عقوبة الإعدام من المنظور الإسلامي

إن عقوبة الإعدام من المنظور الإسلامي تقف في ظل هذه المحاور:

أولاً: الإسلام دائماً يسعى لدرء جميع أنواع العقوبات التي هي أدنى بكثير من عقوبة القتل ما استطاع، وذلك من خلال الشروط المشددة التي تمنع أي عقوبة مهما دنت، تحقيقاً للعدالة الإلاهية النسبية في الدنيا والمطلقة في الآخرة، ولأنها نسبية في الدنيا فإن الله سبحانه وتعالى قد أكد على درء الحدود بالشبهات، وهذا ما قال به الرسول عليه الصلاة والسلام ادرأوا الحدود بالشبهات، والشبهة تعني أن أي جناية ينزل مستوى التأكد منها عن المئة بالمئة إذا جاز التعبير، فيجب أن يسعى لدرئها، هذا هو المقصود الشرعي الذي للأسف قد لا يفهم أحياناً حتى عند بعض المشرعين الإسلاميين، الذين يوسعون ويرهلون دائرة ضبط الأحكام الشرعية في مثل هذه المسائل.

إذاً الشبهة معناها إنشاء خلل في التأكد المطلق من المسألة، فإذا دخلت الشبهة توجب إيقاف العقوبة المحددة تجاه هذا الموضوع أو هذه الجناية والنزول إلى عقوبات أدنى وهذه يقدرها القضاء العادل عادةً.

ومن الضوابط الشرعية القطعية أن الله سبحانه وتعالى تكلم عن مقاصد شرعة في خمس مقاصد، مباشرة بعد حفظ الدين الذي هو أنزله، قال حفظ النفس مباشرة، أي الحيلولة دائماً دون الوصول إلى إزهاق روح هذا الإنسان، البحث الجاد لمنع وقوع عقوبة الإعدام، هذه الأسس ولو دخلنا إلى تفاصيل فيها عديدة لأثمرت كثيراً وأزهرت قوانين ضابطة وشروط مانعة لعقوبة الإعدام، يقودني هذا إلى العقوبات التي وردت في الشريعة الإسلامية وفيها إقرار بعقوبة الإعدام وكيف ضبطت هذه العقوبة.

أولها: قاتل العمد متفق عند الأئمة وفيما ورد من نصوص قرآنية وأحاديث شريفة وتطبيق في المجتمع الإسلامي، أن قاتل العمد يقتل، هذا العنوان أيضاً مفصلاً لدرجة تكاد تكون العقوبة قد توقفت، وهناك أيضاً قضية مهمة في الشرع الإسلامي وبعض أحبتنا من العلماء يغفلون عنها وهي وكأن من فلت في الدنيا من العقاب قد انتهت المسألة ووقع الظلم، لا، العدالة المطلقة آتية لا ريب والميزان منصوب لا ريب. الله كلفنا أن نحقق العدالة ما استطعنا في الدنيا، وأن نتجنب دائماً ونكون بعيدين عن أي شبهة توقع ظلم متوقع أو محتمل، لا يصح إنزال أي عقوبة، إنزال أي عقوبة يقول فيها القاضي لا أدري إن كنت سأظلم نسبياً في هذه القضية، إذا وردت هذه العبارة فعلية، أن يرجع عن قضائه.

العدالة الإلاهية لا يتم تحقيقها في الدنيا، وإنما تحققها في الآخرة، وأن على القائمين على القضاة أن يبتعدوا تماماً عن أي شبهة فيها ظلم.

القاتل العمد من هو؟ هو من قتل شخص بلا سبب، وسوف يسئل سائل لعل السبب غير مجد، غير كافٍ ليدفعه لهذا القتل، الجواب أن مستوى أن يكون قاتل عمد مئة بالمئة، اسمحوا لي أن أستعمل مصطلح المئة في المئة، فإذا نزلت هذه النسبة، ووجود أي سبب لجريمة القتل هو شبهة تنقص المئة في المئة، أي أنها فوراً تحول عقوبة القتل إلى عقوبة أدنى، وأنا هنا لا أجتهد وإنما هكذا تفهم النصوص وحتى لو خالفنا في ذلك بعض الأحبة من أهل العلم قلوا أم كثروا، لأنه في حدود فهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم ادرأوا الحدود بالشبهات، ما هي الشبهة؟ الشبهة هي التي تجعل نسبة التأكد المئة تسعة وتسعون، إذا دخلت شبهة، وربنا يأمرنا فوراً أن ننتقل من العقوبة المحققة على المئة بالمئة إلى العقوبة الأدنى.

إذاً هذا القاتل العمد، هو من قتل بلا سبب، شهوة قتل، فأدنى سبب يدخل الشبهة.

الشرع الحكيم لا يقبل ردود الفعل العاطفية فيدخل في مأزق، ويقال كثيرون سيقتلون، يتحرشون بإنسان ويحدثون مشكلة لا تستحق القتل ويقتلون حتى يفلتوا من القتل، ونقول له يا أخي هرب من العقوبة في الدنيا فهل سيهرب منها في الآخرة؟ نحن نتكلم عن شرع من عند الله نظمه نسبياً لنا في الدنيا وحققه مطلق عدالة في الآخرة.

وفي حال حصل وكان هناك قتل فقد أعطي للأهل فرصة أن يعفوا ويصفحوا عن هذا القاتل، لا بل أن القرآن الكريم اعتبر أن الصفح والعفو هو الأصل في حياة المسلم في مجتمعه. وأن هذا القتل لهذا القاتل وإن كان يستحق، فإنه لا يحقق العدالة المرجوة التي أرادها الله، بما أنه فتح باب الإصلاح بالعفو، وهذه مسألة أيضاً التقرير الإلاهي فيها ليس عبثاً، وإذا توقفنا عند الأهل من هم الأهل؟ قضاءً أهل العصبة من أهل المقتول إذا وقف واحداً منهم واعترض على أن يعدم القاتل، فلا يعدم. أرجو أن ندرك هذه الدقة في التسلسل الحكمي وشتان ما بينه وبين العدالة في القوانين الوضعية.

إن البعد المتعلق بالأهل، هذا البعد الرائع، ونحن لدينا معلوم أن الإصلاح بين أهل القاتل والمقتول في عرفنا الإسلامي ومجتمعنا العربي الإسلامي ومنذ عهد النبوة، الناس يتدخلون من أجل الإصلاح ويطيب بعضهم لبعض لا من باب إضاعة الحق وإنما من باب إكرامهم وإعزازهم والاعتراف بين أيديهم وطلب العفو والصفح منهم بكل تواضع وتذلل اعترافاً بالذنب، شريطة أن لا يمارس عليهم أي ضغط، تحقيقاً للعدالة، إنما أن يتم استعطافهم فهذا لا بأس به وإلا كيف يتم الإصلاح.

لا بد من تحقيق العدالة كما تفضلتم، وأن لا يكون هناك ضغط اجتماعي أو سياسي أو أمني، وحتى العادات والتقاليد لا يجوز أن تكون ضاغطة، وإنما من باب الإصلاح الحر. أما إذا أخذت في سياق الضغط، فحتى الحياء سماه الإسلام سيف، لأنه قاطع، أي يقطع ويبتر الحق.

ينقلنا هذا إلى عقوبة أخرى: إذاً هذه عقوبة القتل للقاتل لو قننت في قوانيننا الوضعية كما أرادها الشارع الحكيم. العقوبة موجودة ويكاد تطبيقها يكون مستحيل.

الناحية الثانية قتل الزاني المحصن هذا ورد في الإجماع، الأحاديث الصحيحة، فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعل الصحابة والله سبحانه وتعالى ضبط هذه المسألة بأشد الضوابط الأخلاقية المحققة للعدالة، أولاً الزنا لا يسمى زنا إلا بالولوج ولا حرج في الشرع، أي الجماع المعروف فطرة وغيره لا يسمى زنا ولا يدخل في هذه العقوبة وله عقوبات تعزيرية، حتى لو وجد إثنان في غرفة مغلقة وتحت فراشٍ عراة وفي وضع يفيد شبهة الزنا في اعتبار العقل وتصوره، لا يعد زنا بدون الولوج ليس زنا وله عقوبة تعزيرية تركها الإسلام للقضاة في كل زمان ومكان تبعاً لأحوال المجتمع وهذه قضية مهمة.

الشارع الحكيم اهتم بطبيعة المجتمع واهتم بواقع المجتمع قبل أن يهتم بالعقوبات وهنا يتسائل كيف يتم التحقق من الولوج، وضع الشهود الأربعة، وتحقق عدالة الشهود هذا باب معقد في الشريعة، ليس من باب التعقيد بل من باب درء العقوبة، ووجب أن يكون قضاءً خلافاً للقانون الذي نتعامل به. والشريعة أوجبت على القاضي التحقق من ملف الشاهد تحققاً كاملاً، وأي شبهة تقع على الشاهد سابقه أو لاحقه تسقط عدالته بالشهادة، وهذا يعني أي شبهة مخلة بعدالته ضمن الضوابط الشرعية وليس ضوابط المواطنة، وحتى نفرق مع احترامنا لضوابط القانون وضوابط المواطنة، نحن نتكلم في البعد الشرعي.

ولو شهد شاهدان على أن هذا الشاهد سبق وأن كذب عليهما في مسألة ما، ترد شهادته عند القاضي، حتى لا يكون هناك ظلم، إذاً المبدأ هو ليس من أجل إثبات التهمة بل من أجل درء العقوبة، وهذا أصل إثبات العدالة في الإسلام.

وبخصوص الشهود، إذا وجد واحد من الشهود الأربعة أفاد بشهادة مضطربة، وقع على الأربعة عقوبة القذف، فإذا ما كان الأربعة عدول مئة بالمئة وإذا ما اتفق الأربعة على عملية المشاهدة والتيقن لجريمة الزنا بالولوج المحقق فأي وصف آخر مردود ويجلد الشاهد مئة جلدة. الإسلام يريد أن يضع الأمور في نصابها، ودرئها في نصابها.

العقوبة الثالثة والتي تنص الشريعة على الإعدام فيها هي الحرابة، وتعريفها الدقيق هو قطع الطريق بالقتل من أجل السلب والنهب والاعتداء على حقوق الآخرين، وهذه غير السرقة التي فيها قطع اليد، هنا نتكلم عن القتل، فقطع الطريق معناه هنا انتفاء الأمن وأمن الحياة وحركة الحياة خارج البيوت.

إذاً الحرابة هي قتل من أجل سلب ونهب، وهذا في الشريعة الإسلامية عقوبته القتل، تقطع اليد اليمنى ثم الرجل اليسرى، ثم تقطع اليد اليسرى ثم الرجل اليمنى أي مصلوباً. لاحظوا هذا العنوان وهذا التعبير تقشعروا له الأبدان، ولكن عندما ندخل في تحقيقه تنفرد الأذهان وتبتسم الشفاه ليس من باب الهروب من العقوبة، وإنما من باب تحقيق العدالة. فشبهة الثبوت القطعي لجريمة القتل لا بد أن تكون زائلة. فمنهج الفساد لا بد أن يكون من المفسدين في الأرض أي الذين امتهنوا هذا السبيل ولم يكن لمرة أو لسبب ما. الحرابة هي إنسان نظم نفسه للجريمة المنظمة في قتل الناس من أجل سلبهم ونهبهم قاطعاً عليهم أمنهم واستقرارهم في طريقهم، في حركتهم وشدد الإسلام العقوبة لما يترتب على هذا من ضياع أمن واستقرار وخوف ورهبة تمنع الناس أن يتحركوا، ولكن أيضاً وضع ضوابط لها، فإذا تحققت وبلا سبب فهي جريمة منظمة للفساد في الأرض فله عقوبة القتل.

والشريعة الإسلامية عبر الخمسة عشر قرن لم تحقق عدد الأصابع في هذه الجريمة تنفيذاً، لم تحقق عدد أصابع اليدين، ولا أتكلم عن القرن العشرين فإنه مستثنى، ولا أتكلم عن الأنظمة العربية والإسلامية، فهي لا تعمل بموجب النظام الإسلامي، لا يوجد هناك أحكام شرعية ولا قانون إسلامي إطلاقاً.

البعد الآخر في هذه الأحكام التي ذكرناها، أوجب الشارع الكريم بعد كل الشروط أن لا تطبق إلا في مجتمع إسلامي ناضج تعارف وتآلف على المنهج الإسلامي وضوابطه وأخلاقه وقوانينه وهذه قضية أساسية. إذاً المجتمع الإسلامي الذي لم ينضج، ولم ترجع فيه أسباب الصلاح لا تطبق فيه هذه الأحكام.

أعود فألخص وأقول لا نرفع ما نص عليه القرآن الحكيم وما جاء في إجماع ألفقهاء من أحكام عقوبة الإعدام في الدين متوازنة جداً وفيها إعجازاًً كبير وتوازنية دقيقة، فهي من ناحية تأمر بها ومن ناحية تمنع وقوعها في آن واحد بالضوابط والشروط، فالقصد إذاً ليس فقط الردع، بل أيضاً تحقيق العدالة بأبعادها النفسي والاجتماعي والأخلاقي والتربوي، فهناك مجموعة من العوامل التي تتفاعل في النفس، قاتل ستقتل نعم، لكن حينما نبحث في الشروط والتفاصيل سنجد أن الإسلام أرحم بكثير من كل قوانين الأرض مهما حاول الإنسان أن يتهرب من العقوبة، سيكون تهربه ظلم، في حين الشروط والضوابط المانعة لعقوبة الإعدام هي في منتهى العدالة الإسلامية.

إذاً في الوقت الذي جعل الله سبحانه فيه الحق قائماً بعقوبة الإعدام، قد جعل الوصول إلى تحقيقه صعباً ونادر الإمكان، ليحرك في النفس البشرية نوازع غير الردع، نوازع أخلاق تحقيق العدالة النسبية، وكذلك أعطي ولي أمر المسلمين، أي الحاكم والقانون في عرفنا أن يتصرف بما يتناسب مع واقع وأحوال المجتمع.

تكلمنا عن عدم نضوج المجتمع إسلامياً، ومنع عقوبة الموت من أجل تحقيق العدالة، المجتمع غير الناضج وتوقع فيه عقوبة القتل أنت تظلمه ولا تحقق العدالة فيه.

إذاً نحن ضد كل عقوبات الإعدام التي نصت عليها معظم القوانين في الدول العربية والإسلامية والغربية والشرقية. لأنها لا تحقق العدالة الإلاهية التي تسعى لحفظ النفس بكل الوسائل الممكنة، وكذلك لأن محاكمات الإعدام نادراً ما تكون عادلة، وعندما تصبح العدالة نادرة يجب توقيف الحكم فوراً حتى لا يقع الظلم.

ونحن نعلم أنه في بعض الدول الأوروبية والدول المتقدمة قد بلغت الحالات التي يعاقب فيها بالإعدام مئة حالة وفي بعض الدول العربية مئات الحالات، أما الشريعة الإسلامية فقد تحدثت عن ثلاثة جرائم وطوقتها حتى شطبتها أو شبه ذلك.

ومن هنا أتمنى على هذه الندوة وعلى هذه الأصوات الباحثة وأنا أتكلم من منظور إسلامي فقط وليس من منظور قانوني، أن عقوبة الإعدام لا تلغي من الكتاب ولا من السنة، ولكن يجب توقيف تطبيقها إلى إشعار آخر يصلح فيه إنزالها حينما تنضج هذه المجتمعات وأتكلم عن المجتمعات العربية والإسلامية بخاصة وعن المجتمع الإنساني لأن القانون الإسلامي إنساني شامل وشكراً لكم والحمد لله.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها