مسلسل الخوصصة وانعكاساته في المغرب

مساهمة عبد السلام أديب

في نقاشات المنتدى الاجتماعي المتوسطي الأول

أيام 16، 17، 18، 19 ببرشلونة

نتوخى من خلال هذه الورقة استعراض مسلسل الخوصصة في المغرب انطلاقا من تخلي الدولة عن دورها الاقتصادي والاجتماعي مرورا عبر تفكيك القطاع العام وتفويته للقطاع الخاص الأجنبي على الخصوص ووصولا إلى الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية لسياسة الخوصصة على المجتمع المغربي.

أولا: تفسير ظاهرة التدخل الكبير للدولة غداة الاستقلال سنة 1956

أ – شمل تدخل الدولة غذاة الاستقلال كافة أوجه التنظيم الاجتماعي: التنظيم القانوني للقطاع العمومي، سياسة التخطيط والتدخل عبر الإنفاق العمومي؛

ب - أوجد واقع الاستقلال ضرورة لإنشاء مؤسسات عمومية جديدة لتأمين الحاجيات الأساسية؛

ج - لم يثر اللجوء إلى التأميم وخلق مؤسسات عمومية جديدة وتوسيع نطاق القطاع العمومي، خلال العقد الأول من الاستقلال، أي رد فعل لدى الدول الرأسمالية المتقدمة نظرا لكون هذه الأخيرة ، كانت تعتمد، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على هذه الأدوات في إطار تطبيق النظريات الكينيزية في الاقتصاد؛

د - مرحلة 1945 الى 1975 سادت ثلاثة مشاريع سياسية واقتصادية متوازنة لعبت فيه الشعوب والطبقات الكادحة الدور الرئيسي وأوجد تسوية تاريخية بين رأس المال والعمل وكانت الكينيزية أبرز تعبير عن هذه التسوية؛

ه - كانت الفكرة السائدة آنذاك تستند على أن التوسع في أنشطة القطاع العام سيؤدي إلى نمو شامل للاقتصاد. وكان ذلك الرأي يستند من ناحية أخرى إلى فكرة مطمئنة مؤداها أن زيادة الدخل الحقيقي سيسمح بتمويل الإنفاق العمومي المتزايد بفضل إيرادات إضافية، دون أن يحدث ذلك اختلالا كبيرا في التوازن بين قطاعي الاقتصاد العمومي والخاص.

و - وقد ارتكزت اختيارات الاعتماد على القطاع العمومي ببلادنا في بداية الاستقلال، على النظريات المتداولة حول العالم الثالث وحول التنمية والتخلف التي رافقت حصول عدد كبير من البلدان الإفريقية على الاستقلال. فهذه النظريات كانت تدعوا للتوجه نحو نظم اقتصادية ارتبط فيها دور القطاع العام ارتباطا مباشرا بمفهوم تحقيق تنمية مخططة تساعد في النهوض باقتصاد وطني قائم على أسس مستقلة.

ز - لا يمكن تفسير هذا التصرف في إطار القناعات الإيديولوجية السائدة فحسب، ولكن كانت تفرضه كذلك حقيقة أن سيطرة الدولة على القطاع العمومي كانت تبدو هي الوسيلة الوحيدة للتحرر الاقتصادي والحفاظ على سيادتها الاقتصادية حديثة العهد في مواجهة خطر الاستعمار الجديد.

ثانيا: الأهمية الاقتصادية للقطاع العمومي الذي ساد في المغرب إلى غاية 1982

أ - ضل القطاع العمومي المغربي يشغل -حتى عهد حديث جدا- مكانة كبيرة في الاقتصاد الوطني، حيث ضم حوالي 700 مؤسسة أنشأت على مراحل متواصلة منذ عهد الحماية الفرنسية. وكان ما يميز هذه الوحدات هو التنوع الكبير في حجم أنشطتها، وإطارها القانوني، وفروع إنتاجها وطرق تسييرها.

ب - وامتد نشاط هذه المقاولات من إنتاج الكهرباء إلى الإمداد بالماء الصالح للشرب، ومن الاتصالات السلكية واللاسلكية ووسائل النقل إلى الصناعات التحويلية وصناعة استخراج المعادن، والى تسويق المنتجات الزراعية فضلا عن القطاع المالي...

ج - فيما يلي جدول يبين تطور الإنتاج والقيمة المضافة للمقاولات العمومية بالمغرب حسب قطاع الإنتاج (1969-1982 )

(بالمليون درهم)

القطاع الإنتاجي

1969

1970

1975

1980

1981

1982

الفلاحة والغابات والصيد البحري

الإنتاج

26

42

73

645

666

670

القيمة المضافة

6

8

15

361

327

337

الصناعة الاستخراجية

الإنتاج

767

669

1115

4405

5646

5128

القيمة المضافة

496

478

650

3129

4168

3443

الطاقة والماء

الإنتاج

618

654

2201

8055

9836

12190

القيمة المضافة

271

266

637

1196

1188

1664

الصناعة التحويلية

الإنتاج

1825

1807

3750

9006

10707

13408

القيمة المضافة

557

578

1114

3118

3177

4699

التجارة

الإنتاج

553

424

791

2269

2604

3056

القيمة المضافة

245

172

332

366

712

992

النقل والمواصلات السلكية واللاسلكية

الإنتاج

637

721

1011

3458

4031

4525

القيمة المضافة

425

437

576

1924

2271

2541

المؤسسات المالية

الإنتاج

-

-

-

1352

1477

1827

القيمة المضافة

162

181

321

1063

1153

1482

خدمات أخرى

الإنتاج

46

58

104

831

991

1073

القيمة المضافة

27

30

54

330

339

289

المصدر: بالنسبة لسنوات 69-1975 أنظر:

Les comptes de la nation 1969-1975

بالنسبة لسنوات 80-1982 أنظر: كتابة الدولة في التخطيط والتنمية الجهوية (مديرية الإحصاء) حسابات المؤسسات العمومية 1980 - 1981 - 1982.

د - ومن خلال المؤسسات العمومية الكبرى ذات الوسائل المتعددة، كالمكتب الشريف للفوسفات والشركة المغربية المجهولة الاسم للتكرير والمكتب الوطني للكهرباء وصندوق الإيداع والتدبير...الخ، ومؤسسات أخرى متواضعة ذات إمكانيات محدودة يتم تسييرها بطرق شبه إدارية، كان القطاع العمومي المغربي يضطلع بجانب كبير من أنشطة الإنتاج. وقد شكلت هذه المؤسسات في بعض الأحيان احتكارات، كما كانت تعمل في أحيان أخرى في إطار بيئة تنافسية على المستويين الوطني والدولي لإنتاج أنواع متعددة من السلع والخدمات التي يقدم القطاع الخاص بعضا منها أيضا.

ثالثا: مبررات خوصصة المرافق العمومية

ليس هناك في الواقع ما يبرر خوصصة المرافق العمومية إذا ما استثنينا الرغبة في نهب المال العام الذي تنتجه هذه المرافق، فجميع المبررات المطروحة واهية ومردود عليها.

* فيقال بان القطاع الخاص أكفأ من الدولة في إدارة المقاولات العمومية وأن ذلك يؤدي إلى توفير الموارد المالية وتحسين إدارة هذه المؤسسات والزيادة في معدلات النمو الاقتصادي.

لكن حالات الفشل والإفلاس التي تتعرض لها مقاولات القطاع الخاص تفوق بكثير حالات التعثر المحدودة التي تعاني منها المقاولات العمومية لأسباب لا ذنب لها فيها وخصوصا بسبب غياب الديموقراطية، وغياب الرقابة المواطنة على حسن تدبير المال العمومي ....

* ويقال أيضا بأن القطاع الخاص، عبر ما يقدمه من حوافز، أقدر من الدولة على تعبئة الموارد المالية وتوجيه الادخار نحو المشاريع المربحة وتعميم ملكية هذه المقاولات على أكبر عدد من المواطنين وقادر على خلق سوق مالية نشطة تشجع على الادخار وتوفر قناة وطنية للتمويل.

لكن خلق مشاريع مربحة لا يعني بالضرورة أن هذه المشاريع ذات مضمون اجتماعي يراعى مصلحة أفراد المجتمع الأساسية، بينما يمكن للدولة في المقابل أن تصحح التفاوت الصارخ في المداخيل عن طريق اقتطاع جزء من الأرباح الفاحشة للقطاع الخاص وتحويلها إلى خزينة الدولة، حيث يمكن استعمال هذه الموارد في تحسين البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية.

من جهة أخري لا يمكن تصديق مقولة أن الخوصصة ستؤدي إلى توسيع ملكية المواطنين للأسهم ما دامت أغلبيتهم تعيش على حد الكفاف خصوصا المستخدمون في القطاع العمومي الذين لا يملكون أي ادخار لشراء سهم واحد.

· يقال أيضا أن تحويل المقاولات العمومية إلى القطاع الخاص يزيل عن كاهل الحكومة عبء خسائر هذه المقاولات مما يسمح للدولة بتركيز جهودها ومواردها لأهداف أخرى.

لكن ما هو أهم من تدبير المقاولات العمومية لكي تنشغل به السلطات العمومية خصوصا في ظل الكساد والبطالة والغلاء وتردي مستوى المعيشة؟

* يقال أيضا أن العالم قد تغير من حولنا، وأن عددا لا بأس به من الدول الرأسمالية الصناعية كبريطانيا وألمانيا والدول التي كانت اشتراكية، تقوم الآن ببيع قطاعها العام، وهي في ذلك لا تميز بين الأجنبي والمواطن المحلي في حق الشراء.

لكن كل ذلك غير صحيح، فلا يجوز التشبه أو القياس بما حدث ويحدث في الدول الرأسمالية الصناعية التي اعتمدت منذ بداية تكونها على قوة الدولة في تكوين البنيات التحتية الاقتصادية والاجتماعية. فشتان ما بين الواقع المتخلف لبلادنا وطبيعة هذه الدول المتقدمة.

كما أن الدول التي طبقت سياسة الخوصصة لم تستطيع أن تخرج من أزمتها الاقتصادية، بل تفاقمت فيها الأزمة من خلال تردي معدل النمو الاقتصادي وتفاقم العجز الداخلي والخارجي وتحول ظاهرة البطالة فيها إلى مشكلة مزمنة، وانخفاض مستوى معيشة العمال والطبقة المتوسطة ..إلى آخره.

ويشكل الاقتصاد البريطاني خير مثال على هذا التردي ففتح المجال على مصراعيه أمام القطاع الخاص جعل البلاد عرضة لمختلف الأوبئة: البقرة المجنونة، الحمى القلاعية، هشاشة البنيات التحتية أمام الفيضانات، خروج القطارات عن سككها....

أما بالنسبة للدول التي كانت اشتراكية وفي مقدمتها روسيا ، فلا يمكن أبدا اتخاذها كمثال نظرا لخضوعها الآن لقوى الفوضى وعصابات المافيا والمضاربات، فالانهيار أصبح مذهلا في هذه البلدان. فهناك انخفاض كبير في مستوى الدخل، ونمو حاد في معدلات البطالة، وارتفاع صاروخي للأسعار، ونمو صارخ للجريمة ، إضافة إلى اندلاع الحروب العرقية والقومية.

إن سياسة الخوصصة لا يمكن تبريرها إذن سوى بكونها تعبيرا عن ترجمة حرفية لمصالح الرأسمال الدولي والكومبرادوريات المحلية والذي يجد في هيمنته على المرافق العمومية مصدرا لا ينضب من الأرباح واستغلال الحاجات الإساسية للمواطنين من أجل المزيد من التراكم الرأسمالي.

رابعا: الأسباب السياسية التي تقف وراء اعتماد سياسة الخوصصة

بطبيعة الحال هناك أسباب سياسية داخلية وأخرى خارجية تقف وراء اعتماد سياسة الخوصصة في بلادنا على الرغم من انعكاساتها الوخيمة على المجتمع المغربي.

1 – الأسباب الداخلية

إذا كان توسع القطاع العام منذ بداية الاستقلال السياسي قد جاء لملأ الفراغ الذي كان يحتله المستعمر الفرنسي، ورغبة في إيجاد البنيات التحتية اللازمة الاقتصادية والاجتماعية. لكن توسع القطاع العام لم يكن يخضع لرقابة وتدبير ديموقراطيين من شأنه ضبط المداخيل والمصاريف وتطوير الإنتاج الشيء جعل وحدات القطاع العام تشكل مصدرا لاغتناء العديد من اللوبيات المرتبطة بالسلطة المخزنية وتتعرض بالتالي للإفلاس وتفاقم المديونية. وقد كرست أزمة المديونية وأزمة القطاع العمومي الأزمة العامة الاقتصادية والمالية التي عرفها المغرب أواخر عقد السبعينات وبداية عقد الثمانينات.

شكلت هذه المعطيات سببا رئيسيا في خضوع المغرب لارادة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي من خلال وصفة برامج التقويم الهيكلي. علما أن الخضوع لهذه البرامج يعني تخلي الدولة عن كل تدخل اقتصادي أو مالي أو اجتماعي وكذا التخلي عن القطاع العمومي.

2 – الأسباب الخارجية للخوصصة

يمكن اعتبار أن التوازن السياسي الذي كان سائدا فيما بين 1917 و1975 بين القوى الاشتراكية والقوى الرأسمالية والقوى عالم ثالثية، قد أنتج تسوية تاريخية بين رأس المال والعمل، حيث كانت البرجوازية العالمية مضطرة للتنازل عن بعض أرباحها عبر السماح بفرض الضرائب التصاعدية وإقامة قطاع عام يوفر الكثير من الخدمات الأساسية بالمجان أو بأسعار رمزية من أجل تحقيق توازن اقتصادي واجتماعي ضروري لتفادي خطر اجتياح الثورة الشيوعية لهذه البلدان.لكن منذ أواسط عقد السبعينات بدأ التوازن القائم في الإنهيار حيث انهار المعسكر الاشتراكي وتبعته حركة عدم الانحياز الشيئ الذي دفع الرأسمال العالمي بزعامة اليمين المتطرف إلى الاسراع بفرض ارادته عبر المؤسسات المالية الدولية وبالتالي استعادة السيطرة على مختلف الدول عبر تفكيكها والهيمنة على مقدراتها الاقتصادية. من هنا يمكن فهم هذا التوجه المحموم لخوصصة مختلف المرافق العمومية في بلدان العالم الثالث والذي يشكل في الواقع خطوة لنهب المال العام لبلدان العالم الثالث.

خامسا: عواقب مسلسل الخوصصة على التوازن الإقتصادي والإجتماعي للبلاد

تتجلى خطورة نهب المال العام عبر مسلسل الخوصصة من خلال الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية لهذا النهب.

1 – العواقب الاقتصادية والمالية

أ – جل المقاولات التي تم بيعها للخواص كانت مقاولات تحقق أرباحا على عكس الخطاب الذي كان يقول بأن الدولة ستتخلص فقط من المقاولات التي تعرف العجز، وهذا يعني أن الخوصصة تستهدف تحويل أموال عمومية تحقق مداخيل مهمة لميزانية الدولة إلى شركات أجنبية على الخصوص، وتمكين هذه الشركات من تحويل فوائض الأرباح إلى الخارج مما يحرم البلاد من جزء كبير من مدخراتها المحققة داخليا.

ب – العديد من المقاولات المفوتة للشركات الأجنبية لم تتطور في ظل الخوصصة ولم تلتزم الشركات التي اشترتها بانجاز الإستثمارات التي تعهدت بها في دفتر التحملات، وأفضل مثال على ذلك تجاهل الشركة السعودية التي اشترت لاسامير دفتر التحملات مما قاد إلى عدد من الأزمات داخل هذه الشركة.

ج – لم تحقق الخوصصة ما كان يدعيه المسؤولون من أنها ستجنب الحكومة الزيادة في الضرائب أو في الديون الخارجية، بل على العكس من ذلك فإن مختلف المؤشرات تدل على أن الخوصصة تؤدي إلى مزيد من الضرائب وإلى مزيد من الاستدانة الخارجية، فالتنازل عن المرافق العمومية للأجانب يؤدي إلى حرمان الميزانية العامة للدولة من موارد ضخمة ثم الى مزيد من عجز الميزانيةالعامة وبالتالي الى البحث عن مصادر جديدة لتمويل العجز ومنها على الخصوص الضرائب والاقتراضات الخارجية.

د - إن عملية خوصصة القطاع العمومي لا تؤدي إلى استثمارات جديد، أي إلى خلق طاقات إنتاجية جديدة. بل تؤدي فقط إلى تغيير صاحب الحق في ملكية أصول إنتاجية قائمة بالفعل، من ملكية وطنية عمومية، إلى ملكية أجنبية خاصة. كما تؤدي الى زيادة رصيد ما يملكه الأجانب من مقاولات داخل البلاد، وزيادة نصيبهم في الدخل الوطني. ومن شأن كل ذلك احتمال قيام المالك الأجنبي الجديد، ببيع المقاولة المخوصصة إلى طرف ثالث معادي للقضايا الوطنية الأمنية والاستراتيجية.

ه – تؤدي الخوصصة إلى تزايد المديونية الخارجية نظرا لأن الأجانب الذين يتملكون أصول القطاع العمومي في إطار الخوصصة يلجأون إلى تحويل دخولهم وأرباحهم إلى الخارج، ومن شأن ذلك أن يؤثر سلبا على ميزان المدفوعات خصوصا إذا كانت المشروعات المباعة تنتج للسوق الداخلي وتستورد موادا وسيطة ولا تساهم في التصدير. وفي مثل هذه الحالة من المتوقع تماما أن يتعرض سعر صرف الدرهم لضغوط نتيجة لنزوح الأرباح إلى الخارج. وقد يتم اللجوء لمواجهة هذا الأثر بالسحب من الإحتياطات الدولية. وحينذاك ستستنزف هذه الإحتياطات بسرعة، وسرعان ما يتزايد العجز في ميزان المدفوعات وتزيد بالتالي الحاجة إلى الاستدانة من الخارج، ونقع مرةأخرى في فخ المديونية الخارجية وتؤدي إليه من مصائب.

و – إن تمليك الأجانب للمرافق التي تعتمد على منتجات وسيطة مستوردة ولا تنتج من أجل التصدير، بل للسوق المحلي فقط (كوكالات الماء والكهرباء ومرافق النقل)، فإن التأثير سيكون مزدوجا من خلال استنزاف موارد النقد الأجنبي المخصص للاستيراد من ناحية، ومن خلال ما سيتم تحويله للخارج من أرباح ودخول، من ناحية أخرى.

2 – العواقب الاجتماعية والسياسية

ألحقت خوصصة المرافق العمومية بالمغرب ضررا شديدا بقطاعات واسعة من العمال والفلاحين المشتغلين في قطاعات الإنتاج والخدمات. فمع انتقال ملكية بعض المقاولات العمومية إلى القطاع الخاص الوطني والأجنبي، بدأ اللجوء إلى طرد اليد العاملة الفائضة، وتخفيض أجور العمال، علما بأن جيش العمال الإحتياطي العاطل يمكنهم من ذلك، فيتم حرمانهم من الكثير من المزايا والحقوق التي اكتسبوها عبر نضالات طويلة كالحد الأدنى للأجور وعدم الفصل التعسفي والتأمينات الإجتماعية والإجازات والرعاية الصحية ... إلخ.

أ – آثار الخوصصة على قطاع التعليم:

هناك ارادة مبيتة لإفلاس قطاع التعليم العمومي فبالإضافة إلى إنتشار المدارس والثانويات والجامعات الخاصة والتي لا يلتحق بها سوى الطبقات الميسورة فإن اعتماد الإحالة المبكرة على التقاعد أفرغ قطاع التعليم العمومي من خيرة أطره مما يقلص من مستوى الأداء ويرفع من درجة الرسوب ومغادرة الأطفال والشباب للمدارس.

فقد تم اعتبار هذا القطاع "كمفترس" في مجال نفقات الميزانية، مما أدى إلى إعادة النظر في مجانية التعليم الشيء الذي بات يهدد مستقبل الأجيال المقبلة من أبناء الطبقة الكادحة. ثم إن عدم تعميم التعليم والطابع غير الإجباري له يفسر كذلك البؤس الاجتماعي بمفهومه الواسع. فالتعليم الابتدائي والثانوي والجامعي يتعرض الآن لسرطان الخوصصة.

فالتعليم الجامعي أصبح مخصصا أكثر فأكثر للنخبة. وقد أصبح آلة حقيقية لإنتاج الطبقات المتحكمة في الثروة. وهكذا نجد أن جامعة الأخوين بإفران مبنية على أرض تبلغ 75 هكتار مملوكة للدولة، ومفوتة لها بالمجان، وتتلقى الجامعة سنويا اعانة من الدولة تصل الى 90 % من نفقات تسييرها واستثماراتها. ويصل عدد تلامذتها إلى 5000 تلميذ. أما كلفة التمدرس بها فترتفع الى أكثر من 110 آلاف درهم في السنة لكل طالب. ويستفيد هؤلاء من أفضل البنيات التحتيةالموجودة بالمغرب. والغريب في الأمر أن جامعة الأخوين توجد في منطقة الأطلس بافران المحرومة من الطرق والمدارس والمراكز الصحية.

إن المعدل الحالي للأمية الذي يتجاوز 55 % لم يكن إذن ثمرة للصدفة. هناك 67 % من السكان من النساء يعانين من الأمية منها 90 % في الوسط القروي. 2.500.000 طفل ينشؤون بدون تمدرس.. تسع نساء قرويات على 10 لا يعرفن القراءة والكتابة في بداية هذه الألفية الثالثة.

ليس من المبالغ فيه الحديث عن "تعليم عمومي منكوب". النظام السياسي منذ مارس 1965، لم يفتأ يكره التكوين والذي يعتبره كتهديد رغم "التعقيم" و"الإفراغ" الممنهجين للبرامج المدرسية الهادفة إلى التحكم أحسن في الأفكار الشابة وتحويلها إلى رعايا خنوعة ومطيعة.

ب – آثار الخوصصة على قطاع الصحة:

الخوصصة تؤدي إلى إعادة النظر في مجانية الصحة العمومية، في بلد أغلبية سكانه تعيش على عتبة الفقر ولا تستفيذ من أي تغطية اجتماعية صحية، وهذا الوضع خطير جدا لأنه يمس الطبقات المسحوقة ويعرض للخطر مستقبل جميع الناس. فالكلفة المرتفعة للأدوية والولوج المحدود للعلاج وتدهور نوعيته لا يعني سوى تجاهل مقصود للدولة لصحة المواطنين.

فتسعة مغاربة من بين 10 لا يستفيدون من أية حماية اجتماعية صحية. كما أن وفيات الأطفال تتجاوز 22 % بمعدل خام من الوفيات يفوق 6,5 %. وهناك فقط 15 % من السكان ذوي الدخل الضعيف يستفيدون من التغطية الطبية. كما أن هناك أقل من طبيب واحد لكل 3000 ساكن وأقل من طبيب نساء واحد لكل 15.000 امرأة، وعلى العكس من ذلك فإن العراقيل المتعددة توضع أمام الطلبة الراغبين في دراسة الطب وأن دفعات بكاملها من الأطباء الجدد تلتحق بجيوش العاطلين أو تغادر بلدها. أكثر من 44 % من الأطباء يتركزون بين مدينتي الرباط والدار البيضاء.

وفي الواقع فإن خوصصة قطاع الصحة ينطبق عليها مفهوم "الجريمة ضد الإنسانية" بالمعنى الواسع. فانطلاقا من كون الدولة، رغم كونها تتوفر على الوسائل والموارد، لا تعمل على نجدة جموع الأشخاص الذين توجد صحتهم في خطر ولا يتوفرون على الإمكانيات المادية للعلاج لدى مصحات الخواص باهضة الثمن، وحيث أن لا أحد يختار أن يكون مريضا. فالمرض ليس سلعة كمالية.

ج – آثار الخوصصة على الشغل والبطالة:

إن الخوصصة لا تعمل على امتصاص البطالة التي بلغت معدلات كبيرة ببلادنا، كما أن الطابع العائلي للقطاع الخاص المغربي، وغياب الحماية الاجتماعية في مواجهة التسريحات التعسفية، وقمع الحقوق النقابية لا تعني مشاركة الخواص في تقليص البطالة. كما أن الصيغة الحالية لمدونة الشغل شرعن وتكرس الممارسات التحكمية في مواجهة العمال. هذا في الوقت الذي تخضع فيه النقابات بدورها للبيروقراطية مما يجعلها فاسدة من الداخل، وتشكل بديلا للسلطة في القمع.

30 % من سكان المدن الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و25 سنة يعتبرون بدون عمل (وهو رقم رسمي). كما أن معدل البطالة يتجاوز 20 % على المستوى الوطني. كما أن حملة الشهادات المعطلين أصبحوا يعدون بمئات الآلاف. إنها عطالة طويلة الأمد، وذات عواقب اجتماعية وصحية كارثية، مكرسة بأزمة البنية الأسروية بالمفهوم التقليدي وعبر غياب الروابط الاجتماعية. فالشغل أصبح امتيازا حقيقيا في زمن الخوصصة، وخاضع لقواعد الزبونية والارتشاء والمساومات المخزنية.هذه الوضعية تشكل مصدرا آخر "لهجرة الأدمغة"، من مهندسين وأطباء وأصحاب الشهادات الأخرى المهاجرة نحو آفاق أخرى.

د – آثار الخوصصة على قطاع الإسكان

تخلى الدولة في مجال الإسكان الشعبي لا يضاهيه سوى استفحال المضاربة العقارية وإرتماء الخواص على قطاع الاسكان نظرا لما يوفره من أرباح خيالية. فتضاعف مدن القصدير وباقي السكن غير اللائق ليس سوى الوجه الآخر للقصور الفاخرة والفيلات الفخمة المتنامية في الأحياء الراقية، "كيتو الأغنياء". فالعجز الحالي في السكن يتجاوز 750 ألف وحدة. حيث أن 20 % من السكان الحضريون وشبه مجموع السكان القرويون يعيشون في بنايات غير لائقة، أي أكثر من 12 مليون ساكن.

شبه خاتمـة

من خلال ما سبق يمكن إبداء الملاحظات التالية:

1 – على المستوى المحلي

تبدو الخوصصة على المستوى المحلي عبارة عن تشريع مؤسساتي للجرائم الإقتصادية. واستغلال وتحويل الأموال العمومية إلى الخواص ووسيلة لتشديد الاستغلال المفرط للعمال ومباشرة التسريحات الجماعية، وقمع الحق في الإضراب وباقي الحقوق النقابية.

وبما أن الخوصصة مفتوحة على رأس المال الدولي وأن علاقات القوة لا تكون دائما لفائدة الدولة المخزنية فإن الرأسمال الدولي يفرض على هذه الأخيرة شروطا مبالغ فيها بالنسبة لاستغلال قوة العمل والثروات الوطنية. وهنا تصبح الدولة من أجل حاجتها للحفاظ على وجودها تلعب دورا قمعيا ودور حارس لمصالح رأس المال الدولي.

2 - على المستوى الدولي

إن أهداف الرأسمال العالمي بات واضحا من خلال الحركة غير العادية التي عرفها العالم منذ سقوط جدار برلين سنة 1989 وإنتشار مقولة فوكو ياما حول نهاية التاريخ. ويتلخص هذا الهدف في سعي القوى الرأسمالية العظمى إلى تفكيك مصادر قوة الدول النامية، من جهة عن طريق تقليص النفقات والموارد العمومية التي كانت توظف في خدمة التنمية الوطنية المستقلة، وتحويل ما تبقى منها لخدمة المديونية الخارجية المتزايدة، ومن جهة أخرى عن طريق خوصصة مختلف الهياكل الإقتصادية العمومية لهذه الدول تمهيدا للسيطرة عليها من طرف بضعة شركات متعددة الاستيطان والتي تتمركز أغلبها في دول الشمال وتعتبر أداة لإعادة تقسيم دولي جديد للعمل في إطار ما يسمى حاليا بالعولمة الليبرالية.

وقد بدأ مسلسل الخوصصة يفرغ مفهوم المصلحة العامة والتضامن الاجتماعي من مضمونهما أمام استقالة الدولة وتراجعها عن دورها التقليدي في خدمة المواطنين. فهذه السياسة تجهز من جهة على حقوق المواطنين تدريجيا في مجالات التعليم والصحة والشغل وبقية خدمات المرافق العمومية، كما تجهز من جهة أخرى على ما تبقى من سيادة الدولة واستقلاليتها نظرا لما تشكله سيطرة الأجانب على المقدرات الاقتصادية للبلاد من مظاهر للاستعمار الجديد.

إن سياسة الخوصصة شأنها شأن جميع القضايا الحساسة بالنسبة للمواطنين لم تكن محلا لاستشارات شعبية فهذه السياسات لم تحض أبدا بسند شعبي. فإذا ما تم تنظيم استفتاء شعبي نزيه حول من مع خوصصة المرافق العمومية ومن ضدها؟ فإن النتيجة ستكون بطبيعة الحال لصالح رفض الخوصصة. وهي نتيجة موضوعية ما دام ثلثي السكان يعانون من الأمية حيث لن تزيدهم خوصصة المرافق العمومية سوى إمعانا في حالتهم الشادة، لذلك فإن رفضهم سيكون شيئا طبيعيا، ثم ان الثلثين من المتعلمين سيرفضون كذلك الخوصصة لأنها تقف وراء عطالة أغلبهم عن العمل وتدهور القوة الشرائية للعاملين منهم. فمن يبقى في النهاية من أنصار هذه الإيديولوجية؟ سيدافع عنها بطبيعة الحال كبار الأثرياء المستفدين منها ومن خلفهم الأحزاب والجمعيات الموالية لهم بالإضافة إلى المستعمرين الجدد الأجانب وثلة من المثقفين المرتزقة وكل هؤلاء لن يتجاوز عددهم 10 % من سكان البلاد.

تعليقات