الانتقال الديمقراطي : إشكالية مغربية

يقصد عموما بالانتقال الديمقراطي، تلك السيرورة التاريخية التي تتميز بتحول السلطة السياسية من نمط التدبير السلطوي، بشكل سلمي وتدريجي، نحو بناء تجربة جديدة تعتمد منظومة حكم أكثر ديمقراطية، عبر إحداث تغييرات فعلية على مستوى المؤسسات والقوانين والعلائق بين الحاكمين والمحكومين، وتوسيع فضاءات المشاركة وتجويد آليات إدارة الحكم، وضمان الحقوق والحريات....

ولا شك أن من السمات الأساسية لعملية الانتقال هذه، تلك الجدلية المعقدة للماضي والحاضر، حيث مرحلة الانتقال، ليست بالتعريف مرحلة للديمقراطية وهي كذلك ليست امتدادا طبيعيا للمرحلة السابقة (النمط السلطوي...).

إن الماضي هنا هو أكثر من زمن، إنه قوى اجتماعية واقتصادية، وثقافات سياسية ذات مصلحة في الارتداد والمحافظة... كما أن على المستقبل أن يتحول من مجرد رغبة أو حتى إرادة ليصبح قوة دافعة في اتجاه الديمقراطية وإنجاح التحول.

وكأي سيرورة تاريخية وسياسية، فالإنتقال ليس محكوما بالضرورة بالنجاح، إنه مسلسل أبعد ما يكون عن الخطية. فتسريع وثيرته وتوفير شروط إنجاحه مرتبط بتدبير سياسي وبحسن إدارة عملية التغيير والتحكم فيه، وطبعا فهذا التدبير يبقى محكوما بموازين القوى التي ينجح أو يفشل قادة الانتقال (من داخل السلطة ومن داخل المجتمع) في تفعيلها، عن طريق ضمان استنفار كل القوى ذات المصلحة في التحول وتحجيم القوى المحافظة ذات النزعة النكوصية.

وغني عن البيان أن سيرورة الانتقال الديمقراطي، تبقى معقدة ومركبة ومبنية على تفاعل العديد من العوامل والعناصر بشكل يصعب على المتتبع قراءة أي تجربة من تجاربه التاريخية، بناء على معطيات نظرية مسبقة، وإن كان هذا لا يمنع من اعتبار وجود إرادة سياسية لدى السلطات العليا مع انخراط الفعاليات السياسية والمجتمعية الوازنة، يبقيان على الأقل شرطان وواقفان، لابد من تحققها لكي ينطلق مسلسل الانتقال.

ولعل تعقد سيرورة الانتقال وتعدد التجارب التاريخية له، ساهما في إضعاف القدرات التحليلية لعلم السياسة على مستوى نمذجة خطاطة جاهزة للانتقال الديمقراطي وبناء نظري مكتمل للمفهوم، وهذا ربما ما جعل الكثيرين يتحدثون بلغة الجمع، مفضلين الاشتغال على مصطلح "الانتقالات الديمقراطية" عوض الحديث عن "انتقال ديمقراطي" مجرد.

مغربيا، وفي غضون سنوات قليلة، أصبحت لمقولة "الانتقال الديقراطي" سلطة مفاهيمية لاغبار عليها، داخل التداول السياسي، في أوساط النخب والصحافة والمجتمع المدني ,

ونتيجة لهذه السلطة السحرية لهذا المفهوم، تحول "الانتقال الديمقراطي" إلى أكثر من أحد مفاتيح اللغة السياسية السائدة، بل أصبح مقولة مهيكلة لكل الخطابات السياسية المتداولة، أيا كانت خلفيتها وأيا كان موقفها الأصلي من المرحلة وتكييفها السياسي للشرط المغربي.

وهكذا أصبحت الإختلافات في التقدير السياسي لا تحتاج سوى إلى "ظرف زمان" معطوف على "الانتقال الديمقراطي"، لكي نعرف من يعتقد بـ"انتقال ديمقراطي"، بصيغة الحاضر المعيش ومن يؤمن بأننا في مرحلة "ما قبل الانتقال الديمقراطي".

ثم تابعنا كيف أن بعض الذين طالما اعتبروا بأن ما يعيشه المغرب منذ نهاية التسعينات لا علاقة له بأي انتقال ديمقراطي، تحولوا في بدايات العقد الجاري، للحديث عن "موت الانتقال الديمقراطي"، وكأني بهذا المفهوم السحري يستطيع أن ينتزع اعتراف خصومه عند لحظة الموت، حتى ولو أنكروا عليه لحظة الميلاد. وكأن الذين لم يعترفوا بولادته، يصبحون شهودا متأخرين على حياته، لحظة الوفاة ! ؟

المهم أن مقولة الانتقال الديمقراطي، فرضت على الفاعلين قراءة الوضع السياسي على ضوءها، رغم حداثة احتضان المعجم السياسي المتداول لهذا المفهوم، حيث يمكن اعتبار ندوة مؤسسة عبد الرحيم حول تجارب الانتقال الديمقراطي، سنة 1997. لحظة بداية الاستعمال المثواثر والمتكرر للمفهوم الذي ثم اللجوء إليه لتكييف لحظات تحولات متسارعة وذات قوة تاريخية، عاشتها بلادنا منذ ذلك الوقت، انطلاقا من تعيين حكومة التناوب بقيادة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي ووصولا إلى انتقال السلطة على مستوى المؤسسة الملكية.

وهكذا أصبح المجتمع السياسي والمدني، يجمع على احتضان المفهوم، رغم الاختلاف البين في مدى تقرير المرحلة السياسية ومدى صلاحية الحديث عن وجود انتقال ديمقراطي. لقد استعملت الصحافة المفهوم بكل يسر وسهولة، وتسلل إلى بيانات وبلاغات الأحزاب والنقابات والجمعيات، وانخراط الباحثون هم كذلك في استعماله كآلية للتحليل، ليصل إلى الخطاب الرسمي، حيث تابعنا استعمال مفهوم "الانتقال الديمقراطي" ولأول مرة في الخطاب الملكي عند افتتاح السنة التشريعية المنصرمة.

ولعل حداثة تداول المفهوم، قد أسهمت بوضوح في ذلك الارتباك البين، الذي بدا عليه العقل السياسي لليسار المغربي وهو يحتضن بعسر هذا المفهوم الطارئ على ثقافته النظرية، حيث لا نعثر داخل الأدب النظري للقوى اليسارية، المنتج طوال السنوات الممتدة، على الأقل منذ أواسط السبعينات-تاريخ الالتقاء الأول لليسار بفكرة الديمقراطية- إلى حدود أواسط التسعينات، على أي إحالة للمفهوم المذكور.

كما أن اليسار ظل في الغالب، على الرغم من تبنيه النظري للعقيدة الديمقراطية، يحمل تمثلات قطعية حول التغيير المنشود، هذا التغيير الذي ظل المخيال اليساري يتصوره كلحظة فاصلة وحاسمة بين زمن اللاديمقراطية وزمن الديمقراطية. ومؤكد أن براديكم " الانتقال الديمقراطي" يتأسس حتما على تصور مناقض لهذا الفهم الحدي للتاريخ، حيث تحضر المقاربة الجدلية عوض المقاربة الحدية وتحضر "المرحلة" عوض "اللحظة" ... وبكلمة يفرض مفهوم الانتقال الديمقراطي، على اليسار أن يتجاوز وهم التفكير في الاختيار الديمقراطي بمنطق سابق عن الديمقراطية، في ثقافته السياسية، لكنه كامن في لا شعور السياسي، هو منطق القطعية، منطق الثورة.

الإشكالية الأخرى التي صادفت تنزيل مفهوم "الانتقال الديمقراطي" داخل الخطاب السياسي العمومي -وليس فقط لأحزاب اليسار- هي التفكير في هذا المفهوم بخلفية اسقاطية، لنماذج تاريخية لها سياقاتها وشروطها.

هكذا مثلا يحضر النموذج الإسباني –بكل جاذبيته - عندما يطرح المدخل الدستوري للانتقال، تماما مثل ما يحضر النموذج الجنوبي إفريقي، عندما يطرح المدخل الحقوقي وقضيته تدبير الماضي السياسي في سياق عملية الإنتقال .

ولاشك أن هذا الإنتقائية في استحضار التاريخ، وقراءة التجربة المغربية انطلاقا من صيغ مقارنة، على شرعيتها بمنطق الحجاج السياسي، تبقى غير وفية للحاجة الحقيقية للإنفتاح على التاريخ كمختبر كبير للتجارب وللأفكار، لكن بمنطق أكثر شمولية، واستعابا لكل السياقات والشروط الخاصة لكل حالة .

ثمة كذلك سؤال مغيب في التداول العمومي لمفهوم الانتقال الديمقراطي، إنه المتعلق بمآله، هل هو دمقرطة الدولة أم دمقرطة المجتمع . إنه سؤال "المجتمع" داخل عملية تحول يراد لها أن تظل حبيسة للمستوى السياسي، ولطبيعته الحكم ومضمون المؤسسات .

طبعا أن الانتقال الديمقراطي، عملية سياسية، في الأصل، لكن مضمونها المجتمعي حاسم في إنجاحها . إننا ننسى دائما أن التجارب التي طالما تحضر في سياق المقارنات، عاشت مرحلة الانتقال الديمقراطي كتكثيف سياسي لدينامية مجتمعية مرسخة وحقيقية، وأنها عاشت لحظة التحول السياسي، في السلطة والعلائق والمؤسسات، في وقت كانت الدولة والمجتمع، قد حققتا المرور الناجح لزمن الحداثة والمدنية، بكل شروطها الاقتصادية والثقافية.

إن أولوية السياسي، في الشرط المغربي، قد تبقى حاسمة، ثم أن اليسار المغربي يدرك جيدا الأزمة المركبة للبناء الديمقراطي، كأزمة سلطة وأزمة بديل مجتمعي كذلك وأزمة مجتمع ... غير أنه كثيرا ما يسقط في حبال سهولة ووثوقية "الدعوة"، مما يجعله يفكر في هذا الانتقال أو يتعامل معه بسياسوية متطرفة، تجعله رهينة توافقات فوقية ومعزولة، كمجرد إشكالية سياسي أو دستوري، بعيدا عن حجمه الحقيقي كقضية مجتمعية ذات بعد ثقافي حاسم .

مفارقة أخرى، يعيشها مفهوم الانتقال الديمقراطي، في السياق السياسي المغربي، تتجلى في ارتباك الخطاطة النظرية التي يتأسس عليها. باعتباره تسوية تاريخية بين ديمقراطيين معتدلين في السلطة كما في المجتمع السياسي، يعمل تقاربهما عادة على فرز معارضين ( = محافظين )، لهذا التحول موزعين كذلك على ضفتي السلطة والمجتمع، وملتقيين موضوعيا على مناهضة الانتقال .

هذه الخطاطة، التي تحمل كل مخاطر النمذجة والتنميط، من تبسيطية وبسترة، لاشك أنها تبقى عاجزة عن قراءة التجربة المغربية، خاصة في الجانب المتعلق المعطى الأصولي . إننا أمام ظاهرة سياسية تتمثل في وجود قوى مجتمعية، لا تتمايز عن باقي الفرقاء السياسيين من دولة ويسار وأحزاب أخرى . فقط بتقديرات سياسية مختلفة أو حتى بمشروع مجتمعي بديل يقبل بشروط التنافسية، ويعي نسبيته وحدود مرجعياته ... إن الأمر يتعلق بقوى غير مؤمنه بقيم الديمقراطية وثقافة الاختلاف، وتحمل مشروعا ماضويا مغرقا في التعصب واللاتسامح والإقصاء والتفكير .

إن حضور معطى بهذه الخطورة لاشك أنه يجعل معادلة الانتقال الديمقراطي أكثر تعقيدا أو صعوبة، حيث تصبح الديمقراطية، في مواجهة عدو ثقافي وقيمي متطرف، وليس فقط أمام شروط اقتصادية غير مساعدة أو بنيات مجتمعية متخلفة أو خصوم سياسيين مرحلين ...

إن هذه الملاحظات المفارقة، لا تجنح إلى تحويل الانتقال الديمقراطي إلى فرضية متشائمة، حيث الشروط المجتمعية والثقافية متخلفة والتهديد الأصولي والإرهابي ضاغط، و"قيادة الانتقال" مرتبكة وضعيفة... فدرس التاريخ يعلمنا أن البناء الديمقراطي أقوى من كل قراءة إنهزامية للشروط الموضوعية، تم أن الديمقراطية لا تعلم خارج ممارستها.

لكن القصد، هو الوقوف، على هشاشة تمثل النخب السياسية خاصة اليسارية منها، لمفهوم "الانتقال الديمقراطي"، حيث يبدو اللجوء إلى هذا الأخير كاستعارة برنامجية أكثر مما هو بناء سياسي ونظري لشعار المطابق لحاجيات المرحلة.

لقد وجدت هذه النخب شعارات "استراتيجية النضال الديمقراطي" و "الثورة الوطنية الديمقراطية" و "الثورة الوطنية ذات الآفاق الاشتراكية"... متجاوزة بحكم تسارع التحولات السياسية التي إعتملت داخلها، لكنها لم تنتج بدائل برنامجية وسياسية ذات تأسيس نظري وفكري مغاير ومناسب لتحولاتها السياسية. وهذا ما جعلها تلتقط شعار "الانتقال الديمقراطي" دون أي تدقيق لمضمونه وآلياته، مما عمق من ضبابية وإلتباس "المرحلة"، في أعين مناضلي وقواعد القوى الديمقراطية واليسارية، الذين لم تسعفهم سحرية مفهوم "الانتقال الديمقراطي" على قراءة المسار المعقد للديمقراطية ولليسار ببلادنا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها