المشاركة السياسية للفقراء كآلية للحد من ظاهـرة للـفقر

أ . حمادي نبيل د. محمد زيدان

مخلص الورقة ومدخل إلى البحث

تواجه الدول العربية، باعتبارها من الدول التي تمر بمرحلة التحول نحو اقتصاد السوق الذي يتطلب المزيد من الشفافية والديموقراطية، مجموعة من التحديات التي يتوجب التعامل معها بأقصى قدر من الحيطة والمرونة حتى يمكن الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والإبقاء على مشروعية النظام السياسي.

و من بين أهم تلك التحديات، التحدي المتعلق بمواجهة الفقر وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتحاول هذه الورقة بحث إشكالية المشاركة السياسية للفقراء.

وسيجري بحث الموضوع وفقاً لما يلي:

أولاً - الفقر : معضلة العالم الكبرى ( نظرة على ظاهرة الفقر في العالم ).

ثانياً - المشاركة السياسية والتنمية في مجتمع فقير.

1 مفهوم المشاركة السياسية وأهميتها في التنمية.

2 مدى إمكانية المشاركة السياسية للفقراء.

ثالثاً : أثر الفقر على الاستقرار الاجتماعي وشرعية النظام السياسي.

1 أثر حالة الفقر على الاستقرار الاجتماعي.

2 أثر حالة الفقر على شرعية النظام السياسي.

رابعا: النتائج والتوصيات.

أولاً - الفقر : معضلة العالم الكبرى

( نظرة على ظاهرة الفقر في العالم )

بالرغم من التقدم المذهل الذي أحرزته البشرية في مختلف المجالات، وبالرغم
من التحسُّن الكبير في مستوى المعيشة الذي طرأ على حياة ملايين الناس في كثير من الدول، فلا زال الفقر يُمثل مشكلة إنسانية تؤرق قطاعات عريضة من البشر، فمن بين سكان العالم الذين يتجاوز عددهم اليوم
6 مليارات نسمة، يعيش 2.8 مليار نسمة منهم أي حوالي النصف على أقل من دولارين يومياً، ويعيش 1.2 مليار نسمة أي حوالي الخمس على أقل من دولار واحد يومياً، ومن بين هؤلاء يعيش44 % في جنوب آسيا وحوالي 24% في بلدان أفريقيا جنوب الصحراء . (1)

و مما يزيد الأمر سوءاً أن جهود مكافحة الفقر على الصعيد العالمي متواضعة أو محبطة ففي العقدين الأخيرين بدأت العديد من الدول النامية بناءا على نصيحة المنظمات الدولية وخاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي برامج الإصلاح الاقتصادي والتكيُّيف الهيكلي التي اشتملت على إجراءات أدت إلى انكماش الطلب الكلي، وإزالة الدعم الحكومي، وتحرير الأسعار وتقويم معدلات صرف العملات المحلية، أو إزالة أسعار الصرف المتعددة التي تحوي في جوانب منها دعماً حكومياً. وبصرف النظر عن الخلاف الشهير في الأدبيات الاقتصادية حول جدوى مثل هذه السياسيات على المدى الطويل، وما إذا كانت قادرة على إيجاد حلول عملية لمعضلات الدول النامية وفي مقدمتها الفقر، وفيما إذا كان " التثبيت " وحده كافياً، أم أن هناك حاجة لنمو قوي أيضاً، بصرف النظر عن هذا كله، فإن مما لا شك فيه هو أن سياسات الإصلاح تلك قد واكبتها أعراض غير مستحبة أثرت سلباً على الفئات الفقيرة، فقد صاحب تطبيق تلك السياسات ارتفاع في معدلات البطالة، وانخفاض فرص العمل حتى للفئات المتعلمة، وتدهور معدل الدخل الفردي بالقيم الحقيقية، وارتفاع تكاليف المعيشة(2). وهكذا فبدلاً من أن تؤدي تلك السياسات إلى الحد من الفقر إزدادت معها دائرة الفقر إتساعاً !

و لما كانت المشكلة التي يعالجها هذا البحث تنحصر في أثر حالة الفقر على قُدرة المواطنين في المشاركة السياسية، أي في مدى قدرتهم على المشاركة في صنع القرارات التي تؤثر على المصلحة الاجتماعية العامة أو التأثير في تلك القرارات، وكذا أثر حالة الفقر على الاستقرار الاجتماعي وشرعية النظام السياسي، فإننا ننطلق من حقيقة يُسلم بها الجميع وهي أن " الفقر قد أصبح معضلة يُعاني منها عالمنا اليوم" والأسوأ من ذلك أن هذه المعضلة تقف كعقبة في طريق الدول العربية وتعيق مسيرة قطاعات عريضة من الناس نحو حياة أفضل.

كما أننا - في هذا السياق نأخذ بالمفهوم الشامل للفقر الذي يعني أن الفقر أكثر من مجرد عدم كفاية الدخل، بل إنه أيضاً التعَّرض للمعاناة والافتقار إلى القدرة على التعبير عن الرأي والحرمان من السلطة والنفوذ ومن التمثيل في مؤسسات صناعة القرار. وينطوي هذا المفهوم المتعدد لأبعاد الفقر على قدر كبير من التعقيد خاصة إذا ما أردنا صياغة استراتيجية ناجحة لمواجهته لأنه يتعيّن أن تؤخذ في الاعتبار عوامل كثيرة سياسية واجتماعية وثقافية .. وغيرها. والطريقة المُثلى لمعالجة التعقيد الذي تنطوي عليه معضلة الفقر هي تمكين الفقراء من أسباب القوة وإتاحة سُبل المشاركة أمامهم على المستويات المحلية والوطنية والدولية .. وفوق ذلك يجب أن تكون الحكومات مسؤولة بصورة كاملة أمام مواطنيها عن مسار التنمية الذي تنتهجه.(3)

ثانياً : المشاركة السياسية والتنمية في مجتمع فقير

1- مفهوم المشاركة السياسية وأهميتها في التنمية

المفهوم العام والبسيط للمشاركة السياسية هو : " مشاركة أعداد كبيرة من الأفراد والجماعات في الحياة السياسية "(4)، وهي تعني عند صومائيل هاتنجتون وجون نلسون: " ذلك النشاط الذي يقوم به المواطنون العاديون بقصد التأثير في عملية صنع القرار الحكومي، سواء أكان هذا النشاط فردياً أم جماعياً، منظماً أم عفوياً، متواصلاً أو متقطعاً، سلمياً أم عنيفاً، شرعياً أم غير شرعي، فعالاً أم غير فعال ".(5)

والمعنى الأكثر شيوعاً لمفهوم المشاركة السياسية هو " قدرة المواطنين على التعبير العلني والتأثير في اتخاذ القرارات سواء بشكل مباشر أو عن طريق ممثلين
يفعلون ذلك ".
(6)

وتفترض المشاركة وجود قنوات يتمكن الناس من خلالها من التأثير في اتخاذ القرارات التي تمس حياتهم، فالعلاقة السوية بين الدولة والمجتمع ينبغي أن تنطوي على قدرٍ كبير من المشاركة السياسية للمواطنين وتنظيماتهم في اتخاذ القرارات، وكلما ازدادت المشاركة السلمية المنتظمة لأفراد المجتمع في الشؤون العامة كلما كان ذلك دليلاً على كون الدولة تعبر تعبيراً أميناً عن توجهات المجتمع وتطلعاته . وعلى هذا الأساس يجري وصف النظام الديمقراطي على أنه النظام الذي يسمح بأوسع مشاركة هادفة من جانب المواطنين في عملية صنع القرارات السياسية واختيار القادة السياسيين.(7)

وتعتبر المشاركة السياسية بُعداً أساسياً من أبعاد التنمية البشرية، إذ يُعَّرف إعلان "الحق في التنمية " الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1986م عملية التنمية بأنها : "عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، تهدف إلى تحقيق التحسن المتواصل لرفاهية كل السكان وكل الأفراد، والتي يمكن عن طريقها إعمال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وإذا كانت التنمية البشرية تعني تعزيز فرص الناس وقدراتهم الأساسية لكي يعيشوا حياة طويلة وصحية، وأن يتزودوا بأكبر قدر ممكن من المعرفة وأن يكون بإمكانهم الحصول على الموارد اللازمة لمستوى معيشة لائق، إذا كان الأمر كذلك، فإن المشاركة تصبح مطلباً ضرورياً وبدونها تصبح خيارات كثيرة غير متاحة، أي ضرورة مشاركة كل الأطراف - بما فيهم الفقراء- في صياغة سياسات عامة أفضل لدعم النمو وتخفيض أعداد الفقراء.(8)

ويعني الربط بين مفهومي المشاركة السياسية والتنمية البشرية أن الأولى لازمة لتحقيق الثانية، فبدون مشاركة فعلية وجادة من قبل كافة الشرائح الاجتماعية يصعب تحقيق أهداف التنمية باعتبارها عملية تهدف إلى القضاء على الفقر، وإلى تدعيم كرامة وكبرياء الإنسان وإعمال حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية.

و السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو : ما هي إمكانية المشاركة السياسية للفئات الفقيرة ؟ ولماذا يتوجب على الفقراء في الدول العربية أن يشاركوا في عملية التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه فيما يلي:

إذا كانت المشاركة الشعبية تعني اشتراك الناس عن كثب في العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تؤثر في حياتهم، فإن ذلك يقتضي بالضرورة أن تكون لدى الناس إمكانية وصول مستمرة إلى صنع القرار وإلى السلطة.

وحيث أن المشاركة تتطلب حداً مقبولاً من القدرات، ومن النفوذ والسيطرة، فإنها تتطلب أيضاً مزيداً من التمكين، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وهذا معناه من
الناحية الاقتصادية قدرة أي شخص على مزاولة أي نشاط اقتصادي مشروع، ومعناه من الناحية الاجتماعية الاشتراك الكامل في جميع أشكال الحياة الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني، ومعناه من الناحية السياسية حرية اختيار تغيير الحكام على كل مستوى بدءاً من رئيس المجلس الشعبي البلدي إلى رئيس الجمهورية.
(9)

وعلى ذلك، فإن كل اقتراح يدعو إلى زيادة المشاركة الشعبية يجب أن يجتاز اختبار الفاعلية، أي هل يؤدي إلى زيادة قدرة الناس على السيطرة على مجريات حياتهم وتحسينها، أم أنه على العكس يؤدي إلى نقصان تلك القدرة، وبالتالي إلى زيادة حرمانهم وتهميشهم.

وتواجه قضية المشاركة، في كثير من البلدان العربية، عقبات عديدة بعضها قانوني وبعضها سياسي، وبعضها اجتماعي ثقافي، حيث تفضي مجمل الممارسات إلى إقصاء وتهميش العديد من الفئات الاجتماعية وفي مقدمتها الفقراء والنساء.

وهكذا يجد الفقراء أنفسهم مستبعدين رغماً عنهم من المشاركة في جوانب كثيرة
من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهو أمر بدا باعثاً على القلق مما حدا بالبنك الدولي إلى أن يُشير إلى ذلك في تقريره لعام
2000م، الذي جاء تحت عنوان : (مهاجمة الفقر) بقوله : " .. في عالم تتوزع فيه القوة السياسية بصورة غير متكافئة، تحاكي أحياناً طريقة توزُّع القوة الاقتصادية، فإن الطريقة التي تعمل بها مؤسسات الدولة قد تكون غير مواتية للفقراء بالذات، فعلى سبيل المثال، كثيراً ما لا يحصل الفقراء على مزايا الاستثمار العام في التعليم والرعاية الصحية، وكثيراً ما يكونون ضحايا الفساد والتعسف من جانب الدولة، كما أن نتائج الفقر تتأثر كثيراً بالقواعد والمبادئ والقيم والأعراف الاجتماعية السائدة التي تؤدي داخل الأسرة أو المجتمع أو السوق إلى استبعاد المرأة أو الجماعات العرقية أو العنصرية، أو المحرومين اجتماعياً. ولهذا السبب فإن تسهيل تمكين الفقراء من أسباب القوة يُعتبر عنصراً رئيسياً في تقليل عدد الفقراء، وتمكينهم من المشاركة.(10)

ثالثاً: أثر حالة الفقر على الاستقرار الاجتماعي وشرعية النظام السياسي

1. أثر حالة الفقر على الاستقرار الاجتماعي في مرحلة التحول نحو

الديمقراطية

الإشكالية التي تُثار بالمناسبة في هذا المحور يمكن صياغتها على النحو التالي:

إلى أي مدى يتعارض التحول الديمقراطي في المجتمع يعاني من الفقر مع الاستقرار الاجتماعي والسياسي ؟ ومما يزيد من صعوبة حل هذه الإشكالية أن فكرة "التحول " تتعارض في الأصل مع فكرة " الاستقرار" ذلك أن عملية التحول نحو الديمقراطية ستؤدي بالضرورة إلى تغيير كلى أو جزئي في أسس النظام الاجتماعي والسياسي القائم وهذا يؤدي حتماً إلى نوع من عدم الاستقرار.

و الأنظمة التي استطاعت اجتياز مرحلة الاستقرار الاجتماعي والسياسي، هي تلك التي تمكنت من بناء آليات ومؤسسات تتيح أكبر قدر ممكن من الحراك الاجتماعي وتداول القوة الاقتصادية والسياسية بين أفراد المجتمع، وعلى ذلك فإن الديمقراطية التي يدعيها أي نظام سياسي لا تقاس من خلال عدد الأحزاب التي يرخص لها بممارسة العمل السياسي، وإنما من خلال التداول الفعلي للسلطة بين النخب المتعددة، وعبر الطبقات الاجتماعية المختلفة، بما يترتب على ذلك من آثار على المستوى الواقعي بحيث تتاح المشاركة الشعبية، وتتكافؤ الفرص لكافة أفراد الأمة دون تمييز.(11)

و على ذلك فالإقرار بمبدأ التعددية السياسية والجزئية لا يعني وحده بأن الديمقراطية قد تحققت، فالديمقراطية تعني قبل كل شيء منع احتكار السلطة والثروة من قبل فئة أو فريق واحد أو طائفة اجتماعية معينة.

إذن، فحيث لا يتم التبادل السلكي للسلطة، وحيث لا تتوزع الثروة بين الفئات الاجتماعية المختلفة تبعاً لمبدأ تكافؤ الفرص والتأهيل والجدارة، يصعب الإدعاء بتحقيق الديمقراطية، ويصبح قبول هذا الإدعاء أكثر صعوبة إذا صدر عن نخبة سياسية منغلقة على نفسها ومتربعة على مدة الحكم لفترة طويلة من الزمن، والشواهد على مثل هذه النخبة كثيرة في وطننا العربي.

وفي حالة الدول العربية، تكشف إحدى الدراسات، أن سلوك النخب السياسية العربية في السلطة والمعارضة يتميز بصفتين رئيسيتين : غياب المبادرة وتغليب المصالح الشخصية على المصلحة العامة، وقد أدى هذا النوع من السلوك السلبي للنخب إلى نتيجتين كل منهما تمثل عقبة في طريق التحول نحو الديمقراطية، الأولى : هي إفلاس الثقافة السياسية للنخب العربية، فانشغالها بمصالحها الشخصية أو الحزبية الضيقة جعلها لا تلتفت إلى تطوير برامجها السياسية لتجعلها متوالية مع متطلبات المصلحة الاجتماعية العامة والنتيجة الثانية: وهي على علاقة بالأولى فتتمثل بالعزوف التدريجي للعرب عن الاهتمام بالسياسة ذلك أن جمود دوران النخب السياسية وسلوكها المحافظ والسلبي أفقدها المصداقية في نظر الناس.

وإذا كان تفشي الفقر يُضعف الحكم مهما كان نوعه بما يؤدي إليه من عدم الاستقرار، فإن اجتياز مرحلة التحول نحو الديمقراطية بما يصاحبها من أعراض إضافية لعدم الاستقرار يشكل تحدياً آخر لمقدرة أي نظام سياسي على التكيف والمرونة واجتياز مرحلة التحول إلى الديمقراطية دون التضحية بمتطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فالهدف النهائي للديمقراطية هو إتاحة المزيد من الخيارات أمام الناس لتحسين مستوى حياتهم وأي ديمقراطية لا تؤدي إلى هذه النتيجة هي ديمقراطية جوفاء.

و مع تزايد مظاهر حالة الفقر في المجتمعات العربية، وما يصاحب تلك الحالة من سخط اجتماعي أقله معلن وأكثره مكبوت يُصبح دور الدولة، ممثلة بنخبتها السياسية، حيوياً في إعادة الاستقرار الاقتصادي وبالتالي تحقيق حد أدنى من الاستقرار الاجتماعي، ذلك أن وظيفة الدولة الأساسية هي الحفاظ على أمن ورفاه المجتمع وتماسكه، وإذا ما أخفقت في أداء هذه الوظيفة فإنها تصبح مهددة بفقدان مصداقيتها وبالتالي مشروعيتها في نظر مواطنيها وهذا يقودنا أخيراً - إلى بحث أثر حالة الفقر على مشروعية النظام السياسي في الدولة.

2. أثر حالة الفقر على شرعية النظام السياسي

تعني شرعية النظام السياسي في مجتمع ما، أن يكون ذلك النظام مقبولاً بشكل طوعي من قبل أغلبية المحكومين.(12)

وعلى ذلك فإن شرعية النظام السياسي تجد أساسها في قدرة هذا النظام على الاستجابة لخيارات المواطنين وعلى قدرته على التوافق مع القيم والمصالح الأساسية للمجتمع وكذلك قدرته على الاستجابة لآمال وتطلعات الناس في الحياة الكريمة.

والشرعية السياسية لهذا النظام أو ذاك، ليست شيئاً حوياً، بمعنى أنها إمّا أن توجد أو لا توجد على الإطلاق، وإنما هي عملية قابلة للنمو والتطور أو على العكس قد تكون قابلة للتآكل وإلا الانعدام .. فقد يستولي نظام سياسي معيّن علي السلطة دونما سند من مصادر الشرعية، ولكن بمرور الوقت قد يكتسب هذا النظام مشروعية، أي أن قبول المحكومين به يُصبح طوعياً قائماً على الرضا والإقناع وليس على الإذعان والقسر، والعكس صحيح، فقد يصل نظام سياسي إلى السلطة بطريق مشروع ويكون متمتعاً بالقبول الاجتماعي، ولكنه بمرور الوقت قد يفقد هذه الشرعية، ومن هنا تحاول كل الأنظمة الحاكمة بصرف النظر عن كيفية وصولها إلى السلطة أن تكرس شرعيتها، إن بدأت بمثل هذه الشرعية، أو أن تبني شرعيتها وتحاول تعزيزها إن بدأت من دونهما.

وتختلف كفاءة الأنظمة السياسية في المحافظة على شرعيتها خصوصاً في المجتمعات التي يعصف بها عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والعامل الأساسي في إضفاء الشرعية من عدمه هو قدرة هذا النظام أو ذاك على التوافق والانسجام مع قناعات وتطلعات الأفراد الذين يعيشون في كنفه، والشرعية بهذا المعنى أوسع من مجرَّد التأييد أو المعارضة.

إذ قد يكون هناك من يُعارض السلطة، وقد يتذمّر الناس من بعض قراراتهما وسياساتهما، ولكن هذه أمور طبيعية، بل وحتمية وهي لا تنفي شرعية السلطة، طالما شعر المواطنون أن السلطة في توجهها العام سلطة وطنية منسجمة مع عقيدة وتاريخ وقيم المجتمع، ومخلصة بوجه عام لإرادة الشعب ومستجيبة لتطلعاته.(13)

وإذ كانت "حدة الفقر في أي مجتمع هي أوضح تعبير عن فشل، أو عدم قدرة النظام السياسي في إنجاز الحد الأدنى من التنمية الاقتصادية والاجتماعية"، فإن شرعية هذا النظام تصبح محل شك، وهذا يعني أن الحكومات والأنظمة التي تتجاهل حالة الفقر ولا تستجيب لمطالب الفقراء، تخاطر بفقدان شرعيتها ذلك أن إنتشار الفقر خاصة مع وجود قلة مرفهة يُثير بالضرورة التساؤل حول شرعية من يدعون العمل لمصلحة المواطنين.

الخلاصة والتوصيات

لسوء الحظ، ليست هناك وصفة جاهزة لمواجهة الفقر ومعالجة الآثار المترتبة عليه على الأقل في الوقت الراهن، فالفقر كما سبقت الإشارة ظاهرة اجتماعية نسبية ومعقدة، تختلف من شخص لآخر، ومن مجتمع لآخر، فعوامل ومسببات وظروف الفقر تتصف بالخصوصية الشديدة سواء بالنسبة للأفراد أو للمجتمعات، وهو الأمر الذي يعني تعدد الوصفات والسياسات اللازمة لمواجهة الفقر تبعاً لتعدد حالات الفقر ومناطق انتشاره.

ومع ذلك، فإن أي استراتيجية للقضاء على الفقر – خاصة في الوطن العربي- يجب أن تنطلق من تعزيز قدرات الفقراء، و توسيع خياراتهم، و تمكينهم من كسب معركتهم ضد الفقر. ويُعتبر دور الدولة أساسياً في القضاء عن الفقر أو الحد منه حيث يكمن جوهر العملية التنموية المناصرة للفقراء في الإصلاح المؤسسي المؤدي إلى زيادة نصيبهم في هيكل القوة في المجتمع، ذلك أن الإصلاح المؤسسي، وليس النمو الاقتصادي في حد ذاته، هو الذي يمثل جوهر التنمية الممكنة للفقراء ويجب أن تتضمن عملية الإصلاح المؤسسي العناصر الآتية:

1. القيام بإدخال الإصلاحات الضرورية في مجال السياسة العامة، واتخـاذ الإجـراءات اللازمة لضمان تمكين الفقراء من الحصول على المواد التي تحميهم من أوجـه الضعف ( تأمين ملكية المنازل والأراضي، وفرص الحصول على العمل والائتمان).

2. الالتزام بتأمين وحماية الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية للفقراء.

3. توفير التعليم والرعاية الصحية للجميع بما في ذلك خدمات الرعاية الصحية، وتنظيم الأسرة، والمياه والمرافق الصحية، والعمل على تحقيق ذلك بالشرعية الممكنة.

4. إقامة شبكات الأمان الاجتماعي للوقوف دون سقوط الناس في هاوية الفقر والعوز، وإعداد الخطط المسبقة لمواجهة الكوارث الطبيعية.

5. جعل المساواة بين المواطنين عموماً، وبين الرجال والنساء، جزء من استراتيجية كل بلد للقضاء على الفقر.

و مع أن الدولة يجب أن تضطلع بالدور الرئيسي في أية استراتيجية لمواجهة الفقر، إلاً أن المجتمع المدني والفقراء أنفسهم يجب أن يبذلوا قصار جهدهم من أجل الخروج من محنة الفقر، فالضغط الذي يمارسه الناس للدفاع عن حقوقهم وإزالة العقبات من طريقهم، وتعزيز فرصهم في العيش الكريم، هو الذي سيؤدي في النهاية إلى القضاء على الفقر البشري.

ولكي تكون إستراتيجية القضاء على الفقر فعّالة، ينبغي أن تُعطى منظمات المجتمع المدني مساحة واسعة للعمل على أوساط المجتمع، وينبغي أن لا تُصنف نشاطاتها مُسبقا على أنها أعمال غير قانونية أو مُعارضة، بل ينبغي أن ينظر إليها على أنها ممثل شرعي للفقراء وشريك أساسي للدولة من أجل الحد من ظاهرة الفقر، ذلك أن منظمات المجتمع المدني يمكن أن تكون أكثر مرونة واستجابة لحاجات الفقراء، كما يمكن أن يكون لها ميزة نسبية في تعزيز أساليب المشاركة في التنمية باعتبارها تعمل من خلال الاتصال الوثيق مع الفئات الاجتماعية المستفيدة من نشاطها.

وفيما يتعلق بالمشاركة السياسية للفقراء، فإن جهود مكافحة الفقر تتطلب وجود دولة فاعلة قادرة على تهيئة الظروف السياسية اللازمة لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية تتصف بالعدل والإنصاف، وهذا يتطلب وجود حيز ديمقراطي يُعبِّر فيه الناس عن مطالبهم، ويعملون جماعياً من أجل توزيع أكثر عدل للسلطة والثروة.

والجزائر، باعتبارها واحدة من الدول الأكثر فقراً، مطالبة بأن تتبنى وعلى وجه السرعة إستراتيجية شاملة للخروج من محنة الفقر تكون مستجيبة للعناصر الأساسية التي تم ذكرها في الفقرات السابقة.

لقد تبنت الجزائر نظاماً ديمقراطيا يحث الناس على المشاركة السياسية والإسهام في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وكان من أثر ذلك، أن تبنت جميع الأحـزاب والتنظيمات السياسية ( موالية ومعارضة ) في برامجها السياسية التي خاضت على أساسها الانتخابات الأخيرة قضية الإصلاح السياسي والاقتصادي الذي أصبح ضرورياً وتطوير مؤسسات الدولة، وتعزيز ثقة المواطن بها.

وفي ختام هذه الورقة يمكن طرح التساؤل التالي كآفق لدراسات مستقبلية وهو:

هل يستطيع الجزائريون مواجهة التحديات التي تفرضها حالة الفقر عليهم ؟

أم أن الفقر سيظل قدر الجزائريين إلى أبد الآبدين!

الهوامش والإحالات

1- البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، 2000، ص04.

2- عبد الرزاق الفارس، الفقر وتوزيع الدخل في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001، ص10.

3- البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم 2000/2001، شن هجوم على الفقر-عرض عام، النسخـة العربية، واشنطن، 2000، ص 13.

4- Lucian W. Pye. Aspects of Political Development, Little Brown Series in Comparative Politics Boston, MA: Little, Brown, and Gabriel Abraham Almond and G. Bingham Pingham Powell, Comparative Politics: A Developmental Approach, Little, Brown Senries in Compatative Politics, an Analytic Study ( Boston, MA: Little , Brown, 1966), PP. 52-55.

5- Samuel P. Huntington and Joan M. Nelson, No Easy Choice: Political Participation in Developing CountriesCambridge, MA: Harvard University Press1976, P. 3.

6- سعد الدين إبراهيم، محرر، المجتمع والدولة في الوطن العربي، مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1985، ص 186.

7- ثامر كامل محمد، إشكاليتا الشرعية والمشاركة وحقوق الإنسان في الوطن العربي، المستقبل العربي، السنة 22، العدد 251، بيروت، يناير 2000، ص 119.

8- إيمانويل بالداشي، وبنديكت كليمنتس، وكيابح كوى، وسانجيف جوبتا، ما الذي تتطلبه مساعدة الفقراء، مجلة التمويل والتنمية، المجلد 42، العدد 02، صندوق النقد الدولي، يونيه 2005، ص 20.

9- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية البشرية، 1993، ص 21.

10- البنك الدولي، تقرير التنمية في العالم 2000/2001، عرض عام، النسخة العربية، ص 01.

11- برهان غليون، المحنة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994م، ص: 272.

12- سعد الدين إبراهيم، مصادر الشرعية في أنظمة الحكم العربية، ورقة مقدمة إلى ندوة : أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص 1984، ص 404.

13- أحمد بهاء الدين، شرعية السلطة في العالم العربي، دار الشروق، القاهرة، 1984، ص 10، 11.

المراجـــــع

1- المراجع باللغة العربية

1. أحمد بهاء الدين، شرعية السلطة في العالم العربي، دار الشروق، القاهرة، 1984.

2. إيمانويل بالداشي، وبنديكت كليمنتس، وكيابح كوى، وسانجيف جوبتا، ما الذي تتطلبه مساعدة الفقراء، مجلة التمويل والتنمية، المجلد 42، العدد 02، صندوق النقد الدولي، يونيه 2005.

3. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية البشرية، 1993.

4. برهان غليون، المحنة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994م.

5. البنك الدولي، تقرير التنمية في العالم 2000/2001، عرض عام، النسخة العربية.

6. البنك الدولي، تقرير عن التنمية في العالم، مركز الأهرام للترجمة والنشرة، القاهرة، 2000.

7. ثامر كامل محمد، إشكاليتا الشرعية والمشاركة وحقوق الإنسان في الوطن العربي، المستقبل العربي، السنة 22، العدد 251، بيروت، يناير 2000.

8. سعد الدين إبراهيم، محرر، المجتمع والدولة في الوطن العربي، مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1985.

9. سعد الدين إبراهيم، مصادر الشرعية في أنظمة الحكم العربية، ورقة مقدمة إلى ندوة : أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1984.

10. عبد الرزاق الفارس، الفقر وتوزيع الدخل في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001.

2- المراجع باللغة الأجنبية

1. Lucian W. Pye , Aspects of Political Development, Little Brown Series in Comparative Politics Boston, MA: Little, Brown, and Gabriel Abraham Almond and G. Bingham Pingham Powell, Comparative Politics: A Developmental Approach, Little, Brown Senries in Compatative Politics, an Analytic Study ( Boston, MA: Little , Brown, 1966.

2. Samuel P. Huntington and Joan M. Nelson, No Easy Choice: Political Participation in Developing CountriesCambridge, MA: Harvard University Press1976.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها