التحول الديموقراطي في إفريقيا

مقدمة
لقد شهد النصف الأول من التسعينيات صخباً سياسياً واسعاً عبر أرجاء القارة الأفريقية , بدأ بتصاعد المناشدات والاحتجاجات السياسية سواء من داخل الدول الأفريقية أو خارجها للمطالبة بضرورة إحداث تحولات ( سياسية واقتصادية واجتماعية) بعيداً عن النظم السلطوية ونظم الحزب الواحد والنظم العسكرية وذلك على أسس الأخذ بالإصلاحات الليبرالية سواء في صورة الليبرالية السياسية بما تتضمنه من تعددية سياسية، وتبنى انتخابات تنافسية، وإقرار مبدأ تداول السلطة وبهدف استجلاب نماذج جديدة وجيدة للحكم، وأيضا بالتركيز على تبني الليبرالية الاقتصادية في صورة الرأسمالية بما يعنيه ذلك من حرية التجارة وحرية انتقال عوامل الانتاج وتخفيض سيطرة الدول عليها، وتجيع القطاع الخاص (الخصخصة) والأسواق المفتوحة، وغيرها.
وفى حين لم يكن انتشار مثل تلك الموجة في بدايته على نسق واحد وبنفس درجة الاتساع في كل مكان داخل أفريقيا, فإن هذه الضغوط والتحركات والإجراءات المؤسسية الوطنية والدولية، ذات الصلة بذلك وقوة الدفع المصاحبة لها لم تلبث أن عمت معظم الدول الأفريقية, وهو الأمر الذي ظنت معه تلك الدول أنه يتماثل نسبياً مع تلك الموجة التي بدأت مع أوائل ستينيات القرن الماضي من أجل الاستقلال السياسي. بمعنى أنه يمكن قد يكون محاولة جديدة للاستقلال الديمقراطي عن النظم الفردية التسلطية والعسكرية. وعلى الرغم من الآمال والطموحات المعقودة على عملية التحول الديمقراطي في أفريقيا، إلا أن هناك العديد من التساؤلات التي تبقى بمثابة علامات استفهام تثير القلق والمخاوف من الإسراف في مثل تلك التطلعات ومن تلك التساؤلات ما يلي:
ـ إلى أي مدى سيظل النظام القبلي / الإثني يمثل أداة ضغط على عملية التحول الديمقراطي؟
ـ إلى أى مدى ستؤثر ظاهرة عدم الاستقرار السياسى على عملية التحول الديمقراطى؟
ـ إلى أى مدى سيمكن الاستفادة من عملية التحول الديمقراطى فى البناء وإعادة البناء الاقتصادى؟
ـ ما هى الأسباب والدوافع الحقيقية الكامنة وراء هذا التحول الديمقراطى وما هى أبعاده وشروطه وآلياته؟
ـ ما هى النتائج والتأثيرات الناجمة عن هذا التحول الديمقراطى؟ وما هي آفاقه المستقبلية؟ وما هى طبيعة النظم الديمقراطية الناشئة عنه؟
وفى إطار هذا البحث سيتم تناول بعض الجوانب ذات الصلة بهذا الموضوع من خلال التركيز على ما يلي:-
- أسباب التحول الديمقراطى فى إفريقيا
- شروط وأبعاد التحول الديمقراطى فى أفريقيا
- سمات وآليات التحول الديمقراطى فى أفريقيا
- آفاق التحول الديمقراطى فى أفريقيا
المبحث الأول
أسباب التحول الديمقراطي في أفريقيا
إذا كانت فترة أوائل التسعينيات قد شهدت اتساع نطاق حركة التحول الديمقراطي في أفريقيا باعتباره هدفا شعبيا، فان الدوافع لذلك التحول يمكن إرجاعها لأسباب عديدة منها:
أولاً. الأسباب الداخلية:
أ. مساوئ النظم السلطوية:
إن شيوع سيطرة نظم الحكم الاستبدادية والسلطوية في دول القارة الأفريقية ، والتي استولت علي السلطة واحتكرتها لسنوات طويلة، وحرصت علي الإبقاء والاستمرار علي هذا الوضع دون منازع، مما جعل الصراع على السلطة يأخذ في بعض الأحيان الطابع العنيف كالانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية والحروب الأهلية. ولما كانت الصراعات والحروب التي تصاعدت في تلك الدول قد تأثرت بها تلك النظم السلطوية ، في ظل أزمة الشرعية السياسية التي تعاني منها ومن تناميها، لذا فقد أصبح أحد الحلول المناسبة لتسوية الصراع علي السلطة أن يتم من خلال تداولها بين القوي السياسية المختلفة بطريقة سلمية تتمثل في الأخذ بالديموقراطية، وعن طريق الانتخابات التنافسية.

ب. عدم الفعالية الدستورية والمؤسسية:
لقد خضعت الدول الأفريقية إلى تجريب دساتير لا تتصل بالواقع الفعلي الذي تعايشه تلك الدول، ولا تلبي المتطلبات الحقيقية للنظم السياسية الرشيدة ولا المتطلبات الإنسانية للشعوب الأفريقية، وحتى وإن كانت كذلك في بعض الأحيان، فإنه تكون هناك فجوة كبيرة بين النصوص الدستورية كما هو منصوص عليها وبين الممارسات الواقعية، ومع تعاظم المشكلات السياسية لتلك الدول بات من المؤكد أن أي تحرك جاد نحو الإصلاح ، ينبغي أن يتم من خلال المراجعة أو التعديل أو إعادة البناء الدستوري, مع وجوب مراعاة التوافق بين النصوص الدستورية الأفريقية والبيئات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، بالإضافة إلى المؤسسات التي يتم من خلالها وضع نصوص الدساتير موضع التنفيذ الفعلي.
وفي ظل المناشدات بالتغيير من جانب القوي الوطنية في الداخل ، أخذت الدول المانحة أيضا في ممارسة ضغوطها في هذا الشأن ، مما أسفر عن تسابق الدول الأفريقية في إجراء التعديلات التي تتناسب مع المشروطية السياسية للدول المانحة ومن أجل ضمان حصولها علي المعونات من جهة أخري.
ج. تنامي أزمة الشرعية:
يمكن التعامل مع أزمة الشرعية علي مستويين رئيسيين يعبران عن جوهر تلك المشكلة يرتبط أولهما بما يعرف بأزمة الشرعية السياسية، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بكثير من القضايا المتعلقة ببناء الدولة في أفريقيا كمشكلات التحول الاجتماعي والتطور الاقتصادي وقضايا الديموقراطية وغيرها، وقد أشار إلى ذلك من قبل ماكس فيبر بإقراره أن النظام الحاكم يكتسب شرعيته من شعور المحكومين بأحقيته وجدارته في الحكم ، وأنه دون الشرعية يصعب علي أي نظام حاكم أن يملك القدرة الضرورية علي إدارة الصراع بالدرجة اللازمة في المدى البعيد، ومن ثم يبقي جوهر الشرعية متمثلاً في ضرورة رضا وقبول المحكومين وليس إذعانهم لفرد أو نخبة في أن يمارسوا السلطة عليهم.
إن جوهر الشرعية هذا لا يمكن الاستعاضة عنه بأشكال السطوة والرهبة حتى لو تسترت خلف القوانين المكتوبة وأحاطت نفسها بالدساتير المعلنة، ومن هذا المنطلق فإن الأنظمة غير الشرعية ، أو التي انتفت شرعيتها نتيجة لممارسات غير قانونية تسارع عادة إلي تعليق الدساتير وتلجأ إلي العمل بالأحكام العرفية ، وهو اعتراف صريح من جانب تلك الأنظمة بأن قانونيتها مع ما هي عليه من شكلية لم تعد مبررا كافيا لممارسة السلطة. كما لم يعد مبررا أيضا أن يتم في إطار ممارسة السلطة أن يظل مبدأ تفضيل أهل الثقة والولاء للنظام الحاكم في مواجهة الإصلاحيين وأهل الخبرة هو الأساس الذي يتم وفقا له ممارسة السلطة وتكريسها لصالح فرد ما أو نخبة ما، وفي مقابل ذلك يكون لهؤلاء مصلحة في بقاء واستمرار الطغمة الحاكمة رغم انتفاء الشرعية عنها، وهو ما يدفعهم إلي المشاركة و الدفاع عن سياسات وممارسات الترهيب وقمع الجماهير ، كما أنها تتولى الترويج والتضخيم لمنجزات النظام الحاكم وافتعال الأزمات الداخلية والخارجية لتبرير التقاعس والفشل، بمعني أنهم يقومون بالدور الأساسي في تبرير وتلفيق وفرض وسائل شرعيتها من خلال مؤسسات الدولة المتعددة كأجهزة الإعلام والأمن وغيرها.
ومن الواضح أن الأنظمة الحاكمة السلطوية في أفريقية ظلت تعاني من فقدان الشرعية السياسية بدرجات متفاوتة تصل في بعضها إلي مستوي الأزمة الحقيقية، وتتجسد في فقدان الثقة بين المواطنين الأفريقيين وتلك الأنظمة وانعدام الثقة والمصداقية في قدرتها علي إيجاد الحلول المناسبة للمشكلات الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كما لم تتيح تلك الأنظمة لهؤلاء المواطنون الفرصة للتعبير السلمي عن المظالم التي يتعرضون لها ولا تلبية رغباتهم في تغيير القيادات الفاسدة وغير المقبولة شعبيا.
وعلي المستوي الثاني يلاحظ أن أزمة الشرعية السياسيةPolitical Legitimacy Crisis علي النحو السابق توضيحه قد تلازمت فيما بعد مع ما يعرف بأزمة الشرعية الدولية International Legitimacy Crisis والتي تعني قبول ورضا المجتمع الدولي عن دولة أفريقية ما، لقد أسهم في تنامي تلك الأزمة انتهاء الحرب الباردة وانهيار القطبية الثنائية، حيث دأبت الدول المانحة الأوروبية والأمريكية وعلي رأسها الولايات المتحدة ـ في إطار سعيها لتكريس هيمنتها العالميةـ علي التدخل السافر في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية، سواء بشكل مباشر كما هو الحال في كل من الصومال وليبيا والسودان في محاولة من جانبها لترويج ولتشويه صورتها أمام المجتمع الدولي وإظهارها في وضع الدول الخارجة عن المجتمع الدولي وحرصت في ذات الوقت علي دفع مجلس الأمن الدولي لفرض عقوبات عليها ، أو قيام الولايات المتحدة بأعمال عدوانية علي تلك الدول متذرعة بذرائع مختلقة وواهية ومنها أنها تدعم الإرهاب ، أو أنها نظم غير ديموقراطية وغير ذلك من الذرائع التي تتستر وراءها لإضفاء المشروعية علي سياساتها وممارساتها العدوانية تجاه العديد من الدول, وفي إطار استراتيجيتها العالمية للهيمنة والسيطرة. ومن ثم فإن الضغوط التي تمارسها ـ هي وحلفائها ـ علي الدول تحت غطاء الشرعية الدولية، ومن أجل إحداث التحولات السياسية والاقتصادية، وإن كان في ظاهره الإصلاح ، إلا أن الواقع يشير إلي أن الهدف الأساسي من وراء ذلك ، هو إيجاد لغة تخاطب وآلية سياسية واقتصادية واحدة بينها وبين تلك الدول بحيث تتيح لها فرصة وحرية التدخل وإحكام سيطرتها علي قدراتها ومواردها.
د. عدم الاستقرار السياسي:
لقد عانت الدول الإفريقية من تدهور حالة النظام والقانون، وخصوصا مع تعاظم المشكلات الأمنية وتنوعها سواء كانت تمس كيان وسيادة الدولة مثل مشكلات الانقلابات العسكرية أو الصراعات والحروب الأهلية، أو مشكلات انتهاك حقوق الإنسان أو التدهور المؤسسي وفشل سياسات الاندماج الوطني وتنامي صراع السلطة بين النخب المتنافسة وغيرها من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والمشكلات مع العالم الخارجي علي المستويين الإقليمي والدولي والتي يترتب عليها التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية للبلاد والتي غالبا ما يترتب عليها شيوع حالة من الفوضى وعدم الاستقرار داخل البلاد
ومما تقدم يتضح أن حالة عدم الاستقرار في الدول الأفريقية ، يمكن تفهمها على ضوء ما يلي1)
1. أن عدم الاستقرار السياسي يؤدى إلى زعزعة الأمن داخل الدول ويعد مصدر تهديد مباشر للنظام الحاكم ويعد أيضا مؤشرا على التدهور السياسي ويلاحظ أن الحركات الوطنية في ظل الحكم الاستعماري لم تضع الأسس الكافية من أجل الدول الإفريقية لفترة ما بعد الاستقلال أو أن أنظمة الحكم لفترة ما بعد الاستقلال تولت الإلغاء للإجراءات الجنينية الموضوعة قبل الاستقلال وخصوصا فيما يتعلق بعمليات بناء الأمة, الشرعية , تحقيق الذات, النفوذ, المشاركة, التوزيع, الاندماج وغيرها
2 . أن تغييرات الحكم وحالة عدم الاستقرار تعكس حالة من الانحراف السياسي من مسار ما قبل الاستقلال الذي كان يركز على إنهاء الاستعمار وترسيخ الاستقلال والاهتمام بالأمور المتعلقة بالتنمية الشاملة والانشغال بتركيز السلطة والتشبث برموزها وبمصالح النخبة الحاكمة.
3 .ادعاءات الثورة غير المنتهية Unfinished African Revaluation فقد اتسمت النظم الإفريقية بالطابع الراديكالي ومحاولة إيهام الشعوب الإفريقية بمفاهيم الأزمة الدائمة والعدو الخارجي والاستعمار الجديد وهو الأمر الذي اسهم في اعتلال النظم السياسية الإفريقية نتيجة الإسراف والاستنزاف للموارد في استيراد الأسلحة وتكديسها والدخول في مغامرات عسكرية داخلية أو مع الدول المجاورة وهو الأمر الذي ساعد أيضا على حالة عدم الاستقرار السياسي والتشجيع لتدخل العسكريين في الحياة السياسية وتزعمهم للانقلابات العسكرية.
ومن ثم فقد بات مستقرا في أذهان المواطنين من ناحية ، والحكام من ناحية أخري في أفريقيا أن المخرج من حالة عدم الاستقرار والعنف المتفشية في دولها لن يكون سوي بإعادة النظر في السياسات والممارسات المتعلقة بالديموقراطية وضرورة المشاركة السياسية لجميع القوي داخل تلك الدول.
هـ. الفشل الاقتصادي:
استمر الفشل الاقتصادي على مستوى الدول الإفريقية في ظل أنظمة الحزب الواحد والأنظمة العسكرية ليمثل أحد الظواهر التي تميز تلك الدول, وإذا كان العقدين الأولين بعد الاستقلال قد شهدا معدلات نمو تتراوح بين 6%إلى 8% , فقد تدهور الوضع الاقتصادي بعد منتصف التسعينيات ليصل المعدل إلى 2.3% و استمر ذلك التدهور ليصل إلى الصفر أو بالسالب مع بداية ثمانينات القرن الماضي، وهو الأمر الذي أضفى بعدا خطيرا وحيويا على حالة البؤس والمعاناة الإنسانية للشعوب الإفريقية وكرس حالة الفراغ والوهم السياسي لدى حكام تلك الشعوب.
ونتيجة لما تقدم فقد برزت قضية الديمقراطية باعتبارها محور أزمة التطور السياسي في إفريقيا منذ الاستقلال بعد أن فشلت استراتيجيات التنمية التي تبنتها الحكومات التسلطية في تحقيق المهام السياسية التي حددتها , وبدلا من الوصول بالمجتمع الأفريقي إلى حالة من الوحدة والتجانس دفعت به إلى حالة الانقسام والتمايز العرقي, وبدلا من تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية, عملت على نشر الفساد وعدم المساواة في المجتمع, وبدلا من تحقيق التنمية الاقتصادية عززت الكساد المادي والانحراف وبدلا من تأسيس أنظمة سياسية فعاله خلقت توجهات انفصالية وانقلابات عسكرية وحروب أهلية بما أدى إلى بقاء المجتمعات والشعوب الأفريقية رهينة الأزمة الدائمة, والتي يعزى السبب في تكوينها والإبقاء عليها إلى غياب الديمقراطية, ذلك أن التحول الديمقراطي في إفريقيا لا يعكس فقط الجوانب النظرية والأخلاقية التي تقف وراء البحث عن بديل للمأزق السلطوي القائم وإنما يعكس كذلك المطالب الشعبية الملحة من أجل التعيير.
ويقترن أيضا بحالة التردى الاقتصادى للدول الإفريقية تلك استمرار معدلات نمو السكان بمعدلات عالية بلغت حوالى إلى 2.6%.(2) , بالإضافة إلى ارتفاع معدل ديونها الخارجية وفوائدها من 176 مليار دولار عام 1982 إلى 296 مليار دولار عام 1992.(2) وهو الأمر الذى زاد من أعباء ومعوقات التنمية الاقتصادية واسهم فى إحداث الفشل الاقتصادى حيث باتت مطالب السكان متعاظمة ولم يواكب ذلك تحسن فى مستوى المصادر والمدخلات وهو الأمر الذى يعطى بعدا جديدا للأزمة فى القارة الأفريقية وقد أدى هذا الوضع أيضا إلى إعطاء الفرصة للدول و المؤسسات النقدية المانحة إلى وضع الشروط للحصول على الأموال والمساعدات ومنها ضرورة التحول الديمقراطى وتبنى سياسات رأسمالية ، كبرامج التكيف الهيكلى .


و. أزمة الاندماج الوطني:
وتتمثل أزمة الاندماج الوطنى فى أفريقيا فى عجز النظم السياسية الأفريقية عن التعامل مع الواقع التعددى للمجتمع (بالاغراء ، أو الاكراه) ، بشكل أدى إلى علو الولاءات دون الوطنية على الولاء الوطنى ، الأمر الذى أفسح المجال أمام الصراع بين الجماعات المختلفة بعضها البعض ، أو بين هذه الجماعات والنظام السياسى ، على نحو حال دون خلق ولاء وطنى عريض يؤدى إلى التماسك الوطنى .. وبعبارة أخرى فإن أزمة الاندماج الوطنى تبدو واضحة حين يظهر النظام السياسى عجزا عن بناء الدولة الوطنية ، وحيث تخبو الرغبة فى العيش معا لدى الجماعات المشكلة للمجتمع كشركاء متساوين ، بشكل يجعل من الصعوبة بمكان اطلاق مصطلح "شعب" على تلك الجماعات التى تعيش على إقليم هذا المجتمع ، بل ويجعل من الصعوبة حتى اطلاق مصطلح "دولة" على ذلك الكيان.
لقد عجزت النظم الأفريقية عن إدارة هذه الأزمة، إما لفساد هذه النظم وتحيزاتها لجماعة الإثنية على حساب أخرى مما أضعف قدرتها التوزيعية على الوفاء-ولو بالحد الأدنى- بمطالب مختلف الجماعات الإثنية ، إما لاتساع مساحة أقاليم العديد من الدول ، وسيادة الطابع الصحراوى والغابى عليها ، وهو ما أقعد هذه النظم عن تحقيق السيطرة على كامل الإقليم ولو كرها ، وذلك لتخلف طرق ووسائل النقل فيها ، وإما نتيجة لتداخل الجماعات الأثنية عبر الحدود مع الدول المجاورة بشكل حال دون إمكانية تحقيق السيطرة على كامل الشعب ، وإما نتيجة لتدخلات قوى إقليمية ودولية رأت من مصلحتها تقويض الاستقرار فى هذه الدولة أو تلك لاعبة على أوتار الاختلافات الأثنية ، وتعرض هذه الجماعة أو تلك للاضطهاد على يد الجماعة الحاكمة.
ثانياً. الأسباب الخارجية ( الضغوط الدولية):
كان للتحولات الأساسية التي حدثت في العالم منذ أواخر الثمانينيات ومنها نهاية الحرب الباردة وانهيار الكتلة الشرقية وخصوصا الاتحاد السوفيتي (سابقا) والتحولات التي حدثت في تلك الدول بالإضافة إلى تبنى القوى الغربية لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان بالإضافة إلى المنظمات النقدية العالمية – دور ملموس في دفع الدول الإفريقية إلى القيام بتلك التحولات الديمقراطية خصوصا وأنها اشترطت على تلك الدول لضمان استمرار مساعداتها وقروضها أن تلتزم بالديمقراطية .
إذن فمنذ انتهاء الحرب الباردة من ناحية ، وتعاظم العولمة من ناحية أخرى، فإن الغرب قد سعى لفرض أيديولوجيته الرأسمالية (الليبرالية السياسية / آليات السوق) فرضاً على الدول الأفريقية فيما بات بعرف بالحكم الصالح ، والتكيف الهيكلى متجاهلاً الحقائق الموضوعية التالية :
1. أن التجربة الديمقراطية الليبرالية من الصعب أن تنجح فى أفريقيا ، ذلك أن غالبية الدول الأفريقية قد أخذت بالتعددية الحزبية عقب الاستقلال، غير أن هذه التجربة سرعان ما انهارت منذ النصف الثانى من ستينيات القرن الماضى تحت ضربات الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، أو نتيجة لتحول العديد من الدول الأفريقية للأخذ بنظام الحزب الوحيد، وقد حدث هذا الفشل رغم أن ظروف الدول الأفريقية عقب الاستقلال كانت أفضل بكثير من وضعها الراهن، حيث لم تكن توجد أزمة ديون، ولا فجوة غذائية، وكان الجهاز الأدارى على محدوديته على درجة عالية من الكفاءة، ولم يعتريه الفساد على نحو ما هو مشاهد حالياً، وكان الشعور الوطنى عالياً بدرجة حالت دون تفجر الصراعات الإثنية فى القارة. فما الذى يجعل خيار الديمقراطية الليبرالية ممكناً فى ظل الظروف الراهنة ؟ .
2. أن إصرار الغرب على أخذ النظم الأفريقية بالاصلاح السياسى (الديمقراطية الليبرالية) وبالاصلاح الاقتصادى (الرأسمالية / التكيف الهيكلى) فى آن واحد ينطوى على تناقض موضوعى، ذلك أن الديمقراطية الليبرالية إنما تنصرف بالأساس إلى تكريس وتعظيم حقوق النخبة، إذ تركز على الحقوق السياسية فحسب من حق التعبير، وحق التجمع، وحق التصويت والترشيح في الانتخابات، وعدم الاعتقال دون محاكمة ...الخ. فى حين أن التكيف الهيكلى ينصرف إلى انتزاع الحقوق الاقتصادية / الاجتماعية للغالبية من حق العمل، والتعليم المجانى، والرعاية الصحية، والاسكان ..الخ، وليس من شك فى أن وضعاً كهذا إنما يهدف إلى تمكين نخبة من رجال الأعمال من تحقيق تراكم رأسمالى على حساب الغالبية من المواطنين بحيث تسهل لهم مهمة السيطرة على السلطة السياسية من جهة، وتجعل منهم رافداً تابعاً للرأسمالية العالمية من جهة ثانية، ثم إن ذلك سيؤدى فى المحصلة إلى سيادة حالة من عدم الاستقرار الداخلى من جهة ثالثة.
3. أن إصرار الغرب على حتمية التزام النظم الأفريقية بالديمقراطية الليبرالية، وبالتكيف الهيكلى معا ينطوى على مغالطة تاريخية من جهة، ثم إنه يفوق قدرات النظم الأفريقية من جهة أخرى، ويمكن توضيح ذلك كالتالي:
ـ أن الخبرة التاريخية الغربية ذاتها تشير إلى أن الظاهرة الديمقراطية لم تبرز فى أوروبا الا عقب الثورة الصناعية (التنمية أولا) بما استتبعها من تحضر وتعليم حديث ، وجهاز إدارى حديث ، أسفر عن "نتائج اجتماعية" تمثلت فى تفاعل مختلف جماعات المجتمع ، بشكل أدى إلى ظهور " ولاء وطنى " مشترك تخطى الولاءات الأثنية والدينية والإقليمية والثقافية .
ـ ثم إن بروز الظاهرة الديمقراطية فى أوروبا قد تواكب مع ظواهر ثلاث أخرى هى : الثورة الصناعية ، وقيام الدول القومية ، وانطلاق العملية الاستعمارية من عقالها ، ولم يكن بالامكان للظاهرة الديمقراطية ولا للثورة الصناعية الاستقرار ولا الاستمرار بدون العملية الاستعمارية الذى قادتها الدولة القومية ، ذلك أن الثورة الصناعية كانت فى حاجة أسواق خارجية ، وإلى مواد خام ، وهكذا فلكى تستقر النظم السياسية فى أوروبا ، والتى اعتمدت الديمقراطية أسلوبا للحكم ، كان لابد لها أن تزيد من قدرتها الاستخراجية (نهب ثروات الشعوب الأفريقية) حتى تزيد قدرتها التوزيعية (فترضى ولو الحد الأدنى من مطالب مختلف الجماعات فى المجتمعات الأوروبية) ، وبدون ذلك ما استقرت الظاهرة الديمقراطية ولا استمرت ، ودليلنا على ذلك أن كلا من ألمانيا وإيطاليا اللتان تحققت الوحدة القومية لكل منهما أواخر القرن التاسع عشر ، وبالتالى دخلتا العملية الاستعمارية متأخرتين عن الدول الاستعمارية الأخرى (فرنسا-بريطانيا) فلم تجدا مستعمرات ذات بال من حيث إمكانية تراكم ثروات – وقد أدى ذلك إلى سقوط التجربة الديمقراطية فى كليهما بصعود النازية والفاشية . بل إن دولا استعمارية قديمة كأسبانيا والبرتغال -ونتيجة لفقر مستعمراتهما- ظلتا تحكمان بأساليب شمولية حتى سبعينيات القرن الماضى ، وفضلا عما تقدم فإنه لم يكن بالإمكان الحفاظ على أوروبا الغربية ، واعادة بنائها الديمقراطى عقب الحرب العالمية الثانية الا بمشروع مارشال الذى ضخ مليارات الدولارات لجعل النظم فى أوروبا الغربية قادرة على تحقيق الحد الأدنى من مطالب مختلف الجماعات فى الدول الأوروبية، أضف إلى ما تقدم فإن تجربة النمور الآسيوية تشير إلى أن عملية التنمية فيها بدأت فى ظل مشروعات وطنية تقودها نظم شمولية بدرجة أساسية .
ـ ولعل ما سبق يشير إلى أن الظاهرة الديمقراطية لا تنمو ولا تستمر إلا عقب التنمية اقتصادية التى تؤدى إلى تماسك اجتماعى يخلق ولاء وطنيا يعلو فوق الولاءات دون الوطنية.
فهل النظم الأفريقية قادرة فى ظروف تخلفها الاقتصادى ، وتفككها الاجتماعى على القيام بهذه المهمة : الديمقراطية ، والتنمية فى آن واحد ؟؟ وما هو شكل الاصلاح السياسى الذى يتعين الأخذ به إزاء فشل الديمقراطية الليبرالية فى أفريقيا؟ وإزاء التناقضات التى تحملها الديمقراطية الليبرالية فى طياتها فإنها تهدد بشيوع حالة عدم الاستقرار فى القارة.


المبحث الثاني
شروط وأبعاد التحول الديمقراطي في أفريقيا
أولاً. شروط التحول الديمقراطي في أفريقيا
إذا كان التحول الديمقراطي في أفريقيا قد أصبح أحد التحديات الرئيسية التي تواجه دوله فإن إمكانية نجاح هذا التحول متوقف على مجموعة من الشروط ومنها:
أ. الشرط الاقتصادي:
بمعنى ضرورة وجود قاعدة اقتصادية / صناعية، حتى يمكن الحديث عن الظاهرة الديمقراطية في المجتمعات الإفريقية. و ينبغي التركيز في هذا الشأن على ضرورة وأهمية العلاقات المتداخلة والمشتركة بين المجالات الاقتصادية والتعددية السياسية والتجارب الديمقراطية فالمساواة على سبيل المثال ليست فقط بين الجماعات الإثنية والطائفية ولكن أيضا فيما بين الطبقات الاجتماعية ، كما أن التكاليف السياسية للفشل الاقتصادي تكون كبيرة وقد تؤدى إلى انهيار أنظمة سياسية بكاملها وهو ما يمكن ملاحظته في أنحاء عديدة في أفريقيا .
وينبغي الإشارة إلى أن المسألة الأيديولوجية في أفريقيا تشير إلى فشل كل من التوجهات الاشتراكية والرأسمالية فى القارة الأفريقية ، حيث لا توجد طبقة عمالية وطنية (بروليتاريا) يمكن أن تشكل قاعدة للتحول الاشتراكى ، كما لا توجد طبقة رأسمالية وطنية يمكن أن تشكل قاعدة للتحول الرأسمالى، ويرجع ذلك إلى تخلف البنية الاقتصادية / الاجتماعية فى الدول الأفريقية ، وتغلب الاختلافات الأثنية (غير الوطنية) والدينية والإقليمية على الحياة السياسية الأفريقية.
وقد أدى هذا وذاك إلى انهيار سياسة المحاور التى كانت قائمة فى الدول الأفريقية على أساس أبديولوجى لتتبنى كافة الدول الأفريقية رغبا أو كرها الأخذ بآليات السوق والاصلاح السياسى ، وليس من شك فى أن هذا الوضع يمكن أن يسهل من عملية التكامل الاقليمى فى أفريقيا ، ويدفع بعملية التنمية الاقتصادية فى القارة قدما فى إطار شراكة فى العالم الخارجى (نيباد) حيث لا تملك القارة وحدها الموارد المالية والتقنية ، وليس من شك فى أن الغرب مطالب اليوم بتمويل خطة النيباد لتعويض القارة عن قرون النهب الاستعمارى ، إذا ما أريد حل مشكلات القارة ودفع عملية الاصلاح السياسى والاقتصادى.
وبالتالي فإن الدرس الحقيقى الذى يجب أن تستفيد منه تجربة التحول الديمقراطى فى أفريقيا ويعد أحد الشروط الأساسية لاتجاهها هو أن النظام السياسي يقاس ليس بالتوسع فى وضع المبادئ المستخلصة عن الديمقراطية أو التطبيق لنماذج مؤسسية مستوردة من الخارج وإنما الأمر يتعلق بالدرجة الأساسية بحرص النظام السياسى على تمثيله لمصالح الجماعات المختلفة بداخله والقدرة على إحداث التوازن بين المطالب والمصادر والتطوير لحياة الجماهير على أسس المساواة والعدالة الاجتماعية والتوزيعية .
ب. الشرط الاجتماعي:
ويتمثل في ضرورة الحد من الولاءات التحتية ( قبلية ، اثنيه ، ...الخ ) لصالح الولاء الوطني والهدف المبدئي في هذا السياق هو اندماج جميع الجماعات المهمشة ( إثنية – قبلية – دينية ...) داخل نظام الدولة وفى إطار ما يمكن تسميته بالديمقراطية الاجتماعيةSocial Democracy .
إن من الأسباب الرئيسية التي يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على أية مساعي أوجهود تبذل بصدد محاولة إحداث تحول ديمقراطي فعال في أفريقيا يتمثل في التفسخ الاجتماعي والمجتمعي، أو مايمكن تسميته بشيوع أزمة الهوية أو أزمة الاندماج الوطني، ومن ثم فإن هذه الأزمة هى السبب فى العديد من الأزمات التى تواجهها النظم الأفريقية ابتداء من أزمة الشرعية، ومرورا بأزمة المشاركة السياسية، وانتهاء بأزمة المواطنة، بل أن هذه الأزمة هى السبب فى فشل تجارب الحزب الوحيد، والتعدد الحزبى، طالما كان الحزب الوحيد يشكل أداة الجماعة (الإثنية) الحاكمة فى الهيمنة على بقية الجماعات،؟ وطالما أن نظم التعدد الحزبى هى الأخرى قد أسفرت عن نقل الاختلافات الإثنية والدينية والإقليمية إلى ساحة الصراع السياسى، ذلك أن تجارب التعدد الحزبى فى القارة الأفريقية فى الماضى والحاضر قد أسفرت عن ظهور أحزاب طائفية (الأمة والاتحادى فى السودان) أو أحزاب دينية (كاثوليك وبروتستانت فى أوغندا) أو أحزاب إقليمية (شمال وشرق وغرب نيجيريا).
يضاف إلى ما تقدم إن أزمة الاندماج الوطنى هى السبب الرئيسى فى ظاهرة الانقلابات العسكرية فى أفريقيا (أكثر من 80 انقلابا عسكريا منذ ستينيات القرن الماضى) وفى ظاهرة الحروب الأهلية (التى ضربت نحو 18دولة أفريقية طوال نفس الفترة) وما ترتب عليها من مشكلات فرعية أخرى أكثر حدة من حروب إبادة (رواندا) ، وما يثار من تطهير عرقى (دارفور) ، فضلا عما تشكله تلك الظاهرة من احتمالات انتقال الحروب الأهلية إليها بمنطق العددى، إضافة إلى انهيار دول (الصومال-ليبيريا-سيراليون-غينيا بيساو-ساحل العاج-الكنغو الديمقراطية ... الخ) .
ج. الشرط الأيديولوجي:
بمعنى وجود إجماع وطني على الأيديولوجية الرأسمالية وعلى المفاهيم الأيديولوجية للديمقراطية وبهدف انتهاج آداب السلوك الديمقراطي السليم و ينبغي في هذا الشأن أن تكون القيادات داخل الدولة في مقدمة المطبقين لآداب ذلك السلوك وهو الأمر الذي يمكن أن يساعد المجتمع على الالتزام بقواعد السلوك العام والتطبيق المتنامي للمواثيق والقوانين .
ووفقا لما تقدم فقد كان الأمل معقوداً على أنه يمكن لعملية التحول الديمقراطى فى أفريقيا أن تتم على مرحلتين هما:
1. التحول الليبرالي :
ويعنى بالتحول الليبرالي أن يتم التأكيد على قدر مناسب من الحقوق والحريات التي يتمتع بها الأفراد والجماعات في مواجهة السلطة الحاكمة، أو بعبارة أخرى ضمان عدم تعسف السلطة وانتهاكها للشرعية السياسية . لقد ظهرت الأفكار الليبرالية في عصر التنوير و حتى الثورة الصناعية(1750 – 1850 )، و هي تشكل منارة مضيئة و عظيمة في تاريخ تطور البشرية. فالليبرالية متناقضة جذريا مع الإيديولوجيا الإقطاعية، أي أنها ضد فكرة الماوراء حين أكدت على موضوعية الطبيعة و المادة. و هي ضد الوحي و الميتافيزياء حين أكدت على العقلانية و العلم. و هي ضد الاستبداد حين أكدت على الحرية و هي ضد سحق الفرد و امتصاصه في المجموع، حين أكدت على أولوية الفرد. فقد جاءت الليبرالية كانتصار باهر على النظام الاقطاعي الذي ساد في العصور الوسطى، و هو النظام الذي كان يستند على الاستبداد و العبودية و قهر حرية الفرد و حقوقه و شكل حينذاك بمؤسساته وقيمه و علاقاته عائقا أمام تطور الرأسمالية في ظهورها. و هكذا فإن الأفكار الليبرالية هذه شكلت منظومة للإيديولوجية متكاملة لليبرالية، التي عبرت عن مرحلة تاريخية محددة، هي مرحلة الرأسمالية الوليدة والصاعدة، و عن اتساق متطلبات تقدم البشرية مع متطلبات صعود الطبقة البرجوازية. و لم يكن من الممكن انتشار الأفكار الليبرالية في مختلف دول القارة الأوروبية، و في الولايات المتحدة الأمريكية لو لم تكن متفقة إلى أبعد الحدود مع حرية الفرد التي قادته إلى محاربة الاستبداد على الصعيد السياسي، وإلى العقلانية على الصعيد المعرفي، وإلى العلمانية، وتحرير المرأة، والديمقراطية التي تشكل التخطي الديالكتيكي لهذه الليبرالية. وقد ارتدت المبادئ الليبرالية هذه طابع فتوح دائمة للبشرية، رست في أساس المجتمعات الحديثة (حتى إذا تجاوزت الليبرالية ), إلا أن حرية المشروع الاقتصادي التي بدت في ظل المجتمع التقليدي، بمنزلة مبدأ عقلاني، يحرر ولا يضطهد, و يطلق قوى الأنتاج، أصبحت فيما بعد تظاهرة لا عقلانية، و أداة للاستغلال و لمزيد من التفاوت الاجتماعي.
ولكن الليبرالية الجديدة، فقد جاءت بمنهاج جديد لإدارة الرأسمالية في زمن العولمة. و قد كشفت عن عدد من الحقائق أهمها:
ـ تتسم العولمة الرأسمالية المتوحشة الحالية باستقطاب الرساميل والتدفقات الاستثمارية، و بالتالي بتركيز الثروة و الرأسمال في البلدان الرأسمالية الصناعية المتقدمة، خاصة في الولايات المتحدة .
ـ يزداد إفقار العالم الثالث و تهميشه و تتخذ عمليات نهبه السافرة والمقنعة طابعا همجيا.
ـ تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بدور رئيسي في صياغة هياكل القوة الاقتصادية من خلال قوتها السياسية و العسكرية .و منذ فرضت الولايات المتحدة الأمريكية هيمنتها المطلقة على النظام الدولي الجديد في ظل القطبية الأحادية، حاولت أن تصيغ العالم على شاكلتها ومثالها, ونشر سلطتها فيما تسميه بالعالم الفوضوي (أو الدول الفاشلة، أو محاور الشر). والولايات المتحدة لاتثق بالقانون الدولي ولا بالمواثيق الدولية, و هي تنظر الى تحقيق الأمن, كما الدفاع عن الليبرالية الجديدة, عبر حيازة القوة العسكرية واستخدامها.وهي تزداد ميلا الى العمل العسكري في شكل أحادي الجانب, وترفض المبادرات أو القرارات التي تتخذ تحت راية مؤسسات دولية على غرار الأمم المتحدة مثلا, وتشك في القانون الدولي وتؤثر العمل خارج نطاقه حين ترى ذلك ضروريا - كماهو الحال في حربها على العراق، وما تسمية حربها على الإرهاب سواء في أفغانسيان أو في منطقة القرن الأفريقي ـ أو حتى مفيدا لمصالحها فحسب.
2. التحول الديمقراطي :
بمعنى أن يتم الانتقال نحو الليبرالية السياسية من خلال عملية تدريجية تفضي في النهاية إلى إقامة نظام ديمقراطي .
ويمكن الإشارة إلى أن معظم الدول الأفريقية اتخذت إجراءات دستورية وقانونية لتعزيز عملية التحول الليبرالي – الديمقراطي ومنها:
ـ ضمان حق تكوين الأحزاب السياسية
ـ حرية الانضمام للأحزاب السياسية
ـ حرية مساهمة الأحزاب فى تشكيل الوعى السياسى للمواطنين
ـ إجراء انتخابات على أساس تعددى
ـ إعطاء الأحزاب فرص متساوية لعرض برامجها من خلال وسائل الإعلام المختلفة .
إلا أن التحركات الأيديولوجية المتثاقلة للعديد من الدول الأفريقية فيما يتعلق بتبني الليبرالية السياسية من أجل إحداث التحولات السياسية، يبدو أنها كانت صعبة وعسيرة على تلك الدول، وهو نتاج طبيعى لمحاولات استساخ تلك الأيديولوجيا الغربية في البيئة الأفريقية، ومن ثم فإن التجربة الديمقراطية الليبرالية قد فشلت فى أفريقيا، ذلك أن غالبية الدول الأفريقية قد أخذت بالتعددية الحزبية عقب الاستقلال ، غير أن هذه التجربة سرعان ما انهارت منذ النصف الثانى من ستينيات القرن الماضى تحت ضربات الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية ، أو نتيجة لتحول العديد من الدول الأفريقية للأخذ بنظام الحزب الوحيد ، وقد حدث هذا الفشل رغم أن ظروف الدول الأفريقية عقب الاستقلال كانت أفضل بكثير من وضعها الراهن ، حيث لم تكن توجد أزمة ديون ، ولا فجوة غذائية ، وكان الجهاز الأدارى على محدوديته على درجة عالية من الكفاءة ، ولم يعتريه الفساد على نحو ما هو مشاهدا حاليا ، وكان الشعور الوطنى عاليا بدرجة حالت دون تفجر الصراعات الأثنية فى القارة . فما الذى يجعل خبار الديمقراطية الليبرالية ممكنا فى ظل الظروف الراهنة ؟ .
وهو يعني حدوث نهضة صناعية تؤدي إلي تنمية اقتصادية بكل ما يستتبعه ذلك من تحضر Urbanization وتعليم حديث، وجهاز إداري حديث، وتفاعل بين مختلف جماعات المجتمع.
د. الشرط الوطني:
وهذا الشرط يبني علي الشرط الاجتماعي حيث ينمو ولاء وطنيا عريضا يسفر عن إجماع وطني علي توجه أيديولوجي، يضفي علي النظام الحاكم مشروعيته وتجعل من الانتماء الوطني أمرا حتميا. ذلك ما أسفرت عنه الخبرة التاريخية للمجتمعات الأوروبية، والتي كانت منقسمة في داخلها علي أسس دينية ولغوية وثقافية، فجاءت الثورة الصناعية لتحدث هذا التحول، في هذه المجتمعات، والذي أسفر عن بزوغ الدولة القومية، وظهور وترسيخ الظاهرة الديموقراطية، وبدون توافر هذه الشروط فليس ثمة إمكانية لبزوغ الظاهرة الديموقراطية واستقرارها، ناهيك عن إمكانية الحديث عن فرضها، وهاهي الخبرة التاريخية، تثبت ومنذ الاستقلال صدق هذه المقولة، فقد انهارت التجارب الديموقراطية في العديد من الدول الأفريقية، ولا ينتظر لهذه الظاهرة أن تستقر في الدول التي أخذت بالتحول الديموقراطي منذ انتهاء الحرب الباردة، نتيجة لانتفاء الظروف الموضوعية لظهورها، فنيجيريا علي سبيل المثال أخذت بالليبرالية السياسية والاقتصادية منذ استقلالها في ظل وجود دولة فيدرالية ، ونظام حكم برلماني، وتعدد حزبي، وانهارت التجربة عام 1966، ثم عادت لتأخذ بنظام الحكم الرئاسي منذ عام1979 وانهارت التجربة أيضا، فحاولت الأخذ بنظام الحزبين وفشلت التجربة كذلك، وأسفر الأمر عن استمرار خضوعها للحكم العسكري معظم فترات تاريخها، ورغم العودة للأخذ بالديموقراطية، إلا أن التجربة مازالت غير مستقرة، والصراعات الاثنية والدينية آخذة في التصاعد، ذلك هو الحال في دول أفريقية عديدة كأوغندا ورواندا وبوروندي والسودان...الخ. بل إن فرض عملية التحول الديموقراطي علي العديد من الدول الأفريقية منذ انتهاء الحرب الباردة قد أدي إلي دخول العديد من الدول الأفريقية في حروب أهلية بشكل غير مسبوق ، وكانت نتائجها كارثية، حيث انهارت دول كالصومال وليبيريا و غينيا بيساو، وحدثت إبادة جنس في رواندا ، وانتشرت موجات اللاجئين في القارة الأفريقية، الذين زاد عددهم عن ثلث عدد اللاجئين في العالم.
ثانيا. أبعاد التحول الديمقراطي في أفريقيا:
مثلت عمليات الدمقرطة أو التحول الديمقراطي الظاهرة العالمية الأهم خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين. قبل ذلك، كان هناك عدد قليل من النظم الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. بدلا من ذلك، كانت الساحة السياسية مليئة بأشكال مختلفة من نظم الحكم غير الديمقراطية التي تشمل نظماً عسكرية ونظم الحزب الواحد ونظم الدكتاتوريات الفردية الشخصية. في منتصف سبعينيات القرن العشرين شهد العالم ما أصبح يعرف بالموجة الثالثة للديمقراطية التي بدأت في البرتغال وأسبانيا واليونان منذ 1974، ثم انتشرت إلى أمريكا اللاتينية وبعض أجزاء آسيا خلال ثمانينيات القرن العشرين، وامتدت إلى أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي وبعض أجزاء أفريقيا في أوخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي. الملفت للنظر أن منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، والمنطقة العربية خصوصا، كانت الأقل تأثراً بهذه الموجة.
تتسم عملية التحول الديمقراطى فى أفريقيا بالعديد من الأبعاد والتى يمكن التركيز عليها ومنها :
أولاً. البعد الوطني (الداخلي):
أ. البعد المؤسسي:
يفترض أنه داخل نطاق هذا الإطار المؤسسي تتم عمليات التغير التاريخي الطويلة المدى. كما يفترض أن تتم عمليات التحول الديمقراطي من خلال دور وفعل النخب السياسية التي يقع على كاهلها بالدرجة الأساسية الالتزام والمسئولية عن حسن إدارة تلك العملية، وعلى اعتبار أنه توجد في جميع المجتمعات العديد من بنى السلطة والقوة تعمل على تقييد سلوك الأفراد والنخب في المجتمع وتشكل تفكيرهم. وتوجد بنى السلطة والقوة بصورة مستقلة عن الفرد، تقيد نشاطاته وتتيح له بعض الفرص في الوقت نفسه. من ناحية أخرى، فإن الفرد جزء من تلك البنى الموروثة من الماضي ويساهم، مع الآخرين، في استمراريتها. كما يفترض أيضاً أن التفاعلات المتغيرة تدريجياً لبنى السلطة والقوة - اقتصادية، اجتماعية، سياسية- تضع قيوداً وتوفر فرصاً تدفع النخب السياسية وغيرهم، في بعض الحالات، في مسار تاريخي يقود إلى الديمقراطية الليبرالية، بينما في بعض الحالات الأخرى، قد تقود علاقات وتفاعلات بنى السلطة والقوة إلى مسارات سياسية أخرى. وبالتالي فإن بنى السلطة والقوة والتي غالبا ما تتغير تدريجياً عبر فترات تاريخية طويلة، فإن هذا يقود إلى أن عملية التحول الديمقراطي تكون طويلة الأمد. حيث أن المسار التاريخي لأي بلد نحو الديمقراطية الليبرالية أو نحو أي شكل سياسي أخر يتشكل ويتحدد، أساساً وجوهرياً، بالبنى المتغيرة للطبقة والدولة والقوى الدولية وعبر القومية والمتأثرة بنمط التنمية الرأسمالية، وليس عن طريق مبادرات وخيارات النخب. فعلى الرغم أن النخب السياسية تقوم بمبادرات وخيارات معينة، إلا إن هذه المبادرات والخيارات لا يمكن تفسيرها إلا عبر الإشارة إلى القيود والفرص البنيوية المحيطة بها.
ويعني ماتقدم أن هناك ضرورة لترجمة القيم والمفاهيم إلى حقائق مؤسسية وبنائية ومرافق عامة، إدا ما كانت هناك رغبة وإرادة حقيقية للتغيير وللتحول السياسي داخل الدول الأفريقية، وأن يتم ذلك في إطار نوع من الاتفاق حول قواعد الممارسة السياسية، ومثال ذلك وجود برلمان منتخب من الشعب، وغيرها من المؤسسات السياسية القوية والمستقلة سواء ذات الطابع الرسمي، وتلك ذات الطابع غير الرسمي ومنها وجود الأحزاب السياسية الوطنية ذات برامج متنوعة ووجود كذلك وجود منظمات للمجتمع المدني نشطة ومنظمة.
ب. البعد الأدائى ( الإجرائي ):
يقوم هذا البعد على أساس وجود علاقة بين التنمية الاجتماعية والاقتصادية وبين الديمقراطية، على اعتبار أن هذا يدخل ضمن العوامل التي تؤدي إلى استمرارية وترسيخ الديمقراطية، وفي إطار ما يمكن تسميته بالشروط والمتطلبات الوظيفية للديمقراطية. فضلاً عن ضرورة وجود مساراً عاما تتبعه البلدان الراغبة في التحول الديمقراطي، ويتكون هذا المسار من أربعة مراحل أساسية:
1. مرحلة تحقيق الوحدة الوطنية: والتي تشكل خلفية الأوضاع Background Condition، أو أساس عملية التحول، ويرى البعض أنه فيما يتعلق بتحقيق الوحدة الوطنية لا يتوجب توافر الاجماع والاتفاق العام، بل مجرد بدء تشكل هوية سياسية مشتركة لدى الغالبية العظمى من المواطنين.
2. مرحلة الإعداد Preparatory phase: وخلال هذه المرحلة يمر المجتمع القومي بفترة تتميز بصراعات سياسية طويلة وغير حاسمة، على شاكلة الصراع الناجم عن تزايد أهمية نخبة صناعية جديدة خلال عملية التصنيع تطالب بدور وموقع مؤثر في المجتمع السياسي في مواجهة النخب التقليدية المسيطرة التي تحاول المحافظة على الوضع القائم. ورغم اختلاف التفاصيل التاريخية لحالات الصراع من بلد لآخر، فإن هناك دائماً صراعاً رئيساً وحاداً بين جماعات متنازعة. أي أن الديمقراطية تولد من رحم الصراع، بل وحتى العنف، وليست نتاجاً لتطور سلمي. وهذا ما يفسر إمكانية هشاشة الديمقراطية في المراحل الأولى، وعدم استطاعة العديد من البلدان تجاوز المرحلة الإعدادية إلى مرحلة الانتقال والتحول المبدئية. قد يكون الصراع حاداً بالدرجة التي تؤدي إلى تمزيق الوحدة الوطنية، أو أن يؤدي إلى تزايد قوة إحدى الجماعات بالدرجة التي تمكنها من التغلب على قوى المعارضة وإنهاء الصراع السياسي لصالحها وسد الطريق أمام التحول الديمقراطي.
3. مرحلة القرارDecision Phase: وهي مرحلة الانتقال والتحول المبدئي، وخلال تلك وهي وهي لحظة تاريخية تقرر فيها أطراف الصراع السياسي غير المحسوم التوصل إلى تسويات وتبني قواعد ديمقراطية تمنح الجميع حق المشاركة في المجتمع السياسي.
4. مرحلة التعود Habituation Phase: وهي مرحلة الانتقال والتحول الثانية وخلالها فإن قرار تبني القواعد الديمقراطية خلال "اللحظة التاريخية" قد يكون قراراً ناتجاً عن أحساس أطراف الصراع غير المحسوم بضرورة التوصل إلى تسويات وحلول وسط، وليس ناتجاً عن قناعة ورغبة هذه الأطراف في تبني القواعد الديمقراطية. بيد أنه، وبصورة تدريجية ومع مرور الوقت، تتعود الأطراف المختلفة على هذه القواعد وتتكيف معها. قد يقبل الجيل الأول من أطراف الصراع القواعد الديمقراطية عن مضض وبحكم الضرورة، إلا أن الأجيال الجديدة من النخب السياسية تصبح أكثر تعوداً وقناعة وإيماناً بالقواعد الديمقراطية. وفي هذه الحالة يمكن القول إن الديمقراطية قد ترسخت في المجتمع السياسي.
ويبدو أن هناك نوع من التمييز بين مرحلة الانتقال والتحول المبدئي من الحكم التسلطي (أي اللبرنة السياسية) وبين مرحلة ترسيخ الديمقراطية الليبرالية. ويرجع ذلك إلى أن عمليات الانتقال المبدئية قد تنجح أحياناً وتترسخ، ولكنها قد تفشل وتتعثر في أحيان أخرى. حيث تبدأ عملية اللبرنة السياسة داخل نظام الحكم التسلطي بتخفيف عمليات القمع والسماح ببعض الحريات المدنية. إلا أن هذه التحركات لا تؤدي، بالضرورة، إلى تحقيق الديمقراطية. فقد يتم إجهاض عمليات اللبرنة ويعود الحكم القمعي من جديد. بيد أنه ما أن تكتسب عملية اللبرنة دفعا وزخماً قوياً وجاداً ينخرط العديد من الفاعلين السياسيين في التفاعل التاريخي بين نظام الحكم وقوى المعارضة. بحسبان وجود متطرفين ومعتدلين داخل النظام التسلطي وبين المعارضين، فإن طبيعة التفاعل وشكله يؤثر على مسار ونواتج عملية الانتقال والتحول الديمقراطي. ويلاحظ أنه خلال المرحلة الرابعة (مرحلة التعود)، تتضمن عملية الانتقال الثانية من حكومات مؤقتة ولبرنة سياسية مبدئية إلى ترسيخ الديمقراطية الليبرالية مسارات تاريخية متشابكة وتتسم بدرجة عالية من عدم التيقن. ويلعب الفاعلون السياسيون الملتزمين بالديمقراطية دوراً حاسماً وجوهرياً لنجاحها خلال هذه المرحلة أيضاً. وعلى الرغم من أنهم يشكلون دائماً أقلية، فإن هناك عوامل معينة تتظافر لصالحهم. من أهم هذه العوامل، أن أغلبية المواطنين، حتى وإن لم تكن ملتزمة بالديمقراطية بالضرورة، لا تريد عودة النظام التسلطي الذي كانت ترزح تحته. هذا إلى جانب أن الخطاب السياسي التسلطي أضعف إيديولوجياً من الخطاب الديمقراطي عالمياً. بفضل هذه المزايا، يمكن للنخبة الديمقراطية القليلة العدد أن تقود المجتمع السياسي إلى ترسيخ الديمقراطية إذا استطاعت أن تقوم بتحييد الفاعلين ذوي التوجهات التسلطية المتطرفة، وتشجيع التفضيلات والممارسات المتوافقة مع الأداء الديمقراطي، وزيادة عدد الفاعلين الديمقراطيين، وإعطاء أولوية للإستراتجية التي تضمن عدم تسهيل عودة الحكم التسلطي على أية استراتجيات أخرى (بما في ذلك التنافس فيما بينها). ويزعم البعض أن المسار التاريخي للديمقراطية الليبرالية يتحدد، جوهرياً، من خلال مبادرات وأفعال النخب وليس عن طريق بنى القوة المتغيرة. إلا أن مبادرات وخيارات النخبة لا تحدث أبداً في فراغ، حيث إنها تتشكل إلى حد ما بالبنى المجتمعية، بمعنى التأثر بمجموعة من القيود الطبيعية والاجتماعية، وبمجموعة من الفرص المتغيرة، وبمجموعة من المعايير والقيم التي يمكن أن تؤثر على محتوى واتجاه خيارات النخب.
وبناءً على ما تقدم فإنه وفي إطار عملية التحول الديمقراطي فإنه من الضروري التأكيد على وجوب أن يتم تسوية الصراعات السياسية عادة عبر أسلوب تنافسي سلمى وأن تكون الانتخابات الحرة ذات المضمون التعددي الأداة الديمقراطية الكفيلة بتحقيق التوازن السياسي والاستقرار في المجتمع، ويلاحظ أنه على الرغم من أن تحولات نظم الحكم الإفريقية قد حدثت بسرعة، فإن الوقت المتاح لوضع ولترسيخ مثل تلك الإجراءات والتدعيم للمؤسسات الديمقراطية إنما هومحدود نسبياً، وهو الأمر الذي يمكن أن يكون له آثار سلبية في السنوات التالية، ومنها أن تتمخض مثل تلك التجارب على ديمقراطيات هشة Fragile. ولذلك فإن التعجل المرحلي من جانب الدول الأفريقية في هذا الشأن غير مرغوب فيه، كما أن الضغوط التي تمارس على الدول الأفريقية بغرض الإسراع بالتحول قد تؤدي إلى انتكاسات التجربة.
ج. البعد السلوكي ( القيمي – الثقافي):
الذي ينظر إلي الديموقراطية باعتبارها قيمة عليا في حد ذاتها تشمل في نفس الوقت على معاني الحرية والمساواة والعدالة وسيادة قيم التسامح والتعايش والتفاوض,و يفترض ذلك نشر وتعزيز الثقافة الديمقراطية في المجتمع . وكذلك باعتبارها عملية صراعية وتنافسية وفى هذا الشأن تبرز العديد من الاعتبارات ومنها:
1. أن تاريخ الديمقراطية ملئ بالصراعات وأن تحقيق المكاسب الديمقراطية للجماهير لا يمكن أن يتم بقرار فوقى وهذا لا يعنى التشاؤم في إمكانية تحقيق الديمقراطية في أفريقيا وإنما هو توضيح لأن هذا الأمر يتطلب نضالا متواصلا.
2 . إن تزايد المطالب الشعبية المنادية باحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وبإضفاء الطابع الديمقراطي على المؤسسات السياسية والاتجاه نحو الأخذ بنظم التعددية الحزبية يتطلب ضمانات للتحول الصحيح لإحداث التغيير الديمقراطي لأن مسيرة التحول لم تنته بعد .
3 .أن التحول الديمقراطي بمعناه التعددي محكوم عليه بعدة مؤثرات :
ـ مصالح الطبقة البيروقراطية البرجوازية المهيمنة ومدى استعدادها للتفاوض السلمي من أجل الإصلاحات الديمقراطية .
ـ مدى انتشار الثقافة الديمقراطية و الوعي الديمقراطي بين المواطنين في أفريقيا .
ـ القدرة على إيجاد التسوية للصراعات الاجتماعية الممتدة والتي تأخذ شكل الحروب الأهلية والدولية في عدد من المناطق الإفريقية .
ثانياً. البعد الدولي:
ويتركز هذا البعد في محاولة الدول المانحة الأوروبية والأمريكية في أن تسود عملية التحول الديموقراطي في القارة الأفريقية، وأن يتم الارتقاء بها وفي سبيل تحقيق ذلك فإنها تتبني العديد من السياسات والأدوات ومنها:
أ. سياسة الترهيب:
وفي ظل تلك السياسة فإنها تستخدم أدوات تخفيض المعونات المقدمة للدول الأفريقية وسياسة العزلة الدبلوماسية والإدانة لأنظمة الحكم وتقييد ومنع التأشيرات لدخول دولها وغيرها.
ب. سياسة الترغيب:
وتتمثل في زيادة المعونات الخارجية ،وتعزيز التعاون العسكري ، وزيادة حجم التجارة والاستثمارات، بالإضافة إلي أدوات الدبلوماسية التقليدية ، والاستمالة ( الإقناع) والمشورة والاستعداد للمناصب الجديدة (الريادة الإقليمية). بالإضافة كذلك إلي برامج الترويج والارتقاء بالديموقراطية التي يمكن أن تكون مجزأة علي المدى القصير كأنشطة التأييد الانتخابي وعلي المدى الطويل مثل جهود إعادة البناء المؤسسي والتغييرات الدستورية.
ج. العولمة:
بينما تتحمّل الدولة الأفريقية تحديات الدمقرطة، فهي تدفع أيضا لحتمية التعامل مع نتائج الإعتماد الإقتصادي المتزايد في إطار مايعرف بالعولمة, وهو الأمر الذي يعني قي بعض جوانبه التعرض للمزيد من الضغوط والخسائر النسبية الناجمة عن ما يسمى بالعولمة السياسية في إطار الدفع بحتمية تبني الأيديولوجية الليبرالية، واستيفاء المشروطيات السياسية وكذلك العولمة الاقتصادية من خلال عدم التراخي في تبني برامج التكيف الهيكلي بكل ما تتضمنه من الخضوع الطوعي للسيطرة المالية والسلطة المتزايدة للأسواق التي تخدم أهداف ومصالح الدول الصناعية الفاعلة في العالم، وهو مايعني أن العولمة باتت تمثل أحد التحديات الرئيسية التي تواجه أفريقيا في الوقت الراهن، خصوصاً في ظل أساليب وممارسات الهيمنة الرأسمالية العالمية على قطاعات المال والأعمال، وما ينجم عن ذلك من التكريس للتفاوتات في القدرات المختلفة وفي مستويات الثراء والتقدم، وفي المستويات المعيشية للشعوب عالمياً، ويحدث ذلك على الرغم من المزاعم والادعاءات بأن العولمة ستزيد من الترابط والتقارب والتداخل بين الدول على المستوى العالمي، وبالتالي فإن العولمة لا تتحك باتجاه زيادة قدرات الدول الفقيرة والنامية، وإنما تضغط في اتجاه الإبقاء على علاقات الإستغلال والسيطرة والتبعية الاقتصادية لصالح القوى الامبريالية العالمية، ولا تقف حدود العولمة عند الأوضاع السياسية والاقتصادية وإنما تنصرف أيضا إلى العولمة الثقافية من خلال التأثير والتجزئة بل والتفتيت للثقافات المحلية / الوطنية / القومية لصالح تكريس وإعلاء شأن ثقافة الهيمنة العالمية، وإن كان بأساليب مستحدثة، ودون مراعاة للجوانب التنموية والاجتماعية والخصوصيات الثقافية للدول النامية وعلى رأسها الدول الأفريقية.
المبحث الثالث
سمات وآليات التحول الديمقراطي في أفريقيا
أولاً. سمات التحول الديمقراطي في أفريقيا
تتسم الديمقراطية بصفة عامة بمجموعة من الخصائص ومنها ما يلي:
أ. أن الظاهرة الديموقراطية ليست حتمية:
فهي لم توجد أبدا ـ فهي ليست ظاهرة لصيقة بالحياة البشرية ـ وبالتبعية فهي لن توجد أبدا ، ذلك أن مضمونها يختلف من مرحلة إلي أخري، فقد وجدت الظاهرة الديموقراطية في دولة المدينة بأثينا في العصر الإغريقي، ثم اختفت وعادت للظهور مرة أخري عقب الثورة الصناعية في شكل جديد.
ب. أن الظاهرة الديموقراطية هي ظاهرة استبعادية:
ففي العصر الإغريقي حرمت النسوة والعبيد من أية حقوق سياسية ، وهي في الوقت الراهن يبدو أن ممارستها حق للإنسان الغربي الأبيض دون سواه، وسعي الآخر لممارستها بطريقة حقيقية يلقي رفضا كاملا من الغرب، باعتبار أن ذلك يهدد مصالحه، لا أدل علي ذلك من أن الغرب ساعد أعتى النظم الاستبدادية مثل ماركوس في الفليبين، وشاه إيران، والإمبراطور هيلاسيلاسي في إثيوبيا وموبوتو في زائير، كما ساعد أعتى النظم الاستعمارية الاستيطانية العنصرية ممثلة في كل من إسرائيل وجنوب أفريقيا، و روديسيا الجنوبية سابقا، ولا أدل علي ذلك أيضا من أن الغرب الذي يرفع راية حقوق الإنسان يطارد المهاجرين الأفريقيين في الدول الأوروبية، ويضيق الخناق علي مرتديات الحجاب ويضغط علي الدول الإسلامية لتغيير هويتها، وتغيير مناهجها العلمية، ويقف ضد إمكانية وصول الحركة الإسلامية في الجزائر إلي السلطة ديموقراطيا، ويبدو أنه يصدق علي هذه الأوضاع قول الشاعر الفرنسي لامارتان " قتل امرؤ في غابة جريمة لا تغتفر ، وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر " وهو يقصد بذلك قتل فرد غربي أبيض ، وهنا تقوم الدنيا ولا تقعد ( لوكيربي ) ، أما قتل شعب بكامله فهي مسألة يمكن النظر فيها تحت دعاوى إنسانية!!!( الشعب الفلسطيني، الشعب الأفغاني ، الشعب العراقي...).
ج. أن الظاهرة الديموقراطية هي ظاهرة استعمارية:
لقد تواكب بروز الظاهرة الديموقراطية مع ظواهر ثلاث أخري هي : الثورة الصناعية، وقيام الدولة القومية في أوروبا، وانطلاق العملية الاستعمارية من عقالها، ولم يكن بالإمكان للظاهرة الديموقراطية ولا للثورة الصناعية الاستقرار ولا الاستمرار بدون العملية الاستعمارية ، ذلك أن الثورة الصناعية كانت في حاجة لنهب موارد الدول الأفريقية، ثم أنه لكي تستقر النظم السياسية في أوروبا ، والتي اعتمدت الديموقراطية أسلوبا للحكم ، كان لابد أن تزيد من قدرتها الإستخراجية Extractive ( نهب ثروات الشعوب الأفريقية حتى تتزايد قدرتها التوزيعية Distributive المتمثلة في تحقيق ولو الحد الأدنى من مطالب مختلف الجماعات في المجتمعات الأوروبية، وبدون ذلك ما استقرت الظاهرة الديموقراطية ولا استمرت ، بمعني أن الظاهرة الديموقراطية في أوروبا لم تكن لتنمو وتستمر إلا علي حساب نهب ثروات الشعوب الأفريقية، ودليلنا علي ذلك أن ألمانيا وإيطاليا اللتان تحققت الوحدة القومية لكل منهما في أواخر القرن التاسع عشر ، وبالتالي دخلتا العملية الاستعمارية متأخرتين عن الدول الاستعمارية الأخرى( فرنسا وبريطانيا ) فكانت مستعمرات كل منهما مستعمرات محدودة وفقيرة بحيث لم تكن هذه المستعمرات ذات بال، من حيث تراكم الثروات فهاتان الدولتان سقطت فيهما التجربة الديموقراطية، حيث نشأت النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، بل إن دولا استعمارية قديمة كأسبانيا والبرتغال ونتيجة لفقر مستعمراتهما ظلتا تحكمان بأساليب ديكتاتورية أو استبدادية حتى سبعينيات القرن الماضي، إذا ما أضفنا إلي ذلك أنه لم يكن بالإمكان الحفاظ علي أوروبا الغربية، وإعادة بناءها الديموقراطي عقب الحرب العالمية الثانية إلا بمشروع مارشال، الذي ضخ مليارات الدولارات لجعل النظم في أوروبا الغربية قادرة علي تحقيق مطالب الحد الأدنى من مختلف الجماعات في الدول الأوروبية وبدون ذلك لما استمرت التجربة الديموقراطية في أوروبا الغربية.
د. أن الظاهرة الديموقراطية هي ظاهرة علمانية:
تقتضي فصل الدين عن الدولة بل وهيمنة الدولة علي الدين واستخدامه لتبرير السلوك السياسي( يرجع إلي الخطاب السياسي الأمريكي قبل وأثناء حرب احتلال العراق).
إن محاولة تكريس هذه الظاهرة العلمانية في الدول الأفريقية يتناقض كلية مع العقل الأفريقي الذي هو عقل " وصل وتكامل " يدلنا علي ذلك أنه حينما يفتح المجال واسعا أمام التعددية الحزبية في العديد من الدول الأفريقية فلا يمكن بحال من الأحوال الحيلولة دون نشوء أحزاب تستند إلي الأساس الديني، ومثالنا علي ذلك دور الكنيسة الكاثوليكية في الحياة السياسية في زامبيا ، والتنافس بين الأحزاب الكاثوليكية والبروتستانتية في أوغندا كلما كانت هناك تعددية حزبية، والتنافس الحزبي الإسلامي والمسيحي في نيجيريا، وظاهرة الأحزاب الدينية: الأمة والاتحادي في السودان، والجبهة الإسلامية في الجزائر، والدور السياسي للطرق الصوفية في السنغال، بل حتى وفي فترة سابقة قبل انهيار العنصرية في جنوب أفريقيا في ظل دور رابطة إخوان الأفريكانرز وذراعها السياسي ممثلاً في الحزب الوطني في جنوب أفريقيا. فهل يمكن تنحية الدين جانبا في واقع المجتمعات الأفريقية و إبعاده عن الحياة السياسية في إطار عملية التحول الديموقراطي.
وفي هذا السياق يجب أن نذكر ظاهرة الأحزاب الدينية في غرب أوروبا ومنها الحزب الديموقراطي المسيحي ( ألمانيا )، ومعظم أعلام الدول الأوروبية التي تحمل علامة الصليب، وظاهرة قسم اليمين علي الكتاب المقدس من جانب كبار المسؤولين عند تعيينهم، وما هو مكتوب علي عملة الدولار من عبارة " نحن نثق في الله In God We Trust " ، وهيمنة المتدينين اليهود علي الحياة السياسية في إسرائيل، بل وارتكان إسرائيل في قيامها وتوسعها علي وعود توراتية تبدو مقبولة ومرحبا بها من جانب الغرب، في الوقت الذي يرفض فيه النموذج الإسلامي في إيران مثلا، وفي الوقت الذي ظل الغرب يشكل سندا لدولة دينية هي إثيوبيا في عهد هيلاسيلاسي ، كان دستورها ينص علي أن هيلاسيلاسي هو رأس الكنيسة الإثيوبية، وفي الوقت الذي يتجاهل فيه الغرب الفظائع التي يرتكبها جيش الرب للمقاومة في شمال أوغندة Lord Resistance Army الذي يرتكب فظائع تفوق بكثير ما ترتكبه بعض الجماعات هنا وهناك.
هـ. أن الظاهرة الديموقراطية هي ظاهرة نخبوية:
فهي تركز علي الحقوق السياسية فحسب، حق التعبير عن الرأي، وحق التجمع، والتظاهر، وحق التصويت، والترشيح، وعدم الاعتقال دون محاكمة ...الخ. وتتجاهل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للجماهير، وهي بهذا المعني ظاهرة نخبوية تسعي لإرضاء نخب سواء كانت نخب سياسية أو ثقافية، دونما اعتبار لحقوق الجماهير ، وليس أدل علي ذلك من أن برامج التكيف الهيكلي Structural Adjustment Programmes في أفريقيا قد أضرت بالجماهير الأفريقية ، حيث انتشرت جيوش العاطلين، واتسع نطاق الفقر، وتحللت الدول الأفريقية من التزاماتها الاجتماعية في التعليم والصحة والإسكان وانصرف الاهتمام كلية إلي التعددية الحزبية وإلي الانتخابات ، وإلي تداول السلطة، وكأن هذه الأدوات والوسائل الديموقراطية باتت تشكل غايات في حد ذاتها بصرف النظر عن مصالح الجماهير.


ثانياً. آليات عملية التحول الديمقراطي في أفريقيا:
مع ضرورة إحداث عملية التحول الديمقراطي في أفريقيا فقد كان لزاما لانجاحها وجود آليات تساعد على القيام بذلك ومن هذه الآليات ما يلي :
أولاً. المؤتمرات الوطنية:
تعد صيغة تأسيس المؤتمر الوطني من أبرز آليات التغيير السلمي للبناء التسلطي من خلال المفاوضات بهدف الوصول إلى صيغة ملائمة للتحول الديمقراطي ، ويبدو أن مثل تلك المؤتمرات الوطنية يمكن أن تكون مناسبة للواقع الأفريقي بدرجة كبيرة ، وهى إما أن تتم نتيجة لضغط شعبي كبير أو لتذمر عام في صفوف المؤسسة العسكرية أو لتردى الحالة الاقتصادية – السياسية ، أو لضغوط خارجية متزايدة ، حتى ينساق النظام القائم لبدء عملية التحول الديمقراطي من خلال المفاوضات السلمية وهو الأمر الذي يمكن أن يساعد في تدعيم شرعيته السياسية من ناحية وخلق مناخ من القبول – القومي العام لسياسات الإصلاح التي تنتهجها الحكومة وتتميز مثل هذه المؤتمرات الحكومة . الوطنية بالتمثيل الواسع من جانب جماعات ومؤسسات المجتمع المدني، بما في ذلك الجماعات المعارضة ، وهى تتيح الفرصة للمشاركين في عرض ومناقشة أخطاء الحكومات السابقة والحالية واقتراح الإصلاحات المناسبة( يبنين مؤتمر 1990 ,الكونغو ، توجو ، النيجر ، مدغشقر ).
ثانياً. المؤتمرات الإقليمية والدولية:
على صعيد المؤتمرات الإقليمية فقد اجتمع قادة أفارقة في العاصمة النيجيرية أبوجا أواخر شهر مارس2002 للتوقيع على إعلان غير مسبوق لتأكيد التزام الدول الأفريقية بالديمقراطية وحكم القانون والفصل بين السلطات ومواجهة الحروب المدمرة والفساد. ويأتي ذلك بهدف تمهيد الطريق أمام استثمارات غربية ضخمة يتوقع تدفقها نحو القارة الأفريقية. وقد حضر قمة أبوجا قادة 15 دولة من اللجنة التنفيذية للشراكة الجديدة للتنمية الأفريقية (نيباد) التي تسعى للإسراع بعملية النمو في أفقر قارات العالم. وكان ويزمان نيكولا رئيس لجنة التوجيه في نيباد قد ذكر أن الإعلان السياسي في قمة أبوجا يمثل أحد أهم الضمانات لتوفير الدعم الغربي للمبادرة الأفريقية التي تحتاج إلى نحو 64 مليار دولار استثمارات سنوية لاستمرار النمو. وأكد نيكولا أهمية هذا الإعلان في كسب ثقة المجتمع الدولي، في حين أعرب عن استيائه من إعلان الولايات المتحدة أن فوز الرئيس الزيمبابوي روبرت موغابي في الانتخابات الرئاسية فبراير 2002 يمكن أن يؤثر على الدعم الغربي لمبادرة نيباد. ويشمل الإعلان السياسي التأكيد على تطبيق مبادئ الديمقراطية وحكم القانون والفصل بين السلطات ومن بينها استقلال القضاء وفعالية البرلمانات في إصدار القوانين إضافة إلى العمل على تأمين حرية المجتمع المدني وحرية الصحافة واحترام حقوق الإنسان ومواجهة الفساد.
ممارسة الضغوط للتحول إلي الديمقراطية:
والضغوط هنا تكون داخلية من أجل الأخذ بالتعددية الحزبية ومن خلال انتخابات حرة كوسيلة للانتقال السلمي للسلطة ( مثال زامبيا 1991 ) ، إن الاعتراف والقبول بالوجود المزمن للضغوط الإثنية من أجل إحداث تغييرات هيكلية Structure Changes في تلك الدول الأفريقية لا يمكن النظر إليها على أنها معوقه للتحول الديمقراطي حيث أن إحداث تلك التغييرات الهيكلية ربما يساعد تلك الدول على التخفيف من مشكلات الإثنية بها وتحدد بالإشارة إلى أن التغييرات الهيكلية قد تختلف من دولة إلى أخرى وهى تتحرك من مجرد المركزية الإدارية إلى ترتيبات فيدرالية كاملة ولعل الاستجابة لمثل تلك الضغوط يمكن أن تسهم إسهاما فعالا في تثبيت الديمقراطية وتعزيزها أكثر من أن تكون أداة للاتصال.
ثالثاً. التحول الموجه ( التحول من أعلى ):
تتميز عملية التحول في ظل هذا النموذج بالتعقيد والتطويل ( مثال ذلك مصر، ونيجيريا, وغانا، وإثيوبيا... ) وتتم عملية التحول بقيام النظم القائمة بالبدء في الإصلاحات استجابة لأزمات قائمة أو محتملة وذلك بغرض التحكم في مدى ومضمون عملية التحول.
رابعاً. النضال المسلح:
حيث تبدأ عملية التحول بنضال مسلح ينتهي بإجراء انتخابات ديمقراطية )، مثال ذلك جنوب أفريقيا – إثيوبيا - موزمبيق )

خاتمة:
من خلال تناول موضوع التحول الديمقراطي في أفريقيا يمكن الإشارة إلى أن هذا التحول وإن كان يمثل هدفا شعبيا يمكن أن يتحقق من خلال التجربة والممارسة، وعلى الرغم من أن معدلات التحول تلك تشهد تزايدا مطردا فما هو جدير بالملاحظة أن تلك الزيادة تقترن بظاهرتين:
الأولى. أن عددا من قيادات الحزب الواحد والنظم التسلطية فى الدول الإفريقية قد قبلوا الديمقراطية بعد فترة امتناع وتباطؤ .
الثانية. أن القبول ليس معناه التسليم المطلق بالإجراءات والنتائج ، فالنخب الحاكمة تقبل بالشكل وتقوم أحيانا بالتلاعب والتزوير فيما يتعلق بترتيب وتنظيم الإجراءات الإدارية والتنظيمية للعملية الانتخابية ، بينما النخب المعارضة تطعن في النتائج بالأسلوب القانوني وأساليب الاجتماع والحشد الشعبي والإعلامي .
ويلاحظ أنه على الرغم من الدعاية الواسعة والمتواصلة من جانب الدول الغربية لأنموذج الديمقراطية غير المباشرة، وعلى الرغم سياسات الترغيب والترهيب التي تمارسها في إطار التعامل مع الدول الأفريقية لحملها على تبني ذلك الأنموذج، إلا أن الواقع يشير إلى أن التجارب التي تبنتها الدول الأفريقية العديدة لم تفضي نتائج مرضية ملموسة، وذلك لعدم تلاؤم الغايات والآليات والممارسات مع طبيعة تلك الدول، وبالتالي فهي في حاجة إعادة النظر في عملية الإصلاح السياسي بما فيها التحولات الديمقراطية، وبما يتفق مع ما يتناسب مع بيئاتها وشعوبها، ومع ما يتناسب مع تفضيلاتها وأولوياتها، وبمنأى عن عمليات الترويج والترغيب والترهيب التي تتبناها الدول الليبرالية الغربية في هذا الشأن.
إن تجربة الجماهيرية الليبية في مجال تطبيق الديموقراطية المباشرة هي تجربة رائدة يمكن الاستفادة منها على مستويات متنوعة وسواء كان ذلك على مستوى ايجابياتها ومكامن القوة فيها، أو حتى على مستوى سلبياتها ومواضع الضعف فيها، ومن منطلق أن الديمقراطية المباشرة هي الأجدر بالاهتمام وطنياً باستمرارية التأييد والتشجيع، وتقديم الرعاية والاهتمام والدعم لها، في ظل الحرص على تعظيم ايجابياتها من خلال التعرف والمتابعة لمكامن قوتها، والحد من سلبياتها من خلال المراجعة والتقييم الموضوعي لنقاط الضعف فيها، ومن منطلق أن التجربة الديمقراطية ليست معصومة من الخطأ وإنما شأنها في ذلك شأن أي تجربة جادة ربما لا تتضح ثغراتها أونقاط الضعف فيها سوى مع التطبيق العملي وعند وضعها موضع التنفيذ الفعلي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها