الليبرالية.. أيدلوجية مراوغة أفسدها رأس المال الليبرالية في القرن 21

اتسم القرن 20 بإعلان الليبرالية انتصارها على مستوى العالم في مقولة فوكوياما الشهيرة حول نهاية التاريخ التي أغفلت جرائم الليبرالية الاقتصادية في حق الطبقات الدنيا وفي حق الشعوب غير الغربية، وقد عبر عن ذلك فوكوياما (1989) في قوله: "إننا نشاهد نهاية التاريخ وذلك في نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وعالمية الديمقراطية الليبرالية الغربية كآخر شكل للحكومة الإنسانية".

ومن السهل تأسيس هذه الفرضية على بعض الشواهد التاريخية؛ فبعد سقوط الفاشية في عام 1945 كانت الشيوعية السوفيتية البديل الرئيسي لليبرالية الغربية، ولكن حتى هذا النظام انهار باندلاع الثورات في دول أوربا الشرقية في الفترة 1989 - 1991 رافضة لمبادئ التخطيط والتدخل الحكومي. وأما في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يتم عملية دمقرطة النظم السياسية بانتشار التنافس الحزبي وتنامي الاتجاه نحو الإصلاح الاقتصادي القائم على السوق. وإذا كانت تلك العمليات المستمرة تعكس التفوق الواضح لليبرالية على الأيديولوجيات المنافسة (كنهاية للتاريخ كما تزعم النظرية)، أو أنه نتيجة لظهور نظام رأسمالي كوني تسيطر عليه شركات متعددة الجنسية (كما يحذرنا النقاد)، فالمستقبل يبدو لنا ظاهرا: سوف تنكمش الاختلافات الاقتصادية والسياسية تدريجيا في معدلات مختلفة لتلتقي جميعا على النموذج الليبرالي.

لكن الانتصار الليبرالي يواجه تحديات داخلية وخارجية جديدة. فداخليا تتعرض الليبرالية في المجتمع الغربي لنقد من قبل المفكرين الذين أعادوا اكتشاف أهمية المجتمع التراحمي. وظهرت "النظرية المجتمعية" كرد فعل لمساوئ الليبرالية الفردية. وعلى سبيل المثال رفض المفكران أليسدير ماك إنتير ومايكل ساندل الفردية على أنها سطحية ومعادية للجماعة الاجتماعية، حيث إنها تعامل الذات على أنها غير مسئولة تستمد هويتها من داخلها بدلا من العوامل الاجتماعية والتاريخية والثقافية المحيطة بها. ففي نظرهم أن الذات جزء لا يتجزأ من الممارسات والعلاقات الاجتماعية، كما أن العيب الذي يكمن في الليبرالية هو أنها غير قادرة على إنشاء سياسة الصالح العام؛ بسبب تركها للفرد اختيار الحياة التي تروق له والتي يستحسنها من مفهومه الشخصي. ويساعد هذا الفراغ الأخلاقي على تفكك المجتمع. ونظرا لعدم تقيدهم بالواجبات الاجتماعية والمسئولية الأخلاقية. ولا يهتم الأفراد إلا بمصالحهم وحقوقهم الشخصية؛ فعلى المدى الطويل قد يفقد المجتمع الليبرالي المنابع الثقافية لمراجعة الأنانية غير المقيدة أو لتعزيز التعاون والجهد الجماعي.

ويأتي التحدي الخارجي لليبرالية من خارج الغرب. فمع نهاية النظام العالمي الثنائي القطب الذي تمثل في الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي أفسح المجال لقوى جديدة غير ليبرالية كالتي ظهرت مع الديمقراطية الليبرالية. ففي أوربا الشرقية أثبتت الصحوة القومية التي يستمد منها الشعب القوة والثبات والأمن أنها أقوى من الليبرالية الحاسمة. وترتبط هذه القومية بالنقاء العرقي والسلطوية عنها بالمبادئ الليبرالية مثل إقرار المصير والكبرياء الحضري. كذلك ظهرت نماذج متنوعة من الأصولية في الشرق الأوسط وفي بعض مناطق أفريقيا وآسيا. وينتشر الإسلام السياسي عن الليبرالية في كثير من الدول النامية؛ لأنه قادر على تقديم موقف غير غربي بدلا من اتخاذ موقف ضد الغرب. وذلك بالإضافة إلى أن المناطق التي نجح فيها اقتصاد السوق لم تكن دائما قائمة على قيم ومؤسسات ليبرالية، فمثلا قد ترجع صحوة شرق آسيا إلى قدرة الكنفوشسية للمحافظة على الاستقرار الاجتماعي عنها إلى تأثير المبادئ الليبرالية مثل المنافسة والبقاء الذاتي.

وبدلا من الاتجاه نحو عالم ليبرالي موحد تتصف التنمية السياسية في القرن 21 بتنامي التنوع الأيديولوجي، وقد يكون الإسلام والكنفوشسية وحتى القومية السلطوية المنافسين الجدد لليبرالية الغربية. ويقول جون جراي صاحب كتاب "ما بعد الليبرالية": إن هذا المنظور ينبع من طور أكبر؛ ألا وهو انهيار المشروع التنويري الذي تعتبر الليبرالية جزءا منه. ويفترض هذا المشروع أن هناك مجموعة من المبادئ العقلانية قابلة للتطبيق العالمي يمكن أن ترسي أوضاعا تسمح للأفراد بالسعي وراء غايات غير متساوية. وتقع مهمة الليبرالية في إيجاد مؤسسات لتحقيق هذا الهدف، وهي تتمثل في الحكومة التمثيلية والتنافس الحزبي واقتصاد السوق لتحقيق حياة طيبة للفرد بدون خلل وانهيار اجتماعي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها