الجزائر من أحمد بن بلّة والى عبد العزيز بوتفليقة 1

بقلم : الكاتب والصحفي الجزائري يحي أبوزكريا .

المحتويات

· الجزائر في عهد أحمد بن بلّة.

· الجزائر في عهد هواري بومدين .

· الجزائر في عهد الشاذلي بن جديد .

· الجزائر في عهد محمّد بوضياف .

· الجزائر في عهد علي كافي .

· الجزائر في عهد اليامين زروال .

· الجزائر في عهد عبد العزيز بوتفليقة .

الإهداء

إلى أولادي علي وزينب وبتول وعبير ومنى الذين وجدوا أنفسهم بلا وطن بعد أن انضمّوا إلى المنفى القسري الذي يعيش فيه أبوهم , وإلى زوجتي ليلى التي مازالت تتحمّل معي قساوة المنافي , وإلى أمي التي باعدتت بيني وبينها الجغرافيا والتي مازالت تعيش في الجزائر تروي لي حكايات أزقتها عبر الهاتف فقط .

يحي أبو زكريا .

الجزائر : نظرة تاريخيّة

وصل الإسلام إلى الشمال الإفريقي عن طريق عقبة بن نافع وأستقبله سكان هذه المنطقة برحابة صدر, عدا في بعض الأماكن , حيث كان الأمازيغ – وهم السكان الأصليون في المغرب العربي – يعتقدون أن المسلمين الفاتحين لا يختلفون عن غيرهم من الوندال والفنيقيين والرومان الذين تعودّوا على غزو منطقة المغرب العربي وكان الأمازيغ – وتعني هذه العبارة الأحرار- يتصدّون لهذه الغزوات ببسالة . وبعد فترة وجيزة إنقلب هذا الإعتقاد رأسا على عقب حيث أصبح الإسلام هو الدين السائد في منطقة المغرب العربي وأهم مقوّم لحياة المغاربة الذين إنطلقوا في خدمته حيث ساهموا في فتح الأندلس وفي إيصال الإسلام إلى جزء كبير من أوروبا .

وغداة سقوط الأندلس بدأت شواطئ المغرب العربي تتعرض لإعتداءات الإسبان والبرتغاليين بدافع الثأر من المسلمين الذين أشادوا حضارة للإسلام في الأندلس .

و أثناء هذه الحملات الصليبية التي كان يتعرض لها المغرب العربي على مدى مئات السنين إنطلقت الخلافة العثمانية في إسطنبول – دار السلام – وشرعت في توسيع رقعتها بإتجاّه الأقاليم العربية والإسلامية , وأستغاث حينها ولاّة المغرب العربي بالخلافة العثمانية التي أمرت أسطولها البحري في البحر الأبيض المتوسط والذي كان على رأسه خير الدين وبابا عروّج بالتوجه إلى السواحل المغاربية وتوفير الحماية للمسلين في هذه المنطقة , وبموجب هذا أصبحت دول المغرب العربي فعليّا تحت الوصاية العثمانية وذلك بدءا من عام 1515 ميلادي وإلى غاية 1830 تاريخ إحتلال فرنسا للجزائر وبقية الدول المغاربية في وقت لاحق .

وقد إستغلّت فرنسا وقتها ضعف الجزائر التي أرسلت أسطولها البحري للمشاركة مع الأسطول العثماني في معركة –لافارين – سنة 1827 لمواجهة بعض الأساطيل الأوروبية , وكانت النتيجة أن تحطمّ الأسطول الجزائري وأصبحت المياه الإقليمية الجزائرية سهلة المنال أمام القوات الفرنسية التي كانت تخطط قبل ذلك في إحتلال بوابّة إفريقيا –الجزائر-. ولم يمر الإحتلال الفرنسي دون مقاومة عارمة وقوية أبداها الشعب الجزائري بقيادة شيوخ الإصلاح والزوايا وحفظة القرآن الكريم , ومنهم الأمير عبد القادر الجزائري والشيخ بوعمامة والشيخ المقراني وغيرهم من شيوخ المقاومة الذين كان مصيرهم جميعا إماّ الإستشهاد أو السجن ومن ثمّ النفي .ومع هؤلاء أستشهد مئات الآلاف من الجزائريين على يد القوات الفرنسية التي وبمجرد أن بسطت سيطرتها على الأراضي الجزائرية شرعت في تحويل المساجد إلى كنائس ,وشرعت في القضاء على اللغة العربية والتعليم العربي , وترافق هذا المشروع الإستعماري مع مشروع تغريبي ما زالت الجزائر تعاني من أثاره إلى يومنا هذا .

وكانت الإدارة الفرنسية التي تولّت الحكم في الجزائر تطلب المزيد من الجنود والذخيرة الحربية من فرنسا الأمر الذي سهلّ عليها إخماد المقاومة الجزائرية التي كانت تشتعل هنا وهناك في كل القطر الجزائري المترامي الأطراف , و عندما هدأت المقاومة المسلحة بدأت مقاومة من نوع أخر تجسدّت في وضع إستراتيجيّة أخرى للحفاظ على عروبة الجزائر وإسلاميتها , وتأسسّت لهذا الغرض أحزاب وتنظيمات تدعو إلى الوقوف بوجه فرنسا التي تعمل على تذويب الشخصية الجزائرية وسلخ الجزائر عن هويتها العربية والإسلامية . وكانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس من أبرز هذه التيارات التي لعبت أكبر الأدوار في مواجهة الغزو الثقافي الفرنسي , وتمكنت هذه الجمعية من إنشاء مدارس عربية وإسلامية في مناطق عدّة في الجزائر , وكان لها الفضل في الإعداد للثورة الجزائرية التي دحرت فيما بعد الاحتلال الفرنسي عن الجزائر .

وعندما تأكدّ الجزائريون من حقيقة النوايا الفرنسية لدمج الجزائر وبشكل كامل في فرنسا , تشكلّت في الجزائر ما يعرف بلجنة 22 ومهدّت لتفجير الثورة الجزائرية في الأول من نوفمبر –تشرين الثاني من سنة 1954 .

وتميزّت الثورة الجزائرية بكونها شعبية وعربية وإسلامية المنطلق , حيث أقرّ بيان ثورة نوفمبر 1954 و مؤتمر الصومام الذي انعقد في ولاية بجاية لتنظيم شؤون الثورة الجزائرية سنة 1956 أنّه إذا تحررت الجزائر فيجب عندها إقامة دولة في إطار المبادئ الإسلامية وهذا المعنى يؤكده كل أحرار الجزائر الذين عاصروا هذه الحقبة .

وعندما فرضت الثورة الجزائرية نفسها وقوتها ولاحت في الأفق بوادر الإستقلال شرع الجنرال ديغول في إعداد خطته لسرقة الإنتصار الجزائري وطلب من الجنرال لاكوست تسريح الضباط الجزائريين الذين كانوا ضمن القوات الفرنسية والذين وجدوا أنفسهم تلقائيا قبيل الاستقلال وبعيده في صفوف جيش التحرير الشعبي الوطني الجزائري , وبعد إستقلال الجزائر في 05يوليو- تموز 1962 إستمرّت الوصاية الثقافية الفرنسية على الجزائر كما بقيت منابع الطاقة الجزائرية بيد السلطات الفرنسية إلى أن جرى تأميم النفط والغاز في عهد هواري بومدين ,وهذا ما دفع بعض السياسيين الجزائريين إلى القول بأنّ الإستقلال الجزائري كان ناقصا وأن إتفاقيّات إيفيان التي أفضت إلى استقلال الجزائر كانت ملغومة وأعطت حيزا لفرنسا تمكنت من خلاله التسلل إلى مواقع السيادة الجزائرية.

ومثلما كانت رحلة الثورة الجزائرية شاقة , فكذلك كانت رحلة الإستقلال الحبلى بالتطورات والصراعات والخلافات والفتن , ومنذ عهد أحمد بن بلة و إلى عهد عبد العزيز بوتفليقة تحاول الجزائر إستيعاب ما جرى ويجري لها وتحاول في الوقت نفسه رسم طريق المستقبل الصعب .

أحمد بن بلّة : الثائر الناصري.

تعتبر الثورة الجزائريّة من أعظم الثورات العربية في القرن العشرين , وقد خرجت هذه الثورة من رقعتها المحليّة المحدودة في قلب المغرب العربي لتصير ثورة لكل العرب وكل الأحرار في العالم الثالث . وبفضل الثورة الجزائرية تمكنت الجزائر أن تصبح ذات سمعة عربيّة وإسلامية محترمة , وكان يكفي ذات يوم ترديد اسم الجزائر لتقشّعر الأبدان .

لقد إندلعت الثورة الجزائرية في غرّة نوفمبر سنة 1954 بإمكانات متواضعة وبسيطة , وفي غضون أشهر وجيزة إلتفّ حولها الشعب الجزائري لتقوده في نهاية المطاف إلى شاطئ الإستقلال في 05يوليو – تموز سنة 1962 , وحاولت فرنسا جاهدة وبمختلف الوسائل السياسية والعسكرية وأد هذه الثورة التي إستعصت على فرنسا وتحققّ بذلك قول شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا : أقسمنا بالدماء أن تحيا الجزائر .

وما كانت الثورة الجزائرية لتقود الجزائر بإتجاه الحرية لو لم يتوفر لها مجموعة من الرجال الذين إجتمعت كلمتهم على ضرورة الثورة كشرط وحيد لإسترجاع الحق المنهوب من قبل فرنسا . وقبل إندلاع الثورة الجزائرية إندلع لغط كبير في الأوساط السياسية والثقافية الجزائرية حول الإندماج في الدائرة الفرنسية أو الإستقلالية عن فرنسا وتحصين الشخصية الجزائرية , وذهب بعض السياسيين الجزائريين بعيدا في ذلك الوقت عندما شككوا في وجود الأمة الجزائرية و قد عرف عن أحد السياسيين الجزائريين قوله : لقد فتشت في القبور عن جذور الأمة الجزائرية فلم أجد شيئا , وكانت النخبة الجزائرية الفرانكفونية والتي درست في المعاهد الكولونيالية تنظر بعين الهازئ والساخر إلى دعوات المنادين بالحفاظ على السيادة الجزائرية والثقافة الجزائرية ذات البعدين العربي والإسلامي .

ووسط هذا الجدل الواسع بين دعاة الإندماج ودعاة الإستقلال قررّت مجموعة من الثائرين الجزائريين تشكيل لجنة واسعة تضمّ إثنين وعشرين عضوا وهدفها الإعداد للثورة الجزائرية,

وقد إقتنعت هذه اللجنة – النواة الأولى للثورة الجزائرية – بأنّه لا يمكن الحصول على الإستقلال بالوسائل السياسية , لأن فرنسا قررت وبشكل نهائي ضمّ الجزائر إلى فرنسا وإعتبار الجزائريين فرنسيين مسلمين , وكانت بطاقات الهويّة التي تمنحها فرنسا للجزائريين فرنسية كتب عليها لدى التعريف بجنسية حاملها عبارة فرنسي مسلم , وقد جاءت هنا المواطنة الفرنسية قبل الإسلام الذي صاغ الشخصية الجزائرية و وقاها من الذوبان في مستنقع التغريب الفرنسي . وشرعت اللجنة المذكورة في الإتصال بالشخصيات الجزائرية الوطنية المؤمنة بحتمية الثورة , وقد كان لمحمد بوضياف ورابح بيطاط وزيغود يوسف ومئات غيرهم دور كبير في تفجير الثورة الجزائرية , ومن الشخصيات الجزائرية التي اإضمت إلى صفوف الثورة الجزائرية منذ إندلاعها أول رئيس للجزائر المستقلة أحمد بن بلة الذي كان يعرف في أوساط إخوانه الثوّار بلقب : سي حميمد .

و يعتبر أحمد بن بلة من روّاد الثورة الجزائرية ومن الساسة الذين قادوا المرحلة بعد إستقلال الجزائر , وقد انضم إلى حزب الشعب الذي كان يتزعمه مصالي الحاج ثمّ إلى جبهة التحرير الوطني التي فجرت الثورة الجزائرية . و سجنته السلطات الفرنسية بعد أن تمكنّ من وضع قنبلة في مركز للبريد بمدينة وهران الواقعة في الغرب الجزائري , وفي السجن الفرنسي خططّ للفرار منه وتمّ له ما يريد , وظلّ مستترا إلى أن تمكن من مغادرة الجزائر إلى المغرب سنة 1956 . وأعتقلته السلطات الفرنسية مجددا وهو في طريقه إلى تونس جوّا , وقد كان على متن الطائرة التي كانت تقله من الرباط إلى تونس قادة الثورة الجزائرية محمد بوضياف ,محمد خيضر , رابح بيطاط , وحسين أيت أحمد , وكانت طريقة اعتقال أحمد بن بلة ورفاقه تعتبر أول عملية قرصنة جوية من نوعها حيث أجبرت الطائرات الحربية الفرنسية الطائرة المدنيّة التي كان على متنها أحمد بن بلة ورفاقه على الهبوط في مطار الجزائر العاصمة . وحتى لا تتكرر عملية الفرار السابقة تمّ اقتياد أحمد بن بلة الى سجن فرنسي يقع على الأراضي الفرنسية وبقيّ معتقلا فيه الى موعد الاستقلال في 05 تموز-يوليو من سنة 1962 فعاد هو ورفاقه الى الجزائر .

وقبيل الاستقلال الجزائري وبعيده اندلعت خلافات واسعة في صفوف الثورة الجزائرية وكادت هذه الخلافات أن تتحول الى حرب أهلية ضروس بين رفاق الأمس , وقد حسمت قيادة الأركان التي كان على رأسها هواري بومدين الخلافات لصالحها وعينّت أحمد بن بلة على رأس الدولة الجزائرية الفتية , وبذلك أصبح أحمد بن بلّة أو سي حميمد كما كان يسميه رفاقه أول رئيس للدولة الفتيّة التي رأت النور بفضل مليونين من الشهداء.

· معالم الدولة الجزائرية في عهد أحمد بن بلّة :

يعترف أحمد بن بلّة بأنّه كان قليل الخبرة السياسية وقليل الثقافة لجهة ما يتعلق بتسيير شؤون الدولة و ادارة شؤون العباد والبلاد , بل لقد ذهب بعيدا عندما قال بأنّ الثورة الجزائرية كانت تفتقد الى أطروحة الدولة , ويعترف بن بلة أيضا أنّه كان من أشدّ المعجبين بالرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان يتمتع تاريخئذ بسمعة جماهيرية عربية واسعة , وقد ناصر جمال عبد الناصر الثورة الجزائرية وكان يمدها بالأسلحة عبر الحدود التونسية , كما منح كل التسهيلات والامكانات لرجال جبهة التحرير الوطني الذين أقاموا في القاهرة ومنها انطلقوا للتعريف بالثورة الجزائرية في العالم العربي والعالم الثالث . ولم يتنكّر الثائر الناصري ابن بلّة لفضل عبد الناصر على الثورة الجزائريّة فقررّ غداة انتصار الثورة الجزائرية التنسيق مع مصر عبد الناصر في كل المستويات وخصوصا فيما يتعلق بقضايا العالم الثالث و القضايا العربية الساخنة وحركات التحرر في العالم .

ويمكن القول أن جزائر أحمد بن بلة أصبحت نموذجا مصغرا للقاهرة في ذروة ريادتها للخط القومي .

/ / / / / / / /

بعد خروج فرنسا من الجزائر ورثّت الدولة الجزائرية الفتيّة معضلات أثرّت الى أبعد الحدود في مسار الدولة الجزائرية وأداءها السياسي والاقتصادي , فلقد تركت فرنسا الخزينة الجزائرية خالية وخاوية بعد أن قامت بسلب كل ما فيها و سحبت معها كل الودائع والأموال والسيولة التي كانت موجودة في البنوك , كما أنّ المحتلين الفرنسيين ونكاية بالثورة الجزائرية والجزائريين حطمّوا معظم الجرارات والألات الزراعيّة , الأمر الذي ألحق أكبر الأضرار بالزراعة الجزائرية وأبقى الجزائر تابعة زراعيا لفرنسا والى يومنا هذا , كما أدّى خروج الأساتذة الفرنسيين من الجزائر الى شغور فظيع في القطاع التربوي والتعليمي . وفوق هذا وذاك فقد خلفّت فرنسا في الجزائر مرضا ظلّ ومازال يفتك بالجزائر وهو مرض الأمية التي قدرّت سنة 1962 ب 80 بالمائة .

وكان التحدي الأول الذي واجه الدولة الجزائرية هو قلّة الخبراء والأكفاء الذين لهم القدرة على تسيير دفّة الحكم , فأضطرّت الدولة الجزائرية الفتية الى الاستعانة بالمحسوبين على الثقافة الفرنسية من الجزائريين الذين تلقوا تعليمهم في باريس وكان بعضهم يؤمن بفرنسا أكثر منه بالجزائر . وبدافع سدّ النقص أصبح دعاة الثقافة الفرانكفونيّة هم أصحاب الحل والربط ومن جملتهم المهندس سيد أحمد غزالي الذي تخرج من الجامعات الفرنسية كمهندس في الطاقة وعين لدى عودته الى الجزائر مديرا لقطاع الطاقة الذي كانت تشرف عليه فرنسا في الجزائر .

وهذا لا يعني أنّ أحمد بن بلّة لم يكن قلقا على مصير الثقافة العربية , بل كان يؤمن بعروبة الجزائر ولذلك قام باستدعاء ألاف الأساتذة العرب من مصر والعراق وسوريا للمساهمة في قطاع التعليم , وقد اصطدم هؤلاء التربويون العرب بمجموعة كبيرة من العراقيل البيروقراطية والتي كان يضعها في طريقهم سماسرة الثقافة الفرانكفونية وأختار العديد من هؤلاء المتعاونين العودة الى بلادهم وبذلك تمّ الاجهاز على مشروع التعريب الذي مازال متعثرا الى يومنا هذا .

ورغم ايمانه بعروبة الجزائر الاّ أنّ بلة كان مهووسا بالفكر الاشتراكي اليساري وكان متحمسا لبعض التجارب التي كانت سائدة في البلاد الاشتراكية , وتحمسّه للفكر الاشتراكي واليساري جعله يصطدم بالرجل الثاني في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ البشير الابراهيمي الذي ورث خلافة الجمعية من الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي أدركته المنيّة قبل اندلاع الثورة الجزائرية , وفسرّ البعض ذلك الصدام بأنّه بداية الطلاق بين النظام الجزائري والخط الاسلامي الذي كانت تمثله جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقيادة الشيخ البشير الابراهيمي . وبدأ الطلاق عندما اتهم البشير الابراهيمي الرئيس أحمد بن بلّة بتغييب الاسلام عن معادلات القرار الجزائري وذكّر بن بلة بدور الاسلام في تحرير الجزائر والجزائريين من ربقة الاستعمار الفرنسي , وبسبب هذا التصادم وضع الشيخ البشير الابراهيمي تحت الاقامة الجبرية وقطع عنه الراتب الشهري وبقيّ كذلك بدون راتب وتحت الاقامة الجبرية الى أن وافته المنية في يوم الجمعة من 20 محرّم سنة 1375 هجرية الموافق ل 21 مايو –أيّار سسنة 1965 .

ويقول بعض المؤرخين الجزائريين أنّ التصادم بين أحمد بن بلة والشيخ البشير الابراهيمي سببه البيان الذي أصدره الابراهيمي في 16 أبريل –نيسان سنة 1964 , وهذا نصّ البيان .

باسم الله الرحمان الرحيم

كتب الله لي أن أعيش حتى استقلال الجزائر ويومئذ كنت أستطيع أن أواجه المنيّة مرتاح الضمير , اذ تراءى لي أني سلمت مشعل الجهاد في سبيل الدفاع عن الاسلام الحق والنهوض باللغة- ذلك الجهاد الذي كنت أعيش من أجله – الى الذين أخذوا زمام الحكم في الوطن ولذلك قررت أن ألتزم الصمت . غير أني أشعر أمام خطورة الساعة وفي هذا اليوم الذي يصادف الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس –رحمه الله – أنّه يجب عليّ أن أقطع الصمت , ان وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة ويتخبط في أزمة روحية لا نظير لها ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل , ولكنّ المسؤولين فيما يبدو لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيئ الى الوحدة والسلام والرفاهية وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تبعث من صميم جذورنا العربية والاسلامية لا من مذاهب أجنبيّة . لقد ان للمسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة وألاّ يقيموا وزنا الاّ للتضحية والكفاءة وأن تكون المصلحة العامة هي أساس الاعتبار عندهم , وقد ان أن يرجع الى كلمة الأخوة التي أبتذلت –معناها الحق – وأن نعود الى الشورى التي حرص عليها النبيّ صلىّ الله عليه وسلم , وقد ان أن يحتشد أبناء الجزائر كي يشيّدوا جميعا مدينة تسودها العدالة والحرية , مدينة تقوم على تقوى من الله ورضوان ..

الجزائر في 16 أبريل – نيسان 1964 . توقيع : محمّد البشير الابراهيمي .

ومثلما دخل أحمد بن بلة في صراع مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين , فقد دخل في صراع أخر مع رفاق دربه بالأمس , حيث شعر العديد من مفجرّي الثورة الجزائرية أن البساط قد سحب من تحتهم وأنهم باتوا بدون أدوار في مرحلة الاستقلال و بدأت الفتنة تطل برأسها بين الأخوة الأعداء وتمّ تدشين أولى الاغتيالات السياسية في الجزائر والتي تواصلت في عهد هواري بومدين و رافقت كل العهود الجزائرية , وقد بلغت هذه الاغتيالات الذروة في عهد محمد بوضياف وعلى كافي واليامين زروال . وفي عهد أحمد بن بلة أعدم العقيد شعباني , كما أغتيل في اسبانيا محمّد خيضر أحد قادة الثورة الجزائرية, أما حسين أيت أحمد الذي كان مغضوبا عليه فقد فرّ الى باريس و أسسّ جبهة القوى الاشتراكية , وتمّ اعتقال محمد بوضياف وحكم عليه بالاعدام وبعد تدخل العديد من الوسطاء خرج من السجن وغادر الجزائر متوجها الى فرنسا ومنها الى مدينة القنيطرة في المغرب حيث قضّى فيها قرابة ثلاثين سنة قبل أن تستغيث به المؤسسة العسكرية في الجزائر ليكون رئيسا خلفا للشاذلي بن جديد الذي أقالته نفس المؤسسة غداة الانتخابات الاشتراعية التي فازت فيها الجبهة الاسلامية للانقاذ في أواخر 1991 .

وفي باريس ألفّ محمد بوضياف كتابا بعنوان :الجزائر الى أين ! عالج فيه مصير الجزائر بعد استقلالها . ووسط هذه الخلافات السياسية ترأس بن بلة الدولة الجزائرية وحاول الاستعانة بدول المحور الاشتراكي في ذلك الوقت لتجاوز مخلفّات الاستعمار , وفي بداية عهده أولى بن بلة القطاع الاقتصادي والتربوي أهمية خاصة , فعلى المستوى الاقتصادي نهجت الجزائر نهج الاقتصاد الموجّه والمسيّر وكانت الحكومة الجزائرية تستعين في هذا المجال بالمساعدات القادمة من الصين ويوغوسلافيا السابقة ومصر وباقي الدول التي ناصرت الثورة الجزائرية .

\ \\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

وكانت هناك معضلة تواجه الاقتصاد الجزائري تمثلت في سيطرة فرنسا على قطاع الطاقة وأستفردت ولسنوات عديدة في الاستفادة من الثروات الطبيعية الجزائرية وكانت الشركات الفرنسية تتولى التنقيب عن النفط وتسويقه , وبدل أن يكون النفط الجزائري في خدمة الشعب الجزائري الذي أنهكته الحقبة الاستعمارية الفرنسية , فقد واصلت فرنسا عملية السلب والنهب الى أن قام الرئيس الجزئري هواري بومدين بتأميم النفط .

وقد وجدت الدولة الفتية صعوبة بالغة في اعادة تأهيل البنى التحتية واعادة الروح الى القطاع الزراعي والاقتصادي ,ورغم أن عدد الشعب الجزائري لم يتجاوز تاريخئذ 12 مليون نسمة الاّ أنّ الحكومة الفتية وجدت صعوبة في ايجاد الحلول للمشاكل العالقة .

وفي العهد الاستعماري كانت السلطات الفرنسية تخصّ بالاهتمام المناطق الأهلة بالسكان الفرنسيين كالجزائر العاصمة ووهران والبليدة وغيرها أما القرى النائية والأرياف فقد كانت محرومة من أبسط أساليب العيش الكريم كالكهرباء والماء والمستوصفات وماالى ذلك من نقائص ,و وجدت الدولة الجزائرية الفتية صعوبات في اعادة تأهيل القرى والمناطق الريفية , وبقيّ وضعها على ماهو عليه الى أن تولىّ الرئيس هواري بومدين الحكم بانقلاب عسكري فأولى الفلاحين المحرومين بعضا من اهتمامه .

وعلى مستوى بنيوية الدولة فقد كانت مفاصلها بيد المؤسسة العسكرية التي كانت متحالفة مع حزب جبهة التحرير الوطني الذي كان الحزب الوحيد الحاكم الى بداية الانفصال بين السلطة و حزب جبهة التحرير الوطني عقب خريف الغضب الجزائري في 05 أكتوبر –تشرين الأول 1988 , وكانت الدولة أنذاك تفتقد الى المؤسسات الدستورية بل كانت تكتفي بالتلويح دوما بالشرعية الثورية , وعندما شعرت الدولة بحاجتها الى مؤسسة تشريعية قامت بتشكيل مؤسسة شبه اشتراعية تمّ تعيين كل أعضائها وكان يشترط في العضو أن يكون منتمياّ الى حزب جبهة التحرير الوطني .

\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

علاقات الجزائر الدولية :

على الرغم من أن الدولة الجزائرية الفتية قررت اقامة علاقات حسنة ومميزة مع كل الذين وقفوا الى جانب الثورة الجزائرية , الاّ أنّ حكومة بن بلة وجدت نفسها في مهب العاصفة مع المغرب بسبب خلافات حدودية بين الجزائر والمغرب , وفي سنة 1963 نشبت مناوشات على الحدود بين البلدين وقد شكلت هذه المناوشات لبنة الصراع السياسي الحاد بين الرباط والجزائر الذي مافتئ يتفاقم ويتفاعل على امتداد ثلاثة عقود .

وكانت علاقات الجزائر مع كل من ليبيا وموريتانيا وتونس الى حدّ ما جيدة الى أن أصبحت قضية الصحراء الغربية هي معيار التوازن في علاقات الجزائر المغاربية حيث باتت ساعتها خاضعة للمدّ والجزر . وعلى صعيد علاقات الجزائر مع بقية الدول العربية كمصر والعراق وسوريا فقد كانت ايجابية , كما حرص بن بلة على مدّ جسور التواصل مع الدول الاشتراكية بدءا بموسكو ومرورا بهافانا ووصولا الى بلغراد .

السقوط :

كان أحمد بن بلة يثق ثقة عمياء في وزير دفاعه هواري بومدين , فهذا الأخير هو الذي نصبّ بن بلة على رأس الدولة الجزائرية الفتية وهو الذي مهدّ له الطريق باتجاه قمة هرم السلطة , ولم يكن بن بلة يتوقع أن تأتيه طعنة بروتوس من صديقه هواري بومدين .

وبومدين الذي أطاح بأحمد بن بلة بانقلاب كان يعتبر أن بن بلة خرج عن خط الثورة الجزائرية واستأثر بالسلطة و كان يتهمه بالديكتاتورية والشوفينية وكان يأخذ عليه احتكاره لتسعة مناصب حساسة في وقت واحد , وكان بومدين يزعم أنه لجأ الى الانقلاب انقاذا للثورة وتصحيحا للمسار السياسي و حفاظا على مكتسبات الثورة الجزائرية . ومهما كانت مبررات الانقلاب فانّه سنّ سنّة سيئة في الجزائر وأعتبر هذا الانقلاب بداية الانحراف في السياسة الرسمية الجزائرية التي مازالت أزمة الشرعية احدى معالمها . وغداة الانقلاب عليه وضع أحمد بن بلة في فيلا خاصة في منطقة شبه معزولة ولم يسمح لأحد بزيارته , ولم تجد تدخلات جمال عبد الناصر الشخصية في اطلاق سراحه , وذهبت سدى كل المحاولات التي قام بها رؤساء الدول الذين كانت تربطهم بابن بلة علاقات صداقة .

وعن فترة اعتقاله التي استمرّت 15 سنة قال أحمد بن بلة أنّه استفاد من أجواء العزلة واستغلّ أوقاته في المطالعة والقراءة حيث بدأ يتعرف الى الفكر الاسلامي وغيره من الطروحات الفكرية .وقد تزوجّ وهو في السجن من صحافية جزائرية تعرفت عليه عندما كان رئيسا للدولة الجزائرية .

وعندما وصل الشاذلي بن جديد الى السلطة سنة 1980 أصدر عفوا عن أحمد بن بلة حيث غادر الجزائر متوجها الى باريس ومنها الى سويسرا في منفى اختياري , وعندما كان في باريس أسسّ حزبا أطلق عليه اسم الحركة من أجل الديموقراطية , وكانت هذه الحركة تصدر مجلتين هما البديل وبعده منبر أكتوبر تيمنا بانتفاضة أكتوبر الجزائرية سنة 1988 .

وقد عارض نظام الشاذلي بن جديد وحزب جبهة التحرير الوطني والأحادية السياسية , وكان يطالب بحياة سياسية تتسم بالديموقراطية واحترام حقوق الانسان .

وبعد دخول الجزائر مرحلة الديموقراطية التنفيسية عقب خريف الغضب في 05 تشرين الأول – أكتوبر – 1988 عاد أحمد بن بلة الى الجزائر على متن باخرة أقلعت من أسبانيا وكان برفقته مئات الشخصيات الجزائرية والعربية والأجنبية , وواصل في الجزائر معارضته للنظام الجزائري من خلال حركته من أجل الديموقراطية . ولم يحقق حزب أحمد بن بلة أي نجاح يذكر أثناء الانتخابات التشريعية الملغاة والتي جرت في 26 كانون الأول –ديسمبر 1991 وعلى الرغم من ذلك فانّ أحمد بن بلة كان معترضا على الغاء الانتخابات التشريعية وكان يطالب بالعودة الى المسار الانتخابي وكان يعتبر المجلس الأعلى للدولة – رئاسة جماعية – الذي تشكل بعد الغاء الانتخابات واقالة الشاذلي بن جديد سلطة غير شرعية .

وعندما حلّت الجبهة الاسلامية للانقاذ من قبل السلطة الجزائرية اعترض على ذلك وغادر الجزائر مجددا وتوجه الى سويسرا ومافتئ هناك يطالب بالمصالحة الوطنية المؤجلة و عاد الى الجزائر مجددا وقابل عندها رئيس الحكومة بلعيد عبد السلام الذي قال لبن بلة : أن هناك مجموعة من الضباط يقفون ضد الحوار وطلب بلعيد من بن بلة التحرك لقص أجنحة رافضي الحوار , ويبدو أن أجنحة بلعيد عبد السلام هي التي قصّت وأقيل من منصبه .

أراء بن بلة في مختلف القضايا :

عندما سئل بن بلة بعد خروجه من السجن وتوجهه الى فرنسا ومنها الى سويسرا هل أنت لائكي –علماني – أجاب بأنّه ليس لائكيا وليس من دعاة اللائكية ,و هي نتاج غربي محض وجاءت لتحلّ محل الكنيسة ونجم عن ذلك الفصل مابين الدين والدولة ومن يدعو الى اللائكية كما قال بن بلة فهو يريد أن يلبس جلدا غربيا لجسد اسلامي , انّه يريد تغريب مجتمعه ويبعده عن الحضارة الاسلامية الاطار الصحيح لأي منظور سياسي في الحكم . وفي هذا المجال أيضا قال بن بلة أنه يرفض حكم الفقهاء وأنّه ليس خمينيا ولا يلبس عباءة أي شخص , أنّه مجرد مواطن جزائري ومناضل في حزب الشعب ثمّ حركة انتصار الحريات الديموقراطية ثمّ مجاهد في أول نوفمبر وأحد مناضلي جبهة التحرير الوطني كما قال بن بلة عن نفسه .

وقال بن بلة : أنا أفتخر بأنني أحد مناضلي جبهة التحرير الوطني التي كانت تتويجا للنضالات الجزائرية من الأمير عبد القادر الجزائري مرورا بأولاد سيدي الشيخ والمقراني والشيخ الحدّاد وبومعزة بوزيان و الزعاطشة , ومذبحة 08 ماي – أيّار 1945 في قالمة وسطيف وخراطة وهي سلسلة نضالات وانتفاضات شعبية متكاملة نابعة من قيّمنا العربية والاسلامية , أنا أنطلق من هذه القيم مجتمعة .

وسئل بن بلة عن رأيه في الذين قادوا انقلابا عليه ووعدوا الشعب الجزائري بكتاب أبيض فأجاب : ليس من حقي أن أقول للشعب الجزائري ما يعرفه ويحس به يوميا , أنا لن أطالبهم بالكتاب الأبيض لأن الشعب الجزائري يدرك من أعماقه ذلك , أولم يعدوا الشعب الجزائري في 19 جوان – حزيران 1965 –تاريخ الانقلاب على حكم أحمد بن بلة – بانشاء دولة القانون واحترام كل المؤسسات السياسية والتشريعية القائمة !

أين هي الدولة ! أو لم ينهوا مسيرة المجلس الشعبي الوطني ! قال أحمد بن بلة والذي استطرد قائلا : أولم يلغوا اللجنة المركزية والمكتب السياسي !

وسئل بن بلة عن الثقافة في الجزائر فقال : هل توجد ثقافة في الجزائر ! هل يوجد في ذهن مسؤول جزائري تقلدّ وزارة الثقافة مشروع ثقافي ! ألم يهن الكتاب والمفكرون !

وسئل عن الدولة في عهده فقال : أنا الذي كونت الدولة الجزائرية بعد استرجاع السيادة الوطنية , وهذا شرف أفتخر به , ذلك أن اتفاقيات ايفيان –وهي التي أفضت الى استقلال الجزائر – فرضت ضرورة وجود طرف قويّ لتحمل المسؤولية و كان لابدّ لنا من اللجوء الى الانتخابات الشعبية وتأميم أراضي الكولون , ما يقرب من 03ملايين هكتار و أراضي الباشاوات – الجزائريون الذين كانوا يتعاملون مع السلطات الفرنسية وجمعوا ثروات جرّاء هذه العمالة - , وأعتقد أن المشروع الحقيقي للثورة الزراعية بدأ في عهد تأميمنا للأراضي التي لم تكن للجزائر وانما للكولون – المستعمرين – وعملائهم .

وقال بن بلة : وقد لجأت الى التسيير الذاتي وتأميم البنوك و انتهاج سياسة خارجية فعالة لمدّة لم تتجاوز السنتين والنصف , ولم تكن في أيدينا أموال النفط والغاز , ومع ذلك قمنا بحل الكثير من المشاكل الاجتماعية وقضينا على ظواهر عديدة مثل ظاهرة المتسولين وماسحي الأحذية وغيرها .

وقمنا بحملات ضخمة للتشجير ومحاربة التصحّر , وكانت المدينة نظيفة بشوارعها وسكانها ولم تكن هناك أفكار تحقد على الثورة كما هو الأن , كان المواطن الجزائري مستعدا للتضحية في سبيل وطنه , ولم تكن هناك ظاهرة الرشوة كما هو الأن .

وسئل عن موقفه من اللغة العربية والبربرية ! ولماذا لجأ في عهده الى محو الأمية باللغة الفرنسية ! فأجاب : أعتبر أنه من العيب أن نأتي بعد ربع قرن لنسأل عن موقفنا من اللغة العربية , أنا ضدّ من يطرح أي لغة أخرى مهما كانت , فعلى مستوى اللغة العربية فهي لغتنا الوطنية , ولا يمكن التخلي عنها أو تشجييع أي لغة أخرى منافسة لها , أنا بربري في الأصل وتراثي البربري تدعيم لأصالتي العربية والاسلامية ومن ثمّة لا أسمح بوجود لغتين وطنيتين : عربية وبربرية , انّ اللغة الوطنية الوحيدة هي اللغة العربية , أما البربرية فتدخل في حيّز التراث الذي يتطلب منا اثراؤه ودعم الايجابي منه . وردّ على الاتهام بقوله : بدأنا بمحو الأمية بالفرنسية ,و لم يكن عندنا ما يكفي من المعلمين باللغة العربية لتسيير مؤسسة تربوية واحدة وقد لجأنا لاحقا الى التعريب , لقد أحضرنا جيشا من الأساتذة من مختلف الأقطار العربية وشرعنا في اعداد برنامج وطني للتعليم في مختلف مستويات التعليم .و كناّ نعد لاصدار قرار بعد قرار التسيير الذاتي يقضي بتعريب الجامعة , وقام السيد الطاهر الذي كلفته باعداد المشروع القاضي بدراسة مختلف المؤسسات التعليمية واحتياجاتها وبرامجها الاّ أن الانقلاب كان أسبق من الاعلان عن المشروع الوطني للتعريب وكنا ندرك جيدا أهمية تعريب الجامعة وهذا لا يعني أنه لم يكن هناك برنامج للتعليم بل لقد بدأنا بالتعليم الأصلي .

وسئل بن بلة عن وفائه لجمال عبد الناصر فقال :أنا وفيّ لفكر جمال عبد الناصر لأنني أعتبره رجلا عظيما ساهم في دعم الثورة الجزائرية أكثر من أي شخص أخر في الوطن العربي الذي تحكمه أطراف متناقضة ومتباينة مثل عبد الاله في الأردن ونوري السعيد في العراق وعبود السودان وكانت تعيش تابعة للغير ,باستثناء عبد الناصر الذي كان يمثل الوفاء للثورة الجزائرية في مختلف مراحلها , والجزائريون مدينون لهذا الرجل وأظن أنّ خروج الشعب الجزائري الى الشارع يوم وفاته كان دليلا على وجوده في وجدانهم وضمائرهم ولا نستطيع أن نحصي ما قدمّه للثورة الجزائرية في سطور كما قال أحمد بن بلة . وعما يريده من الجزائر بعد ثلاثين سنة من استقلالها قال : ما أطالب به هو تحرير البلاد - أي الجزائر – من التبعية والرجوع الى الأصل العربي والاسلامي ووضع حدّ للهيمنة الرأسمالية الغربية واقامة وحدة بين الدول المغاربية …..

\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

ذلك هو أحمد بن بلة اليوم بعيدا عن السلطة التي يبدي ندمه الكبير على سنوات وجوده في قمة هرمها , بن بلة اليوم غيره البارحة , وبن بلة الثائر غير بن بلة السلطوي وكلاهما غير بن بلة المعارض , ومهما قيل ويقال عن بن بلة ومرحلة حكمه يبقى الرجل من الرموز التي ساهمت في تحرير الجزائر من ربقة الاستعمار الفرنسي ..

هواري بومدين : رجل الثورة والدولة .

في مساء يوم 28 أيلول –سبتمبر 1962 و عند الساعة الثامنة وخمس دقائق عقد المجلس الوطني التأسيسي – هيئة البرلمان – دورته الثالثة لمنح الثقة لحكومة أحمد بن بلّة رئيس الحكومة , وقد افتتح الجلسة رئيس المجلس الوطني التأسيسي فرحات عبّاس وبعد اجراءات الافتتاح تقدمّ أحمد بن بلة الى المنصة وألقى خطابا , هذه مقدمته :

سيداتي سادتي , بعد فترة سيطرة الاستعمار التي هيمنت على البلاد طيلة 132 سنة , وبعد حرب تحريرية دامت سبع سنوات , أصبح الشعب الجزائري مستقلا وأصبحت الأمة الجزائرية حرّة , و أعلنت الجمهورية الديموقراطية الشعبية . فكل موتانا الذين قدموا أنفسهم فداء للحرية أحياء , وكل من تعذبّ وأتلفت أرزاقه وكل من يحمل على جلده جروح تعذيب المستبدين وكل الضحايا المجهولين أبطال التحرير الوطني وكل من ساعد الشعب الجزائري على الصمود والانتصار كلهم يستحقون اليوم اعتراف الوطن الذي تمكنّ بفضلهم من نيل حقوقه وكرامته .

سيداتي سادتي

انّ هذا الاعتراف بالجميل لا يمكن أن يأخذ عبرته منّا الاّ اذا اتعظنا بما سبق لنا من الدروس في كفاح شعبنا البطل , خصوصا وأنّ ذلك الكفاح قد أعطانا بشائر الأمل الدائم, وجهودنا في سبيل التحرير كانت تتسم بالأخوة والحماس الخالص ويجب علينا اليوم أن نتممّ تلك الجهود بنفس تلك الروح لبناء الوطن وتشييده .

وبعد هذا الخطاب الطويل تمّ الاعلان عن التشكيلة الحكومية الجديدة والتي جاءت كالتالي:

رئيس الحكومة : أحمد بن بلة .

نائب رئيس الحكومة : رابح بيطاط .

وزير العدل : عمّار بن تومي .

وزير الداخلية : أحمد مدغري .

وزير الدفاع الوطني : هواري بومدين .

وزير الخارجية : أحمد خميستي .

وزير المالية : أحمد فرنسيس .

وزير الزراعة: عمّار أوزقان .

وزير الاقتصاد : محمد خبزي .

وزير الطاقة : عروسي خليفة .

وزير البناء : أحمد بومنجل .

وزير العمل : بشير بومعزة .

وزير التربية الوطنية : عبد الرحمان بن حميدة .

وزير الصحة : محمد الصغير نقاش .

وزير البريد : موسى حساني .

وزير المجاهدين : محمدي السعيد .

وزير الشباب : عبد العزيز بوتفليقة .

وزير الأوقاف : توفيق مدني .

وزير الأخبار : محمد حاج حمو .

وكما برز هواري بومدين كقائد عسكري محترف ايّام الثورة الجزائرية , برز أيضا كوزير للدفاع في حكومة أحمد بن بلة , ولقد أمسك بذلك بأهم حقيبة وزارية بعد الاستقلال وسوف يكون لهواري بومدين مستقبلا دورا مركزيا في تاريخ الجزائر المعاصر .

لكن من هو هواري بومدين !

هواري بومدين :

هواري بومدين أو محمد بوخروبة كما هو اسمه الصريح لعب دورا كبيرا في تاريخ الجزائر ايّام ثورتها ضدّ الاستعمار الفرنسي , وبعد الاستقلال عندما تولى الاشراف على المؤسسة العسكرية التي تعرف في الجزائر بالمؤسسة السيدة بدون منازع وبفضل هذا المنصب تمكنّ من الاطاحة بالرئيس أحمد بن بلة في 19 حزيران- جوان 1965 .

ولد هواري بومدين في مدينة قالمة الواقعة في الشرق الجزائري وتعلم في مدارسها ثمّ التحق بمدارس قسنطينة معقل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين , ومعقل دعاة العروبة والاسلام .

رفض هواري بومدين خدمة العلم الفرنسي – كانت السلطات الفرنسية تعتبر الجزائريين فرنسيين ولذلك كانت تفرض عليهم الالتحاق بالثكنات الفرنسية لدى بلوغهم السن الثامنة عشر – وفرّ الى تونس سنة 1949 والتحق في تلك الحقبة بجامع الزيتونة الذي كان يقصده العديد من الطلبة الجزائريين , ومن تونس انتقل الى القاهرة سنة 1950 حيث التحق بجامع الأزهر الشريف .

وعندما اندلعت الثورة الجزائرية في 01 تشرين الثاني –نوفمبر 1954 التحق بجيش التحرير الوطني وكان مسؤولا عسكريّا في منطقة الغرب الجزائري , وتولى قيادة وهران من سنة 1957 والى سنة 1960 ثمّ تولى رئاسة الأركان من 1960 والى تاريخ الاستقلال في 05 تموز –يوليو 1962 , وعيّن بعد الاستقلال وزيرا للدفاع ثم نائبا لرئيس مجلس الوزراء سسنة 1963 دون أن يتخلى عن منصبه كوزير للدفاع .

و في 19 حزيران –جوان 1965 قام هواري بومدين بانقلاب عسكري أطاح بالرئيس أحمد بن بلة ,وأصبح بذلك أول رئيس يصل الى السلطة في الجزائر عن طريق انقلاب عسكري .

\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

علي بوهزيلة ابن خال هواري بومدين عندما طلب منه الحديث عن هواري بومدين قال:

ماذا تريدون معرفته بالضبط ! هناك أمور عديدة لم تذكر عن بومدين !

بومدين كان رجلا عظيما , قضى عمره كاملا من أجل القضية الوطنية , لكن بعد وفاته دفنوا تاريخه و ألغوا اسمه ولولا المطار في الجزائر العاصمة الذي يحمل اسمه لنسيّ الناس من يكون هواري بومدين , والفوضى التي شهدتها الجزائر تعود الى الفراغ الذي خلفّه موت هواري بومدين .

حياة هواري بومدين كطفل وشاب أحفظها عن ظهر قلب , وكنت من أقرب أبناء عمومته اليه و كنا نحكي كل كبيرة وصغيرة , وكان لنا صديق ثالث هو ابن خالته مصطفى صالح الذي استشهد أثناء ثورة التحرير . بومدين ابن فلاح بسيط من عائلة كبيرة العدد ومتواضعة ماديا , ولد سنة 1932 وبالضبط في 23 أب –أوت في دوّار بني عدي مقابل جبل هوارة على بعد بضعة كيلوميترات غرب مدينة قالمة , وسجّل في سجلات الميلاد ببلدية عين أحساينية – كلوزال سابقا -.

في صغره كان والده يحبه كثيرا ويدلّله رغم ظروفه المادية الصعبة قررّ تعليمه و لهذا دخل الكتّاب – المدرسة القرأنية – في القرية التي ولد فيها , وكان عمره أنذاك 4 سنوات , وعندما بلغ سن السادسة دخل مدرسة ألمابير سنة 1938 في مدينة قالمة – وتحمل المدرسة اليوم اسم مدرسة محمد عبده -, وكان والده يقيم في بني عديّ ولهذا أوكل أمره الى عائلة بني اسماعيل وذلك مقابل الفحم أو القمح أو الحطب وهي الأشياء التي كان يحتاجها سكان المدن في ذلك الوقت .

وبعد سنتين قضاهما في دار ابن اسماعيل أوكله والده من جديد لعائلة بامسعود بدار سعيد بن خلوف في حي مقادور والذي كان حياّ لليهود في ذلك الوقت – شارع ديابي حاليا-

وبعد ثماني سنوات من الدراسة بقالمة عاد الى قريته في بني عدي , وطيلة هذه السنوات كان بومدين مشغول البال شارد الفكر لا يفعل ما يفعله الأطفال , لكنّه كان دائما يبادرك بالابتسامة وخفة الروح رغم المحن التي قاساها منذ صغره .

لقد كان بومدين يدرس في المدرسة الفرنسية وفي نفس الوقت يلازم الكتّاب من طلوع الفجر الى الساعة السابعة والنصف صباحا , ثمّ يذهب في الساعة الثامنة الى المدرسة الفرنسية الى غاية الساعة الرابعة وبعدها يتوجّه الى الكتّاب مجددا .

وفي سنة 1948 ختم القرأن الكريم وأصبح يدرّس أبناء قريته القرأن الكريم واللغة العربية , وفي سنة 1949 ترك محمد بوخروبة – هواري بومدين – أهله مجددا وتوجه الى المدرسة الكتانية في مدينة قسنطينة الواقعة في الشرق الجزائري , وكان نظام المدرسة داخليّا وكان الطلبة يقومون بأعباء الطبخ والتنظيف . وفي تلك الأونة كان عمه الحاج الطيب بوخروبة قد عاد من أداء فريضة الحجّ مشيا على الأقدام , وبعد عودته ذهب اليه محمد –هواري بومدين – ليقدمّ له التهاني , وكان هواري يسأل عمه عن كل صغيرة وكبيرة عن سفره الى الديار المقدسة , وكان عمه يخبره عن كل التفاصيل ودقائق الأمور وكيف كان الحجاج يتهربون من الجمارك والشرطة في الحدود وحدثّه عن الطرق التي كان يسلكها الحجّاج , وكان بومدين يسجّل كل صغيرة وكبيرة , وكان بومدين يخطط للسفر حيث أطلع ثلاثة من زملائه في المدرسة الكتانية على نيته في السفر وعرض عليهم مرافقته فرفضوا ذلك لأنهم لا يملكون جواز سفر , فأطلعهم على خريطة الهروب وقال : هذا هو جواز السفر .

وقبل تنفيذ الخطة تمّ استدعاؤه للالتحاق بالجيش الفرنسي لكنّه كان مؤمنا في قرارة نفسه بأنه لا يمكن الالتحاق بجيش العدو ولذلك رأى أنّ المخرج هو في الفرار والسفر,

وعندما تمكن من اقناع رفاقه بالسفر باعوا ثيابهم للسفر برا باتجاه تونس .

ومن تونس توجه بومدين الى مصر عبر الأراضي الليبية ,وفي مصر التحق وصديقه بن شيروف بالأزهر الشريف , وقسّم وقته بين الدراسة والنضال السياسي حيث كان منخرطا في حزب الشعب الجزائري , كما كان يعمل ضمن مكتب المغرب العربي الكبير سنة 1950 , وهذا المكتب أسسّه زعماء جزائريون ومغاربة وتونسيون تعاهدوا فيما بينهم على محاربة فرنسا وأن لا يضعوا السلاح حتى تحرير الشمال الافريقي , ومن مؤسسي هذا المكتب علال الفاسي من المغرب وصالح بن يوسف من تونس وأحمد بن بلة وأية أحمد من الجزائر وكان هذا المكتب يهيكل طلبة المغرب العربي الذين يدرسون في الخارج . وقد أرسل مكتب المغرب العربي هواري بومدين الى بغداد ليدرس في الكلية الحربية وكان الأول في دفعته , وطيلة هذه الفترة كان يراسل والده الذي كان بدوره يبعث لولده ماتيسّر من النقود وذلك عن طريق صديق بومدين عجّابي عبد الله .

وعندما تبيّن للسلطات الفرنسية أن المدعو محمد بوخروبة –هواري بومدين – فرّ من خدمة العلم قامت بحملة بحث عنه ,وأنهكت والده بالبحث والتفتيش والاستدعاءات وتحت وطأة الضغط اعترف والد بومدين بالأمر وأعترف أن ابنه سافر للدراسة في مصر وحصلت السلطات الفرنسية على عنوان بومدين من أبيه وقامت السلطات الفرنسية بارسال مذكرة بهذا الخصوص الى السفارة الفرنسية في القاهرة , وكان الملك فاروق هو صاحب السلطة أنذاك في مصر وتقرر طرد بومدين من مصر واعادته الى الجزائر , لكن ثورة الضباط الأحرار أنقذت هواري بومدين و انتصارها جعل بومدين يبقى في مصر .

وعندما عاد صديق هواري بومدين عبد الله العجابي الى الجزائر ليلتحق بالثورة الجزائرية سنة 1955 ألقيّ عليه القبض في مدينة تبسة الجزائرية وهنا فتح ملف هواري بومدين مجددا , وأدركت السلطات الفرنسية أن محمد بوخروبة أو هواري بومدين كما هو اسمه الحركي خطر على الأمن القومي الفرنسي .

\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

هذا الرصيد الذي كان لهواري بومدين خولّه أن يحتل موقعا متقدما في جيش التحرير الوطني وتدرجّ في رتب الجيش الى أن أصبح قائدا للأركان ثمّ وزيرا للدفاع في حكومة أحمد بن بلّة .

ومثلما أوصل هواري بومدين بن بلّة الى السلطة فقد أطاح به عند أول منعطف ,وقد بررّ بومدين انقلابه بأنّه للحفاظ على الثورة الجزائرية وخطها السياسي والثوري .

وبعد الاطاحة بحكم الرئيس أحمد بن بلة في 19 حزيران – جوان 1965 تولى هواري بومدين رئاسة الدولة الجزائرية بمساعدة رجل المخابرات القوي أنذاك قاصدي مرباح الذي كان يطلق عليه بومدين لقب المستبّد المتنوّر .

وقد شرع هواري بومدين في اعادة بناء الدولة من خلال ثلاثية الثورة الزراعية والثورة الثقافية والثورة الصناعية على غرار بعض التجارب في المحور الاشتراكي التي كان هواري بومدين معجبا بها .

وغداة استلامه السلطة لم يقلّص هواري بومدين من حجم نفوذ حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم بل استمرّ هذا الحزب في التحكم في مفاصل الدولة , وكان الأساس الذي بموجبه يعيّن الشخص في أي منصب سياسي أو عسكري هو انتماؤه الى حزب جبهة التحرير الوطني , وبالاضافة الى سيطرة الحزب الواحد قام هواري بومدين بتأسيس مجلس الثورة وهو عبارة عن قيادة جماعية تتخذ قرارات في الاختيارات الكبرى للجزائر الداخلية منها والخارجية ,وفي داخل هذا المجلس أتخذت القرارات المصيرية من قبيل تأميم النفط والمحروقات واسترجاع الثروات الطبيعية والباطنية , ومن قبيل تعميم نظام الثورة الزراعية و انتهاج الاقتصاد الموجه واشراف الدولة على كل القطاعات الانتاجية .

لقد عمل هواري بومدين بعد استلامه الحكم على تكريس هيبة الدولة الجزائرية داخليا وخارجيا , وفي بداية السبعينيات توهجّت صورة الجزائر أقليميا ودوليا وباتت تساند بقوة القضية الفلسيطينية وبقية حركات التحرر في العالم , ولعبت الجزائر في ذلك الوقت أدوارا كبيرة من خلال منظمة الوحدة الافريقية و منظمة دول عدم الانحياز .

وعن مشروع بومدين قال مدير جهاز الاستخبارات العسكرية في ذلك الوقت قاصدي مرباح -الذي قتل أثناء الأحداث الدامية التي عرفتها الجزائر في بداية التسعينيات - :

انّ هواري بومدين كان يهدف الى بناء دولة عصريّة تسعد فيها الشريحة الواسعة من هذا الشعب .

\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

و من الصحافيين الفرنسيين الذين كتبوا عن هواري بومدين بكثير من الموضوعية الصحافي الفرنسي جاك لاكوتور الذي أشتهر خاصة بكتبه عن سيّر عظماء هذا القرن من أمثال

الزعيم الفيتنامي هوشي مينه والزعيم الصيني ماوتسي تونغ والجنرال شارل ديغول .

وقد كتب لاكوتور في جريدة لوموند الفرنسية مقالا عن هواري بومدين يوم 28 كانون الأول –ديسمبر 1978 جاء فيه مايلي :

انّ السلطة لتنحت الأفراد بالتقعير والتحديب , فهناك من تنصب لهم التماثيل وهناك من تنفخهم الريح وهناك من تنثرهم غبارا . ومحمد بوخروبة المدعو هواري بومدين لم يكن من أولئك الذين جعلتهم السلطة يتفسخون وكل من عرفه في ذلك الوقت الذي برز فيه من الجبل – يقصد الجبال التي كان يلوذ بها مفجرو الثورة الجزائرية – فلا شكّ أنّه قد انطبع في ذاكرته بصورة ذئب ضامر ذي نظرة هاربة وهو متدثر معطفه الشبيه بمعاطف المخبرين السريين , نصف مطارد ونصف صائد , منغلقا على صمته العدائ الذي لا تقطعه سوى انفجارات الغضب , شخصية هامشية لاذعة كلها ذؤابات وزوايا حادة ومستويات بين - بين , شخصية نمطية للتمرد والرفض .

بعد احدى عشرة سنة من ذلك وفي يوم 3 أيلول – سبتمبر 1973 كان الرئيس بومدين يستقبل في الجزائر العالم الثالث كزعيم وقائد واثق من نفسه وقوته وفصاحته . التقاطيع بقيت حادة , والذؤابات متمردة والصوت أبّح , لكنّ الرجل كان قد تكثف وأستوى عضلا ويقينا , لقد أصبح من القوة بحيث لم يعد في امكانه أن يخاطر بأن يسير في طريق الاعتدال , لقد اكتشف في غضون ذلك البدلات الأنيقة وربطات العنق وتعلمّ اللغة الفرنسية التي صار مذ ذاك يستعملها بفعالية مثيرة للدهشة بالنسبة لأولئك الذين كانوا يجهدون أنفسهم كثيرا لفهم كلام ذلك العقيد المتمرد في الجبال أثناء الحرب .

وعندما استقبل فاليري جيسكار ديستان في نيسان –أفريل – 1975 لم يكن هواري بومدين كريفي خشن من وراء البحار وانما كجار فخور باظهار ثمراته للاعجاب , وفي تلك الأثناء كانت الجزائر قد انتقلت من وضعيتها كطلل من الأطلال في أمبراطورية خربانة الى دولة كلها ورشات ثمّ الى أمة نموذجية للتنمية السلطوية تحت هيمنة وسلطة ابن الفلاّح ذاك الذي فضّل المنفى عن الاستعمار ثمّ فضلّ المعركة الشرسة و عندما أهلّ الاستقلال في الجزائر كان هواري بومدين أول قائد مقاومة يوقّع على النصوص الانعتاقية باللغة العربية ..وهذه الشهادة لهذا الصحافي الفرنسي لا تختلف عن غيرها من الشهادات لكتاب عرب وغربيين .

\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

في سنة 1964 وجّه صحافي مصري سؤالا الى بن بلة حول ماذا يفكر في بومدين الذي كان حاضرا معهما فأجابه الرئيس بن بلة وهو يقهقه ضاحكا :أنت تعلم أنّه الرجل الذي يقوم باحاكة كل المؤمرات والدسائس ضدّي !

ولم يكن في وسع تلك الدعابة أن تقف في وجه المقدور , فبعد سنة من ذلك اليوم وفي 19 حزيران –جوان – 1965 أختطف أحمد بن بلة ووضع في مكان سري من طرف رجال بومدين نفسه .

وفي مجلس الثورة الذي تشكل مباشرة بعد الانقلاب الذي قاده بومدين ضدّ أحمد بن بلة لم يكن أي عضو يملك القدرة على مزاحمة هواري بومدين .

بدأ بومدين ينتقل شيئا فشيئا من منطق الثورة الى منطق الدولة وأصبح يحيط بكل تفاصيل الدولة وأجهزتها , وحاول بومدين أن يمزج بين كل الأفكار التي سبق له وأن اطلعّ عليها في محاولة لايجاد ايديولوجيا للدولة التي بات سيدها بدون منازع فمزج بين الاشتراكية والاسلام وبين فرانتز فانون وأبوذر الغفاري وكانت النتيجة بومدين الذي عرفه العالم في السبيعينيات ببرنسه الأسود وسيجاره الكوبي وكأن في ذلك اشارة الى قدرة بومدين على الجمع بين الثنائيات وحتى المتناقضات .وفي ايار –مايو- من عام 1972 استقبل هواري بومدين الرئيس الكوبي فيدل كاسترو وبدا واضحا أنّ الجزائر خلقت لها مكانة في محور الجنوب الذي كان ولا يزال يعيش تراكمات وتداعيات الحقبة الاستعمارية .

وفي أيلول –سبتمبر –من سنة 1973 وبمناسبة مؤتمر دول عدم الانحياز , استقبل هواري بومدين أزيد من سبعين من رؤساء الدول وكان جمعا لم يسبق له مثيل في التارييخ من ذلك المستوى .

و في سنة 1974 ترأسّ هواري بومدين في مقر الأمم المتحدة الجمعية الاستثنائية التي انعقدت بطلب منه والتي كرست للعلاقات بين الدول المصنعة وتلك التي تعيل نفسها من خلال بيع مواردها الأولية . وهذه الأدوار الدولية التي اضطلع بها ترافقت مع محاولات حثيثة في الداخل لبناء الدولة الجزائرية التي أرادها أن تكون ذات امتداد جماهيري وحيث تنعم الجماهير بما تقدمه الدولة من خدمات في كل المجالات وفي عهد بومدين تمّ العمل بما يعرف في الجزائر بديموقراطية التعليم والصحة , حيث أصبح في متناول كل الجزائريين أن يبعثوا أولادهم الى المدارس وللأبناء أن يكملوا التعليم الى نهايته دون يتحملوا عبء شيئ على الاطلاق , وكل المستشفيات والمستوصفات كانت في خدمة الجزائريين لتطبيب أنفسهم دون أن يدفعوا شيئا . وهذا ما جعل بومدين يحظى بالتفاف شعبي لامتحفظ ويستهوي القلوب , وهذا لا يعني أن بومدين كان ديموقراطيا منفتحا على معارضيه , بل كان متسلطا الى أبعد الحدود ومادامت الأمة معه ومادام هو مع الأمة العاملة والفلاحة فهذه هي الديموقراطية ,ليس بالضرورة أن تكون الديموقراطية على السياق الغربي في نظره.

وهواري بومدين الذي تزوج متأخرا سنة 1973 من محامية جزائرية السيدة أنيسة كان منهمكا من قبل ذلك في تأسيس الدولة الجزائرية حتى قال البعض أنه كان متزوجا الدولة.

ولا شك على الاطلاق أن الدولة الجزائرية الحديثة فيها الكثير الكثير من لمسات محمد بوخروبة المدعو هواري بومدين .

\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

· سياسة بومدين الداخلية :

بعد أن تمكن هواري بومدين من ترتيب البيت الداخلي , شرع في تقوية الدولة على المستوى الداخلي وكانت أمامه ثلاث تحديات وهي الزراعة والصناعة والثقافة , فعلى مستوى الزراعة قام بومدين بتوزيع ألاف الهكتارات على الفلاحين الذين كان قد وفر لهم المساكن من خلال مشروع ألف قرية سكنية للفلاحين وأجهز على معظم البيوت القصديرية والأكواخ التي كان يقطنها الفلاحون , وأمدّ الفلاحين بكل الوسائل والامكانات التي كانوا يحتاجون اليها .

وقد ازدهر القطاع الزراعي في عهد هواري بومدين واسترجعت حيويتها التي كانت عليها اياّم الاستعمار الفرنسي عندما كانت الجزائر المحتلة تصدّر ثمانين بالمائة من الحبوب الى كل أوروبا . وكانت ثورة بومدين الزراعية خاضعة لاستراتيجية دقيقة بدأت بالحفاظ على الأراضي الزراعية المتوفرة وذلك بوقف التصحر واقامة حواجز كثيفة من الأشجار الخضراء بين المناطق الصحراوية والمناطق الصالحة للزراعة وقد أوكلت هذه المهمة الى الشباب الجزائريين الذين كانوا يقومون بخدمة العلم الجزائري .

وعلى صعيد الصناعات الثقيلة قام هواري بومدين بانشاء مئات المصانع الثقيلة والتي كان خبراء من دول المحور الاشتراكي يساهمون في بنائها , ومن القطاعات التي حظيت باهتمامه قطاع الطاقة , ومعروف أن فرنسا كانت تحتكر انتاج النفط الجزائري وتسويقه الى أن قام هواري بومدين بتأميم المحروقات الأمر الذي انتهى بتوتير العلاقات الفرنسية –الجزائرية , وقد أدى تأميم المحوقات الى توفير سيولة نادرة للجزائر ساهمت في دعم بقية القطاعات الصناعية والزراعية . وفي سنة 1972 كان هواري بومدين يقول أن الجزائر ستخرج بشكل كامل من دائرة التخلف وستصبح يابان العالم العربي .

وبالتوازي مع سياسة التنمية قام هواري بومدين بوضع ركائز الدولة الجزائرية وذلك من خلال وضع دستور وميثاق للدولة وساهمت القواعد الجماهيرية في اثراء الدستور والميثاق اللذين جاء ليكرسّا الخطاب الأحادي الديماغوجي للسلطة الجزائرية .

معركة التعريب :

أعتبرت فرنسا الجزائر مقاطعة فرنسية وراء البحر اعتبارا من عام 1884 طبقا لقرار الجمعية الوطنية الفرنسية –البرلمان – وعليه فانّ سكان الجزائر اعتبروا فرنسيين منذ ذلك التاريخ , ولكن الصحيح أن فرنسا أعتبرت الجزائر فرنسية منذ 1830 تاريخ وصول قواتها الى الشواطئ الجزائرية واحتلالها الجزائر .

وقد قامت السلطة الفرنسية بعملية احصاء واسعة لسكان الجزائر وسجلت أسماءهم وأوجدت للجزائريين أسماء جديدة , وهو ما أعتبر ذروة العمل على مسخ الشخصية الجزائرية ذلك أن بعض الأسماء المحذوفة كانت عربية والجديدة غريبة النكهة والكثير منها مشتق من أسماء الحيوانات وهذا ما يفسّر غرابة بعض الأسماء في الجزائر وكانت فرنسا تختار ماهبّ ودبّ من الألقاب والتي كانت مستهجنة من قبيل التيس والعتروس وغيرها من أسماء الأنعام . وقامت فرنسا بمنح الجزائريين بطاقات هوية تصفهم كفرنسيين مسلمين وذلك تمييزا لهم عن باقي الأوروبيين الذين حصلوا على الجنسية الفرنسية , كما منحت السلطات الفرنسية جنسيتها لليهود الجزائريين الذين كانوا يتعاونون مع السلطات الاستعمارية وكوفئوا بنقلهم الى فرنسا غداة الاستقلال الجزائري .

وبالتوازي مع فرنسة الهوية قامت السلطات الفرنسية بالغاء التعليم الأصلي العربي وفرضت اللغة الفرنسية في المعاهد التعليمية والادارة اتماما لدمج الشعب الجزائري في المنظومة الفرنسية .

ولولا المجهودات التي بذلها الاصلاحيون في الجزائر وبعدهم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في استرجاع الهوية وتكريس عروبة واسلامية الجزائر لأستكملت فرنسا كل خطوات المسخ .

وقد أدركت القيادة الفتية التي تولت زمام الأمور في الجزائر بعد الاستقلال فظاعة تغييب اللغة العربية فتقدم مجموعة من أعضاء المجلس التأسيسي –البرلمان –بمشروع لفرض التعريب و جاء في مذكرتهم مايلي :

منذ تأسيس الحكومة الفتية واجتماع المجلس الوطني التأسيسي وقع الكلام كثيرا عن التعريب , ومع أنّه قد مرّ على ذلك نحو ستة أشهر فاننا لم نشاهد أي أثر للتعريب سوى شيئ ضئيل .

انّ الأغلبية الساحقة من الشعب الجزائري تريد التعريب , لأنّ اللغة العربية هي اللغة القومية ومع ذلك ما تزال تعيش على الهامش كلغة أجنبية في وطنها والشواهد على ذلك كثيرة لا تحصى . فالادارات الحكومية لا تعترف ولا تقبل ما يقدم لها باللغة العربية من طلبات وشكاوى ووثائق , وتجبر المواطنين على تقديمها باللغة الفرنسية ومن الأمثلة على ذلك أن بعض عوائل الشهداء قدموا من شمال قسنطينة للسكن في الجزائر العاصمة وقدموا شهادات مكتوبة باللغة العربية الى بعض الدوائر الرسمية تثبت أنهم من عوائل الشهداء بحق ليتمكنوا من حقهم فما كان من هذه الادارة الاّ أن رفضت معاملتهم ولم تعترف بها, لا لسبب الاّ أنّها مكتوبة باللغة العربية وعليهم أن يقدموها باللغة الفرنسية . وقد كان من واجب البلدية وغيرها من الادارات الرسمية أن توظف من يحسن اللغة العربية لمثل هذه المهمة ليسهل على الشعب قضاء مأربه وتقديم شكاويه بلغته الوطنية والطبيعية , ولا تكلفه مالا يطيق . وحتى لا يشعر الشعب الذي ضحّى من أجل عزته القوية بالنفس والنفيس أنّ لغته ماتزال كشأنها من قبل غريبة وحتى لا يشعر هذا الشعب – من بقاء سيطرة اللغة الفرنسية – أنّ الهيمنة ماتزال ممثلة في سيطرة لغة المستعمر وأن الاعتذار بالصعوبات التي تحول دون تعريب الادارات أو ادخال اللغة العربية اليها غير مقبول .

أولا : لأنّ المسألة قومية ولا يمكن التساهل فيها .

ثانيا : لأننا في عهد الثورة – رغم الظروف الحربية القاسية ورغم فقدان الوسائل من ألات كاتبة ومن كتّاب يحسنون اللغة العربية – كنّا نشاهد أن قادة الثورة يقبلون كل التقارير الواردة اليهم باللغة العربية والفرنسية وتغلبوا على كل الصعوبات التي اعترضتهم بفضل العزيمة الصادقة والارادة الثورية الجبارة , فكيف نعجز في السلم تحقيق ما حققناه وقت الحرب ومن أجل هذا ونظرا لكون الجزائر اليوم دولة مستقلة ذات سيادة , ونظرا لكون الشعب الجزائري شعبا عربيا والوطن الجزائري وطنا عربيا حاول الاستعمار طيلة فترة وجوده بأرضنا مسخ الشعب وفرنسة الوطن تنفيذا لقوانين الحكومة الفرنسية الزاعمة بأن الجزائر ولاية فرنسية , فلم تستطع فرنسا فعل ذلك .

وتنفيذا لارادة الشعب الصارمة التي صارعت الادارة الاستعمارية بالمقاومة السلبية والايجابية وتماشيّا مع تصريحات رئيس الحكومة أحمد بن بلة الذي قال : نحن عرب , نحن عرب , نحن عرب ثلاث مرات ,ونظرا للتصريحات الصادرة عن مختلف الشخصيات الرسمية المسؤولة في الحزب والحكومة واستجابة للرغبات الصادرة عن الشعب كل يوم وبمختلف طبقاته نقترح :

أولا : المبادرة بالاعلان الرسمي من المجلس الوطني بأنّ اللغة العربية هي اللغة القومية الرسمية ذات الدرجة الأولى في الجزائر المستقلة , ويجب أن تحتل مكانها الصحيح وتتمتع بجميع حقوقها وامتيازاتها .

ثانيا : يجب أن يعم تعليمها بأسرع ما يمكن جميع دواليب الدولة الجزائرية التنفيذية والتشريعية والادارية

ثالثا : يجب المبادرة بتعريب كوادر وزارة التربية الوطنية ووضع برنامج سريع لتعريب التعليم وتعميمه , لأنّ التعليم عليه المعوّل في تكوين كوادر المستقبل وعلى وزير التربية أن يقوم بما يلي :

-تأسيس معهد وطني للتعريب في الحال ويقوم هذا المعهد بمايلي :

- وضع مجموع قواعد عملية تستخدمها الادارات .

- وضع كتب مدرسية أساسية لتعليم اللغة العربية في مختلف المراحل التربوبية من التعليم الابتدائ والى الجامعة .

- الحرص على تزكية التعليم التربوي للغة العربية , ونتيجة لذلك يجب أن تصدر الجريدة الرسمية باللغة العربية ويجب تحسين حالة الترجمة وتعميمها ويجب تعريب البريد وكل الوزارات .

وفوق هذا وذاك يجب تعريب الشوارع والأزقّة , اذ مازالت الشوارع تحمل أسماء : بيجو , سانت أرنو , كلوزيل وأورليان وكافينياك ودارمون وغيرها .

توقيع السادة النواب التالية أسماؤهم : عمار قليل , مسعود خليلي , عبد الرحمان زياري , محمد الشريف بوقادوم , عمار رمضان , يوسف بن خروف , بلقاسم بناني , بشير براعي , محمد الصغير قارة , بوعلام بن حمودة , زهرة بيطاط , محمد بونعامة , علي علية , سعيد حشاش , محمد بلاشية , اسماعيل مخناشة , عمار أوعمران , محمد خير الدين , محمد عزيل , عبد الرحمان بن سالم , رابح بلوصيف , عبد الرحمان فارس , أحمد زمرلين , صالح مبروكين , مصطفى قرطاس , الصادق باتل , دراجي رقاعي , محمد عمادة , أحسن محيوز , سليمان بركات , مختار بوبيزم ,ونوّاب أخرون .

\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

وبصراحة فان مطالبة هؤلاء النواب بالتعريب انتهت بالفشل الذريع لأنّ الحكومة الفتية كانت تتذرع بالصعوبات التي تلاقيها في هذا المجال , وابطاء القيمّين على صناعة القرار في عهد أحمد بن بلة في اقرار قانون التعريب ولدّ بداية التصدع في الجزائر بين التيار الفرانكفوني والتيار العروبي .

وقد أدرك هواري بومدين أهمية التعريب فقرر جعله على رأس الثورة الثقافية التي راح يبشر بها بالتوازي مع الثورة الزراعية والصناعية , وقد سمحت له خلفيته العروبية وعداؤه لفرنسا التي كان يقول عنها بيننا وبين فرنسا جبال من الجماجم وأنهار من الدماء , تفهم أهمية التعريب وضرورته خصوصا وقد كان من المتحمسين لعروبة الجزائر .

وشرع قطاع التربية في عهده بمحو الأمية باللغة العربية في مختلف مؤسسات الدولة وقطاعاتها , كما تقررّ تعريب العلوم الانسانية في الجامعة الجزائرية .

لكن عندما بدأ التعريب يأخذ مجراه شيئا فشيئا كانت الجامعة الجزائرية قد خرجت أفواجا من الطلبة الذين درسوا باللغة الفرنسية فقط والذين أصبحوا أساتذة في الجامعات أو تولوا مهمات أخرى في دوائر الدولة وعمل الكثير من هؤلاء على عرقلة التعريب , وكثيرا ماكانت الجامعات الجزائرية تشهد صراعات حادة بين دعاة التعريب ودعاة الفرنسة .

ومازالت قضية التعريب في الجزائر من أهم المسائل الشائكة التي لم يحسم أمرها وكانت نتيجة غضّ النظر عن التعريب لأسباب يطول شرحها أن أنقسم المجتمع الجزائري الى معسكرين معسكر الأغلبية الذي يقف مع التعريب وصيانة الهوية ومعسكر الأقلية الفرانكفوني .

\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

علاقات الجزائر الدولية :

اجمالا كانت علاقة الجزائر بكل الدول وخصوصا دول المحور الاشتراكي حسنة للغاية عدا العلاقة بفرنسا والجار المغربي الذي كان مستاءا من تبنيّ هواري بومدين لجبهة

البوليساريو .

فاقدام هواري بومدين على تأميم قطاع المحروقات أدىّ الى توتر العلاقات الجزائرية –الفرنسية , حيث قاطعت فرنسا شراء النفط الجزائري وكانت تسميه :البترول الأحمر .

والمغرب كان يرى أن الجزائر وبحكم طبيعتها الايديولوجية الثورية وتحالفها مع عبد الناصر قد تشكل خطرا على المغرب وقد تمد يدها للمعارضة الوطنية المغربية وبالتالي قد تهدد العرش العلوي في الرباط , كما أن الثوار الجزائريين كانوا يعتبرون المغرب محسوبا على المحور الغربي , وكان بن بلة يتهم دوائر في الرباط بأنها كانت وراء الوشاية به عندما غادر المغرب متوجها الى تونس عبر طائرة مغربية مدنية وأجبرت الطائرات الحربية الفرنسية الطائرة التي كانت تقله بالهبوط في مطار الجزائر العاصمة وفي عهد بن بلة وهواري بومدين كانت الجزائر في واد والمغرب في واد أخر كما كان يقول العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني .

وأهم ماميزّ العلاقات الجزائرية –المغربية في عهد هواري بومدين هو ظهور جبهة البوليساريو كمنظمة ثورية تريد تحرير الصحراء الغربية من أطماع الحسن الثاني , ومعروف أن الجزائر ساهمت في انشاء جبهة البوليساريو وأمدتها بالسلاح والمال وظلت العلاقات الجزائرية –المغربية متوترة الى أن قام الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد باعادة العلاقة مع المغرب بعد وساطة قام بها العاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز في سنة 1986 .

بداية الانهيار :

أصيب هواري بومدين صاحب شعار " بناء دولة لا تزول بزوال الرجال " بمرض استعصى علاجه وقلّ شبيهه , وفي بداية الأمر ظن الأطباء أنّه مصاب بسرطان المثانة , غير أن التحاليل الطبية فندّت هذا الادعّاء وذهب طبيب سويدي الى القول أن هواري بومدين أصيب بمرض " والدن ستروم " وكان هذا الطبيب هو نفسه مكتشف المرض وجاء الى الجزائر خصيصا لمعالجة بومدين , وتأكدّ أنّ بومدين ليس مصابا بهذا الداء الذي من أعراضه تجلط الدم في المخ .

أستمرّ بومدين يهزل ويهزل وتوجه الى الاتحاد السوفياتي سابقا لتلقّي العلاج فعجز الأطباء عن مداوته فعاد الى الجزائر .وقد ذكر مهندس التصنيع في الجزائر في عهد هواري بومدين بلعيد عبد السلام أن هواري بومدين تلقى رسالة من ملك المغرب الحسن الثاني جاء فيها اذا لم نلتق مطلع العام فاننا لن نلتقيّ أبدا , وقد سئل مدير الاستخبارات العسكرية قاصدي مرباح عن هذه الرسالة فأجاب : أنّه يجهل وصولها أساسا باعتباره

-كما قال – كنت أنا الذي يضمن الاتصالات مع المغرب باستثناء مرة واحدة ذهب فيها الدكتور أحمد طالب الابراهيمي الى المغرب في اطار قضية الصحراء الغربية وقد يكون هو الذي جاء بهذه الرسالة .

وقد انتشرت في الجزائر شائعات كثيرة حول موت هواري بومدين وسط غياب الرواية الحقيقية وصمت الذين عاصروا هواري بومدين وكانوا من أقرب الناس اليه , علما أن هواري بومدين لم يعرف له صديق حميم ومقرب عدا صديقه شابو الذي توفي في وقت سابق وبقي بومدين بدون صديق .

ومن الشائعات التي راجت في الجزائر أن هواري بومدين شرب لبنا مسموما , حيث كان يدمن شرب اللبن وهذا السم أستقدم من تل أبيب . وقيل أيضا أنّ العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني كان على علم باختفائه قريبا عن المشهد الدنيوي وقيل أن المخابرات الأمريكية كانت مستاءة منه جملة وتفصيلا وقد ساهمت في اغتياله , وقيل أيضا أنه أصيب برصاصة في رأسه في محاولة اغتيال في ثكنة عسكرية .

و كانت مجلة العالم السياسي الجزائرية والتي توقفت عن الصدور قد نشرت ملفا كاملا بعنوان : الرواية الكاملة لاغتيال هواري بومدين , وقد أفادت هذه الرواية أنه تمّت تصفيته من قبل الموساد عن طريق التسميم , لكن الرواية لم تكشف هوية من أوصل السمّ الى مائدة هواري بومدين في مقر سكنه الرئاسي !!

ومهما كثرت الروايات حول وفاة هواري بومدين فانّ الجزائر خسرت الكثير الكثير بغياب هذا الرجل المفاجئ الذي كان يحلم أن يجعل الجزائر يابان العالم العربي .

وقد مات هواري بومدين في صباح الأربعاء 27 كانون الأول – ديسمبر – 1978 على الساعة الثالثة وثلاثون دقيقة فجرا .

وكانت الفاجعة كبيرة على الجزائريين الذين خرجوا في حشود جماهيرية وهم يرددون:

انّا لله واناّ اليه راجعون , وبموت هواري بومدين كانت الجزائر تتهيأ لدخول مرحلة جديدة تختلف جملة وتفصيلا عن الحقبة البومدينية , وسوف يفتقد الجزائريون في عهد الشاذلي بن جديد الى الكرامة والعزة التي تمتعوا بها في عهد هواري بومدين .

مات الرجل الفلاح ابن الفلاح ولم يترك أي ثروة , فحسابه في البنك كان شاغرا , كما أنّ أقرباءه ظلوا على حالهم يقطنون في نفس بيوتهم في مدينة قالمة .

مات هواري بومدين وماتت معه أحلام الجزائر , وبموته بدأت السفينة الجزائرية تنعطف في غير المسار الذي رسمه للجزائر هواري بومدين .

لقد كان هواري بومدين يقول : الذي يرغب في الثورة عليه أن يترك الثروة , وفي عهد الشاذلي بن جديد العقيد الخجول القادم من مدينة وهران أنتصر أهل الثروة على أهل الثورة فتاهت الجزائر !!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها