إشكالية الفقــر والبيئــة

مدخل:

يعتبر الفقر وجهة عاكسة لصور التمايز الاجتماعي واللامساواة، وانعدام العدالة، حيث ارتبط مفهومه بشكل مباشر باستشارة واحتكار البعض على جانب أكبر من الموارد المتاحة على حساب الآخرين، ويعد الفقراء الأكثر ارتباطا بالبيئة حيث تمثل خصوصا في المناطق الريفية مورد رزقهم ومنبع احتياجاتهم، إلا أنه ثمة حقيقة مفادها أن الفقر هو أحد الأسباب المحدثة للتدهور البيئي خاصة إذا تزايدت احتياجات الفقراء متجاوزة قدرة الموارد البيئية المتوفرة، حيث لا تتيح لها إمكانية التجدد، وإدراكا لهذه الحقيقة فقد أدرج الفقر بشكل أساسي ضمن جل المؤتمرات العالمية الخاصة بالبيئة، كما أنجزت عدة مشاريع محلية وعالمية بهدف إدراج البعد البيئي ضمن إستراتيجية مكافحة الفقر.

1) ماهية الفقر:

أضحى من المؤكد اليوم أن الفقر والبيئة من القضايا الأساسية التي احتلت مكانة معتبرة في حيز الانشغال العالمي والبحث العلمي وإن تباينت اهتمامات الباحثين بين معرفة المشاكل المترتبة والناتجة عن ظاهرة الفقر والمشكلات البيئية، وفي هذا الإطار سنحاول الإحاطة بداية بمعاني كل من الفقر والبيئة.

1- الفقر:

ورد تعريف في قاموس علم الاجتماع على أنه مستوى معيشي منخفض بالاحتياجات الصحية والمعنوية المتصلة بالاحترام الذاتي للفرد أو مجموعة من الأفراد (1).

وينظر إلى هذا المصطلح نظرة نسبية بفعل ارتباطه بمستوى المعيشة العام في المجتمع وبتوزيع الثروة ونسق المكانة والتوقعات الاجتماعية، بينما يعرف خط الفقر على أنه الحالة التي يكون الفرد فيها عاجزا عن الوفاء بتوفير متطلبات الغذاء والملبس والمأوى الضروري لنفسه.(2)

وبهذا فإن مفهوم الفقر يشير إلى غياب أو عدم ملكية الأصول أو حيازة الموارد أو الثروة المتاحة المادية منها وغير المادية، ففي حالة عدم القدرة على إشباع الحاجات البيولوجية كالأكل والملبس والمسكن بصورة كلية يدرج هذا ضمن الفقر المطلق، بينما إذا كان النقص في مستوى إشباع الحاجات الأساسية وتدني مستوى المعيشة ونوعية الحياة وخصائص وقدرات الأفراد والجماعات داخل المجتمع ضمن ما يسمى بالفقر النسبي.

فضلا عن هذا فإن الفقر ظاهرة متعددة الأبعاد تبرز في المجتمعات على مستويات مختلفة وفي صور أشكال متباينة تعكس وضعية البناء الاجتماعي (المجتمع)، وهناك ثلاث معاني للفقر متمايزة (3) وهي:

المعنى الأول: الفقر الاجتماعي

وهو يتجاوز عدم المساواة الاقتصادية الناتجة عن نقص الدخل والممتلكات وانخفاض مستوى المعيشة ليشمل بشكل أوسع عدم المساواة الاجتماعية والدونية والإتكالية والشعور بالنقص والاستغلال.

المعنى الثاني: العوز والحاجة

ويشير إلى فئة من الأفراد غير القادرين على تأكيد وجودهم على المستوى التقليدي العادي الذي يعتبر أدنى مستوى دون أي مساعدات خارجية، كما يحدد نموذجا للعلاقات الاجتماعية التي تشير إلى من هم المحتاجين والمعوزين الذي يطلبون المساعدة.

المعنى الثالث: الفقر الأخلاقي

يحدد مكانه في نسق القيم في المجتمع أو في أحد جماعته الفرعية (كالأسرة، جماعة الرفاق) ويدل هذا المعنى إلى رفض أو قبول الفقر أخلاقيا وإلى المكانة التي يشغلها الفقير وتعيقه عن التمتع والجدير بالإشارة هنا هو أن الفقر لا ينحصر معناه فقط كما تحدده الرؤية الاقتصادية في عجز الإنسان عن تلبية حاجاته البيولوجية الأساسية وإنما يعني أيضا عجز البناء الاجتماعي عن توفير مستلزمات الإنسان المادية والمعنوية وتأثير ذلك على عمليات الاندماج والعلاقات الاجتماعية وتكوين شخصية الفرد في المجتمع وتشكيل قيمته وثقافته فضلا عن تحديد مكانته ودوره السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

ويعتمد تحليل وفهم الفقر كظاهرة اجتماعية على تحليل كيفي لظاهرتين أساسيتين أولهما عملية التفاوت في توزيع الدخل وإعادة توزيعه على الفئات الاجتماعية وثانيهما قضية التفاوت الطبقي والتمايز المعيشي، وتشير الظاهرة الأولى إلى تباين واضح بين العلماء في رؤية وتحليل الفقر وتحديد العوامل المساهمة في انتشاره وبينما ترى فئة أخرى من العلماء ضرورة التركيز على المفهوم النسبي للفقراء في إطار السياسات الاقتصادية للدولة.

وفي هذا السياق وطبقا لمعطيات التنمية فإن الفقر صفة لمجتمع ما الفرد فيه لا يحقق مستوى معين من الرفاهية والذي يشار إليه عادة بخط الفقر - الذي أشرنا له سابقا – ويستدعي تعريف الفقر تحديد الإجابة عن ثلاثة تساؤلات هي:

- تحديد ماهية الحد الأدنى من الرفاهية.

- كيفية التيقن من صحة فقر الفرد.

- تجمع مؤشرات الرفاهية وقياس الفقر على أساسها.(4)

إن مستوى المعيشة يهدف بشكل مباشر إلى قياس كفاءة الحياة، معتمدا على معايير الاستهلاك الفردي من السلع والخدمات المشتراة من دخل الفرد أو توفيره ويفترض مفهوم الفقر وجود حد أدنى من الاستهلاك والدخل يقاس عليه مستوى معيشة الفرد وهو ما يسمى خط الفقر حيث يدرج ضمنه كل فرد استهلاكه أقل من هذا الحد باعتباره فقيرا.(5)

ويتم تصنيف كيفية قياس الفقر إلى اتجاهين:

- اتجاه الرفاهية: الذي يعتمد فيه على معايير مالية في قياس درجة أو مستوى الرفاهية مثل: الدخل، الإنفاق الاستهلاكي، وهو الاتجاه السائد في أدبيات الفقر.

- اتجاه اللارفاهية: يركز هذا الاتجاه على دراسة المؤشرات الاجتماعية للرفاهية مثل: التغذية والصحة والتعليم، مركزا بذلك على محاور أساسية تعني مثلا: بسوء التغذية، غياب الرعاية الصحية، أو الأمية وهذا باعتبارها نتائج مباشرة للفقر.

وعلى الرغم من بقاء الدخل الفردي المؤشر الأكثر انتشارا لقياس الفقر إلا أنه تزايدت أهمية مؤشرات الرفاهية الاجتماعية كالصحة والتعليم، حيث لوحظ تنامي هذا الاتجاه في دول العالم النامي منذ منتصف السبعينات، أي ارتفاع الدخل الفردي في بعض الدول دون حدوث تقدم في بعض مجالات الرفاهية الاجتماعية، مما يعني عدم وجود تلازم بين زيادة الدخل الفرد وتحقيق زيادة في مجالات الرفاهية الاجتماعية.(6)

ومن هذا كله نجد أن الفقر ظاهرة اجتماعية متعددة الأبعاد حيث نميز بين:

- فقر الدخل: الذي يشير إلى عدم كفاية الموارد لضمان وتأمين الحد الأدنى لمستوى المعيشة المناسب اجتماعيا.

- فقر القدرة: الذي يشير إلى تدني مستوى قدرات الإنسان إلى حد يمنعه من المشاركة في عملية التنمية.(7)

2- مفهوم البيئة:

ليس من اليسير إعطاء تعريف جامع مانع للبيئة، لذا سوف يتم التطرق إلى جملة من التعاريف، وإذا رجـعـنـا إلى مـعـجم الإيكوجيا (1982) فإننا نجد التعريف الآتي "البيئة هي مجموعة العوامل الحية (Biotiques) وغير الحية (Abiotique) الكيميائية، والتي تتعايش في حيز أو مكان معين وتمارس تأثيرا مباشرا أو غير مباشر على الكائنات الحية الموجودة في هذا الحيز، ومنها الإنسان"(8).

وكان المؤتمر الدولي للبيئة باستوكهلم سنة 1972 قد أقر " أن البيئة هي مجموعة من النظم الطبيعية والاجتماعية والثقافية، التي يعيش فيها الإنسان و الكائنات الأخرى والتي يستمدون منها زادهم ويؤدون فيها نـشاطهـم"(9)، كـما تعـرف أيضا أنها "نـظام ديـنـامـيكي يتكون مـن عـناصر طبيعية وعناصر بشرية دائمة التفاعل المتبادل في إطار زماني، مكاني، ثقافي معين"(10)، وما يلاحظ من المفاهيم السابقة الذكر هو اشتراكها في نقاط محددة للبيئة، هي:

أولا: أن البيئة مجموعة عناصر متفاعلة وليست عنصرا أحاديا .

ثانيا: أن البيئة تحيط بالإنسان وتشمله كعنصر حي متواجد بها، وبهذا تؤثر و تتأثر به.

ثالثا: أن البيئة لا تنحصر فقط في العناصر غير الحية، وإنما تشمل العناصر الحية كالنباتات والحيوانات.

و تنقسم البيئة بناءا على ما ذكر إلى قسمين هما :

أ) البيئة الطبيعية (الفيزيقية): فهي كل ما يحيط بالإنسان من ظواهر حية وغير حية، وليس للإنسان دخل في وجودها، وتتمثل هذه الظواهر أو المعطيات البيئية في البنية والتضاريس والمناخ والنبات الطبيعي والحيوانات (11)، وبهذا فهي تمثل العناصر المادية التي يستمد منها الإنسان متطلبات معيشته، وتختلف من منطقة إلى أخرى تبعا لتباين العناصر المكونة لها، فالسهول لها مكوناتها التي تجعلها بيئة طبيعية متميزة عن الصحراء، وتشمل البيئة الطبيعية نظما أربعة مترابطة ومتكاملة، هي:

- المحيط الحيوي: وهو الذي توجد فيه الحياة، حيث تتم خلاله جميع العمليات الحيوية التي تتألف منها النظم البيئية جميعا، فهو الوسط الذي تعيش فيه الأحياء بصورة طبيعية، كما تتم فيه التغيرات الفيزيائية والكيميائية الأساسية التي تطرأ على الموارد غير الحية (12)، ويتميز باتساعه كونه يضم الأجزاء الثلاثة الأخرى.

- الغلاف الجوي: هو غلاف غازي يحيط بالكرة الأرضية ويعمل على حمايتها من الأشعة الشمسية، وتظهر في طبقاته السفلى كل الظواهر المناخية التي لها علاقة مباشرة بالحياة على سطح الأرض.

- 5 -

- الغلاف الصخري: ويقصد به الأجزاء الصلبة من الكرة الأرضية، ويتكون من الصخور، التربة والـرمـال، وإن كـانـت عـناصـر هـذه الـنظم تبدوا ظاهريا كمكونات وعناصر منفصلة عن بعضها البعض، ولكنها في واقع الأمر كل متكامل في حركات مستمرة ذاتية أو تكاملية أو تكافلية مع بعضها البعض، بحيث تعطي شكلا نظاميا دقيقا لا يختل وفقا لقوانين الطبيعة وذلك إذا ترك دون تدخل أو عبث بمكوناته(13).

والجدير بالإشارة هنا أن اصطلاح البيئة الطبيعية يستبعد العوامل الاجتماعية والنفسية، رغم أهميتها والذي يجعل أمر تجاهلها غير ممكن، بيد أن البيئة الاجتماعية تكمل صورة البيئة وتحدد إطارها العام إلى جانب البيئة الطبيعية.

ب) البيئة الاجتماعية: وتشير إلى ما أوجده الإنسان و شيده داخل البيئة الطبيعية خلال بناء حضارته، سواء كان ذلك من الثقافة التي خلفها الإنسان أو العلاقات الاجتماعية التي كونها (أو الماديات التي شيدها) فهي بيئة يظهر فيها تفاعل الإنسان و البيئة من ناحية، وتعكس درجات استجابة مختلفة، ومن ناحية أخرى علاقة الإنسان بالإنسان والتي تحدد بالنظم و التنظيمات الاجتماعية التي توجد في المجتمع (14)، وهي بهذا تضم جانبين أحدهما مادي كالعمران، المراكز الصناعية ، شبكة الاتصالات والمواصلات، وكل ما أوجدته التكنولوجيا، وآخر معنوي يشمل البناء الثقافي والقيمي كالعادات والتقاليد، والذي يحدد تفاعل الأفراد فيما بينهم من جهة، ومن جهة أخرى يحدد التفاعل بين الأفراد وعناصر البيئة الطبيعية، وتختلف درجة تفاعل أفراد كل جماعة حسب المرحلة الزمنية التاريخية المنتمية إليها، بدءا من الجماعات البدائية الجامعة للغذاء إلى الجماعات المعاصرة التي تنتمي إلى عصر التكنولوجيا.

لكن هذا التصنيف للبيئة المذكور آنفا لا يعني انعزال الجزء عن الآخر، وإنما هي وحدة متكاملة ومترابطة، حيث أن عناصر البيئة الطبيعية تؤثر في البيئة الاجتماعية، كما أن هذه الأخيرة تؤثر فيما بينها بعلاقات ارتدادية على شكل أخذ وعطاء، وهذا وفق نظام خاص يسمى بالنظام البيئي.

2) العلاقة بين الفقر والبيئة:

لقد قدم تقرير لجنة Brundtland(14) وصفا بليغا لهذه العلاقة جاء فيه أن الفقر أحد الأسباب الرئيسية للمشكلات البيئية العالمية، مثلما كان أحد نتائجها (15) وقد أثبتت الدراسات أن العلاقة بين الفقر والبيئة تراكمية دائرية أو أشبه بعملية سببية تراكمية، حيث يجبر الفقراء على اختيار الفائدة المضمونة على المدى القصير حتى يمكنهم من سد الاحتياجات المستقبلية، لذلك فهم يتسببون في تدهور البيئة التي تعمل بالتالي على زيادة فقرهم وهكذا تستمر المشكلة، حيث يؤدي الفقر إلى قصور في الإنتاجية واستخدام غير مستديم للموارد الطبيعية.

وبشكل تفصيلي فإن علاقة الفقر بالبيئة علاقة مزدوجة الاتجاه، فالفقر هو أحد مسببات التدهور البيئي لأن احتياجات الفقراء وسبل معيشتهم الملحة تعني في كثير من الأحيان القيام بممارسات وسلوكات مدمرة للبيئة مثل الإفراط في صيد الأسماك والحيوانات البحرية في المناطق الساحلية واستخراجها بطرق غير سليمة ودون إعطاءها فرصة للتكاثر وتجديد مواردها، كذلك أدى اندفاعهم نحو الأراضي الهامشية بسبب قلة مواردهم وزيادة أعدادهم وعدم كفاية التنمية إلى تدمير الأراضي في الغابات المطيرة وحرث المنحدرات شديد الانحدار والرعي الجائر في أراضي المراعي الهشة(16)، ويحدث هذا عادة في الأنظمة البيئية التي تأوي مجتمعات فقيرة تعتمد بصورة أساسية على الموارد الطبيعية، وهناك علاقة بين الفقر وظاهرة التصحر.

فضلا عن هذا فإن التلوث البيئي الذي يؤدي إلى تدني نوعية البيئة يعرض الفقراء للخطر حيث أوضحت المسوح العلمية في جميع أنحاء العالم أن الفقراء هم أول من يتأثر بالتدهور البيئي(17)، حيث يقلل الفقر من حصانة الأفراد ضد آثاره باختلاف أشكالها (تلوث الهواء، الماء، التربة، التلوث الإشعاعي، التلوث الضوضائي).

فالتلوث البيئي من أهم العوامل المؤثرة على صحة الأفراد لا سيما في المجتمعات الريفية مثلا فإن حوالي 20% من الأمراض التي تصيب الأفراد وبشكل رئيسي الفقراء تعود إلى أسباب بيئية، وأكثر الأمثلة مأساوية على ذلك أن حوالي 3 ملايين شخص منهم 80% من الأطفال يموتون سنويا بسبب الإسهال الناجم عن تلوث المياه السطحية بالإضافة إلى التأثيرات الصحية للأمراض الناتجة عن التدهور البيئي نجد أيضا التأثيرات الاقتصادية، حيث أشارت دراسة إلى أن معالجة الملاريا تستنزف حوالي 33% من دخل الفقراء في إفريقيا مقارنة بحوالي 4% فقط من دخل الأغنياء(18).

وتبعا لهذا السياق، فقد اقر التقرير الوطني حول حالة البيئة في الجزائر سنة 2000، بأن الفقر يتفاقم بشكل واضح المشكلة البيئية، لا سيما وأن تقرير المؤتمر الوطني لمكافحة الفقر والإقصاء الذي نظمته الحكومة الجزائرية في 28 أكتوبر 2000، أكد أن شخصا واحدا على الأقل من بين خمسة أشخاص يعيش في حالة من الفقر (19)، فإلى جانب التعرض المتزايد للسكان الفقراء لأخطار التلوث البيئي تزيد حالة العوز والحاجة عندهم في استهلاك الموارد البيئية دون مراعاة، وهذا لضمان حياتهم، ومن منظور سوسيولوجي فإن تعامل الفرد مع بيئته الطبيعية يخضع لجملة من المعطيات من بينها مستواه المعيشي، فلا يمكن التحدث عن سلوك بيئي إيجابي وعقلاني بينما يفتقد الفرد أبسط ضروريات الحياة مما يدخله في حيز الصراع من أجل البقاء وطبعا فالخيار هو للفرد على حساب عناصر البيئة الطبيعية، كما أن الجزائر أدرجت بشكل واضح ضمن الإستراتيجية وطنية للبيئة ومخطط العمل البيئي ضرورة تقليص ظاهرة الفقر والعمل على النمو المستدام(20).

فضلا عن هذا فإن أنماط الفقر لها علاقة بالبيئة المحيطة حيث تتحدد وفق هذا الإطار ضمن نوعين هما:

- الفقر في الأرياف: يعيش ويعمل حوالي ثلاثة أرباع العالم في المناطق الريفية حيث يعتمد نمط معيشتهم بشكل مباشر على الزراعة كمصدر دخل (21)، وعلى سبيل المثال فإن الكثير من المجتمعات الريفية التي كانت تعتمد على الموارد الطبيعية لتوفير احتياجاتها الغذائية حولت أراضيها إلى مزارع بهدف الحصول على عوائد نقدي لشراء منتجات غذائية من مصادر أخرى لكن ظروفا بيئية واقتصادية ومالية سيئة جعلت الكثير من هذه المبادرات تفشل في تحقيق هدفها حيث تم إزالة الأراضي الطبيعية ولم تتمكن المشاريع الزراعية من تقديم العائد المالي المنشود(22).

كم أن من مسببات الفقر في الأرياف هو الانتقال السريع والغير مبرمج اجتماعيا للأنماط الاقتصادية من اقتصاد أساسه الزراعة إلى اقتصاد الخدمات والتصنيع أحيانا مما قد يؤدي إلى عدم قدرة المزارعين والفلاحين على التوافق مع هذا الانتقال ومجاراته.

- الفقر في المدن: مرده الأول هو الهجرة الداخلية المتتالية من الريف نحو المدينة، والهجرة الخارجية ما بين الدول، خصوصا من دول الجنوب الفقيرة نحو دول الشمال الغنية بهدف البحث عن فرص العمل ويرتبط الفقر الحضري كما يسمى عادة بمظاهر محدد منها الأحياء الفقيرة والمساكن العشوائية مشكلة مناطق هامشية غير قانونية ومعرضة لأخطار بيئية بفعل افتقارها للخدمات الأساسية من مياه وكهرباء وصرف صحي...إلخ، فضلا إلى هذا فإن من المشاكل التي ترتبط مع الفقر في المدينة هي مشكلة التخلص من النفايات ومشاكل الصرف الصحي، حيث تعتبر النفايات وكرا لانتشار الأوبئة والأمراض، كما أن ضعف الصرف الصحي يعني تعايش الفقراء مع مصادر مستمرة ودائمة للمرض.

هذا وإن علاقة الفقر بالبيئة ومشكلة تلوثها نتيجة حتمية ومنطقية، فالتدهور البيئي يدفع الأفراد بأعداد متزايدة إلى الفقر كما أنهما أصبحتا مسألة متشابكة حيث أن المسألة ليست خيار بين تخفيف حدة الفقر أو وقف التدهور البيئي، بل تمت حقيقة استحالة تحقيق أي الهدفين إلا بالسعي إلى تحقيق الهدف الآخر (24)، وهو ما يتأتى من خلال أساليب التنمية المستدامة التي يمكن من خلالها التوفيق بين احتياجات الفقر واحتياجات البيئة للحماية، حيث يمثل هذا جوهر التنمية المستدامة، ويقدم برنامج الأمم المتحدة في هذا المجال تصورا حول الاحتياجات العشر الرئيسية التي يجب تحقيقها لتحسين حياة الفقراء وهي:

1- التغذية السليمة.

2- الحماية من الأمراض التي يمكن تجنبها طبيا ووقائيا.

3- القدرة على العيش في بيئة نظيفة وكافية.

4- القدرة على الحصول على مياه نظيفة وكافية.

5- التمتع بهواء نظيف لا يحمل التلوث والأمراض.

6- الحصول على الطاقة الكافية للتدفئة والطهي.

7- القدرة على استخدام العلاجات التقليدية.

8- القدرة على استخدام عناصر البيئة الطبيعية للممارسات الاقتصادية والاجتماعية.

9- القدرة على التكيف مع الصدمات الطبيعية مثل الأعاصير والجفاف.

10- القدرة على اتخاذ قرارات حرة حول إدارة الموارد المتاحة بشكل مستدام(25).

وحسب هذا التصور البيئي فإن هناك فئة صغيرة من سكان العالم التي تتمتع بهذه المزايا وقد لا يتجاوزون الفئات السكانية التي تعيش في المناطق الأوروبية والأمريكية الشمالية النظيفة، بينما يعتبر أكثر من ثلاث أرباع سكان العالم فقراء بالمفهوم البيئي.

وقد جاء تطوير هذه المعايير من طرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي استنادا على دراسة شاملة بعنوان "التقييم الألفي للأنظمة البيئية" والذي وضع ثلاث أنواع من الخدمات الرئيسية للأنظمة البيئية الواجب توفرها لتأمين تنمية مستدامة للمجتمعات وهي:

أ- الخدمات البنيوية: وتضم النباتات، الأخشاب، الطاقة، الغذاء.

ب- الخدمات التنظيمية: تنقية المياه، إزالة السمية (التلوث)، السيطرة على الجفاف والفيضانات.

ج- الخدمات الإنسانية: الجمال والقيم الدينية والاجتماعية(26).

إضافة إلى هذا فإن الأولويات التي تحكم نظرة الفقراء إلى البيئة والتي منبعها تأمين وتوفير الحاجات الأساسية – كما ذكرنا سابقا – من أكل وملبس ومشرب...إلخ، تمكن من حدوث الكثير من الممارسات المضرة بالبيئة، ولكن الفقراء أيضا وإن كانوا الأكثر تأثرا بما يصيب البيئة من تدهور فهم الأقل تمتعا بالقدرة على الحصول على نعمها وخيراتها مع أنهم الأكثر اعتمادا عليها بشكل مباشر، فمشكلة الفقر تكمن في عدم القدرة على الحصول على هذه الفوائد والخدمات بشكل سليم أو عدم وجود العدالة والمساواة في فرص استثمارها، ومن هنا كانت ضرورة إدراج البعد البيئية في إستراتيجية مكافحة الفقر وهو ما سوف نتعرض له في العنصر التالي.

3) الفقر ضمن المؤتمرات الدولية للبيئة:

نظرا لارتباط المشاكل البيئية بشكل مباشر بمعضلة الفقر وهذا وفق ما أشرنا له سابقا، فقد تناولت جل المؤتمرات ذات الطابع العالمي الخاصة بالبيئة محور الفقر كأحد المواضيع الأساسية.

إذ ارتبط مفهوم الفقر في العالم بأنماط العيش المرتبطة بدورها بمعطيات البيئة وظهرت فلسفة اقتصادية اجتماعية جديدة مستمدة من تطور تطبيقات التنمية المستدامة وهي مكافحة الفقر عن طريق تعزيز أنماط المعيشة المستدامة والتي تعتمد على إدارة الموارد الطبيعية واستثمار القدرات البشرية للفقراء في تحسين مستوى المعيشة بشكل مستدام ودخل هذا المفهوم في أدبيات الأمم المتحدة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (27) وفي هذا السياق نوجز عرض أهم المؤتمرات الدولية للبيئة وتناولها للفقر.

1- مؤتمر ستوكهولم 1972: عقد بالسويد ما بين 15 و 16 جويلية بحضور 115 دولة، بعد أربع سنوات من التحضير وبناءا على قرار الجمعية العامة الصادر عام 1968 عل ضوء الدراسة التي أعدها المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة ليشكل أول خطوة تهدف إلى وضع سياسة عالمية لبيئة الإنسان آخذة بعين الاعتبار عامل الفقر كمسبب للمشكلات البيئية حيث ركزت مناقشاته على النقاط التالية:

- يعيش سكان العالم في بيئة يسودها الفقر والأمية والبؤس وسوء التغذية (28) مما يستدعي الاستعجال في إيجاد الحلول لهذه المشكلات من خلال تضييق الفجوة بين دول الشمال الغني ودول الجنوب الفقير واعتماد نظام اقتصادي جديد.

- شكوى الدول النامية من الاستغلال المفرط لمواردها من طرف الدول المتقدمة إذ تسعى إلى تحقيق التنمية على حساب البيئة مما استدعى اعتماد مبدأ الإنماء البيئوي "من خلال إدراج الاعتبارات البيئية ضمن اهتمامات العمل الإنمائي.

- ضرورة الاهتمام بالمشكلات السكانية والإشارة إل أن كافة الإستراتيجيات الإنمائية سوف تواجه صعوبات بالغة إذ لم ينجح العالم في خفض معدلات التزايد السكاني (29)، وبهذا يكون هذا المؤتمر قد أدرج موضوع الفقر ضمن اهتماماته الأساسية لتحقيق حماية بيئة الإنسان.

2- مؤتمر نيروبي: عقد بكينيا بين 10 و18 ماي 1982 يتكفل من الأمم المتحدة وتم التطرق فيه إلى المسائل المتعلقة بالبيئة والتنمية وكذا الارتفاع المحسوس لسكان العالم، لا سيما دول العالم الثالث، ودعى المؤتمر إلى بذل الجهود والتعاون الدولي والإقليمي في هذا الإطار للحد من انتشار الفقر والتلوث، حيث غالبا ما يصبح الفقر والأمية والمرض والقذارة وسوء التغذية، المنتشرة على نطاق واسع والتي نكبت بها نسبة كبيرة من سكان العالم سببا للضغط والتوتر والصراع على الصعيد الاجتماعي وتبعا لذلك اعتمد إعلان نيروبي لمساعدة الدول النامية ماديا وتقنيا وعلميا لمعاجلة التصحر والجفاف ومكافحة الفقر وتحسين أوضاع البيئة (30)، لكن لم تمضي فترة من الزمن حيث أصبح أكثر بنود إعلان نيروبي دون تنفيذ رغم الجهود الدولية والإقليمية التي بذلت حينذاك، وأن الأسباب الدولية الكامنة وراءه تعود إلى الصراع الدولي وانقسام العالم وشل حركة الأمم المتحدة التي أنيط بها إعلان نيروبي وآلية التنفيذ (31).

3- المؤتمر العالمي للبيئة والتنمية: أو ما سمي "بقمة الأرض" عقد بين 3 و14 جوان 1992 بـ "ريو ديجانيرو" بالبرازيل وقد حضرته 185 دولة برعاية الأمم المتحدة بالإضافة لمنظمات دولية وإقليمية ومحلية تهتم بشؤون البيئة وعرف هذا المؤتمر مشاركة متنوعة بين شيوخ قبائل، برلمانيون، علماء، رجال إعلام...إلخ، وهو يدل أن قضية البيئة والفقر أضحت قاسما مشتركا يحرك جميع الشعوب والدول بمختلف الفئات الاجتماعية ووجهاتهم العلمية.

وقد كان من أهم أسباب انعقاد المؤتمر هو السعي لحماية البيئة من التلوث من خلال توحيد الرؤية بين دول الشمال الغنية وبين دول الجنوب الفقير والمتواجد معظمها في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وجنوب آسيا، حيث أن المشاكل التي تهم دول الشمال الغنية كمكافحة التلوث ستكون ثانوية بالنسبة لدول الجنوب الفقيرة والمتخلفة مقارنة بالجوع والتضخم السكاني وقلة الموارد والحاجة إلى المال، وبما أن دول الجنوب الفقيرة تساهم في زيادة التلوث في الأجواء والأنهار والبحار لأنها تهدر ثرواتها الطبيعية مثل قطع أشجار الغابات واستعمال الأخشاب في التدفئة والوقود لعدم امتلاكها الوسائل التكنولوجية والعلمية فإنها بذلك تدمر البيئة والمترتبة على الدورة الطبيعية في الحياة اليومية، وسوف يشكل عائقا أمام التخلص منها أو التوقف عن التسبب بها والذي قد يكون هذا التسبب أيضا لدولة ما، مصدر فائدة لها أو الوسيلة الوحيدة المتوفرة لمعالجة حاجة أخرى(32).

وبهذا لنا أن نتساءل كيف تطلب الدول الغنية من الدول الفقيرة حماية البيئة طالما شعوب هذه الدول يشغلها هاجس تأمين لقمة العيش باستمرار؟

وقد اتضح من خلال المؤتمر أن الأنماط التنموية السائدة في دول الشمال المتقدم المعتمدة على الصناعة والتكنولوجيا المفرزة للنفايات لا سيما الكيميائية وما إلى ذلك، كما أن غياب التنمية في دول الجنوب يساهم بالقدر نفس من الإجهاد للطبيعة والإضرار بالبيئة(33)، وقد نتج عن هذا المؤتمر التوقيع على اتفاقيتين:

- الاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ.

- اتفاقية حفظ التنوع البيولوجي.

كما صدر عنه وثيقة عمل سميت بجدول أعمال القرن الحادي والعشرين المتضمنة 27 مبدأ ومن بينها القضاء على الفقر من خلال المبدأ 5، بحيث نجد أن هذا الأخير أكد على ضرورة تعاون الدول والشعوب من أجل القضاء على الفقر كشرط لا بد منه للتنمية المستدامة.

حيث تم إنشاء لجنة التنمية المستدامة ذات الطابع الحكومي الدولي إذ تتكون من 59 عضوا وتعمل على مراقبة وتنسيق الأعمال بين البرامج المرتبطة بالبيئة والتنمية داخل نظام الأمم المتحدة(34).

ورغم نجاح هذا المؤتمر إلا أن سلبياته تجلت في النزاع بين الدول الصناعية والدول النامية والفقيرة المنتجة للمواد الأولية فقد جاءت الدول الصناعية الغنية إلى المؤتمر بشعار "الملوث يدفع الثمن" وكانت تهدف إلى تكليف الدول المنتجة للنفط دفع ضريبة الكربون ومنع الدول الغابية من قطع أشجارها وهذا ما رفضته هذه الأخيرة لأنه بمثابة قطع لرزقها ومورد عيشها(35).

4- مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة: عقد في مدينة جوهانسبورغ بجنوب إفريقيا من 26 جوان إلى 4 جويلية 2002 بإشراف الأمم المتحدة بغية تحسين مستوى معيشة الأفراد، ومكافحة الفقر وكذا المحافظة على الموارد الطبيعية في خضم النمو السكاني الكبير، من خلال جعل الدول تعيد النظر في أنماط إنتاجها واستهلاكها وإلزامها بتحقيق نمو اقتصادي سليم بيئيا، وكذا توسيع التعاون في مجال الخبرات والتكنولوجيا والموارد بين هذه الدول وتطبيقا لما تضمنته أجندة القرن 21 حول ضرورة إدماج مختلف الفئات الاجتماعية في حماية البيئة وتحقيق عملية التنمية المستدامة بما في ذلك النساء، الشباب والأطفال، الجماعات الأصلية والمجموعات الحكومية...إلخ(36) فقد حضر كل هؤلاء فعاليات هذا المؤتمر إلى جانب رؤساء الحكومات والدول.

وبعد هذا المؤتمر بمثابة امتداد لمؤتمر ريوديجانيرو 1992، كونه يراجع حوصلة ما تم تقديمه وتحقيقه من أجندة القرن 21 ومدى وفاء الدول بالتزامها لتحقيق التنمية المستدامة.

وقد هدف المؤتمر إلى: - التركيز على تقليص الفجوة بين الشمال الغني والجنوب الفقير

وأهمية التضافر الدولي للقضاء على آفة الفقر كونها عدو للتنمية

المستدامة.

- وضع اتفاقية عمل بين الدول لتحقيق التنمية المستدامة.

وبهذا يكون المؤتمر قد أدرج مكافحة الفقر كهدف أساسي له إضافة إلى كونه عائقا أمام التنمية المستدامة التي تشير حسب لجنة Brundtlland إلى نظام تنمية يلبي احتياجات الأجيال الحضارة دون أن تؤثر على قدرة الأجيال المقبلة في تلبية حاجاتها (37)، وبهذا فهي ترتكز على ضرورة تحديد أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بحيث يكون لها بعد استمراري في المراحل المستقبلية، فضلا عن إشباع الحاجات الأساسية وتحسين مستويات الحياة دون الإضرار بالبيئة ومكوناتها ويمكن ترجمة ذلك وفق المعادلة التالية:


التنميــة المستدامـة = الحمــايــة + التطـــور

حيث تتفاقم العوامل التالية: العوامل الاجتماعية (العادات والتقاليد، القيم الدينية) والعوامل الاقتصادية (حاجات الإنسان الأساسية) والعوامل البيولوجية (المصادر الطبيعية).

والملاحظ هو أن الفقر قد ورد في الوثيقتين المنبثقتين عن المؤتمر بشكل واضح حيث ورد في:

الوثيقة الأولى: والتي تتعلق بخطة التنفيذ وتسمى "مشروع خطة التنفيذ المعدة من أجل مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة" والتي تمثل برنامج عمل للسنوات العشر القادمة وذلك لتنفيذ أجندة القرن 21 والصادرة عن قمة الأرض بالإضافة إلى الأهداف التنموية الدولية التي تضمنها إعلان وقمة الألفية الصادرة عن الأمم المتحدة 2000 مبدأ الإجراءات الاحترازية وهو المبدأ رقم 15 من أجندة القرن 21.

- القضاء على الفقر: إذ يمثل استئصال آفة الفقر التحدي الأكبر الذي يواجه العالم اليوم وهو إحدى الأهداف الأساسية للمؤتمر وقد تضمن هذا الجزء من وثيقة التنفيذ اهتمام خاص بخفض نسبة الأشخاص الذين يقل دخلهم عن دولار واحد في اليوم وعدد الأشخاص الذين يعانون الجوع إلى النصف بحلول عام 2015 وإنشاء صندوق تضامن عالمي لمساعدة البلدان النامية ولكن دون تحديد قيمة المبالغ.

علما أنه تم معارضة إنشاء هذا الصندوق من قبل الدول المتقدمة (الاتحاد الأوروبي) ولكن مجموعة 77 والصين أصرت على وجود تلك الفقرة التي تحفظ حقوق الفقراء في عيش كريم.

كما عبرت الوثيقة الثانية عن قلقها إزاء أمور عديدة تواجه الدول النامية أهمها مشكلة الفقر والتخلف وتدهور البيئة، حيث أن موضوع تحقيق الأمن الغذائي للبشر يشكل جزءا حيويا من الكفاح من أجل القضاء على آفة الفقر وصون كرامة الإنسان(38).

وفيما يخص الملاحظات العامة عن المؤتمر، فقد جاءت ردود أفعال متناقضة حول نجاحه الذي تؤكده الهيئات الحكومية، بينما تؤكد الهيئات والمنظمات غير الحكومية على فشله باعتباره لم يقدم حل فعلي للتقليص من الفقر أو حتى التوصل إلى اتفاق فعال حول مكافحته بالإضافة إلى المواضيع المتعلقة بانتشار الأمراض والحروب والفساد.

4) البعد البيئي في إستراتيجية مكافحة الفقر:

إدراكا من المجتمع الدولي لحقيقة العلاقة بين الفقر والبيئة، ظهرت مشاريع وتجارب حاولت التوفيق بين تلبية الاحتياجات الأساسية وحماية البيئة، وقد نظم الإتحاد الدولي للطبيعة في هذا السياق مؤتمر حول "التنوع البيولوجي والتعاون الأوروبي للتنمية وهذا من 19 إلى 21 سبتمبر 2006 حضره 400 مشارك يمثلون مختلف الحكومات والمجتمع المدني، وقد انتهى "بنداء باريس" المتضمن العمل على تمكين الفقراء من تيسير مواردهم الطبيعية خاصة وأن الثروات والموارد الطبيعية تمثل حوالي 25% من مداخيل الدول ذات الدخل الضعيف (39) وقد أبدى المشاركين قلقهم بخصوص الملاحظ في الخدمات المقدمة من طرف الأنظمة البيئية بفعل تناقص التنوع البيولوجي ككل والذي من شانه تهديد التنمية المستدامة خصوصا وأن أهداف التنوع البيولوجي هو المساهمة في الحد من الفقر لصالح كل كائن على وجه الأرض".

وقد خلص المؤتمر إلى ضرورة إيلاء البيئة أكثر اعتبارا في التنمية وفي إستراتيجيات خفض الفقر، حيث تم تحديد جملة من الأنشطة والتحديات أهمها تحدي الإدماج الرامي إلى:

- ترقية التنمية المستدامة في المناطق الريفية وذلك باستخدام التنوع البيولوجي كرأسمال للحد من الفقر مع التخفيض من المخاطر وتحسين التغذية والصحة.

- إدماج المسائل البيئية في إستراتيجيات الحد من الفقر وكذا وسائل السياسات الاقتصادية الشاملة مع متابعة التطور الحاصل في ذلك المجال من أجل أن تصبح تلك السياسات عملية.

فيما كان التحدي الثاني هو نظام الحكم من خلال:

- إدخال إجراءات فعلية في وثيقة الإستراتيجيات الوطنية وسياسات القطاعات التي تسمح بدعم الاعتراف الصريح بحقوق سكان الأرياف والسكان الأصليين في تسيير الموارد الطبيعية والاستفادة منها.

بينما كان التحدي الثالث يكمن في أدوات ترابط السياسات من خلال:

- الاستغلال الكلي للفرص التي تمثلها الأدوات المتاحة مثل الدعم المالي.

- تشجيع الاستعمال المنهجي والمنظم للتقييمات البيئية الإستراتيجية.

- دعم التنمية والمعارف والبحث المشترك.

فضلا عن هذا يمكن إدراج البعد البيئي في إستراتيجية مكافحة الفقر من خلال:

- فهم ظاهرة الفقر وقياسها وتقييمها وفق كل مجتمع.

- دعم سبل المعيشة المستدامة من خلال زيادة فرص التشغيل في المناطق الريفية والبلدات النائية والمجتمعات المحلية وهي أكثر فئات المجتمع تعرضا للفقر مع مراعاة الخصائص البيئية لهذه المناطق وبصيغة أخرى اعتماد أسلوب معيشة مع الأخذ بعين الاعتبار النشاطات البيئية في المجتمعات المحلية لمكافحة الفقر مع تقوية دور المنظمات المحلية غير الحكومية كالجمعيات.

- ضمان حصول الفقراء على عناية كافية وتحسين أوضاعهم الصحية لا سيما وأن الفقراء هم أكثر فئات المجتمع تعرضا وتأثرا للتلوث البيئي.

- دعم تمويل المشاريع المصغرة ودعم الأسر المنتجة ومتدنية الدخل.

- ضمان استجابة النظام التعليمي لاحتياجات الفقراء.

- زيادة الوعي العام بالجهود المبذولة للحد من الفقر وتفعيل ذلك من خلال مختلف الوسائل الإعلامية(40).

وقصد توضيح الرؤية نورد نماذج لبعض المشاريع المدرجة للبعد البيئي في مكافحة الفقر ونذكر في هذا الإطار مشروع نموذجي في مجال السياحة البيئية بمراكش المغربية منطقة تانسيفت – الحوز، حيث أنجز مركز التنمية لمنطقة تانسيفت مشروعا يسعى إلى المساهمة في تكوين فئة مهنية وهم المرشدين والمرافقين بالجبل في مجالات خمسة هي المعارف العلمية، التاريخ والتراث، الفلاحة التقليدية والمهارات المحلية، العلاجات الأولية والوقاية إضافة إلى السياحة البيئية والتواصل واستقبال ومرافقة الزوار والسياح.

كما نذكر المشروع الهادف إلى تدبير أفضل للموارد الطبيعية بإقليم الحوز التي تعتبر الأكثر فقر بالمغرب حسب مؤشرات التنمية واستهدف هذا المشروع العمل على 12 دوارا بوادي أكونديس الذي يشكل رافد الضفة اليمنى لواد نفيس حيث تمحورت أنشطة هذا المشروع حول أربعة أصناف من المواضيع:

1- التقليص من استغلال الخشب من خلال تشجيع استعمال الطاقة المتجددة في تدفئة الأماكن والماء الصحي وطبخ المواد الغذائية وإشراك السكان في إعادة تشجير الأحراش المحاذية للقرى.

2- تأهيل الأعشاب العطرية والطبية وصيانة التنوع الطبيعي الفلاحي زيادة على وضع دليل للممارسة جني وغرس الأعشاب العطرية والطبية.

3- إنعاش القدرات البيئية والثقافية في مجال السياحة البيئية.

4- أنشطة مهيكلة لقدرات الفاعلين المحليين في تدبير الموارد الطبيعية على التدخل والدفاع عن ذلك من خلال تكوين الفاعلين المحليين في مجال معرفة التنوع الطبيعي وإيجاد الحلول للمشاكل(41).

ولا يفوتنا في هذا الإطار الإشارة إلى مشروع حملة لزراعة مليار شجرة لمكافحة التغيير المناخي والفقر(42) الذي أطلقته الناشطة الكينية الإفريقية الحائزة على جائزة نوبل للسلام "وانجاري ماثاي" 66 سنة، حيث قامت حركة الحزام الأخضر التي تتزعمها بزارعة نحو 30 مليون شجرة في أنحاء إفريقيا بهدف إبطاء وتيرة إزالة الغابات والتعرية من جهة ومن جهة أخرى مكافحة الفقر وتفاديه، وشعارها في هذا هو "عددنا يبلغ ست مليارات ولذلك فإنه إذا قام كل واحد منا بزارعة شجرة فسوف نصل بكل تأكيد إلى الهدف العام المرجو وهو إنقاذ كل البشرية".

وقد أثبتت اللجنة المانحة لجائزة نوبل للسلام على عملها باعتباره خطوة مساعدة على القضاء على الفقر وتجنب صراعات محتملة على مواد البناء النادرة وحطب الوقود، وشجعت الأمم المتحدة تلك المبادرة دون تقديم أي تمويل مادي لها.

الخاتمـــة:

وصفوة القول فإنه ليس ثمة اتفاق على أن مصالح الفقراء ومصالح البيئة يتعارضان أو يتكاملان من ناحية المنطلق، إذ أن الممارسة الفعلية هي التي تحكم هذه العلاقة وتحددها، وكما يعمل بعض الفقراء نتيجة انعدام أو تدني الدخل بالتأثير السلبي على البيئة، فإن أساليب التنمية المستدامة تمكن من التوفيق بين احتياجات هؤلاء الفقراء واحتياجات البيئة وهو ما يمثل جوهر التنمية المستدامة، لا سيما إذا تم إدراج البعد البيئي ضمن إستراتيجيات مكافحة الفقر والأخذ بعين الاعتبار التجارب القابلة للتكرار والتطبيق في عدة أماكن في العالـم.

أ. بوطبال حكيمـة

أ. رباحـي فضيلـة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها