الرّبا وبدائله في الإسلام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة :

الحمد لله ربّ العالمين, والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين محمّد بن عبد الله, وعلى آله وصحبه أجمعين, أمّا بعد:

موضوع الرّبا من المواضيع المهمّة في حياتنا, والتعامل بالرّبا أصبح السّمة العامّة والمميزة للاقتصاد في عصرنا, وذلك بحجّة أنّ التّقدّم الاقتصادي لا يتحقق إلّا بهذا التّعامل.

وبلادنا الإسلاميّة كغيرها من الأمم سارت على هذا الطّريق, وأصبح التّعامل بالرّبا أمراً واقعاً فيها, وذلك بسبب كونها أمّة متّبِعَة ضعيفة, فتعاملت بالرّبا بالرّغم من تحريم الواضح في الإسلام.

وقد حاولت في هذا البحث أن أبيّن أنّ الرّبا لا يساهم في تقدّم الاقتصاد, بل هو على العكس من ذلك سبب أساسيّ في الأزمات الاقتصادية, وسبب رئيس أيضاً في تقسيم المجتمع إلى أغنياء وفقراء, وهو لا يخدم إلّا فئة قليلة لا يهمّها سوى الربح وجمع المال, وحتّى هذه الفئة تكون فائدتها مؤقّتة لأن خلل الاقتصاد الّذي يسبّبه الرّبا سوف يصيبها لا محالة.

وجدت في أثناء بحثي في هذا الموضوع كتابات كثيرة ومؤلّفات عديدة لكثير من الكتّاب معاصرين وسابقين, وما ذلك إلّا لأهميّة الموضوع, وتماسّه المباشر مع حياتنا وديننا. فلم تكن هناك صعوبة في تجميع مواد البحث, فالمكتبة الإسلاميّة تزخر بمؤلّفات كثيرة في هذا الموضوع.

ومعظم هذه المؤلّفات كانت لكتّاب حديثين, فالكتّاب السّابقون أو القدامى كتبوا في الرّبا وتعريفه وبيّنوا أنواعه وعرضوا لصوره, ولكنّهم لم يكتبوا في موضوع التّعامل مع الرّبا بالنّسبة للعالم لأنّ هذه المشكلة قامت في وقت حديث نسبيّاً.

وقد حاول الكتّاب الحديثون الرّد على المزاعم الّتي تدعو المسلمين إلى التّعامل بالرّبا حتّى لا يتخلّف المسلمون عن ركب الحضارة ـ كما يدّعي بعض المتحمسين لكلّ غربيّ ـ وحتّى يسير المسلمون باقتصادهم على الطّريق الّتي أوصلت الغرب إلى ما هم فيه من قوّة وازدهار اقتصاديّ.

وقد جعلت بحثي هذا من تمهيد وفصلين: تناولت في التّمهيد أهميّة الإقتصاد في حياة الأمم, ولماذا أصبح العالم يعتمد في تعاملاته على الرّبا, ثمّ انتقلت إلى الفصل الأوّل وجعلته في ثلاثة مباحث: الأوّل: عرّفت فيه الرّبا لغة وشرعاّ واصطلاحاً عند الإقتصاديين, وبيّنت كيف برروا الفائدة.

وفي المبحث الثّاني: تحدّثت عن حكم الرّبا في الإسلام وفي الدّيانات السّماويّة السّابقة. أمّا المبحث الثّالث: فقد كان عن مخاطر الرّبا, وأسباب تحريمها, ونظرة الإقتصاديين والمذاهب الإقتصاديّة للرّبا, وبيّنت كيف ردّ الإسلام على التّبريرات الّتي وُضعت لاستخدام الرّبا.

ثمّ انتقلت إلى الفصل الثّاني وجعلته في ثلاثة مباحث: الأوّل يتحدّث عن سياسة الإقتصاد الإسلامي, وأهمّ النّقاط الّتي يرتكز عليها. ثمّ جعلت المبحث الثّاني عن الزّكاة كأحد أهمّ دعائم الإقتصاد الإسلامي, فعرّفتها, وبيّنت حكمتها وتحدّثت عن روح الزّكاة ومقصدها.

أمّا المبحث الثّالث والأخير فكان عن فائدة الزّكاة ومردودها الإقتصاديّ, مع موازنة بين الزّكاة والرّبا.

وحاولت الإجابة عن السّؤال: هل يُلزم المسلمون بالتّعامل بالرّبا بحجة اعتماد الإقتصاد العالميّ عليه؟

وفي الختام تحدّثت عن أهمّ النّتائج الّتي خرجت بها من بحثي.

ومن أهمّ مراجع بحثي كتاب " اقتصادنا " لمحمّد باقر الصّدر, وكتاب " المعاملات المصرفيّة والرّبويّة وعلاجها في الإسلام " للدّكتور نور الدّين عتر, وكتاب " السّياسة الماليّة في الإسلام " لعبد الكريم الخطيب, وكتاب " بحوث في نظام الإسلام " لمصطفى البغا, وغيرها كثير من الكتب والدّوريّات.

أسأل الله التّوفيق والهداية للصّواب "وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"(هود: من الآية88)

رغداء زيدان

الرّحيبة / 20 / 11 / 1420 هـ

24 / 2 / 2000م


تمهيد

1 ـ أهميّة الاقتصاد في حياة الأمم :

الاقتصاد في العلم الحديث هو: " تدبير شؤون المال بإيجاده وتكثير موارده" ([1]). أو هو الدّراسة العلميّة للظواهر المتعلّقة بالنشاط الاقتصادي ([2]).

ولا يخفى علينا أنّ تقدّم الأمم ورقيّها يتعلّق بشكل كبير بالنّاحية الاقتصادية, فتلبية حاجات النّاس, وتمويل المشاريع الاختراعات, والأبحاث الّتي تساهم في بناء الحضارة, كلّها تحتاج إلى موارد مالية لتغطية نفقات هذه الأمور.

واليوم تكون الدّولة قويّة بمقدار ما تملك من موارد وقوى اقتصاديّة كبيرة, لذلك أصبح الاهتمام بالمال كبيراً, وأصبحت المعادلة اليوم: قوّة اقتصاديّة سيطرة تامّة + حضارة قائمة.

واهتمّ الإسلام بهذه النّاحية كاهتمامه بكلّ نواحي الحياة, " فاهتمّ بالمال ايجاداً وتنمية واستثماراً وبقاء, من النّاحيتين الإيجابيّة والسّلبيّة, فاعتبر المال أمانة ثقيلة بيد صاحبه, وألزمه بحفظه, وتثميره, وألزمه السّعي من أجل تحصيله" ([3]). وما هذا إلّا اعترافاً من الإسلام بأهميّة الاقتصاد, ودفعاً للمسلمين ليهتمّوا ذلك الاهتمام الّذي يضع المسلمين في مكانهم المناسب على السّاحة الدّوليّة, فتكون لهم قوّتهم, واستقلالهم, فلا يخضعون لقوانين الغرب الّذي أدخل إليهم كثيراً من المعاملات الّتي حرّمها الإسلام وقبلها المسلمون في هذا العصر ـ للأسف ـ بسبب ضعفهم وتخلّفهم.

2 ـ الإقتصاد العالمي الجديد وقيامه على الرّبا, كيف ؟ ولماذا؟ :

إنّ سعي البشر لتحصيل المال جعل الإنسان يحاول بكلّ السّبل ـ المشروعة وغير المشروعة ـ تكثير ماله وتجميعه, فالقوّة بيد الغني, والسّيطرة بيد صاحب المال, وحبّ المال غريزة في نفس الإنسان, لذلك فقد صار هذا الإنسان يتحايل حيناً, ويبرر أحياناً أخرى لإزالة أيّ عائق يقف في طريق جمعه الثّروة.

وكان الرّبا من أيسر السّبل وأضمنها لجمع المال وتكثيره, ولكنّ تحريم الرّبا في كلّ الشّرائع السّماوية وقف عائقاً أمام اعتماد الرّبا كوسيلة من وسائل جمع المال.

فقد " ظلّت البلاد الّتي تدين بالمسيحيّة تذعن لأحكامها في تحريم الفائدة حتّى نهاية القرن الثّالث عشر تقريباً, ثمّ أخذت تحت ضغط الحياة الاقتصادية, بسبب ظهور طبقة التّجار من جهة, وتقليص نفوذ الكنسية من جهة أخرى تفسح المجال لزحف الفائدة على ميادين المعاملات الماليّة شيئاً فشيئاً" ([4]).

فالمصلحة ـ ومصلحة التّجار خاصّة ـ كانت السّبب الرئيس في تحليل الرّبا. يقول جو آلنر : " لقد أصبح رجال الأعمال عندنا تائهين في مطاردة المال, الّذي يجب أن يكون وسيلة إلى الحياة الطّيبة, لا غاية في ذاتها, حتّى نسوا الغاية, وأمعنوا في التّعلّق بالوسيلة" ([5]).

والنّهضة الصّناعيّة الّتي قامت في أوروبّا, وحاجة المشاريع إلى المال اللازم للتّمويل, وغياب التّعاون والتّراحم في المجتمع الغربيّ, وتقديم مصلحة الفرد وتقديسها, كلّ ذلك أدّى إلى أن يصبح التّعامل بالرّبا ضرورة في تلك المجتمعات, حتّى صار النّظام " الفرديّ في العالم الغربيّ, يئنّ اليوم أمام مطامع الأفراد المتمثّلة في الاحتكارات العالميّة, والتّكتلات الماليّة الّتي تقوم على حساب الفرد المستهلك, بالإضافة إلى أنّ البيوت الماليّة تتحكّم في سياسة العالم الغربيّ, فتسخّرها لخدمة مصالح الرأسماليّة في تلك البلاد" ([6]).

وهكذا, شيئاً فشيئاً, أخذت الأصوات تعلو لتحليل الرّبا, حتّى أصبح التّعامل بها أمراً شائعاً وعامّاً, فظهرت المصارف لأوّل مرّة, وكان ذلك على يد اليهود المشهورين بحبّهم للمال, فأُنشئ مصرف البندقيّة عام 1157م, ثمّ أنشئ بنك الودائع في برشلونة عام 1401م ([7]).

ومع التّقدّم الصّناعيّ والثّورة العلميّة الّتي عمّت أوروبّا في القرن التّاسع عشر, اتّسع نظام المشاريع الصّناعيّة, ونشطت حركة التّبادل الماليّ, فتطوّرت المصارف, وظهرت تلك القوى الماليّة الكبرى, وتمركز المال في أيدي المصرفيين, وكان جلّهم من اليهود الّذين تحكّموا بالعالم عن طريق نفوذهم الماليّ والمصرفي.

وانتقلت عدوى المصارف إلى البلاد الإسلاميّة والعربيّة على يد المستعمر الّذي تعامل مع بلادنا كتعامله في العلم الغربيّ, وصدّر إلينا أنانيته وفرديّته, ـ وللأسف ـ تلقّفناها تلقّف الضعيف لفتات القوي, فأنشئ أوّل مصرف في مصر عام 1898م, وهو البنك الأهلي المصري ([8]).

إنّ نشاط الصّناعة, وحاجة المشاريع إلى المال, والنّظرة الغربيّة الماديّة الّتي تبيح للإنسان القيام بأي نشاط حتّى ولو كان خاليّاً من الخلق والدّين يمكّنه من الحصول على المال, وزوال روح التّعاون والتّراحم بين أفراد هذا المجتمع الغربيّ, كلّ هذا شكّل ضغطاً على الكنيسة, فظهرت القوانين الوضعيّة الّتي تبيح الرّبا, وظهرت التّفسيرات والتّبريرات لهذه الفائدة, وأصبح العالم يتغنّى بأنّ التّقدّم الاقتصادي لا يقوم إلّا بإباحة الرّبا. وبما أنّ الضّعيف يتبع دائماً القوي, أخذت الأصوات ترتفع في بلادنا الإسلاميّة الضعيفة, تنادي بإباحة الرّبا, حتّى نلحق ـ بزعمهم ـ بركب الحضارة, وحتّى لا نتخلّف عن النّشاط الاقتصادي العالميّ.



1 ـ أحمد محمّد جمال, محاضرات في الثّقافة الإسلاميّة, دار الكتاب العربي, بيروت, ط6, 1983م, 301 .

2 ـ عبد الرّحيم بوادقجي, مبادئ في علم الإقتصاد والمذاهب الإقتصاديّة, مطبعة الدّاودي, دمشق, 1408/1988, المقدّمة.

3 ـ وهبة الزّحيلي, مفهوم المال والإقتصاد في الإسلام, مجلة نهج الإسلام, العدد 49 ( السّنة 13, 1413/ 1992), 24 .

4 ـ د. محمّد عبد المنعم الجمّال, موسوعة الاقتصاد الإسلامي, دار الكتب الإسلاميّة ودار الكتاب المصري, القاهرة, دار الكتاب اللبناني, بيروت, ط2, 1406/1986, 389.

5 ـ أحمد محمّد جمال, محاضرات في الثّقافة الإسلاميّة, 310.

6 ـ المصدر نفسه, نفس الصّفحة.

7 ـ عبد الله عبد الرّحيم العبّادي, موقف الشّريعة من المصارف الإسلاميّة المعاصرة, منشورات المكتبة العصريّة, صيدا بيروت, 1401/1981, 23.

8 ـ المصدر نفسه, 24.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)