المطلب الأول: حقيقة محبة العبد لله تعالى:
إن محبة العبد لله تعالى هي كل شيء في هذه الحياة الدنيا، ويا لسعادة من ذاق طعم هذه المحبة، فبها يرقى العبد إلى درجة المقربين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين جمع الله فيما بينهم لا لشيء إلا لأنهم كانوا فيه متحابين.
يقول الإمام لسان الدين بن الخطيب (ت776هـ): "إنما الحب الحقيقي، حب يصعدك ويرقيك، ويخلدك ويبقيك، ويطعمك ويسقيك، ويخلصك إلى فئة السعادة ممن يشقيك، ويجعل لك الكون روضا، ومشرب الحق حوضا، ويجنيك زهر المنى، ويغنيك عن أهل الفقر والغنى، ويخضع التيجان لنعلك، ويجعل الكون متصرف فعلك".[1]
وأما حقيقة محبة العبد لله عز وجل، فقد اختلف الناس في معناها، فقيل: "المحبة ترادف الإرادة بمعنى الميل"،[2] وعليه فمحبة العبد لله تعالى إرادة طاعته.
وقيل: "محبتنا لله تعالى كيفية روحانية مترتبة على تصور الكمال المطلق الذي فيه على الاستمرار، ومقتضية للتوجه التام إلى حضرة القدس بلا فتور وفرار".[3]
وذهب الجهمية المعطلة إلى أن الله تعالى لا يُحب ولا يحَب، وأولوا كل النصوص الواردة بذلك.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله (ت751هـ): "والجهمية المعطلة عكس هؤلاء، فإنه عندهم لا يحب ولا يحب، ولم يمكنهم تكذيب النصوص فأولوا نصوص محبة العباد له على محبة طاعته وعبادته والازدياد من الأعمال لينالوا بها الثواب".[4]
ولا شك أن محبة العبد لله تعالى ثابتة بالكتاب والسنة، ولا سبيل إلى إنكارها أو غض البصر عنها، ولو كان ذلك عن طريق لَي أعناق النصوص.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله (ت751هـ): "وجميع طرق الأدلة عقلا ونقلا وفطرة وقياسا واعتبارا وذوقا ووجدا تدل على إثبات محبة العبد لربه".[5]
وسنقف إن شاء الله تعالى على هذه الآيات والأحاديث الدالة على إثبات محبة العبد لله عز وجل، مع شرح ما وقفنا على شرحه.
الفرع الأول: الآيات الدالة على محبة العبد لربه:
إن محبة العبد لله عز وجل ثابتة بكتاب الله تعالى في آيات كثيرة، وورد فعل "أحب" بمجموع صيغه في القرآن الكريم، أكثر من سبعين مرة، وأغلبها بصيغة المضارع، ولعل هذا يؤكد ما قلناه سابقا، من أن المحبة حال لا مقام، لأن المضارع يقتضي التجدد والاستمرار، أي أن المحبة لا حدود لها، فبالأحرى أن يوجد من أفرط في حب الله تعالى.
والكثيرون فسروا المحبة بالإرادة، قال العلامة الراغب الأصفهاني (ت516هـ):[6]"وربما فسرت المحبة بالإرادة في نحو قوله تعالى: {فيه رجَالٌ يُحبُونَ أَن يَتَطَهرُوا}،[7]وليس كذلك، فإن المحبة أبلغ من الإرادة".[8]
وهذه جملة الآيات مرتبة حسب ترتيب السور.
قال تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ}.[10]
يقول الإمام ابن عجيبة (ت224هـ)[11] في هذه الآية: "{وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله} أشباهاً وأمثالاً من الأصنام والرؤساء {يُحبُونَهُم}، وينقادون إليهم، كما يحبون الله تعالى، فيُسَوَّون في المحبة بين الله تعالى العلي الكبير، وبين المصنوع الذليل الحقير، {وَالذينَ آمَنُوا} بالله ووحَّدُوه {أَشَد حُبّاً لله}؛ لأن المؤمنين لا يلتفتون عن محبوبهم في الشدة ولا في الرخاء، بخلاف الكفار فإنهم يعبدونهم في وقت الرخاء ، فإذا نزل البلاء التجئوا إلى الله. قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ}،[12] وأيضاً: المؤمنون يعبدون الله بلا واسطة ، والكفار يعبدونه بواسطة أصنامهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}[13] وأيضاً المؤمنون يعبدون ربّاً واحداً فاتحدت محبتهم".[14]
ويقول الإمام ابن القيم (ت751هـ): في نفس الآية: "فأخبر – الله تعالى- أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى، فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحدا من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية، بخلاف ند المحبة فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم".[15]
وهذا الذي ذكره رحمه الله صحيح بنص القرآن، فإن أحدا لم يثبت لله شريكا في الخلق، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.[16]
ثم قال رحمه الله في قوله عز وجل: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ}: "وفي تقدير الآية قولان:" أحدهما والذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله.
والثاني والذين آمنوا أشد حبا لله من محبة المشركين بالأنداد، فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة".[17]
ثم قال: "والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى يحبونهم كحب الله فإن فيها قولين:
أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله فيكون قد أثبت لهم محبة الله ولكنها محبة يشركون فيها مع الله أندادا.
والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله، ثم بين أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم".[18]
وأظن –والله أعلم – أن معنى قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} أي يسوون بين محبة الله ومحبة أندادهم، ويشهد لهذا قوله عز وجل: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.[19]
وهذا فيه نظر، ولا أدري كيف لم ينتبه رحمه الله إلى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}،[21] بل الآية تقتضي أكثر من التسوية في الربوبية وليس في المحبة، فإن فيها "من دون الله".
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.[22]
ورد في سبب نزول هذه الآية، أن قوما زعموا محبة الله تعالى، فنزلت هذه الآية لاختبار زعمهم وادعائهم، وتسمى آية المحنة.[23]
قال الإمام ابن كثير رحمه الله (ت774هـ):[24] "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله".[25]
وإذا اتبع العبد نبيه في كل ما جاء به فإنه يحصل له أكثر مما طلب وهو حب الله تعالى إياه.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله (ت774هـ): "أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تُحِبّ، إنما الشأن أن تُحَبّ".[26]
وهذه الآية امتحان حقيقي لكل من يدعي محبة الله عز وجل، ويخالف نبيه عليه الصلاة والسلام، فإن المحبة تقتضي الموافقة والاتباع، كما قالت رابعة العدوية (ت135هـ):
تعصى الإله وأنت تظهر حبه ♥♥♥ هذا لعمري في الفعال بديــــع
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.[28]
وهذه الآية تضمنت علامات المحبة، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله.
فهذه بعض الآيات التي تثبت محبة العبد لله عز وجل، ولا داعي لتأويلها على غير ما أنزل الله، صحيح أن الله منزه عن الخلق في كل شيء، ولكنه يحب عباده محبة تليق به سبحانه وتعالى مجردة عن التشبيه والتكييف.
وننتقل إلى الأحاديث التي تصب في نفس الموضوع.
الفرع الثاني: الأحاديث الدالة على حب العبد لربه:
إن الأحاديث التي تدل على حب العبد لربه، بل والتي تأمره بحب الله تعالى تكاد تكون الإحاطة بجميعها مستحيلة، إلا أننا سنقتصر على جملة منها إن شاء الله.
عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: «متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "ما أعددت لها"، قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله، قال: "أنت مع من أحببت».[29]
وقد ترجم له الإمام البخاري رحمه الله (ت256هـ)،[30] بقوله: "باب حب الله عز وجل".
وعن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: «أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنوه فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله». [31]
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار».[32]
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"، فقالت عائشة رصي الله عنها أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: "ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر، بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، كره لقاء الله فكره الله لقاءه».[33]
فهذه جملة من الأحاديث التي تثبت محبة العبد لله عز وجل وإن كان المقام لا يسمح بحصرها، وهو الحب الذي ما بعده حب، من حُرمه كان من الأشقياء، ومن رُزقه كان من السعداء، جعلنا الله منهم.
قال الإمام الكلاباذي (ت380هـ): "معنى هو العيش: أنه يطيب عيشه، لأن المحب يتلذذ بكل ما يرد من المحبوب من مكروه أو محبوب، ومعنى لا عيش له: لأنه يطلب الوصول إليه ويخاف الانقطاع دونه فيذهب عيشه".[35]
وقال الشاعر:[36]
من كل شيء إذا ضيعته عوض ♥♥♥ وما من الله إن ضيعته عـــــوض
فكل شيء وكل حب يعوض إلا حب الله تعالى، الحب الذي يجعل العبد سعيدا في الدنيا قبل الآخرة، ويسارع إلى فعل الطاعات دون انتظار الجزاء، لأنه يعلم أن لا جزاء يضاهي وصل الحبيب.
قال الإمام القشيري رحمه الله (ت465هـ): "وأما محبة العبد لله فحالة يجدها العبد من قلبه تلطف عن العبارة، وقد تحمله تلك الحالة على التعظيم له، وإيثار رضاه، وقلة الصبر عنه، والاهتياج إليه، وعدم القرار من دونه، ووجود الاستئناس بدوام ذكره بقلبه".[37]
وقال الإمام الغزالي رحمه الله (ت505هـ): " اعلم أن أسعد الخلق حالا في الآخرة أقواهم حبا لله تعالى، فإن الآخرة معناها القدوم على الله تعالى ودرك سعادة لقائه، وما أعظم نعيم المحب إذا قدم على محبوبه بعد طول شوقه، وتمكن من دوام مشاهدته أبد الآباد من غير منغص ومكدر، ومن غير رقيب ومزاحم، ومن غير خوف انقطاع، إلا أن هذا النعيم على قدر قوة الحب، فكلما ازدادت المحبة ازدادت اللذة".[38]
إن شيئا من متاع الدنيا وزينتها لا يعدل مثقال ذرة من حلاوة حب الله عز وجل، وقد وصفها الشيخ إبراهيم بن أدهم بالنعيم (قـ 2هـ)،[39] وقال: "لو علمت الملوك ما نحن فيه من نعيم لجالدونا عليه بالسيوف".[40]
تشكى المحبون الصبابة ليتني ♥♥♥ تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
فكانت لقلبي لذة الحب كلهـا ♥♥♥ فلم يلقها قبلي محب ولا بعـــدي
وكيف لا نحبه سبحانه وتعالى وقد جمع كل دواعي المحبة، قال الإمام لسان الدين بن الخطيب (ت776هـ): "فإن أحبت النفس جوادا لجوده فأين جوده من جود الله؟ وإن أحبت مُنعما لإنعامه فأين نعمته من نعمة الله؟ وإذا أحبت جميلا لرائق جماله وباهر كماله فالله جميل يحب الجمال، ولا جمال إلا من نور الله، وإذا أحبت نبيا أو هاديا لحكمته وطهارته وحميد خلقه ومعرفته بالله فأين هذا كله من صفات الله؟ فالله عز وجل قد جمع أشتات المحامد والمحبات، لا إله إلا هو سبحانه".[41]
وبهذا نكون قد فرغنا من الحديث عن محبة العبد لربه، لننتقل إلى الحديث عن محبة الله لعبده، وبالله التوفيق.
تعليقات
إرسال تعليق