يشتمل على بعض الوصايا الاخلاقية للسلطان في تدبير شؤون سلطنته.

(إمارة الإستيلاء) كانت استثناء بنظر المتقدمين، وصارت طريق الرئاسة الوحيد، والشكل النهائي للسلطة وخصّ الفقيه الاندلسي أبو بكر الطرطوشي (ت 520هـ) بعد هجرته ديار المغرب واقامته بمصر التي كانت تحت الحكم الفاطمي الاسماعيلي، خصّ الحاكم الفاطمي نظام الدين ابا عبد الله البطائحي بكتاب (سراج الملوك) والبطائحي هو ابو عبد الله محمد بن نور الدولة اي شجاع فاتك وزير للآمر بعد الافضل، اما الآمري فهو الآمر بأحكام الله: ابو علي المنصور الملقب بـ (الآمر بأحكام الله) بن المستعلي، وقد بويع الآمر بالولاية وعمره خمس سنوات يوم مات أبوه، وقام بتدبير ملكه الافضل شاهنشاه بن أمير الجيوش وكان وزير والده، ولما اشتد الآمر وفطن لنفسه قتل الافضل واستوزر ابا عبد الله بن فاتك البطائحي (490هـ ـ 524هـ) يقول الطرطوشي في مقدمة كتابه "..ولما رأيت الاجل المأمون نظام الدين ابا عبد الله البطائحي ادامه الله لاعزاء الدين نصره، وأنفذ في العالمين في الحق أمره، وأوزع كافة الخليقة شكره وكفاهم فيه محذوره وضره، قد تفضل الله به على المسلمين فبسط فيهم يده ونشر في مصالح احوالهم كلمته وعرف الخاص والعام يمنه وبركته وتقلد أمر الرعية وسار فيهم على أحسن قضية متحرياً الصواب، راغباً الثواب طالباً سبل العدل ومناهج الانصاف والفضل رغبت أن أخصه بهذا الكتاب".

ويسعى الطرطوشي في كتابه الى تزهيد السلطان في الدنيا بتذكيره بهوانها وهلاك الملوك والسلاطين في غابر الزمان وأحوال الامم البائدة، عملاً بالنصيحة التقليدية التي اعتاد من كان قبله العمل بها مع الامراء، ورغم العبارات القاسية التي استعملها الطرطوشي في نصائحه الا أنه لا يصل الى حد الدعوة للاطاحة بالسلطة واستبدالها، ونجده في باب الاربعين المعنوّن (فيما يجب على الرعية اذا جار السلطان) نجده يتوسّل بالنصوص الدينية مثل "من كره من أميره شيئاً فليصبر فإن من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية" وأحاديث أخرى في نفس النسق المعضّد للسلطة.

ورغم أن الطرطوشي اعتبر المشاورة ثالثة الاثافي في أساس الممالك، وعدّها من الخصال الواردة في الشرع، الا أنه لم يخرجها من سياق التناصح، بين الحاكم ورعيته "اعلموا أن المستشير وإن كان أفضل من المشير فإنه يزداد برأيه رأياً كما تزداد النار بالسليط ضوءا، فلا يقذفن في روعك أنك اذا استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة الى رأي غيرك فيقطعك ذلك عن المشاورة، فإنك لا تريد الرأي للفخر به ولكن للانتفاع به(57).

وقد التزم عبد الرحمن بن عبد الله (ت 589هـ) المنهج نفسه في كتابه (المنهج المسلوك في سياسة الملوك).

واجمالاً، انتهت التجربة التاريخية الاسلامية في السلطة بعد نحو خمسة قرون الى طريق مسدود، حتى بتنا نجد ابا حامد الغزالي يفرد باباً في كتابه (احياء علوم الدين) بعنوان (فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة وما يحرم..) يقول في بدايته:"اعلم أن لك مع الامراء والعمال الظلمة ثلاثة أحوال (الحالة الاولى) وهي شرها أن تدخل عليهم (والثانية) وهي دونها أن يدخلوا عليك و(الثالثة) وهي الأسلم أن تعتزل عنهم فلا تراهم ولا يرونك". واعتبر الدخول على السلاطين مذموماً عطفاً على النصوص الكثيقة الناهرة عن مخالطة السلطان، كما حرّم الدعاء لهم الا أن يقول: أصلحك الله وما شابهها "فأما الدعاء بالحراسة وطول البقاء وإسباغ النعمة مع الخطاب بالمولى وما في معناه فغير جائز(58)". وأكد موقفه من السلطان في وصيته لابنه وهي تلخص رؤيته في التاريخ السلطاني الاسلامي بما نصه:"ألاّ تخالط الأمراء والسلاطين ولا تراهم لأن رؤيتهم ومجالستهم ومخالطتهم آفة عظيمة(59)..".ولكن الغزالي الذي يحمل رؤية متشائمة حول السلطة، لا تدفعه سوء الاحوال السياسية الى نبذها ومناجزتها بالعداء، وإنما يقرر قيام سلطة مؤسسة على القوة العسكرية، ويجعل منها المبرر الواقعي وتالياً الشرعي للطاعة، إذ يكون البديل عن عدم امكانية تحقق السلطان غير العادل وصعوبة خلعه أو أن محاولة خلعه تؤول الى فتنة، هو الاعتراف به والامتثال لطاعته، حفظاً للنظام للعام يقول ما نصه:"لأن السلطان الظالم الجاهل مهما ساعدته الشوكة وعسر خلعه وكان في الاستبدال به فتنة ثائرة لا تطاق وجب تركه ووجبت الطاعة له(60)..".

ومما يلفت النظر، أن الامام أبا حامد الغزالي ورغم استبساله في الفكاك من قيد السلطان والتزامه التصوف طريقاً للخلاص منه الا أنه لم ينج من اساره، فقد ألّف ـ بعد الخروج من عزلته التي انتهت عام 499هـ ـ في أواخر ايام حياته كتاباً باللغة الفارسية، استعار من التاريخ العبء أدلة يرفد بها السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه (ت 511هـ)، تناول فيه واجبات السلطان ووظائفه وأهمية منصبه الخلقية والخلقية، وأضفى على السلطان السلجوقي طابعاً كهنوتياً مستعيراً من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (ت 150هـ) كلمته المشهورة (أيها الناس إنما انا سلطان الله في أرضه)، ليستهل بفحواها تنظيره للحكم السلجوقي. ويقول في خطابه للسلطان "كما يسمع في الاخبار السلطان ظل الله في أرضه. فينبغي أن تعلم أن من أعطاه الله درجة الملك وجعله ظله في أرضه فإنه يجب على الخلق محبته، ويلزم متابعته وطاعته، ولا يجوز لهم معصيته، ومنازعته..فينبغي على كل من آتاه الله الدين أن يحب الملوك والسلاطين، وأن يطيعهم فيما يأمرون، ويعلم أن الله تعالى يعطي السلطنة والمملكة وأن يؤتي ملكه من يشاء(61)".

وهذا النص يتعارض مع جوهر فكرة الامام الغزالي في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد)، والذي عمد فيه الى اخراج (الامامة) من اختصاصات الفقه، بما ينزع عنها الصبغة التديينية، فذكر ما نصه "النظر في الامامة..ليس من المهمات وليس من ايضاً من فن المعقولات فيها من الفقهيات.."، وهي تماماً رؤية استاذه الامام الجويني في (الارشاد) (وغياث الامم) ولكنه في رأيه ذاك يرسي تصوراً جديداً للسلطة القهرية، وذلك في اطار تقسيمه لاشكال انعقاد الامامة والتي يحصرها الغزالي في "أحد ثلاثة: إما التنصيص من جهة النبي (ص) واما التنصيص من جهة امام العصر بأن يعين لولاية العهد شخصاً معيناً من أولاده أو سائر قريش، وأما التفويض من رجل ذي شوكة يقتضي انقياده وتفويضه ومتابعة الآخرين ومبادرتهم الى المبايعة، وذلك قد يسلم في بعض الاعصار لشخص واحد مرموق في نفسه مرزوق بالمتابعة مستولي على الكافة ففي بيعته وتفويضه كفاية عن تفويض غيره، لأن المقصود أن تجتمع شتات الآراء لشخص مطاع وقد صار الامام بمبايعة هذا المطاع مطاعاً.." ويضيف "ولو لم يكن بعد وفاة الامام الا قرشي واحد مطاع متبع فنهض بالامامة وتولاها بنفسه ونشا بشوكته وتشاغل بها واستتبع كافة الخلق لشوكته وكفايته وكان موصوفاً بصفات فقد انعقدت امامته ووجبت طاعته فإنه تعين بحكم شوكته وكفايته وفي منازعته اثارة الفتن(62).."، ونجد في هذا النص أن الامام الغزالي يعيد ادخال الامامة الى حيز الشريعة مستدلاً بنص القرشية في الامارة، بل نجده في ايام المستظهر بالله (487 ـ 512هـ) يدّل عليه ويأمر العلماء بالافتاء بوجوب طاعته، كما عدّه امام حق "..وأن امامته على وفق الشرع، وأنه يجب على كل مفت من علماء الدهرأن يفتي على القطع بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ أقضيته بالحق، وبصحة توليته الولاة، وتقليده للقضاه، وصرف حقوق الله اليه يتصرفها الى مصاريفها، ويوجهها الى مظّانها ومواقعها(63).."، واعتبر امامته ثابتة بدليل شوكته وورعه وعلمه وكفايته، وربما كان للظروف السياسية التي مرت بها بلاد المسلمين حيث بدأت في عهده الحملات الصليبية على بيت المقدس أثراً في موقف الامام الغزالي.

ونجد أن ابن جماعة (639هـ ـ 733هـ) الذي عاش في كنف تحول سياسي عظيم في ديار الاسلام بعد اجتياح المغول عاصمة الخلافة (بغداد) وانهاء حركة الخلافة منذ انتقلت الى دولة المماليك في مصر حيث فقدت الخلافة أهميتها ومركزيتها، واجه ابن جماعة ذات الاشكالية السلطانية التقليدية حول مشروعية السلطة القهرية، حيث أهمل الشروط اللازم توافرها في السلطان كيما يتأهل لاستلام زمام الامر واكتفى بشرط القوة والاستيلاء قياماً بالسلطة، واعتبر ذلك موجباً للطاعة باسقاط دور أهل الاختيار واهل الحل والعقد في تعيّن السلطان، تعويلاً على اقتران وحدة السلطة بوحدة الامة. يقول في كتابه (تحرير الاحكام في تدبير أهل الاسلام):"إن خلا الوقت عن امام، فتصدى لها من هو ليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته ولزمت طاعته، لينتظم شمل المسلمين وتجتمع كلمتهم، ولا يقدح في ذلك كونه جاهلاً أو فاسقاً في الاصح واذا انعقدت الامامة بالشوكة والغلبة لواحد ثم قام آخر فقهر الاول بشكوته وجنوده انعزل الاول وصار الثاني اماماً لما قدمناه من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم(64)".

والواقع، أن ابن جماعة ساهم في ترجيح خيار لم يكن بالامكان التوسل به في غير المستجدات السياسية التي جرت في ديار الاسلام منذ منتصف القرن السابع الهجري، حيث أمكن تأخير الحاجة للخلافة بما تزخم به من رمزية تاريخية، واطار لتطبيق الشرع مع تأمين الحد الممكن من الوحدة المجتمعية للمسلمين، وفي نفس الوقت السعي الى دفع اهل الحكم الى تطبيق الشريعة.

ولا شك، أن رأي ابن جماعة أعان شيخ الاسلام ابن تيمية (661 ـ 728هـ) على بلورة رؤية متطورة في كتابه (السياسة الشرعية في اصلاح الراعي والرعية) لموضوعة الدولة لا من حيث شرعية السلطة، وإنما من خلال تمثّلها للسياسة الشرعية التي تعني لدى ابن تيمية تحقق العدل، فكل دولة تضمن تحقيق العدل هي دولة شرعية، دون الاحتكاك بجدليلة كون العدل يقتضي أن تكون السلطة شرعية كما تقتضيه السياسة الشرعية، ولكن الشيخ ابن تيمية الذي يستحضر رأي الفقهاء الماضين في مسألة مسؤوليات الراعي والرعية ووظائف السلطنة، كما يستحضر في الوقت نفسه التجربة السياسية في عصره، يعي بصورة تامة خطورة السلطة وأهميتها في المجال الاسلامي ولذلك يقول "ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام الدين الا بها"، فاعتقاده مؤسس على وجوب التدين بالامارة "فالواجب اتخاذ الامارة ديناً وقربة يتقرب بها الى الله، فإن التقرب فيها، بطاعة الله وطاعة رسوله من أفضل القربات"، و هذا الرأي مما تسالم عليه علماء الامة قاطبة. ولكن هناك بالتأكيد آراء جديدة متطورة لم تكن مطروقة في الماضي، وكان رأي ابن تيمية يقوم على اساس غرض السلطة وليس أصل نشأتها، فشرعية السلطة تتحقق بتحقق العدل في الرعية، وربما هذا يفسر ايضاً موقفه في موضوع الخلافة التي ولد بعد سقوطها (الخلافة سقطت عام 656هـ) على يد المغول، وكان يرى بأن الأصل هو النظام الذي يرعى تطبيق الشريعة وليست الخلافة كشكل تاريخي.

فبينما أولى الماوردي اهتماماً زائداً بالشكل/المثال والنموذج ـ الخلافة، أولى المتأخرون مثل ابن جماعة وابن تيمية اهتماماً أكبر بالمضمون حيث أكدوا على تطبيق الشريعة بوصفها الاصل في الامر كله، أي ارجاع الحياة الاسلامية الى حيز الشريعة المؤسس على الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، وهذا بالتحديد ما يشير اليه عنوان كتاب ابن تيمية (السياسة الشرعية)، وهو كتاب موجه في الاصل للسلطان الناصر محمد بن قلاوون، ولذلك فإن طريقة تداول السلطة أو الوصول اليها ليست من شؤون الفقيه.

وسنجد أن الطريقة التي تشكلت بها السلطة تصبح فاقدة لأي جدوى في البحث الفقهي السلطاني طالما أن غرضها متحقق وهو الطاعة المتكفلة بحفظ النظام وقيام الاحكام وهو ما يشير اليه الشيخ ابن تيمية بما نصه "والقدرة على سياسة الناس اما بطاعتهم له، وإما بقهره لهم، فمتى صار قادراً على سياستهم بطاعتهم أو بقهره، فهو ذو سلطان، مطاع إذا امر بطاعة الله(65)".

ولا يمكن قراءة هذا الرأي دون ظرفه التاريخي الذي انبثق منه، فقد كان الشيخ ابن تيمية مقرباً من السلطان الناصر المملوكي الخصم اللدود للسلطان خدابنده وكان بينهما صراع على السيطرة على مكة ولا شك أن في سياق صراع سلطنة المماليك ضد الامتداد الشيعي جاء وضع كتاب (منهاج السنة) الذي هو رد مباشر على منهاج الكرامة(66).

ورغم ما بين ابن تيمية والحلي من اختلافات عقدية وسياسية الا أنهما متفقان في الموقف السلطاني، إذ يذهب كل منهما ومن جبهتين متقابلتين (الحلي/المغول في مقابل ابن تيمية/المماليك) الى تبرير شرعية السلطة وهي عند الحلي ـ حسب وجيه كوثراني ـ تفريق بين الشرعية الدينية والشرعية السياسية، بينما عند ابن تيمية الاقرار والاعتراف بسلطان متغلب هو الناصر، والتبرير قائم على اساس أن الامامة تحصل بالقدرة والسلطان(67).

وربما نجد في الكلمة المشهور لابن تيمية ما يصلح للكشف عن رزايا السياسة في ديار الاسلام بما نصه:"إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة(68)"، ورغم أننا لا نعرف على وجه الدقة خلفية هذه الكلمة ناظرين الى السياق التاريخي الذي انطلقت منه، مع الأخذ بنظر الاعتبار ماحصل للشيخ ابن تيمية عندما وجهت اليه تهمة الوقوع في التشبييه والتجسيم من قبل الشيخ نصر المنبحي الذي كان مقدّماً في الدولة المملوكية فسجن ابن تيمية مرتين في قلعة دمشق وسحب منه حق اصدار الفتوى كما منع من الكتابة في آخر ايام حياته حتى مات في السجن. الا أننا نعلم تماماً بأن الكلمة تلك عبّرت عن انحراف السلطة في ديار الاسلام، وتذكرنا هذه الكلمة بما جرى في اجتماع علماء بغداد مع هولاكو بعد استيلائه على بغداد سنة 656هـ حين وجّه اليهم سؤالاً:"أيما أفضل السلطان الكافر العادل أم السلطان المسلم الجائر؟ فأحجموا عن الاجابة، ولكن العالم الشيعي علي بن طاوس (ت 664هـ) الذي كان حاضراً المجلس، تقدّم ووضع خطه بتفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر. يقول ابن الطقطقي "فوضع الناس خطوطهم بعده(69)"، ومسند ذلك حديث نبوي "يبقى الملك بالعدل مع الكفر ولا يبقى بالجور مع الايمان(70)".

ولا بد من الاشارة، الى أن الشيخ ابن تيمية الذي دفع حياته ثمناً لآراءه، ورغم مشاكله مع الدولة المملوكية، الا أنه لم يجنح الى مقارعتها بالقول أو الفعل، بل أفتى بوجوب طاعة السلطة المملوكية مع أنها سحبت منه حق الافتاء لاحقاً، ورغم اشتراطه العدل لتحقق شرعية السلطة عارض الخروج على السلطة الظالمة بما نصه "المشهور في مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الائمة ـ أي الامراء وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الاحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي (ص)" ويعلل ذلك قائلاً "لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة فيدفع أعظم الفسادين بالتزام الادنى ولا نكاد نعرف طائفة خرجت على ذي سلطان الا كان خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته(71)"، وبذلك أصبحت (حكومة الامر الواقع) ـ كما اطلق عليها الاستاذ محمد المبارك ـ شرعية بنظر الشيخ ابن تيمية، واستند في ذلك على مبدأين: الضرورة تسقط ما أعوز عن شروط المكنة، وما خيف انتشاره من المصالح العامة تخفف شروطه المصالح الخاصة. وربما تمثّل ابن تيمية سيرة الامام أحمد بن حنبل الذي واجه عسف الخليفة العباسي في حادثة خلق القرآن، حيث امتنع عن الافتاء بمناجزة الخليفة والخروج عليه، ومما ينقل عن الامام أحمد أن علماء بغداد استشاروه في الخروج على الخليفة العباسي أيام الواثق بسبب القول بخلق القرآن وحمل الناس على ذلك، قال الامام أحمد "عليكم بالفكرة في قلوبكم ولا تخلعوا يداً من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين(72)".

ويظهر الشيخ ابن القيم الجوزية (691 ـ 751هـ) وهو حنبلي ومعاصر للشيخ ابن تيمية براعة متميزة في خوض الجدل السياسي من خلال كتابه (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)، يتناول فيه ابعاداً جديدة للسياسة الشرعية، ورغم أن "الكتاب عبارة عن كتاب حدود وتعزيرات وآليات تنفيذها بمقتضى السياسة الشرعية" كما جاء في مقدمته، الا أنه تضمن آراء سلطانية جديرة بالاهتمام.

ينطلق الشيخ ابن الجوزية من تعريفات علماء السنة للسياسة، والتي تشكل خلفية للآراء التي ينوي عرضها، وصولاً الى تقرير ما بين السياسة والشرع من أوجه صلة، متوسلاً بتعريف الشافعي وابن عقيل للسياسة (الشرعية)، فقد قصر الشافعي حدود السياسة على ما وافق الشرع وقال: لا سياسة الا ماوافق الشرع. وشّرح ابن عقيل ذلك: السياسة ماكان فعلاً يكون معه الناس اقرب الى الصلاح وابعد عن الفساد، وإن لم يصنعه الرسول(ص) ولا نزل به الوحي.

وأراد ابن الجوزية تأسيساً على هذا المحدد، استجلاء الاشكالية الرئيسية المصوّبة لمفهوم السياسة الشرعية، "فإن اردت بقولك (الا ما وافق الشرع) أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح وإن اردت: لا سياسة الا ما نطق به الشرع. فغلط وتغليط للصحابة. فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن.." ويمضي في شرح ذلك: "فإذا ظهرت امارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه والله سبحانه اعلم واحكم واعدل أن يخص طرق العدل واماراته واعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو اظهر منها، وأقوى دلالة، وأبين امارة فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها(73).

ويزيد في شرح ذلك " قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق: أن مقصوده اقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له فلا يقال: أن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقه لما جاء به، بل هي جزء من اجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعاً لمصلحتهم، وإنما عدل الله ورسوله، ظهر بهذه الامارات والعلامات".

وقسّم ابن الجوزية السياسة الى نوعين: سياسة ظالمة وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر فهي من الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها"، بتعديل طفيف لرأي امام الحرمين الجويني (ت478هـ) في كتابه (غياث الامم) الذي كان يرى في شرعية السلطة تطبيقها للشريعة وانفاذ احكامها، فكل دولة قامت بتطبيق الشريعة هي دولة شرعية بصرف النظر عن شكل السلطة فيها، فكانت (دولة تطبيق الشريعة) نموذج الدولة التاريخية للامة الماثلة أمام فقهاء القرن السابع الهجري ومابعده.

ورغم انتقاد اعلام السلفية للسياسة الظالمة واعتبارها غير شرعية الا أنهم شدّدوا على طاعة السلطان تعزيزاً لفكرة (عدم الخروج) على الظالم وطالبوا بالاعتراف بـ(من غلب) كما أخذ بذلك الامام احمد والشيخ ابن تيمية. وقد نجد في تراث ابن القيم مايبرر رأي الامام وشيخ الاسلام ولذلك يقول:"ان الانكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم هو اساس كل شر وفتنة الى آخر الدهر..ومن تأمل ماجرى على الاسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من اضاعة هذا الاصل وعدم الصبر على المنكر فطلب ازالته فتولد منه ماهو أكبر منه، ولهذا لم يأذن الرسول في الانكار على الامراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ماهو اعظم منه". ويمضي في توكيد هذا الرأي "..فلو منعت امامة الفساق وشهادتهم واحكامهم وفتاويهم وولاياتهم لعطلت الاحكام، وفسد نظام الخلق..وبطلت اكثر الحقوق..فإمام الضرورة والغلبة بالباطل ليس الا الاصطبار .. والقيام بأضعف مراتب الانكار".

ومما تجدر الاشارة اليه هنا، أن كل الذين كتبوا في الدولة والاحكام السلطانية، استحضروا ـ إبان استجابتهم لسلطة الأمر الواقع ـ الدولة/المثال والنموذج كطموح وأمل منشود، فالفلاسفة (الفارابي وابن سينا والشيرازي، والطوسي وابن رشد وابن ماجه..) وثّقوا صلاتهم بالمدينة الفاضلة كما رسمها ارسطو في رسائله وافلاطون في جمهوريته، واستوعبها ـ أي الفلاسفة المسلمين ـ ضمن المجال السياسي الاسلامي، فيما جعل فقهاء السنة من الخلافة الراشدة، النموذج الاعلى (الماوردي وابي الفراء الحنبلي..) أو دولة العدل (ابن جماعة، ابن تيمية، ابن القيم الجوزية) فيما اعتصم فقهاء الشيعة بدولة الامام المهدي الموعود.

الوعي العصري للسياسة الاسلامية: البحث عن مخرج

انتهت التجربة السياسية والتراث السلطاني في المجال السياسي العربي والاسلامي الى مأزق حرج عند أكبر مواجهة حضارية مرّت بها الجماعة الاسلامية منذ بدء انهمار سيل الثقافة الغربية الحديثة، التي صوّبت طيفاً من الاسئلة التشكيكية لكل الافكار السائدة.

والواقع، ضاعف الانكفاء على الذات من مشكلة انفصام العلاقة بين الدين وشؤون الدولة عموماً، حيث برزت مشكلات جديدة مع تطور حركة المجتمع الاسلامي والتعقيدات التي برزت خلال التجربة السياسية العربية والاسلامية بدءا من الدولتين الاموية والعباسية وحتى العثمانية والصفوية، وكانت الحاجة الى رأي ديني متجدد ومتسق مع حركة التطور في هذه الدول، مما يعني أن الانعزال عن الحياة السياسية ضيّع على العلماء فرصة البحث في موضوعات عديدة ومتنوعة، وبخاصة الموضوع السياسي مما ألزمهم بمسئوليات مضاعفة وخصوصاً في مرحلة كان لابد للاسلام أن يقول فيها كلمته.

ولا شك أن التحدي كان قاسياً، نلحظه بوضوح في القراءات المتأخرة للتاريخ وللتراث الاسلاميين، وهي قراءات تتسم بالقسوة والغلظة، يثيرها رد فعل واحد يعبّر عن نفسه في الصيغة التالية:أن الكتابات الممتدة من القرن الخامس الهجري وحتى القرن الرابع عشر الهجري لم تسعف المتأخرين على تحديد النظام السياسي الاسلامي أو تعينهم على تثبيث مبدأ للسلطة في الاسلام.

ووجدنا في بدايات هذا القرن، عالمين مسلمين بارزين يعتصرهما الألم إبان مقاربتهما لمفهوم الشورى، ففي مقالة للشيخ رشيد رضا في مجلة المنار في 11 يونيو 1906 تحدث فيها عن اقتباس الشرقيين طبيعة الحكومة من الاوروبيين وقال مانصه "فأعظم فائدة استفادها أهل المشرق من الاوروبيين معرفة مايجب أن تكون عليه الحكومة واصطباع نفوسهم بها حتى اندفعوا الى استبدال الحكم المقيد بالشورى والشريعة بالحكم المطلق الموكول الى ادارة الأفراد فمنهم من نال أمله على وجه الكمال كاليابان ومنهم من بدأ بذلك كايران، ومنهم من يجاهد في سبيل ذلك بالقلم واللسان كمصر وتركيا" ثم يقول "لا تقل أيها المسلم أن هذا الحكم أصل من أصول ديننا فنحن قد استفدناه من الكتاب المبين ومن سيرة الخلفاء الراشدين، لا من معاشرة الاوروبيين والوقوف على حال الغربيين، فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس لما فكرت أنت وأمثالك بأن هذا من الاسلام ولكان أسبق الناس الى الدعوة الى اقامة هذا الركن علماء الدين من الاستانة وفي مصر ومراكش(74)".

وفي عام 1907 انتهى الشيخ محمد حسين النائيني (1273 ـ 1355هـ) من كتابة رسالته الموسومة بـ (تنبيه الامة وتنزيه الملة) وهي تعالج الاشكاليات المثارة حول نشاط حركة المشروطة في ايران، أثنى فيها على حكماء الغرب الذين اكتشفوا الصيغة المثلى للسلطة وقال ما نصه:"ولا يسعنا..الا الاعتراف بجودة استنباط أول حكيم التفت الى هذه المعاني وبنى السلطة العادلة الولايتية وكونها مسؤولة وشوروية ومشروطة على اساس الاصلين الاولين الحرية والمساواة" وأبدى أسفاً بالغاً ينطوي على تقريع لأولئك النفر المتمنعين عن الأخذ بهذا الاصل العظيم اشارة الى الشورى بمضمونها الديمقراطي ويقول ما نصه:"أما اليوم وقد حصلنا بعد اللتيا والتي على شيء من التنبه والشعور، وقمنا نأخذ مقتضيات ديننا من الاجانب مع تمام الخجل قائلين هذه بضاعتنا ردت الينا، فقد انهت الفرقة الجاهلة الخاملة عبدة الظلمة وحاملة شعبة الاستبداد الديني اعانتها للظالمين للنقطة الاخيرة والدرجة النهائية وأصبحت تعد سلبنا للظالمين صفات الذات الاحدية..منافياً للدين الاسلامي والقرآن المجيد(75)..".

وانداحت القراءات السياسية الاسلامية في الربع الاول من هذا القرن في هيئة مراجعات في اتجاهين مختلفين: قراءة تقويضية، أخذت شكل القطيعة المعرفية والتاريخية، والاخرى: قراءة تبريرية، أعادت تفسير التاريخ السياسي الاسلامي على قاعدة تبريرية.

ومن نماذج القراءة التقويضية، كتاب الشيخ علي عبد الرازق (الاسلام وأصول الحكم) الصادر عام 1923م، الذي انتهى فيها من تحليل للواقع التاريخي الخليفي والسلطاني، الى "أن الغلبة كانت دائماً عماد الخلافة.." وفي مكان آخر "أن الخلافة في الاسلام لم ترتكز الا على اساس القوة الرهيبة، وأن تلك القوة كانت الا في النادر قوة مادية مسلحة(76)". والكتاب في مجمله يتجه الى إثبات نتيجة واحدة: نفي النظام السياسي في الاسلام، أي فصل الدين عن الدولة.

أما نموذج القراءة التبريرية، فتظهر في كثير من الكتابات السياسية الاسلامية في هذا القرن، ونكتفي بكتاب (نظام الاسلام.. الحكم والدولة) للاستاذ محمد المبارك، حين عوّل كثيراً على التجربة السياسية في التاريخ الاسلامي، ولم يتصوّر شكلاً آخر للحكم غير (حكومة الامر الواقع) كما يصطلح عليه، واعتبار ذلك مورد اجماع الصحابة، والمبدأ الذي يعتمد عليها(77)، وتطورت القراءات تدريجياً لتتماهى في مجال المفاهيم السياسية الحديثة، بعد أن برزت مشكلات جديدة ذات صلة بشؤون الدولة، فلم يتوقف الامر عند حدود نشأة السلطة وشكلها وطبيعة مشروعيتها، وإنما انسحبت ـ بمرور الوقت ـ على السياسات العامة والوظائف الادارية للدولة.

وتجلّت تلك المشكلة مع اشتداد الهجمة على الاسلام في القرن التاسع عشر من قبل الغرب والنخب الحديثة، تلك الهجمة التي قامت على اساس نقد الموروث الديني وتفكيك الايديولوجيا بوصفها أهم متطلبات الانبعاث النهضوي، من خلال التشكيك في قدرة الدين على مد مظلته الى العصور المتأخرة، وافتقاره الى اجابات حاسمة على المسائل الجديدة بما يشمل الاقتصاد والسياسة والنظام الاجتماعي والتشريعات الديمقراطية والمرأة والتشكيلات السياسية والنقابية والحزبية..الخ.

وخلال هذه الفترة برزت الحاجة الى الانخراط في البحث السياسي والتنظير لموضوعة الدولة، فانبرت جماعة من العلماء والمصلحين في أرجاء البلاد الاسلامية لدفع الشبهات عن الدين، فانخرطت في الشأن العام، وهكذا أثارت حملات المقاومة مسألة البعث الديني وتجديد المفاهيم الاسلامية بما يواكب العصر الحديث، فبدأت تطرح وبقوة مسألة العلاقة مع الآخر الغربي، في أكبر احتكاك حضاري من نوعه، فظهرت الفوارق بين الفكر الديني الذي حمله العلماء المسلمين والفكر الغربي الوضعي. وبرز في وسط العلماء تياران رئيسيان:

ـ تيار سلفي أو تيار الرفض المطلق واللجوء الى الماضي والابقاء على صفاء الاسلام ونقاوته، وتحصين الدين من تأثير التيار الغربي من خلال اتباع الدين الحنيف.

ـ تيار تصالحي مع الغرب يتبنى موقفاً وسطاً بين التيار التقليدي (الرفض المطلق)، والتيار التحديثي (القبول المطلق)، فكان دعاة هذا التيار وهم الاغلبية يعتمدون منطلقاً واحداً وهو حماية الدين قبالة الهجمة الغربية، ولكن بنظرة مغايرة ترفض الركون الى التفسير التقليدي لمفاهيم الدين، وكان يدفع هذا التيار حرصه على دفع اشكالات (الجمود، والتعصب، والتحجر) عن الاسلام فحاول التوفيق بين المفاهيم الاسلامية وماجاء به الفكر الغربي، واجتهد العلماء في تقديم الاسلام في ثوب عصري وإن كان ذلك يؤدي في بعض الاحيان للوقوع في محذورات واشكالات، في ظل الهجوم السياسي والعسكري الغربي على الشرق وفي ظل علاقة الغالب والمغلوب التي سادت عملية الانتقاء والاقتباس والتوفيق من حيث اضطراب معايير الانتقاء لما يفيد العرب والمسلمين من منجزات الغرب، وشمل ـ الاضطراب ـ القدرة على التمييز بين النافع وغير النافع، وانطمست الفروق بين التجديد والتقليد، وبين النهوض والتغيير، وبين الاصلاح والاستبدال(78).

ومع تدفق فكر الوافد الغربي بسيل من الشكوك في قدرة الدين على مواكبة العصر والانسجام مع الواقع المعيش، وإثارته فكرة فصل الدين عن الدولة، بدأ العلماء ومن منطلق الممانعة، في تقديم قراءة عصرية للاسلام تفضي الى ايجاد نوع من المزاوجة بين المفاهيم الاسلامية والمفاهيم الغربية في مجال الدولة، للخروج من مأزق التحصن بالتراث وتجسير الفجوة في حركة التنظير الفقهي، وكان السيد جمال الدين الافغاني في طليعة المتصدرين للحركة من خلال دعوته الى سلطة تقوم على رضا الشعب واختياره، ثم طوّر الشيخ محمد عبده هذه الدعوة في عمليات مزاوجة واسعة النطاق بين مفاهيم اسلامية وعصرية مثل: الشورى والديمقراطية، والاجماع ورأي الاغلبية، والضريبة والزكاة وهلم جرا، كما قدّم تصورات جديدة حول المرأة(79).

وكان حرص علماء المسلمين على مقاومة الشكوك التي يروجها بعض المثقفين الليبراليين دفع بالبعض من العلماء للتسامح في ما يوردونه من أدلة لاستنباط أحكام تلتقي مع الطروحات الجديدة. وجاءت صدمة انهيار الخلافة العثمانية عام 1924م لتحدث هزة عنيفة للضمير الاسلامي، فتدافع العلماء ورجال الفكر المسلمين للمنافحة عن الاسلام، فأجروا محاولات جادة ومضنية لبعث المفاهيم الاسلامية في الحكم، وإن كان البعض يضع من مفاهيم الدولة الحديثة (الغربية) نظاماً معيارياً يقارب به مفاهيم الخلافة أو الامامة في التراث الاسلامي، بحيث أدى الى قطيعة معرفية وتاريخية، بمعنى ادراج الخلافة والامامة في اطار مفهومي حديث يتصل بالدولة الحديثة، بحيث لا نجد صورة الخلاف بين المسلمين علىالخلافة أو الامامة بعد وفاة الرسول (ص) محتفظة بنفس عناصرها، فهناك مكوّنان رئيسيان لمفهوم الخلافة: ديني، وسياسي لا بمعنى الفصل بين المكوّنين وإنما الفصل بين الغايتين.

ويأتي أبو الاعلى المودودي في مقدمة علماء المسلمين الذين بحثوا مسألة الحكم في الاسلام على نحو اجمالي في كتابه (نظرية الاسلام السياسية) وهو عبارة عن محاضرة ألقاها المودودي في مدينة لاهور في أكتوبر عام 1939، وطرح فيها لأول مرة فكرة "الحاكمية" التي ترددت فيما بعد في كتابات الشهيد سيد قطب وأخذها عنه جملة من العلماء والمفكرين الاسلاميين الحركيين في فترات لاحقة. ينطلق المودودي في اطروحته من مبدأ أساسي للنظرية السياسية في الاسلام هي "الحاكمية لله.. له وحده وبيده التشريع وليس لأحد.. وإن كان نبياً.."، وبعد استعراضه لبعض الآيات يخلص المودودي الى الخصائص الاولية للدولة على النحو التالي:

1 ـ ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدولة نصيب من الحاكمية فإن الحاكم الحقيقي هو الله والسلطة الحقيقة مختصة بذاته تعالى وحده..

2 ـ ليس لأحد من دون الله شيء من أمر التشريع والمسلمون جميعاً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يستطيعون أن يشرعوا قانوناً ولا يقدرون أن يغيّروا شيئاً مما شرع الله لهم.

3 ـ أن الدولة الاسلامية لا يؤسس بنيانها الا على ذلك القانون المشرع الذي جاء به النبي من عند ربه مهما تغيّرت الظروف والاحوال والحكومات التي بيدها زمام هذه الدول(80).

وتأسيساً على الخصائص تلك، عالج المودودي موضوعة الديمقراطية "إن الديمقراطية عبارة عن منهاج للحكم تكون السلطة فيه للشعب جميعاً فلا تغيّر فيه للقوانين ولا تبدّل الا برأي الجمهور، ولا تسن الا حسب ماتوحي اليهم عقولهم. فلا يتغير فيه من القانون الا ما ارتضته أنفسهم وكل ما لم تسوغه عقولهم يضرب به عرض الحائط ويخرج من الدستور"، ويعلّق على ذلك "إنها ليست من الاسلام في شيء. فلا يصح اطلاق كلمة الديمقراطية على نظام الدولة الاسلامية(81)".

ولكن المودودي لم يجد ضيراً في استخدام مصطلح (الديمقراطية الاسلامية) في مجال اثبات الحريات في الاسلام، على هذا النحو:

1 ـ المجتمع الذي يكون كل عضو فيه خليفة لا يتسرب اليه فساد التفريق بين الطبقات، ولا شر الامتيازات التي تأتي من جهة الحياة الاجتماعية والفوارق النسبية، ويكون أفراد هذا المجتمع سواسية.

2 ـ لا تحول عقبات النسل أو الحرفة أو المنزلة في المجتمع بين الفرد أو جماعة من الافراد وبين مواهبهم الشخصية وتنمية سجاياهم الفردية وملكاتهم المتنوعة المستودعة في نفوسهم.

3 ـ لا يكون لرجل أو طائفة أن تستبد بالامر أو تتسنم عرش الديكتاتورية، لأن كل فروق افراد هذا المجتمع خليفة، ولا يجوز لطائفة أو فرد من أفرادها أن ينتزع حق الخلافة من جمهور المسلمين وينصب نفسه مسيطراً عليهم.

4 ـ ومن حق كل فرد في هذا المجتمع سواء كان ذكراً أو أنثى ـ إذا كان عاقلاًً بالغاً ـ أن يكون له رأي في مصير الدولة لأنه منعم عليه بنصيب من الخلافة العمومية ، ولم يخص الله تلك الخلافة بشروط خاصة من الكفاءة والقوة، بل هي مشروطة بالايمان والعمل(82).

وبناء على هذه المعطيات قبل المودودي بالديمقراطية في ظل الحاكمية الالهية "إن الاسلام قد أقرّ نيابة الشعب واستخلافه عن الله في ظل سيادته وحاكميته..ففي الاسلام حاكمية شعبية..إن ديمقراطيتنا الاسلامية هي كديمقراطية الغرب لا تتألف فيها الحكومة ولا تتغير الا بالرأي العام ولكن الفرق بيننا وبينهم أنهم يحسبون ديمقراطيتهم حرة مطلقة العنان ونحن نعتقد الخلافة الديمقراطية متقيدة بقانون الله عز وجل..فالامة نائبة عن الله وهي انتخبت حاكمها ونوابها وأهل الحل والعقد فيها بطريقة ديمقراطية على العكس من القيصرية أو البابوية أو الثيوقراطية..إننا نعارض سيادة فرد أو أفراد أو طبقة سيادة مطلقة تستأثر بالسلطة أكثر من المتحمسين للديمقراطية.. ونؤكد المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص أكثر من تأكيد أنصارها، ونحارب كل نظام يكبت الحريات فلا يبيح حرية التعبير أو التجمع أو العمل أو يضع العراقيل في سبيل بعض الافراد لاختلافهم في الجنس أو الطبقة أو أصل الولادة(83)".

وكان المودودي دخل مطلع الاربعينات في سجال فكري مع أنصار القومية الهندية والقومية المسلمة المتطرفة، وعارض بشدة فكرة اقتباس منظومة الدولة، على أساس أن الدولة "لا توجد بالطرق الصناعية فليست هي بالتي تصنع في مصنع ثم تنتقل منه وتثبت في موضع آخر، بل إنها تنشأ في المجتمع نشوءا طبيعياً لأسباب اخلاقية ونفسية وعمرانية وتاريخية وتفاعل هذه الاسباب فيما بينها، فتكون لها أمور أولية لازمة ومحركات اجتماعية ومقتضيات فطرية تتجمع وتتقوى حتى تنبعث منها الدولة انبعاثاً.."، وعاود تأكيده على مبدأ الحاكمية في الدولة الاسلامية وعدّه "الاساس الذي يقوم عليه بناؤها(84)".

وقد لقيت أفكار المودودي رواجاً واسعاً في الوسط الاسلامي والمصري منه تحديداً، حيث كان الصراع الفكري محتدماً، ومع تنامي المد الاسلامي في الثلاثينات والاربعينات اجتذب اليه عددا من أقطاب التيار العلماني، فعزز من موقف التيار التوفيقي ومنحه دفعات قوية، من هؤلاء: طه حسين ومحمد حسين هيكل، ويأتي خالد محمد خالد الذي قدّم توبة علنية في مقدمة هؤلاء، فكتب كتابه (الدولة في الاسلام) تنازل فيه عن فكرة فصل الدين عن الدولة، وأكد على تماهي الاسلام والدولة، وبدأ ينظّر لمفهوم الدولة الاسلامية، فكتب حول تماثل الشورى والديمقراطية وعرّف الشورى على النحو التالي:

"إنها الديمقراطية التي نراها اليوم في بلاد الديمقراطيات، وأركانها وعناصرها هي:

أولاً ـ الامة مصدر السلطات بما فيها السلطة التشريعية فيما لا يناهض نصاً شرعياً قطعي الدلالة.

ثانياً ـ حتمية الفصل بين السلطات فصلاً حقيقياً لا زائفاً حتى لا تطغى إحداها على الاخرى.

ثالثاً ـ الامة صاحبة الحق المطلق في اختيار رئيسها بطريقة الانتخاب الحر لا الاستفتاء.

رابعاً ـ وصاحبة الحق المطلق في اختيار ممثليها ونوابها في برلمان حر رشيد شجاع يراقب الحكومة ويقاوم اعوجاجها.

خامساً ـ حق الشعب في تعدد الاحزاب التي لا تقتصر وظيفتها فقط على تنمية الآراء القومية داخل الامة بل هي الوسيلة الوحيدة لخلق الكوادر السياسية الناضجة التي اذا وليت الامر أو تولى بعضها أن تكون على وعي ورشد.

سادساً: قيام معارضة برلمانية لها وضعها الدستوري القانوني تستطيع اسقاط الحكومة اذا هي انحرفت أو ضلت سواء السبيل.

سابعاً: حرية الصحافة..حرية كاملة.. وحرية الفكر والرأي والعقيدة(85).

وأياً كان الرأي، فقد أبدى العلماء والمفكرون الاسلاميون اهتماماً كثيفاً في بحث الدولة الاسلامية، ويمكن القول بأن الكتابات السياسية الاسلامية في هذا القرن فاقت بعشرات الأضعاف كل ما كتب منذ القرن الخامس وحتى القرن الثالث عشر الهجري، وكان من الطبيعي أن تتباين وجهات النظر وتتعارض أحياناً لطبيعة الظروف والاجتهادات زائداً غياب النموذج التاريخي والايديولوجي للدولة الاسلامية الحائز على اجماع الفقهاء أو الغالبية منهم، فعالج المتأخرون موضوعة الدولة بالنظر الى مفاهيم الدولة الحديثة بما يعد قطعاً مع التجربة التاريخية للدولة الاسلامية.

وقد أجمعت الكتابات السياسية الاسلامية الصادرة خلال هذا القرن، على أن الامة هي المصدر الوحيد لشرعية الحكم، وكما يترجم ذلك محمد يوسف موسى في كتابه (نظام الحكم في الاسلام): "إن الخليفة يستمد سلطانه أو سيادته من الامة التي يمثلها، والتي وكلته في القيام بمهام منصبه، وأن عقد الوكالة يقوم على ايجاب الاصيل وقبول الوكيل" ويخلص من ذلك للقول "فإذا وضعنا هذه الحقائق، تبين لنا أن توليه الخليفة لا يمكن شرعاً وقانوناً أن تكون بمجرد عهد الخليفة القائم لأحد من بعده، حتى لو قبل منه هذا الاخير بل لا بد من رضا الامة بهذا العهد(86)".

وكان رأي علماء الشيعة المتأخرين أن بيعة الحاكم "لا تنعقد، الا أن يحضرها عامة الناس لا أهل الحل والعقد فقط" والسبب في ذلك "بأن يقول بأن اجتماع العامة أو اجتماع الاكثرية يعطيهم رؤية حسنة، وهي ماتسمى بمحكمة الاجماع" ويعد الشيعة بيعة الناس عامة للحاكم ضماناً لعدم تزييف البيعة في حال انحصارها في أهل الحل والعقد الذين قد يتعرضون لضغوطات الحاكم أو تأثير المصالح الذاتية أو الطبقية أو الدعايات على اتجاهاتهم(87)، ويقول الفيلسوف الشيعي المعاصر السيد محمد حسين الطباطبائي أن "أمر الحكومة الاسلامية بعد النبي (ص) وبعد غيبة الامام كما في زماننا الحاضر الى المسلمين من غير اشكال، والذين يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك، أن عليهم ـ أي المسلمين ـ تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله (ص) وهي سنة الامامة، دون الملوكية والامبراطورية والسير فيهم بحفاظة الاحكام من غير تغيير، والتولي بالشور(هكذا) في غير الاحكام من حوادث الوقت والمحل(88)".

وأصبحت موضوعة الشورى الغائبة في التجربة السياسية التاريخية العربية والاسلامية والغائمة في بحوث الفقه السياسي الاسلامي، تستعيد مركزها بعيداً عن مجريات التاريخ وتراث الاحكام السلطانية، كما احتلت الصدارة في الابحاث الفقهية والفكرية المعاصرة، إذ بات الحديث يدور حول تموضع الشورى في نظام الحكم الاسلامي، وبدأ الفقهاء والعلماء والمفكرون حملة بحث واسعة حول الشورى وأصبح النقاش يدور حول آفاق الشورى وترددها بين الالزام وغير الالزام، ففي تفسير الشيخ محمد عبده لآية (وشاروهم في الامر) عالج موضوعة الشورى باعتبارها أصلاً عاماً في حياة الجماعة المؤمنة ووظيفة للحاكم والمحكوم "إن الشورى في الامور الشرعية الواجبة فمن رام أمراً شرعياً قضت به الشريعة وحتمته على الحاكم والمحكوم جميعاً، بحيث لو منعناه لا كتسبنا بذلك اثماً مبيناً(89)".

وعالج علماء المسلمين المعاصرين الشورى في تصنيفاتهم وأبحاثهم الفقهية والفكرية، وأفردوا لها كتباً خاصة، واذا كان العلماء اختلفوا في تقرير وجوب الشورى أو استحبابها، فإن حاصل ابحاثهم أن نظام الحكم في الاسلام:شوري.

وقد أجاد الاستاذ الشيخ راشد الغنوشي في بحث موضوع الشورى في جوانبه المختلفة التشريعية والسياسية والاقتصادية في كتابه النفيس (الحريات العامة في الدولة الاسلامية) الصادر عام 1992، حيث يلمس القارىء في بحثه القيّم تفانيه لجهة تقديم الاسلام في صورة مشرّفة، وإن كان ذلك يدفعه ـ ومن منطلق المنافحة عن الاسلام والمسلمين ـ الى تصوير مثالي للدولة في تاريخ المسلمين في أحقاب مختلفة، ففي بحثه حول الشورى ـ وهو بحث يستحق الإهتمام والدراسة ـ حاول الشيخ الاستاذ ـ ومن منطلق المنافحة أيضاً ـ أن يؤكد على تاريخانية الممارسة الشورية في المجال السياسي الاسلامي، ورغم تحفظنا على تلك التاريخانية كون الادلة المستفيضة تخبر بخلاف ذلك(90)، الا أن ذلك لا يقلل من أهمية الجهد الكبير المبذول لجبه الاشكالات المثارة حول السياسة الاسلامية.

وسنلاحظ ذات الاهمية تكتسي البحث التأصيلي الشرعي للشيخ حسين علي المنتظري لبيان الموقف الشيعي من الشورى، متجاوزاً تراث الامامة الزاخر في الكتابات الشيعية المطبقة على تعليق الدولة في عصر الغيبة انتظاراً لظهور الامام المهدي الغائب منذ عام 329هـ حيث يستدل على (صحة انعقاد الامامة بانتخاب الامة) من خلال مجموعة روايات أوردها الشيخ المنتظري في كتابه النفيس (دراسات في ولاية الفقيه)، يخلص منها الى ما نصه "يستفاد من خلال مجموع هذه الاخبار الموثوق بصدور بعضها اجمالاً كون انتخاب الامة أيضاً طريقاً عقلائياً لانعقاد الامامة والولاية، وقد أمضاه الشارع أيضاً(91)".

استخلاصات

نخلص من قراءة الفقه السلطاني الاسلامي الى أن أزمات التاريخ السياسي الاسلامي عكست نفسها في تنظيرات الفقهاء وهي صورة للواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون في المجال السياسي، وهكذا تجاوزت الغالبية من فقهاء المسلمين الذين كتبوا في الشأن السلطاني، المثال الاعلى للدولة في الاسلام، واكتفوا بالنظر في الواقع التاريخي بعد أن تبدد الأمل باصطلاح الاحوال السياسية في بلاد المسلمين. وهنا نسجل بعض الملاحظات من خلال عرضنا السابق على النحو التالي:

ـ إن أول ملاحظة تكشف عنها الكتابات السياسية الاسلامية، أن ثمة اجماعاً اسلامياً مطبقاً على حفظ النظام ـ من منظور اجتماعي وليس سياسيا ـ،إذ اتفق المسلمون على اختلاف مدارسهم الفقهية والعقدية على أن "حفظ النظام من أوجب الواجبات، والهرج والمرج واختلال امور المسلمين من أبغض الاشياء لله تعالى، ولا يتم حفظ النظام الا بالحكومة(92)" استناداً على طائفة من الروايات الصحيحة عن النبي (ص) المبثوثه في كتب فرق المسلمين، حتى بات علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين يضعون من هذا المبدأ السياسي الاسلامي أصلاً في الاجتماع السياسي الاسلامي، فقد كبح الشهيد الشيخ حسن البنا في عقد الاربعينات من هذا القرن جموح الجماهير الملتّفة حول جماعة الاخوان المسلمين ورغبتها في الثورة، بغية تجنب الفتنة(93)"، كما ورد في كتاب (لماذ اغتيل الامام الشهيد ص73)ما نصه:" أن الاخوان العائدين من حرب فلسطين وقد رأوا مخطط الملك في ابادة الاخوان بدأ تنفيذه استأذنوا الامام البنا في ردع الملك، فقال رحمه الله "أتريد أن تشعلها حرباً أهلية كالتي وجدت في اليونان..إنما نصبر ونحتسب ونحقن الدماء". ومما يروى عن الشيخ محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين 1920م في العراق أنه تمنّع ـ في بداية الامر ـ عن اصدار فتوى للشعب العراقي بالثورة، ودخل في جدال عريض مع زعماء العشائر الشيعية وقال "أخشى أن يختل النظام ويُفقد الامن. وإن الامن أهم من الثورة وأوجب منها"، وحين طمأنه زعماء العشائر وتعهدوا له بحفظ الامن أصدر فتواه الشهيرة في 23 يناير 1919 (ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب أو يختار غير المسلم للامارة والسلطنة على المسلمين)(94).

ولكن خلف الاجماع الاسلامي الصلب على وجوب حفظ النظام تقبع اشكالية جوهرية تتجاوز موضوع حفظ النظام وطاعة الامير، وتحدق في النتائج التي أسفرت عنه في واقع البحث والتأصيل الشرعي لنظام الحكم في الاسلام، فكثافة الاحكام القاضية بتحريم الخروج أدت الى مصادرة الحديث عن أي شكل للسلطة، لأن التحريم يفتح الباب واسعاً أمام أي طريقة للحكم وأي شكل للسلطة.

ومصدر الخطر في ذلك اندفاع الفقهاء للاستناد على الاحاديث الناهرة عن العصيان السياسي لتبرير تجاوزات السلطة. فقد تأوّلت طائفة كبيرة من الفقهاء تلك الاحاديث للخروج من مأزق المسئولية الشرعية وضمان السلامة في الدين والدنيا، فاعتزلوا ميدان السياسة ونبذوا البحث في شؤون الدولة، وفضلوا السكوت على جور الحكام، والتزام الصمت حيال المظالم السياسية والاجتماعية خشية السقوط في الفتنة التي حذّرت منها الاحاديث، فيما قرر قسم من العلماء والفقهاء ـ استناداً على تلك الاحاديث ـ مخالطة السلطان ومعونته ودعوة الناس الى طاعته والتحذير من الخروج عليه، وكان للاستبداد السياسي دور كبير في تعزيز نمط التفسيرات الحرفية تلك.

لقد كان الخوف من الوقوع في الفتنة مبرر تحريم الخروج ولكنه حقق أكبر انتصار للسلطة على العلماء، فتراجع كثير من الاحاديث الداعية الى مقاومة الظلم حتى في حدوده الدنيا "افضل كلمة حق عند سلطان جائر"، ولذلك شرعنّ الفقهاء التعايش مع السلطات الظالمة لاجتناب الفتنة ليتحول فيما بعد الى مبدأ فقهي/سلطاني عام يملي حكماً بالطاعة لكل سلطان جائر حتى وإن توفرت الظروف والامكانيات لاستبدالة(95).

وباستناء قلة نادرة من العلماء، وضعت خيار الثورة على الجائر في حال طغيانه وامكانية الاطاحة به واستبداله (القاضي عبد الجبار، الشريف المرتضى..)، الا أن الغالبية استعاضت عن الثورة باستعمال أقصى الاساليب الوعظية عبر دعوة السلاطين والامراء للورع والخشية من الله سبحانه وتعالى والتحذير من العقاب الأخروي، ولهذا السبب أكدوا على لزوم التناصح بين العلماء والامراء للحيلولة دون تسرب الفساد لمؤسسة الحكم والحد من طغيان السلطان.

ولعل من أفدح الخسارات أن الفقهاء الذين سلّموا للسلطة أياً كانت لم يعطّلوا امكانية مساءلة السلطة عن اعمالها فحسب، بل عطّلوا امكانية نشوء فكر سياسي وتقاليد سياسية، ويقرر د. محمد جابر الانصاري بما نصه:"فإن غلبة سلطة الأمر الواقع من دون اعتبار للضوابط المبدئية التي وضعها الاسلام للسياسة، قد حالت دون نمو الفكر السياسي الاجتهادي في النظرية والتطبيق خصوصاً "فالسلطان هو من قتل السلطان" كما أصبح العرف في السياسة المملوكية التي آل اليها مصير العرب السياسي بلا بيعة أو مشاورة(96)".

ولعل من المصادفات التاريخية المثيرة للاستغراب، أن المسلمين ـ والفقهاء بدرجة أساس ـ كانوا طيلة التاريخ السلطاني الاسلامي أمام خيارين: إما التسليم بسلطة مستبدة، شمولية، مركزية، أو الانفلات والفتنة، وكأنما التاريخ استجاب لفحوى النص القائل "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"، فاستجابت الجماعة لتوجيه النص، وقبلت التسليم للسلطان الجائر، واذا ما تصاهر الشرع والحكم فإن طاعة الحاكم الجائر تصبح واجبة، تبعاً لالتحام: الشرع والسلطان والجماعة، إذ الاتفاق قائم بين جميع المسلمين على أن تطبيق الشريعة مقترن بوجود السلطة ووحدتها، كما أن الاتفاق قائم على اقتران وحدة الجماعة بوحدة السلطة، ولا شك تبعاً لذلك أن انهيار السلطة مصوّب للدين نفسه، كما أن تهديدها أو الخروج عليها يعتبر تهديداً للدين والخروج عليه.

وطالما التصق مصير الدين بمصير السلطة، فإن العلماء تجاوزوا عن أي شكل للسلطة، وأصبح للسلطان الحرية الكاملة في ممارسة سلطته كيفماء شاء، طالما بقيت ـ أي سلطته ـ خارج دائرة المحاسبة والمراقبة فهي مصانة ومحمية بطريقة غير مباشرة من الدين الذي يرى العلماء بقاءه في بقاء السلطة.

ـ أوقع نمط التفسيرات الحرفية للنص، علماء المسلمين في ثنائية مربكة ومعوّقة: فبينما وقع علماء السنة في حصار بين الخروج وحفظ النظام، وقع علماء الشيعة في حصار بين: حفظ النظام والخروج (كل راية تخرج قبل راية الامام المهدي فهي راية ضلال) وتالياً اعتبار اقامة الدولة في عصر الغيبة مصادرة لحق الامام المعصوم.ولذلك تعطّلت امكانية فكرة الدولة الشرعية لعطالة فكرة المقاومة.

ـ مما يثير الانتباه ويبعث على الاسى، أن أعلام المذاهب الاسلامية وهم في حالة سعي حثيث لسبر غور المسائل الشرعية غير المحلولة في زمانهم، والتي انصرفوا لاشباعها بحثاً وتحقيقاً ظهر في تراث فقهي ضخم وثري، وجدنا في المقابل أن ملكات ابداعهم تقصر عن تقديم فقه سياسي متطور، إذ ظلت ـ ومازالت ـ المفردات الكبرى في السياسة الاسلامية مثل:البيعة، الشورى، الخلافة ـ الامامة، أهل الحل والعقد، دار الاسلام ودار الحرب، غير محسومة وفي بعض الاحيان يلفّها الغموض حتى بات المتأخرون ينخرطون بكثافة للتعويض عن الجهد غير المبذول من جانب العلماء المتقدمين في هذا المجال، سعياً الى تأصيل هذه المفاهيم شرعياً، مع ما تثيره الابحاث المتأخرة من تباينات حادة في جهات الرؤية، بالنظر الى الانشعاب العظيم الذي جرى في المجال السياسي الاسلامي في وقت مبكر ثم انسيابه في صراعات على السلطة، وحروب اهلية تشعلها وقود الاطماع السياسية، حتى بات الجميع ينشد يوتيبا الامامة ـ الخلافة التي لم تتجاوز كونها مؤسسة تاريخية رمزية غير سارية المفعول وغير ممتدة في حركة تاريخ جماعة المسلمين، فيما صار خيار التعايش والتنظير لسلطة الوقت القائمة على القهر والغلبة خياراً نهائياً وكافياً بحسب فحاوى الاحكام السلطانية.

فما غاب في التاريخ السياسي الاسلامي، غاب ايضاً في الفقه السياسي الاسلامي، فغياب الشورى والبيعة وأهل الحل والعقد وغيرها من آليات للمشاركة السياسية وعدم تمؤسسها في الحياة السياسية الاسلامية، قابله أيضاً غياب هذه المفاهيم في التنظير الفقهي الاسلامي، بحيث لم يعد بالامكان قراءة هذه المفاهيم الا من خلال المدرسة السياسية الحديثة، بعد أن أعيت المتأخرون الحيلة في العثور على مفاهيم سياسية اسلامية متطور قادرة على مضاهاة نظيرها الغربي.

ـ إن الدولة التي قامت في التاريخ العربي والاسلامي صادرت خصوصيات الامة ومميزاتها واستحقاقاتها ولم تتحول الى دولة/الامة وانما دولة الاسرة، السلالة، الفرد..بمعنى آخر أن الدولة في التاريخ العربي الاسلامي لم تعبر عن الامة تعبيراً جزئياً أو كلياً ولم تعبر عن ارادة الامة وهويتها لغياب دورها، وهذا مانظّر له الفقهاء وشرّعوا له. وعلى هذا الاساس، فإن الدول الاسلامية التاريخية بطابعها التجريبي ـ حسب د. الانصاري ـ مرتهنة للظرف التاريخي الذي نشأت فيه كل دولة، من حيث اعتمادها طريقة محددة في الحكم، بحيث لا يمكن قراءة النظام السياسي الاسلامي من خلال سيرة الدول الاسلامية التاريخية، التي قد لا تعبّر بصورة جزئية أو كلية عن المضمون الحقيقي والدقيق للحكم الاسلامي، كما أن الكتابات السلطانية الاسلامية التي ظهرت في تاريخ الدويلات الصغيرة في ديار المسلمين تبقى أسيرة الظرف التاريخي الاستثنائي أيضاً، بما يجعل قراءتها محبوسة ضمن ذلك الظرف التاريخي الذي تنقطع معه بتبدّل ذلك الظرف، إذ لا نتعامل هنا مع مراكمة سياسية نظرية أوعملية وإنما مع تجارب تاريخية مقطوعة السياق، ما تلبث أن تطويها تجربة جديدة، ويذويها فكر جديدة ناشيء عن تلك التجربة، وهكذا تتواصل التجارب والافكار وتتواصل الانقطاعات، وحينئذ لابد من عملية فصل بين الثابت والمتحول في المجال السياسي الاسلامي.

ـ لقد تأول علماء المسلمين المتأخرين حوادث التاريخ الاسلامي بما يدافعون به عن الاسلام قبالة هجمات التيارات العلمانية اليمينية واليسارية، وتطلبت تلك المدافعة تكييف تاريخ المسلمين مع روح العصر ووفق التصورات الجديدة، على أن العلماء مازالوا يشعرون بالحرج في الخروج من إسار التاريخ فضلاً عن نقده وتقويمه، وهكذا يتحول التاريخ الى (عقيدة) يدين بها الفقهاء والمفكرون الاسلاميون للاستدلال به واعتباره مصدراً من مصادر الشرعية يصل احياناً الى مستوى الكتاب والسنة، رغم ما تتطلبه النهضة الاسلامية من اعادة وعي التاريخ عبر قراءات نقدية تقويمية وجريئة تجريدية.

فؤاد ابراهيم



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها