التنمية البشرية بالمغرب: من الهامشية إلى الإدماج العضوي المبادرة الوطنية للتنمية البشرية: منعطف استراتيجي لإقرار الديمقراطية التشاركية والمواطنة الفاعلة والمشروعية السياسية
الدكتور امحمد الزرولي
تعتبر التنمية البشرية بمثابة ركيزة أساسية للتنمية الشاملة والمندمجة وقيمة مضافة لبناء صرح مجتمع ديموقراطي ، كما أنها شرط ضروري لتجذير المواطنة وتفعيل حقوق الإنسان·
ومن هذا المنظور، تشكل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي أعلن عنها جلالة الملك محمد السادس في خطابه للشعب بتاريخ 18 ماي 2005، منعطفا استراتيجيا في إطار مسلسل الانتقال نحو وضع ديموقراطي مبني على المواطنة النشيطة والديموقراطية التشاركية والتضامن الإيجابي·
لمعرفة الأهمية الاستراتيجية لهذه المبادرة ولأبعادها الاقتصادية والاجتماعية ومخلفاتها السياسية، سيتم التطرق إلى خمسة مستويات تحليلية متداخلة:
- إشكالية التنمية البشرية : من الهامشية الافتراضية إلى الاندماجية الاستراتيجية·
- التنمية البشرية المستدامة : نموذج علمي وأداة معيارية وإطار توجيهي·
- وضعية التنمية البشرية بالمغرب : المجهودات المبذولة والعجوزات القائمة·
- إنجاز المبادرة ودور أطراف التنمية : من أجل مقاربة جهوية ومحلية استراتيجية على المدى المتوسط والبعيد·
- التنمية البشرية والحكامة الديموقراطية : نحو دولة حديثة، واجتماعية وترابية بالمغرب·
I ـ إشكالية التنمية البشرية : من الهامشية الافتراضية إلى الاندماجية الاستراتيجية
1.1 · .هل التنمية البشرية مجرد نتيجة للنمو الاقتصادي أو متغير مركزي للتنمية الشاملـة؟
خلال سنين طويلة، اعتبرت النظريات السائدة أن التقدم الحاصل على مستوى التنمية الاقتصادية يجب أن يتمخض عنه بشكل تلقائي تطور على مستوى التنمية الاجتماعية، وذلك بناء علـى مسلمة تجعـل من التشغيل والحاجيات الأساسية مجرد متغيرات مستقلة ونتيجة للنمو الاقتصادي، مع الخلط ما بين النمو والتنمية وما بين البحث عن الرفاه الفردي والرفاه الجماعي· غير أن هذه المسلمات قد فندتها الوقائع والتجارب الملموسة التي بينت غياب الارتباط الأتوماتيكي والعلاقة الميكانيكية، خاصة منذ النصف الثاني من التسعينيات بعد إقرار المنظمة العالمية للتجارة وتسريع ديناميات العولمة وشمولية الظواهر الاقتصادية·
فمن مجرد متغيرات مستقلة ونتائج للنمو الاقتصادي، فإن التشغيل والحاجيات الأساسية على الخصوص، والتنمية البشرية على العموم، بدأت شيئا فشيئا تعتبر كمتغيرات مركزية وكغايات تجمع أهداف ومرامي التنمية·
فمن موقعها الهامشي الذي كانت تفرضه عليها النظريات الليبرالية الكلاسيكية والجديدة، اقتحمت التنمية البشرية شيئا فشيئا موقعا عضويا داخل استراتيجيات وسياسات التنمية، وذلك كنتيجة لتأثير المقاربات الجديدة للتنمية الرامية إلى مواجهة الهجمة الأيديولوجية لليبرالية الجديدة على الصعيد العالمي وكوارثها الاجتماعية وارتفاع الفقر والهشاشة وتوسيع الهوة ما بين الأغنياء والفقراء والدول المتقدمة والدول النامية·
ووعيا بالمخاطر القاتلة لتوسيع الهوة الاجتماعية وبخطر انفجار المجتمعات التي تتطور بسرعات مختلفة، فقد بدأت نماذج جديدة للتنمية أكثر اهتمام بالأبعاد البشرية وبالرفاه الاجتماعي وبالتماسك الاجتماعي بارتباطها الوثيق مع الرفع من الفعالية الاقتصادية، تبرز وتأخذ مكانتها خلال العقود الأخيرة وذلك في إطار إجماعات استراتيجية وطنية مبنية في نفس الآن على تحسين التنافسية وتوزيع الزيادات في الانتاجية وعلى إقرار سياسات حقيقية للتشغيل وللحماية الاجتماعية وللادماج المنتج للفئات الاجتماعية الفقيرة والمعوزة·
2 · 1 · سياسات ما بعد التقويم الهيكلي ومحاربة الفقر: من "المشروطية الاجتماعية" إلى التنمية البشرية·
مع نهاية الثمانينات والتكاليف الاجتماعية التي خلفتها سياسات التقويم الهيكلي، قامت هيآت بروطون وودز( صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) والهيآت المختصة للأمم المتحدة (···PNUD, BIT ,OMS,UNICEF ) بتحاليل واعتمدت أعمالا استراتيجية حول أنماط الحد من الانعكاسات الاجتماعية السلبية لبرامج التقويم الهيكلي وبلورة استراتيجيات لمحاربة الفقر والتهميش الذي تعانيه شرائح اجتماعية واسعة· وفي هذا الصدد، خصص البنك الدولي تقريره حول التنمية في العالم لسنة 1990 لإشكالية الفقر، واقترح استراتيجية لمحاربة الفقر تتمحور حول نمو غني بالتشغيل وخلق الخدمات الاجتماعية الأساسية المناسبة وتنمية التحويلات وشبكات الأمان الاجتماعي لصالح الفقراء والطبقات الاجتماعية التي تعاني من الهشاشة·
وفي نفس الإطار، وبالإضافة إلى التقارير الدولية حول التنمية البشرية التي يصدرها سنويا منذ 1990 والمساعدة على إصدار التقارير الوطنية والجهوية حول التنمية البشرية، قام برنامج الأمم المتحدة للتنمية، بالخصوص، بإصدار تقاريــر حول الفقـر خـلال 1998 و 2000 في إطار تتبع توصيات القمة العالمية حول التنمية الاجتماعية، ومنذ ذلك التاريخ تقارير مشتركة حول أهداف الألفية للتنمية·
وحتى يتسنى ضمان متابعة واستمرارية برامج التقشف والتقويم، سيتم اعتماد شروط جديدة ونماذج جديدة لتدبير أزمة مديونية الدول النامية في نهاية التسعينيات وبداية الألفية، وذلك بتقسيم هذه الدول إلى ثلاثة أصناف لتكسير تضامنها، وإضعافها وفرض حلول وأدوية قوية عليها بحسب أنماط خاصة لكل صنف على حدة: الدول الأكثر مديونية، الدول ذات المديونية المتوسطة والدول الفقيرة الأكثر مديونية· وبخصوص هذه الأخيرة فقد تم اعتماد إطارات للتنمية المندمجة، والإطارات الاستراتيجي لمحاربة الفقر، والمساعدة من أجل تقليص الفقر والنمو وكذا المبادرة من أجل الدول الفقيرة الأكثر مديونية·
ومعلوم أن الاستراتيجيات والسياسات المتبعة خلال الثمانينات والتسعينات كانت تعتبر خلق التشغيل وتحسين ظروف عيش السكان كنتيجة جانبية لأنماط النمو الاقتصادي وللضوابط المتحكمة في ميكانزمات السوق· بيد أن قصر نظر الأسواق والطبيعة المقطبة والقطاعية للنمو الاقتصادي قد برهنت على غياب الآثار التلقائية والحتمية في مجال التنمية الاجتماعية وتحسين ظروف عيش السكان·
3 · 1 ·التنمية البشرية، الفعالية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي·
خلال التسعينات والنصف الأول من العشرية الأولى للألفية التي تميزت باحتدام المنافسة وبعمليات التركيز والتجميع التي شهدتها المجموعات الاقتصادية الكبرى وذلك للتأقلم مع الشروط الجديدة للمنافسة، فإن التهديدات الحقيقية التي برزت في مجال التشغيل (التوطينات وإعادة التوطين، تسريح اليد العاملة، إغلاق عدة فروع معامل الإنتاج···) وإضعاف ظروف عيش السكان التي حامت حول قطاعات حديثة تتميز بتنافسيتها وبالنسب المرتفعة لنموها، قد تم التغلب عليها في جل الدول المتقدمة وتم تطويقها من خلال تدخل الدولة ويقظة النقابات واعتماد سياسات مبنية على التشاور والتوزيع والضبط الاجتماعي·
فبدل اعتبارها متغيرات مستقلة ونتائج للنمو الاقتصادي، كما كان الشأن في الماضي، أصبح التشغيل والحاجيات الأساسية ومؤشرات التنمية البشرية تشكل بشكل تدريجي متغيرات عضوية لسياسات واستراتيجيات التنمية ومؤشرات للفعالية الاقتصادية والتلاحم الاجتماعي والاستقرار السياسي والإندماج الاقتصادي·
إن الإدماج العضوي المتتالي لإشكاليات التنمية البشرية سيتم إقراره واقحامه تدريجيا - وفي جل الأحيان بشكل غير مكتمل وخارج أي إجماع وطني وإطارات رسمية ملزمة للتنفيذ - في قلب استراتيجيات وسياسات محاربة الفقر والتنمية البشرية المستدامة·
II- التنمية البشرية المستدامة: نموذج علمي وأداة معيارية وإطار توجيهي·
2.1. .مصطلح التنمية البشرية: تطوير القدرات البشرية وتوسيع مجالات الحرية و تحسين إمكانيات الاختيار لدى الأفراد دون المس بحظوظ الأجيال القادمة·
لقد تم إقرار وضبط والتعريف بمصطلح التنمية البشرية المستدامة خلال الخمسة عشر سنة الأخيرة من طرف برنامج الأمم المتحدة للتنمية منذ تقريره العالمي الأول سنة 1990 حول التنمية البشرية وذلك بناء على دراسات وأشغال خاصة الدكتور أمارتيا سين الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1998، وبناء كذلك على تقارير وبحوث الهيآت المختصة للأمم المتحدة· ويرتكز هذا المصطلح على تنمية القدرات البشرية للأفراد وعلى توسيع إمكانيات الاختيار لديهم قصد التحسين المتتالي لرفاهيتهم دون رهن أو المس بحظوظ الأجيال القادمة، وذلك بالمحافظة على الاستدامة (التآزر) الزمنية داخل وما بين الأجيال والمحافظة على البيئة والتوازن الطبيعي للمجالات والأنظمة الإيكولوجية·
ويستمد مصطلح التنمية البشرية المستدامة نجاعته من كونه يمكن من القيام ببحوث على مستوى المقاربات العلمية، ومساءلة الاستراتيجيات وتطوير سياسات التنمية وفتح أوراش عديدة للبحث والعمل مستقبلا·
2.2. قياس مصطلح التنمية البشرية: المؤشر المركب للتنمية البشرية·
يتم قياس مصطلح التنمية البشرية، على الخصوص، من خلال مؤشر مركب للتنمية البشرية والذي يدمج، على أساس المتوسط الحسابي العادي وبناء على المستويات العليا والدنيا لأبعاد يتم تحليلها بالنسبة للائحة من الدول، كلا من الناتج الداخلي الإجمالي لكل فرد بتعادل القوة الشرائية (بالثلث) والتمدرس والتعليم (بالثلث) وكذا معدل الحياة عند الولادة (بالثلث)· ويتم التمييز ما بين ثلاث مستويات للتنمية البشرية: مرتفع بمؤشر يساوي أو يفوق 0,800، ومتوسط بمؤشـر يتراوح مـا بيـن 0,500 و 0,799 ، ومنخفض بمؤشر يقل عن 0,500.
وقد أدخلت التقارير المتتالية لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية مؤشرات أخرى لقياس التنمية البشريـة، تبرز سواء الفقر البشري أو المساواة ما بين الجنسين أو مشاركة النساء أوالحريات وحقوق الإنسان أو التنمية الديموقراطية أو البعـد التكنولوجي ···
وكمسلسل للبناء الاجتماعي الفردي والرفاه الجماعي، يهدف مصطلح التنمية البشرية المستدامة إلى التطوير التدريجي للقدرات البشرية وتوسيع الحريات وتنمية إمكانيات الاختيار لديهم قصد تحسين ظروف عيشهم·
وعلى هذا الأساس، فإن تعميق وأجرأة البحوث المبنية على مصطلح التنمية البشرية المستدامة مكنت، من جهة، من إدخال تحولات أفضت إلى تدعيم الأسس النظرية والمقاربات ، ومن جهة أخرى، من إحداث تغييرات كيفية على مستوى طبيعة الأعمال الاستراتيجية والبرامج المتبعة، في إطار الاستراتيجيات والسياسات التي تشرف عليها الهيآت التابعة للأمــم المتحـدة (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، برنامج الأمم المتحدة للتنمية، برنامج الأمم المتحدة لرعاية الطفولة، المنظمة الدولية للصحة، المكتب الدولي للشغل···)·
3.2. .مصطلح التنمية البشرية: أداة معيارية وإطار توجيهي·
إن مصطلح التنمية البشرية المستديمة سيعرف إدماجا تدريجيا في قلب ديناميات التنمية وفي صلب التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تعرفها مسلسلات بناء الاقتصادات الوطنية وفي إطار العولمة والشمولية· فعوض أن يبقى كمصطلح للتحليل العلمي، سيتم توظيف هذا المصطلح بشكل تدريجي كأداة معيارية لقراءة نقدية مقارنة للأنساق الوطنية للتنمية البشرية، وخصوصا كإطار توجيهي يفرض الوصفات الواجب اعتمادها، والتوجيهات التي يتعين اتباعها والأهداف الواجب تحقيقها في مجال استراتيجيات وسياسات التنمية البشرية· كما سيتم الربط الجدلي لهذا المصطلح مع ممارسة حقوق الإنسان والحريات، والمشاركة السياسية المسؤولة وإقرار الحكامة الديموقراطية·
فحسب التقرير الدولي للتنمية البشرية لسنة 2005 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية، ينتمي المغرب للدول ذات التنمية البشرية المتوسطة بحيث بلغت قيمة مؤشره للتنمية البشرية 0,631 سنة 2003 ( السنة المرجعية)، وهو ما يصنفه في الدرجة 124 من بين مجموع 177 دولة· وفي تقرير سنة 2004 ( السنة المرجعية 2002)، بلغت قيمة هذا المؤشر 0,620 والدرجة 125 من بين 177 دولة· إن المستويات المنخفضة الناتجة عن ضعف الناتج الداخلي الإجمالي الفردي والنسب المسجلة على مستوى تعليم الكبار( 15 سنة فما فوق ) والتربية بكل أسلاكها هي التي تعرقل مكانة المغرب في مجال التنمية البشرية·
ويجب التأكيد على أن قيمة مصطلح التنمية البشرية كنموذج علمي، والمؤشر التركيبي للتنمية البشرية كـأداة لقياسه، لا تكمـن في توزيـع النقط ووضـع الرتـب للـدول حسـب المعطيـات المتوفـرة والأنظمـة المعيارية الطاغية وأسئلـة الجـدوى والمعنـى التـي تفرضهـا التحاليـل المنحـازة والمقاربـات اللايبيرالية الجديدة التي يـروج لها دعاة والمدافعون عن إجماع واشنطن.
4.2. التنمية البشرية كمسلسل تراكمي شمولي يجب أن يكون نتاجـا لاستقلالية القـرار الوطني وكركيزة للمواطنة·
إن قيمة مصطلح التنمية البشرية تكمن، على العكس من ذلك، في كونه يحتم على المسؤولين السياسيين وعلى الأطراف العامة والخاصة للتنمية أن تشتغل في إطار الشفافية وأن تدلي بمعلومات وأن تفتح نقاشات حول الاختيارات المجتمعية وذلك بإشراك المكونات والقوى المواطنة للأمة، بالإضافة إلى ترسيخ ثقافة تقديم الحساب واختيار أجود المقررين لتدبير الشؤون العامة· وتكمن هذه القيمة على الخصوص في كون معركة التنمية الوطنية، وخاصة التنمية البشرية تشكل مسلسلا شموليا وتراكميا تتحكم فيه استقلالية القرار الوطني والعبقرية الخاصة لكل بلد حسب ثقافته وتقاليده وشخصيته وتنظيمه السياسي، وهو مسلسل لا يجب أن يتوقف ولا أن تعتريه انقطاعات ولا أعطاب·
تعليقات
إرسال تعليق