لقد جاء كتاب المفكر العراقي حسام الدين الآلوسي " بواكير الفلسفة قبل طاليس أو من الميثولوجيا إلى الفلسفة عند اليونان " محاول في إرساء آلية نقد في كيفية تعرية آليات التمركز الثقافي بأطيافه الحداثوية التي رغم ما تدعيه من علمية إلا إنها لا تخلو من إفراط في التأويل الذي يخفي أطر أيديولوجية ظاهرة أو حقبة في قراءة الماضي بوصفه الرأسمال الرمزي الذي يسبغ على الحاضر المشروعية وآليات الس يطرة ، بمعنى إن القراءات العلموية أو الاستشراقية كانت ليست بريئة من موجة عرفي يحاول تبرير التفوق الغربي وخلق سردية تاريخية وأعادت بناء الماضي من أجل اضفاء الشرعية على الحاضر الذي يشهد تفوق الغرب ، ومن هنا يمكن القول إن الفكر وليد السياسة ، والسياسة هي القوة المحرفة للفكر والتاريخ والدين فهي المنتجة للتأويلات والانحرافات في سعيها لحيازة المشروعية بعد أن حازت القوة .
لهذا نرى الكثير من التأويلات الحديثة أو المعامدة اليوم مثل : نهاية التاريخ أو صراع الحضارات هي في جملتها حديثها ومعامدة لا تخلو من تقديم شرعية لخطاب القوة والهيمنة الغربي وإضفاء الطابع العقلي عليه حتى لو أدى هذا إلى صناعة مخيال دعائي ارتدادي غارق بالأطياف والأفكار الأحادية والثنائيات الضدية والهويات والتماهيات فهي بقدر ما نشر عن سياسة ما سواء كانت خطاب كونيالي أو حرب الإرهاب فهي في كل الأحوال تصنع المحن الذاتية وتؤول إلى الإقصاء المتبادل وتدمر علاقات الحوار والتكامل الإنساني .
نحن بحاجة إلى تعرية تلك القراءات وآفاقها الارتدادية باعتمادنا آليات نقد وشبكات فهم تغذي إنسانيتنا ووجودنا وتعمق آليات الحوار والاتصال وهذا لا يتحقق إلا عبر إعادة النظر بمرجعيات المعنى وشبكات الفهم وأطيافها المهيمنة على العلاقة بين الذات والآخر .
نحن ندرك تواري المنطق الصوري الذي يعتقد العقل هو مرآة العالم وحلول منطق القراءة التي تساعد على التبادل والتعاون والتحوير والفهم المشترك تأويلاً وتفكيكاً من أجل حوار ثقافي ومشاركة بعيداً عن الإقصاء المتبادل .
ضمن هذا جاءت هذه القراءة في فكر الآلوسي رائد العقلانية في العراق بإطارها الحواري .
أولاً : تأسيس الرؤية : حيث عمل الآلوسي على إرساء آليات تفكر ذات مرجعيات متعددة تقوم على أفق جدلي تداولي تطوري يقوم على إرساء آليات العقل وهي الآتية :
النقطة الأولى : دور العمل في بناء نظرية المعرفة
وهنا يؤكد مخرجات هذه النقطة بالنقاط المتفرعة عنها :
1- دور العمل في جعل الإنسان ما هو عليه : ويفسر القفزة الواسعة بينه وبين أعلى مراتب الحيوانات المجهزة بجهاز عصبي مركزي يشترك مع الإنسان في الإحساس ونظام الإشارة الأولى وإذا كان يملك الطرائق الرئيسية للفكر والحدس والاستنتاج والتجريد والتحليل والتركيب " فكسر جوزة هو بداية التحليل / وحيل الحيوانات هي تركيب / وكذلك يملك التجربة التي تربط التحليل والتركيب ، فإن الإنسان يختلف كيفياً عن الح يوان .
فهذا الفرق الكيفي يظهر / لقد أصبح من المؤكد الآن إن الفارق الفيزيولوجي الموجود حالياً بين دماغ القرود والإنسان هو بالدرجة الأولى نتيجة للعمل والنطق وللمجتمع / وكما يقول " بافلوف " : ( لقد صنع العَمْلُ الإنسان ) .
حول الوسط الطبيعي إلى وسط اجتماعي / والخطوة الحاسمة عندما أمكنه أو أمكن سلفه أن يتخلص من عادة استخدام يديه للمشي وأمكنه بذلك استخدام يديه لأغراض أخرى وهكذا فإن اليد ليست عضو للعمل بل هي نفسها نتيجة له . لأن كل تغير هو نتيجة للعمل / الذي مهد لظهور النطق والفكر وبتطور العمل وزيادة سيطرة الإنسان على البيئة وأصبح التعاون ضرورياً وأدى هذا إلى ظهور اللغة للتفاهم . ويوصفها رموز للأشياء وليس مجرد تقليد تطور دماغ الإنسان البدائي وتطورت حواسه وفقاً لحاجاته وممارساته العملية بمعنى إن الإنسان كائناً بيولوجياً وكائناً اجتماعياً فهو يعمل ويؤثر ويتأثر بها من خلال استجابته لتحدياتها من خلال تغيره وتغير أعضاء حواسه . ودماغه فأوجد اللغة وتمكن من التجريد ومكنه الإنسان من المحاكمة العقلية كل هذا رد فعل للعمل ، فالإنسان لا يغدو إنساناً إلا بقدر ما يخلق لنفسه بفاعليته العملية ، وبشغله وسطاً اصطناعياً أي مجتم عاً .
2- دور العمل والممارسة العملية في بناء المعرفة والعلوم وكمعيار للحقيقة والمعرفة : يجملها الآلوسي في الصفات الأساسية مما تقدم بما يلي :
- المعرفة هي انعكاس ذاتي للواقع الموضوعي .
- المعرفة هي تسلسل تاريخي متنام بلا انقطاع . ص79 .
- المعرفة مكيفة بالممارسة العملية ، وبعمل الإنسان .
- المعرفة هي ثمرة فاعلية الإنتاج العملية .
- المعرفة ولدت وتنمو مع النطق .
وهنا يحدد إن الإحساسات لا يمكن بدونها أن تعرف أي شكل من أشكال المادة والحركة .
لأنه يعرف الإدراك بوصفه : هو انعكاس الموضوع الخارجي بكليته المباشرة والملموسة والحسية .
وبهذا هو يرفض أن يرد (الموضوع) إلى مجموع بسيط من الخصائص كما يرى "الميكانيكيون" ، وكما يرفض مذهب التداعي إذ ليس (الإدراك) مجموعاً بسيطاً لإحساسات بسيطة "مجموعة من الصور" .
وإذا كان (المفهوم) يأخذ مصدره من الإحساس ، "فإن الانتقال من الإحساس إلى المفهوم يتضمن توسط العمل والممارسة العملية الاجتماعية والنطق ، ص67 .
وبهذا يصل إلى إقرار : إن جميع المفاهيم في جميع مجالات المعرفة تشكلت بنفس الطريقة . إلا إنه لا يفوته التأكيد : إن هذه النظرة تعارض الصفة وحيدة الطرف للمذهبين العقلاني عند لينز والتجريبي عند كوندياك الذي يعتبر المفهـوم ركاماً من الإحساسـات فقـط ، ص69 .
ويعود إلى تأكيد العلاقة بين الفكر والإحساس فيقول : إن الفكر إذ ينبع من الأساس قادر على أن يتجاوز حدوده ، وذلك لسببين :
الأول : لأن تسلسل انعكاس العالم الخارجي في فكر الإنسان قد تم تحليله انطلاقاً من ممارسة الإنسان العملية التاريخية والاجتماعية .
والثاني : لأن النطق قد اعتبر "الواقع المباشر للفكر" بواسطة العمل ، والممارسة العملية
الاجتماعية أمكن الإنسان أن يميز أوجهاً جديدة للأشياء وأن يكشف ملامحها وعلاقاتها وأن يشكل المفاهيم وبواسطة النطق صارت تجارب الإنسان كلها ثروة للمجتمع ، ص70 – 71 .
وهنا يصل إلى نتيجة هي محاولة في ربط التأثر بين الشرق واليونان نلمسها في هذه المحاولة التحليلية التطورية التي توظف المنهج الوظيفي ونظرية التطور الماركسية يصل إلى نتيجة : إن المعرفة تسلسل تاريخي وتنمو من النسبي إلى المطلق على أساس إن الصلة بين الذات العارفة والموضوع تكون ليس صلة ميتافيزيقية ثابتة وكاملة ، بل صلة تاريخية المتنامية والتطور ، ص72 – 73 .
النقطة الثالثة : صدى علمية الفكر اليوناني قبل سقراط
و هنا يخلص بعد عرضه ومن ثم توظيفه التصورات الحديثة الماركسية وفلسفة اللغة في أربعة مراحل نجدها تتصف بما يلي :
أ- المرحلة السفلى وتساوي المرحلة الأولى أعلاه :
يمكن الوصول إلى معرفتها من تحليل أفكار المجتمعات البدائية المعاصرة . والغالب على التفكير هنا أنه في بدايته ، والتمييز بين الأشياء بدائي ، والمقارنات بين الأشياء لا شعورية مع تداخل في تصوراته لها ، وتوحد عوامل نفسية تشجع الإنسان ليكوّن عقائده الخاصة تحت ضغط الحاجة إلى تبرير الأعمال التي إليها الشعور . تظهر الميزات في السحر والمذهب الحيوي والميثولوجيا .
ب- مرحلة الحس المشترك The Common – Sence :
التفكير ما زال هنا غير منظم ، وقواعد الاستنتاج الصحيح لم تتم بعد ، ولكن عملياً استفاد الإنسان هنا من نوع من التحليل ولمقارن ، وظهر فصل بين الاعتقاد والرغبة ، وجرى الربط بين العمل والخبرات ، دون ارتفاع إلى مستوى التأمل العقلي – غير العملي .
ج- مرحلة التصورات Conceptul :
وهي أول مرحلة لإعادة تنظيم وتكوين عالم الخبرة ، وتشتمل هذه : تفكير الشرق (الصين والهند) في القرن الثامن ق. م. وكذلك الإغريق في القرن السادس ق. م. ومع عظم ما قدمته هذه المرحلة فإن عالم الفكر أصبح منفصلاً عن عالم الخبرة وأصبحت الأفكار تكوّن لها عالمها الخاص وأصبح التفكير يقوم على أمسية تعتمد على مبادئ تعتبر مستقلة بنفسها عما تقدمه الخبرة .
د- مرحلة إعادة تكوين الخبرة على أساس تجربي Experential Reconstruction :
وميزة هذه المرحلة العلمية بعد القرن السادس عشر هي محاولة إرجاع الأفكار إلى التجارب العلمية ، ويحكم على هذه الأفكار من خلال التجربة .
وهذه المراحل الأربع في تطور العقل تقابلها مراحل أربع في تطور كل من الدين والأخلاق .
وبعد هذا الحفر في تكون الوعي يظهر واضحاً التوظيف الذي يقدمه حسام الدين الآلوسي في نقد التمركز الغربي الذي ينطلق من أحكام قيمة فيها مصادره على المطلوب وهذا ما كثفه الآلوسي في نقاط بمثابة استمرار لذلك الإطار الفكري إذ يقول :
إن أسس التفكير وضعت قبل اليونان . مثل تسمية الأشياء ، تمييز بعضها عن بعض ، معرفة خصائصها واستخداماتها ، إدراك العلاقات فيما بينها ، كذلك زوال الإنسان عملياً المقولات المنطقية ، ووصلت في أطوار متأخرة إلى ما يدل على إدراكه لها إدراكاً تاماً يتضح ذلك في أحكامه الخلقية ، وقوانينه وهندسته ، وزراعته ، وفنونه وحرفه ، وعلومه الطبيعية كالكيم ياء .
ولم يبق لليونان سوى وضع هذه القواعد المنطقية وضعاً رسمياً بشكل قوانين منطقية أو رياضية . ص120 .
ثم إنه في موضع آخر يؤكد هذه النقطة بقوله : وإذا عدنا إلى الفلسفة اليونانية في عز نضوجها كما تتمثل عند سقراط ، وأفلاطون ، وأرسطو ، فلسفة ما ورائية غارقة في البعد عن العلم وعن الواقع ..
ثم إنه يرد على قول "برنيت" بالقول : هو يحصد "الفلسفة" عند اليونان ، هذه الهبة الخاصة بهم ، بمحاولة تفسير الظواهر تفسيراً علمياً وضعياً بحتاً بعيداً كله عن أي أثر للتفسير الميثولوجي ، وباختصار فهي تساوي عنده بدء مرحلة "الحادية" تامة ، بدا الفيلسوف الطبيعي اليوناني فيها مقطوع الصلة بالزمان والمكان المليء بالخرافة والآلهة والتفسير الأسطوري . ص120 .
وهنا يظهر من هذا الكلام الذي عرضه الآلوسي والذي ينطلق من تمركز الهوية الأوروبية بوصفه تمثل خطاب عقلاني يمتد إلى اليونان لهذا يحاول إخراج اليونان من كل بعد أسطوري ويحاول أن يجعل هذه الخصوصية الثقافية وبعدها البيولوجي الذي يعكس أفقاً عرقياً يصنع التهويمات التي تؤول إلى الإقصاء المتبادل وبالتالي تدمير تلك العلاقة بين الغرب والشرق فهي تقوم على أفكار أحادية وثنائيات ضدية غذتها تل ك الحقبة الاستعمارية الغربية التي فرضت ثقافتها على الآخرين عبر القوة والقصر رغم ما فيها من جده وأصالة إلا إنها تحولت إلى ذريعة للاقضاع وإقصاء واحتلال الآخر باعتماد ذرائع التفوق العرفي والثقافي والعقلي ولعل الحديث عن اليونان بوصفها صاحبة معجزة يدخل ضمن هذا الخطاب .
ويدرك الآلوسي هذا الخطاب والتأويل الذي يعيد قراءة القديم بشكل قصدي يروم التوظيف فيقول : ونحن نؤكد أن هذا كله من صنع خيال العقلانية للقرن التاسع عشر فلم يكن أياً من هؤلاء الفلاسفة الطبيعيين خارجاً عن حدود زمانه ومكانه ، كانوا لاهوتيين في نظرتهم العامة وعقائدهم ، وكانوا في نفس الوقت يحاولون تفسير الظواهر الطبيعية بإرجاعها – حسب الملاحظة – إلى أسباب طبيعية .
ثم إن الباحث يحاول أن يوظف النظرية التطورية التي تقوم على تصور تطور الفكر البشري ولعل المراحل السابقة خير شاهد على رؤية الباحث والتي تمظهرت في منهجه لهذا نراه هنا يحاول أن يتلمس تلك العلاقة بين الفكر السابق والفكر اليوناني حيث التواصل الذي يخالف كلام "برنيت" الذي يقول بالقطيعة . والآلوسي يرد في تأكيد الموضوعات التي اهتم بها الفلاسفة اليونان وهي :
أ- الثنائية بين النفس ، فكرة أن النفوس تع بر حدود الزمان والمكان وإنها بسيطة ، وإنها خالدة ولا مادية . فكرة وجودها قبل الجسم ، خطيئتها وسقوطها ، تلبسها بالجسم ، التطهير أو خلاصها بعد الموت وطرقه . هذه الثنائية خلاصة لتطور حصل متدرجاً متناسباً منذ أن بدأ الإنسان البدائي السحر والمذهب الحيوي حتى وصل من خلال محاولات تكميل صورته عن النفس ، بطرح نواقصه عنها ، إلى إعطائها كل الصفات التي تتجاوز حدود الإمكانيات الطبيعية والجسدية . ص121 – 122 .
ب- ما يتصل بالعلاقة بين العالم والقوى الماورائية : اهتم الإنسان البدائي وما زال بأصل كونه ، وأصله هو . وخلق لنا أساطير وروايات عن أصل الخليقة كثيرة لا تخلو منها أمة قديمة . نص يؤيد كلامه مفاده (( إن الإنسان في أول الأمر كان يتصور الآلهة تظهر من مادة أولى مثل الماء ، ثم لم يلبث بعد ذلك أن تصور الآلهة والمادة أزليين وعلى كفتي الميزان ، فلم يعد الإله مصنوعاً من مادة بل وأصبح صانعاً للكون من هذه المادة ، ثم لم يلبث الإنسان في فترة متأخرة أن صار يرى الله هو الأزلي الوحيد والذي خلق المادة وكل شيء بكلمته وقوته المافوق الطبيعة )) . ص123 ، وهذا النص يشير إلى الكلمة الخالقة بدلالتها في قصة الخليقة البابلية وفيما بعد التوراة . . .
وهنا يصل الآلوسي إلى ربط تلك المقدمة بالنتيجة الاتية :
عند اليونان ، سقراط مثلاً وأفلاطون ، وأرسطو ، محاولة تثبيت فكرة للإله اللامادي بعيدة عن التناقضات والمشاكل من مثل : كيف يجيء المادة من اللامادة ؟ كيف يؤثر اللامادي في المادي ؟ . . . ص123 .
ج- ويتصل بهذين فكرة الفلاسفة عن التاريخ والتقدم أو التأخر ، والتشاؤم أو التفاؤل ، وعن الخطيئة ، خطيئة النفس ومحاولتها الخلاص من الجسد وفكرة وجود عوالم سابقة روحية ولاحقة وبعد الموت ، وفكرة تحقق العدالة في عالم آخر . كان لهذه أكبر الأثر في اليونان. ص123 .
ثانياً : نقد التمركز :
يظهر لنا هنا كيف قان الباحث على تحديد التصورات الحديثة القائمة على تفوق لعنصر اليوناني وبالتالي الغربي ، معتمداً بهذا على المقارنات وتوظيف المقولات الحديثة في هذا المجال عبر اعتماد التحليل و المقاربات الفكرية . ولعل هذا يظهر في النقطة الرابعة : "ازدواجية الفكر اليوناني" .
وهنا نلمس إن حسام الآلوسي يناقش تلك النزعة التي وضعها بوصفه (هوس العقلانية التي سادت القرن التاسع عشر) ص137 .
وهذه الحقبة كما هو واضح تمثل نمط فكري وأيديولوجي ساد في الدراسات الغربية تقوم على تمركز ع رفي غربي يقوم على اتخاذ القتل وسيلة للتبرير وبالتالي هي بمثابة التاوي وراء تلك القرارات التي أرادات إسقاط تصوراتها المعاصرة على القديم مما جعلها تدخل في اختلافات فيها الكثير من النقد الذي كان الآلوسي فيه يعتمد العرض ثم التحليل ثم النقد وحاولنا هنا أن نأخذ هذه المواقف الثلاثة مجتمعة عبر كثافة النقاط التي يقدمها عن كل باحث وكانت "برنيت" أولهم حيث كان النقد ضد في الآتي :
1- ادعاء برنيت بعزلة أيونا غير صحيح ، كما أوضح المؤرخون في الإجابة عن : لماذا نشأت الفلسفة في ملطية . إذ بينوا أن واحداً من الأسباب الرئيسية التجارة والمستعمرات.
2- محاولة تفسيره (أي برنيت) إطلاق الفلاسفة الأيونيين والطبيعيين التعابير والصفات الإلهية مثل "الله" و "بلا زمان" و "لا يموت" و "مبدأ أول" و "واحد" بأنها كلمات ذات مدلولات غير دينية عند الأيونيين ، بل صفة للطبيعة وظواهرها المحسوسة ، أو محاولة لإيجاد عنصر طبيعي لهذه الصفات دون أي شعور منهم بمحتواها الديني .
وهنا يقول الآلوسي : أقول هذه المحاولة من برنيت أمر تخالفه فيه نصوص هؤلاء المفكرين المتبقية من جهة ، والتطور أو المرحلة الفكرية التي كانوا فيها كما يخالفه فيها باحثون لم يقعوا في هوس العقلانية التي سادت في القرن التاسع عشر .
3- ونفس الشيء يقال عن إضفاء الفلاسفة الأيونيين صفة العدالة على القوى الطبيعية أو العناصر الطبيعية عموماً ، فهو ليس مجرد إضفاء لأوصاف اجتماعية بشرية عليها بثبات السلوك كما يرى برنيت ، بل هو نوع من (الحيوية) و(الشخصانية) بمعنى تصورهم الأشياء حية أو أماكن لقوى حية تفعل فيها . ص137 .
وهذا واضح من تلك الحقب التي مر بها الوعي البشري التي عرضها سابقاً والتي يؤكدها في مكان آخر من خلال حديثاً عن النفس وتصورات اليونانيين عنها في معرض تعليقه على قول برنيت إن سقراط هو من بدأ العودة إلى الفصل بين الطبيعة وبين القوى غير الطبيعية وهنا يطلق حسام الآلوسي لكن هذا لا يعني إن الفكر الفلسفي الأيوني كان قبل هؤلاء طبيعياً أرضياً بحتاً . ثم يقول إن هؤلاء الطبيعيين كانت عقائدهم بسيطة تتجاوب مع المعتقدات الحيوية والشعبية في زمانهم ومكانهم . ص138 – 139 .
ثم يخلص الآلوسي إلى تأكيد خلاصة في برنيت : إنه يحصر نفسه وقراءه في دائرة ضيقة يحدد بها معنى الفلسفة وهذه الدائرة تشترط أولاً : أن كلمة فلسفة طبيعية يونانية مساو ٍ لكلمة علم طبيعي بل وكلمة (إلحاد) وخصوصاً بالنسبة للفلاسفة قبل س قراط . وبالتالي لا يرى أثراً لوحدة الوجود أو للصوفية الهندية ، والعقائد المصريين في التوحيد وخلود النفس . . .
وثانياً : إن الفلسفة اليونانية التي يظهر فيها "لاهوت" فلسفي كما عند سقراط وأفلاطون وأرسطو ، بل وحتى عند الفيثاغورية ، لا صلة للاهوتها هذا بالدين ، فرغم اشتراكه مع الأديان والميثولوجيا في الموضوع مثل خلود النفس ، الله ألخ ، فإن هؤلاء الفلاسفة وصلوا إلى عقائدهم هذه عن طريق العقل ، وتلك الأديان عن غير هذا الطريق ، فهذه ليست فلسفة ولا عقلانية وتلك فلسفة ، بل وعلم ! . ص142 .
ويشير الآلوسي بعد تلك الجمل التي يتعجب من برنيت إلى القول : أن برنيت وغيره يتكلمون عن "عقلانية" فلسفة سقراط وأفلاطون مثلاً ، فيكشفون عن سطحية عجيبة وشرنقية عن مفاهيم العلم الجديدة ، ذلك أنهم لا يعيرون اهتماماً للفجوة الكبيرة التي تفصل أفكار وفلسفات هؤلاء الميتافيزيقيين عن مفاهيمنا العلمية الحديثة . ص148 .
أما النقد الذي يوجهه الآلوسي إلى القراءة التي يقدمها "ييجر" :
فهو هنا يكشف عن تلك الموجهات غير المباشرة التي تدفع جملة من المؤرخين إلى قراءة قصدية تروم تأكيد عقلانية الفكر اليوناني بشكل لا يخفي قصور تلك القراءة وما فيها من أشياء مسكوت عنها تمثل موجهات هذا ما نحن نخرج به من هذا القول له :
الظاهر أنه حتى المؤرخين القائلين بلاهوتية الفلسفة اليونانية واقعين تحت تأثير عقلانية هذه الفلسفة بحث يبحثون عن "عقلانية" في "عقائد" هؤلاء على بدائيتها ، فراحوا يعقلنون نصوص هؤلاء إلى حد القرف ، ثم ماذا كانت النتيجة : تطبيقاً على ما قاله "ييجر" عن هزيود وطاليس . . . ألخ .
فرغم اعتماده على نصوص لا تتجاوز الأسطر ، وكلها لا تملأ صفحة كاملة ومع ذلك ففي هذه ((اللاهوتية العقلية)) تجديد وتقدم وتطوير لفكرة وضع مبدأ غير مادي لتفسير الحياة والفعل والحركة ، مع كونه ليس خارج العالم المادي . ص160 .
وهنا يؤكد الآلوسي على : إنه من الخطأ فصل "لاهوتهم" وتصوراتهم الدينية عن التصورات العالمية في زمانهم وقبلهم . ص160 .
ويقيم نصوصهم بالمقارنة مع العرق : كان ما ذكرنا من نصوص تدل على مستوى عامي من الاعتقادات الشعبية الأسطورية والبدائية لا تقارن بمثيلاتها عند الهنود أو المصريين أو اليهود أو الفرس . ص 160 – 161 .
أما النقد الذي وجهه إلى "سارتون" إنه يرى رأياً محدداً في مدى "علمية" الفلاسفة قبل سقراط ، بحيث يجعله أقرب إلى قول القائلين بأنهم يجمعون بين خطين خط فيزيائي أو طبيعي وضعي صرف ، وخط آخر ديني أو ميثولوجي في المسائل الأخرى . والحق أن سارتون يبدو أميل إلى ما يلي :
1- يوجد خطان في الفلسفة ما قبل سقراط خط فيزيائي وضعي ، وربما مادي ، وخط آخر لاهوتي كما عند الفيثاغورية واكسنوفان .
2- عندما يتكلم عن طاليس وأنكسماندر يفسر أقوالهم والنصوص المتبقية ويحمل فلسفتهم تفسيراً علمياً بحتاً . ص164 .
3- ومع هذا كله ففي سارتون ميل إلى الإقرار بعدم استبعاد وجود خط – غير علمي – أو ميثولوجي ، أو تدين عادي تقليدي ليس عند الناس العاديين فقط ، بل وعند العلماء الوضعيين أيضاً . ص165 .
نحن نكتفي بهذا العرض لهذه النقود التي قام بها المفكر العراقي الآلوسي وهو بهذا لا يقود على معيار تمركز بقدر ما يعتمد العقولات العقلانية في محاكمة ونقد تلك النصوص وكشف المسكوت عنه فيها .
ونحن رغم إننا لا نقول بوجود قراءة تستطيع أن تدرك المعنى الحرفي إلا إننا نلمس في تحليل ونقد ومقارنة الآلوسي أمرين : الأول نقد المعيار المعتمد من قبل الباحثين والمؤرخين المعاصرين ، وما هو موطن النقص والخلل في تأويلاتهم ، والثاني قراءة الفكر الفلسفي القديم آخذاً بالظرف التاريخي والإشكاليات التي عاشتها الفلسفة اليونانية وكشف المستوى العلمي وعلاقته حواراً وتنامياً مع المحيط تطويراً ونسخاً وتحوير بما يعالج قضايا واجهتها الثقافة اليونانية يومها .
تعليقات
إرسال تعليق