تأثير الثقافة العربية في النهضة الأوروبية


في بحثه عن أثر الثقافة الإسلامية في الغرب المسيحي، يقول الكاتب ت. كولريونج (
T. C. young) "إن الدَّين الثقافيَّ العظيم الذي ندين به للإسلام منذ أن كنا نحن المسيحيين، داخل هذه الألف سنة، نُسافر إلى العواصم الإسلامية، وإلى المعلمين المسلمين ندرس عليهم الفنون والعلوم وفلسفة الحياة الإنسانية، يجب التذكيرُ به دائماً. وفي جملة ذلك تراثنا الكلاسيكي الذي قام الإسلام على رعايته خير قيام، حتى استطاعت أوروبا مرةً أ خرى، أن تتفهمه وترعاه. كل هذا يجب أن يمازج الروحَ التي نتجه بها ـ نحن المسيحيين ـ نحو الإسلام، نحمل إليه هدايانا الثقافية الروحية، فلنذهب إليه ـ إذن ـ في شعورٍ بالمساواة نؤدّى إليه الدَّين القديم. ولن نتجاوز حدود العدالة إذا نحن أدّينا ما علينا بربحه. ولكننا سنكون مسيحيين حقاً إذا نحن تناسينا شروط التبادل، وأعطينا في حبّ واعتراف بالجميل".

لقد قامت الثقافة العربية الإسلامية بدورها الطليعي خير قيام في بناء النهضة العلمية العالمية، وقد نقل العلماء العرب والمسلمون التراث الأغريقي وغيره من ألوان التراث العلمي الذي تقدّم عليهم في التاريخ، نقلوه إلى اللغة العربية، التي كانت لغة علم وثقافة، وأثر العلماء العرب والمسلمون في النهضة الأوروبية، وكان طابع الثقافة العربية الإسلامية غالباً وواضحاً ومؤثّراً في عديد من المجالات العلمية والفكرية والثقافية، مثل ابتكار نظام الترقيم والصفر والنظام العشري، ونظرية التطور قبل "داروين" بمئات السنين، والدورة الدموية الصغرى قبل "هارفي" بأربعة قرون، والجاذبية والعلاقة بين الثقل والسرعة والمسافة قبل نيوتن بقرون متطاولة، وقياس سرعة الضوء وتقدير زوايا الانعكاس والانكسار، وتقدير محيط الأرض، وتحديد أبعاد الأجرام السماوية، وابتكار الآلات الفلكية، واكتشاف أعالي البحار، ووضع أسس علم الكيمياء.

ويمكن القول إجمالاً إن الثقافة العربية الإسلامية كانت واسطة العقد بين العلوم والثقافات القديمة وبين النهضة الأوروبية ؛ فالفكر العربي الإسلامي، والثقافة العربية الإسلامية، سلسلة متّصلة الحلقات، امتدّت من الحضارات القديمة، من مصرية، وآشورية، وبابلية، وصينية، إلى حضارة الأغريق والاسكندرية، إلى العصر الإسلامي الذي تأثّر علماؤه بمن تقدّمهم، وأثّروا بدورهم فيمن لحقهم من علماء النهضة الأوروبية الذين قرأوا أعمال العلماء العرب في كتبهم المترجمة إلى اللغة اللاتينية واللغات الأوروبية.

لقد حافظت الثقافة العربية الإسلامية على الثقافة اليونانية من الضياع، إذ لولا المثقفون والعلماء العرب، لما وصلت إلى أيدي الناس مؤلفات يونانية كثيرة مفقودة في أصلها اليوناني ومحفوظة بالعربية. ولقد ظلّ الغرب يشتغل على الثقافة العربية حتى بعد أن تقلّص ظلّها في الأندلس بجيلين أو أكثر حتى وصل إلى العصور الحديثة. وظلت الثقافة العربية الإسلامية تستهوي الكثيرين من أبناء العالم الغربي، إذ لم تتوقف الترجمة عن العربية في عصر النهضة وما بعد عصر النهضة، رغم الاتصال المباشر بالعالم اليوناني والحضارة اليونانية اعتباراً من منتصف القرن الثالث عشر للميلاد عندما بدأت الكتب اليونانية تُنقل رأساً إلى اللاتينية من دون الاستعانة بالترجمات العربية. فالثقافة العربية لها قيمتُها وشخصيتها، فقد أنتجت الكثير مما لم تستطع الثقافة اليونانية إنتاجه في الحقول كافّة : إضافات وتعليقات وابتكارات واكتشافات عربية لم يعرفها اليونان.

إن حركة النقل من الثقافة العربية الإسلامية التي خرجت بها أوروبا من عصورها المتوسطة المظلمة إلى عصورها الحديثة المتنورة، لم تقتصر على "نقل" المعارف القديمة من يونانية وهندية وبابلية ومصرية، من كتب باللغة العربية إلى اللغة اللاتينية فحسب. إن أوروبا المسيحية قد "نقلت" أيضاً معارف عربية خالصة، كما نقلت أنماطاً من الحضارة الإسلامية ومن الإيمان الإسلامي إلى حياتها العامة وحياتها الخاصّة. ولو أن الكنيسة الكاثوليكية لم تضع ثقلها إلى جانب الفِرنجة في معركة تُورَ سنة 114هـ (732م)، لعمَّت الحضارةُ الإسلامية والثقافةُ العربية الإسلامية في أوروبا منذ ذلك الزمن الباكر، ولوفَّرت الكنيسة الكاثوليكية على العالم نِزاعاً طويلاً وشقاء مريراً.

لقد انتشرت الثقافة العربية الإسلامية في العالم الغربي، ونهل علماء أوروبا من المصادر العربية الأصلية، ووجدوا أنها تراثٌ علميٌّ عظيمٌ، فاشتغلوا بدراسته وتحليله. ولقد كان العرب والمسلمون يمثّلون العلم الحديث بكل معنى الكلمة، كانوا رواداً في المناهج العلمية الحديثة، وقد اكتسب المثقفون والعلماء في أوروبا من الثقافة العربية الإسلامية، أكثر من مجرد المعلومات، إنهم اكتسبوا العقلية العلمية ذاتَها بكل طابعها التجريبي والاستقرائي، بحيث وجد الأوروبيون في التراث العربي الإسلامي وفي الثقافة العربية الإسلامية ضالتهم المنشودة، فعكفوا على نشره.

إن الانبهار بحجم تأثير الثقافة العربية الإسلامية في النهضة الأوروبية، وفي الثقافة والعلوم الأوربيَيْن، جعل مفكرةً عالمةً ألمانيةً تصدع بهذه الحقيقة بقولها : "إن تلك الحضارة الزاهرة التي غمرت بأشعتها أوروبا عدّة قرون، تجعلنا نعجب أشدّ العجب؛ إذ هي لم تكن امتداداً حضارياً لبقايا حضارات غابرة، أو لهياكل حضارية محلية على قدر من الأهمية، أو أخذاً لنمط حضاري موجود، أو تقليداً يُنسج على منواله المعهود، كما نعرف في الأقطار الأخرى مهد الحضارات في الشرق. إن العرب بثقافتهم هم الذين أبدعوا هذه الروعة الحضارية إبداعاً".

وبينما كانت أوروبا ترتع في غياهب العصور الوسطى، كانت الحضارة الإسلامية (التي هي محضن الثقافة العربية الإسلامية) في أوج ازدهارها، لقد أسهم الإسلام كثيراً في تقدّم العلم والطب والفلسفة. وقال (ويل ديورانت Will Durant) في كتابه "عصر الإيمان" (The Age of Faith) : "إن المسلمين قد ساهموا مساهمة فعالة في كل المجالات، وكان ابن سينا من أكبر العلماء في الطب، والرازي أعظم الأطباء، والبيروني أعظم الجغرافيين، وابن الهيثم أكبر علماء البصريات، وابن جبير أشهر الكيميائيين". وكان العرب رواداً في التربية والتعليم. وقال ديورانت في هذا الشأن أيضاً : "عندما تقدّم (روجر بيكو Reger Bacon) بنظريته في أوروبا بعد 500 عام من ابن جبير، قال إنه مَدينٌ بعلمه إلى المغاربة في إسبانبا الذين أخذوا علمهم من المسلمين في الشرق. وعندما ظهر النوابغ والعلماء في عصر النهضة الأوروبية، فإن نبوغهم وتقدّمهم كانا راجعين إلى أنهم وقفوا على أكتاف العمالقة من العالم الإسلامي".

* عن بحث بعنوان "الثقافة العربية والثقافات الاخرى"

للدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، المدير العام للمنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)