الشعر

بقلم: يحي توفيق

ليس أحد أجدر ولا أقدر ولا أبصر في الحديث عن الشعر وأساليبه وخفاياه ومضايقه ونقده من الشعراء أنفسهم اذا كانوا دارسين متبحرين متمكنين من أدواته ذلك ان فحول النقاد من أسلافنا كابن رشيق وأبي هلال العسكري والقاضي الجرجاني كانوا أصلا شعراء,, أما لماذا هم أولى من غيرهم,, فلأن الشعر ليس لغة ووزنا وقافية ومعنى فحسب بل هو اعمق من ذلك بكثير إنه ملكةوموهبة روحية وأريحية نفسية وفطرة خلقية لها تأثيرها وهيمنتها على ما يصوغه الشاعر من شعر ولها أثرها في تساقط المفردات التلقائي الحميم على وجدان الشاعر وشحن تلك المفردات والمعاني بمسحة من روح الشاعر ونفسه وشفافيته مما يلبسها ثوبا رائعا من الحس والانفعال يتساوى وقوة تلك الملكة وضعفها المتوثبة حينا والمتقوقعة حينا آخر في طبع الشاعر وفطرته.
واذا لم يستطع الشاعر أي شاعر ان يبلغ بشعره من ذات المتلقى وحسه ما يحرك أريحيته ويستنفر في دواخله كل العواطف الكامنة الراكدة ويحولها الى انفعال بما يقول من معانٍ وعاطفة في شعره أيا كانت تلك المعاني أو العواطف اذا اخفق في ذلك فانه لاشك ناظم لا علاقة له بالشعر ولم يدخل الى ملكوته المشحون بالأجواء الروحانية والبراكين الانفعالية التي لا يمكن بعثها وتحريكها وتأجيجها إلا بنفس شاعر يملك الشفافية والحس والموهبة التي تلهمه القدرة على التصوير والتعبير بشكل تلقائي هو أقرب الى الالهامي والايحائي منه الى اجهاد الفكر,, ولست أقصد أو أعني أنه لا فكر فيما يقوله من شعر بل بالعكس به كل الفكر وكل العقل ولكنه يرد على وجدان الشاعر تلقائيا بما فيه من فكر وما فيه من ابداع كمخاض لمعاناته ورد فعل لتأثره بالحدث فكريا وعاطفيا ومعايشته له والتفاعل معه أيا كان الحدث فبهمس وأحاسيس وتراتيل الروح تتخاطب الأرواح وتتلاقح وتتجاذب وتتلاقى وتنفعل.
كل هذا الذي قلته يحتاج الى تفسير وتبسيط لتقريبه من استيعاب القارىء وفكره,, واعترف انه لن يكون من السهل على ذلك، ولكني سأحاول ولقد سبقني الامام عبدالقاهر الجرجاني في حديثه عن الشعر في دلائل الاعجاز فقال معبرا عن مدى صعوبة الحديث عن الشعر وخفاياه: واذا كانت العلوم التي لها أصول معروفة وقوانين مضبوطة قد اشترك الناس في العلم بها واتفقوا على البناء عليها، اذا أخطأ المخطىء ثم أعجب برأيه لم يستطع رده عن هواه وصرفه عن الرأي الذي ارتآه إلا بعد الجهد، فكيف بأن ترد الناس عن رأيهم في هذا الشأن وأصلك الذي تردهم اليه تعول في محاجتهم عليه، استشهاد القرائح وسبر النفوس وفليها وما يعرض فيها من الأريحية عندما تسمع وكان ذلك الذي يفتح لك سمعهم ويكشف الغطاء عن أعينهم وهم لا يضعون أنفسهم موضع من يرى الرأي ويفتي ويقضي إلا وعندهم أنهم ممن صفت قريحته وصح ذوقه ونمت أداته فاذا قلت لهم انكم قد أوتيتم من أنفسكم ردوا عليك بمثله وقالوا: لا,, بل قرائحنا اصح ونظرنا أصدق وحسنا أذكى فتبقى في أيديهم حسيرا لا تملك الا التعجب فليس الكلام اذن بمغن عنك ولا القول بنافع ولا الحجة مسموعة ولم يكن الأمر على هذه الجملة إلا لأنه ليس في أصناف العلوم الخفية والأمور الغامضة الدقيقة أعجب طريقا في الخفاء من هذا يقصد الشعر.
فاذا كان الناس في زمن الامام عبدالقاهر الجرجاني وهم متسلحون بمتانة اللغة وعلى درجة عالية من الحس والتذوق للشعر اذا كان من الصعب على الامام الجرجاني رغم كل ذلك افهام الناس بخفايا الشعر وروحانيته ودروبه، فكيف بي والناس في هذا الزمن اصبحوا من الضحالة تائهين بين هذه الفضائيات وبين الشعر العامي، فكيف لي ان اشرح لهذا الجيل التعس هذه الأمور الروحية وكيف يمكن ان أدخل الى عقولهم لماذا يهتز السامع للشعر الحقيقي وينفعل لحد الطرب في حالات التطريب ويأسى ويضطرب في حالات الأسى والشجن أذلك شيء في ذات الشاعر,, هو الذي يبعث تلك الانفعالات والأحاسيس أم هو شيء في ذات المتلقي أيا كان مستواه الثقافي.
أم هو شيء يشترك فيه الاثنان معا المبدع والمتلقي اذا اتحدا واجتمعا وانفعلا سويا بحدث ما عبر عنه الشاعر بملكته وانفعل بتعبير الشاعر المتلقي لمشاركته له في الانفعال بذات الحدث أي ان الشاعر مثلا كان يمر بحالة حب وحزن فقال:

يا حزني المخبوء في أعماقي

يا دمعي المصلوب في أحداقي

أنا كلما حاولت نبذك من دمي

ركضت اليك يدي تشدُّ وثاقي

فان المتلقي الذي يمر بذات الحالة سوف يكون انفعاله وتجاوبه مع الأبيات كبيرا وعميقا واحساسه بأنه هو وليس الشاعر الذي يقول تلك الأبيات لشدة انطباقها على حالته,, ذلك وسواه ما سوف أحاول ان أشرحه وأبسطه لكم مستعينا بالله باذلا جهدي ان شاء الله.
خلق الله الانسان من دون سائر المخلوقات ناطقا عاقلا أي مفكرا وخلق جميع الحيوانات خرساء وفي ذات الوقت غير عاقلة أي لا سبيل لديها للتفكير فالنطق متصل اتصالا وثيقا بالفكر أو النطق هو وليد الفكر لكن فقدان النطق لا يلغي دور الفكر بل ليس له تأثير على الفكر فالأخرس من البشر يعي ويفكر وقد أكد واثبت هذه النظرية طبيا العالم والطبيب الفرنسي جاك لورداه الذي صادف ومر هو ذاته بالتجربة فقد اصيب بفقدان طارىء على النطق وفي فترة العلاج لاحظ ان فقدان النطق لم يؤد به الى فقدان شيء من قدراته على التفكير والتركيز وقد ظل الانسان في الغرب في حيرة أمام التساؤل هل النطق ومن ثم التعبير وتركيب الجمل السليمة أصلا ينشأ عن طريق التقليد أي هل الطفل عندما يبدأ تركيب جملة للتعبير عن ذاته انما هو يقلد الآخرين ممن حوله أو هو بإلهامه الداخلي يبتكر صياغة ذلك التعبير وتأليف جمله بقدرته الذاتية وكانت الفكرة السائدة انه يقلد من حوله,, وقد تبنى هذه النظرية نظرية التقليد السلوكيون وعلى رأسهم سكنر وفي القرن الرابع عشر الميلادي قال ابن خلدون عن اللغة إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما يأخذ صبياننا بهذا العهد لغاتنا أي ان السلوكيين وسكنر على رأسهم استعاروا نظريتهم من ابن خلدون الذي سبقهم اليها,, ومن قبل ابن خلدون كان ارسطو في كتابه الشعر ص36 قد نوه عن ذلك إذ قال (فان المحاكاة التقليد أمر فطري لدى الناس منذ الصغر والانسان يفترق عن سائر الأحياء بأنه أكثر محاكاة وأنه يتعلم أول ما يتعلم بطريق المحاكاة (التقليد).
فالطفل في رأي السلوكيين يولد وذهنه خال تماما ثم يبدأ في تقليد الآخرين ويتعلم منهم الكلمة ومعناها ونطقها ثم هو ايضا بعد ذلك يكتسب منهم قدرته في تقليد كيفية تركيب هذه المفردات في جمل مفيدة وبمعنى آخر ان الانسان لا يولد خلاقا مبتكرا بفطرته بل مقلدا يسمع ويحفظ ويختزن ثم يقلد الآخرين فيما أخذه عنهم من تركيب جمل وتعابير لغوية يعبر بها عما في نفسه.
كل هؤلاء: السلوكيون وعلى رأسهم سكنر وابن خلدون ومن قبلهما ارسطو,, بنوا نظريتهم هذه متجاهلين حقيقة ثابتة غابت عنهم لا سبيل الى نكرانها أبدا وهي حقيقة تجربة أبو البشر سيدنا آدم عليه السلام,, فممن اقتبس أو قلد أو استلهم تعبيراته عندما كان يتخاطب مع أم البشر حواء,, وحواء ذاتها كيف فهمته أو فهمت عنه اشاراته الصوتية عن الأشياء ومدلولاتها نحن المسلمون نؤمن بما قاله المولى في محكم تنزيله (وعلم آدم الأسماء كلها) أي ان الله جلت قدرته بذر في طينة وفطرة سيدنا آدم البذرة التي تعلمه التعبير عن أسماء الأشياء ومدلولات هذه الأسماء وإلا كيف نطق وعبر ان لم يكن في فطرته موهبة التعبير هذه التي بذرها الله فيه,, والدليل الآخر على وجود هذه الموهبة أو الملكة في فطرة البشر نشوء هذه اللغات المختلفة بعدما تفرق البشر في شتى انحاء المعمورة وهي دلالة ليس على وجود ملكة وموهبة التعبير هذه فحسب بل على امتزاج وارتباط واتحاد هذه الموهبة بجهاز الفطنة والذكاء في تكوين البشر وفطرتهم الأمر الذي جعل اسلافنا الأوائل يبتكرون الأسماء للمسميات والحركات ويعبرون عنها تعبيرا يفهمه الآخرون عنهم.
وفي النصف الآخير من القرن الماضي وفي الخمسينات على وجه التحديد جاء العالم اللغوي الأمريكي تشومسكي بنظريته التي نقضت كل ما سبقه من نظريات وتجاوزت حتى أفكار النظرية البنيوية,,ونظرية تشومسكي هذه ترتكز على وجود القدرات الفطرية الخلاقة في توليد اللغة للتعبير عن الذات في فطرة الانسان منذ ولادته فالانسان عند تشومسكي ليس مقلدا في عباراته وتراكيب جمله بل مبتكرا لها.
وتستند النظرية على ان الانسان منذ تكوينه توجد في جزء من ذهنه خلية أسماها تشومسكي
LINGUISTIC AQUISITION DEVICE وهذه الخلية تولد مع الانسان وهي على حد مفهوم النظرية متساوية لدى كل البشر ولكنها قابلة للنمو حسب تجارب ومران صاحبها في الكتابة والتعبير ومنها تنبع قدرته على تأليف وتوليف المفردات وسبكها في عبارات وجمل مفيدة صحيحة لم يسبقه اليها أحد وذلك طبعا في أطر مكتسباته من المفردات اللغوية التي خزنها ذهنه وذاكرته خلال تعايشه مع البيئة التي نشأ فيها أيا كانت لغة تلك البيئة.
وكما قلت في استنتاجي من السابق ان الانسان ليس مقلدا وضربت مثلا بأبي البشر آدم كيف استنبط لغته ومن بعده كيف استنبطت كل هذه اللغات المختلفة فليس ثم مخلوق قبل آدم يمكن ان يقلده آدم أو يقتبس منه أما كون هذه الخلية متساوية عند كل البشر فذلك ما أشك فيه واعتقد انها موجودة هناك ولكنها متباينة عند البشر تنقص وتزيد توهجا وتبلدا من فرد لآخر كل حسب فطرته والدليل على صحة ما أقول,, أن النطق هو وليد الفكر والفكر يعلو ويسفل حسب توقد الذكاء في المخلوق أو تبلده فبعض الأطفال يبدؤون تجربة النطق وهم في الشهر السابع والبعض لا ينطق إلا في أواخر السنة الثانية وهكذا,, فان هذه الخلية أو الملكة ملكة النطق تتوقد وتتوهج لدى البعض وتتبلد وتضمحل لدى البعض الآخر تمشيا مع حالة الذكاء توقدا أو تبلدا في كل ذات بشرية فأنت ترى الكاتب اللامع المتوهج الذي لا تمل من قراءته وترى الشاعر الذي يحركك ويدهشك ويشدك بكل حواسك مع شعره,,
وفي ذات الوقت ترى الكاتب الذي تريد ان تصفعه والشاعر الذي تأسى له لأنه لم يستطع ان يحرك انتباهك بما أو لما يقول,, لكن هل الذكاء والفطنة هما وراء قوة ملكة الشاعر وطبعه واذا كان ذلك فان أي ذكي فطن يمكن ان يكون شاعرا اذا أخذنا بهذه النظرية,, اذا ما هو ذلك الشيء في فطرة الانسان الذي يخلق منه شاعرا ملهما يحرك المشاعر والأحاسيس ويهتز له المتلقي حتى النخاع انه حتما شيء إلهامي مغاير يضاف الى ملكة الفطنة والذكاء التي تسانده وتعينه,, شيء في تركيبة خلقه وفطرته شيء أشبه وأقرب ما يكون من تلك الخلية التي اكتشفها تشومسكي بعد قرون وقرون من الجهل والتخبط,, لقد كانت العرب تسمي الشعر الفطنة,, وليت شعري تعني ليت فطتني كانوا يتصورون ان حدة الذكاء في الفرد هي التي تخلق منه شاعرا مفلقا, وقد يكون هذا التصور صحيحا الى حد ما لكن وأنا هنا اتحدث بحكم تجربتي التي خضتها كشاعر ولا يمكن ان أخدعكم أو أخدع نفسي فيما أقول وانما أريد فقط تثبيت أمور استهلكت من تفكيري واجهدت عقلي كثيرا فاذا استطعت الآن أن ارتبها واضعها بين أيديكم وتحت أنظاركم فلأني أريد ان يستفيد منها الكل فيما يعود بالنفع على الجميع ان كان ثمة نفع وقد يستطيع من يأتي من بعدي ان يبني على ماقلت ويكمل ما بدأت وما قد أكون لم استطع أن اصل اليه رغم كل اجتهاداتي واستنتاجاتي وفكري وتجربتي.
منذ قرون وقرون واسلافنا استلفت انتباههم تباين الشعراء وعرفوا ان هناك شعراء لو قالوا بيتا واحدا فانه يشدك ويسخنك وتتحمس لشعرهم وتنفعل به، ثم وجدوا شعراء ملؤوا الدنيا ضجيجا لكن لم يلتفت اليهم أحد ولم يحركوا مشاعر أحد,, واتفقوا فيما بينهم في شتى عصورهم على تسمية الأول بالشعراء الملهمين المطبوعين، وتسمية الآخرين بالمتكلفين المتشاعرين فلا ماء في شعرهم ولا روح ولا حياة، والى هنا وقفوا ولم يحاولوا أن يذهبوا الى أبعد من ذلك أو الى ما وراء ذلك مثلا لماذا هذا الشاعر مهضوم مقبول وذلك الشاعر غير مهضوم ولا مقبول,, ما هو السبب ما هو السر الذي يكمن خلف هذه الأحجية الغريبة العجيبة البعض منهم تحدث عن سهولة اللغة والمحسنات اللفظية وقالوا كثيرا وداروا وحاروا وخلبت البابهم ابداعات الشعراء من قبل اكتشاف البديع ومن بعد ما جاء شعراء البديع الملهمون المطبوعون وايضا المتكلفون المتقعرون وهذه من بعض الأبيات التي كانت مدار وأمثلة اعجابهم وتعجبهم,.

ولما قضينا من منى كل حاجة

ومسح بالأركان من هو ماسح

وشدت على حدب المهاري رحالنا

ولا ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا باطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطي الأباطح

أخذتهم سهولة اللغة فيها وسلاسة المحسنات اللفظية التي تعج بها الأبيات وذلك بالرغم من علمهم ان المعنى فيها بسيط متواضع.
عندما كتبت قصيدتي الأولى سمراء في مطلع عمري وقد كانت نتيجة عاطفة قلبت كياني لم أكن متأكدا أنها موزونة صحيحة وعشت الحيرة فترة من عمري وبعدها بعامين وكنت قد دخلت مضمار الوظيفة لمرض ألم بأبي حتى أقعده,, تعرضت في مكان عملي لموقف قاهر وكان يمكن ان اتمرد وأترك العمل لولا أني كنت أمل كل أسرتي أبي وأمي واخواتي واخواني وكان عليّ أن افكر فيهم قبل نفسي وعندما عدت مساء ذلك اليوم الى بيتنا قرأت أمي في وجهي ما يعتمل في صدري فنظرت اليّ بعمق وقالت بحنان ما يكربك يا بني وضحكت لها قليلا وضاحكتها كثيرا حتى لا أزيد همومها هما جديدا,, ثم صعدت الى غريفة صغيرة كنت أخلو بها الى نفسي وبها كتبي القليلة وهناك جلست متململا مكروبا لوهلة وأحسست أني أريد أن اقول شيئا وسحبت الورق وكتبت وكأني كنت أوجه الكلام الى أمي رحمها الله.

أتيتكِ والدجى يرخي ظلالا

على الآفاق والكون الحزين

وجئتك تعصر الآهات قلبي

وأخشى أن تبوح بها عيوني

فأرنو باسماً والقلب يبكي

ودمعي قد تحجر في جفوني

أداري والأسى يدمي فؤادي

وأكتم علني اخفي شجوني

وكما تحيرت بعدما كتبت سمراء,, أهي شعر أم هي مجرد خواطر رومانسية تحيرت أيضا كثيرا بعد هذه الرباعية لكن الموسيقى المفعمة بها كلتا المقطوعتين,, أكدت لي أنها شعر ولقد كانت الظروف الأسرية والتربية الحازمة التي درجت وترعرعت في احضانها تعوق عملية عرضي لما قد كتبت على من يستطيع ان يطمئنني وهكذا فلقد تركت القصيدة والرباعية لمدة قد تكون ثلاث سنوات شغلت عنها بهموم الحياة وأخذني بحثي عن ذاتي طويلا حتى استطعت بعد مدة ان ادرس العروض,, واطمأن على سلامة القطعتين عروضيا كانت سمراء من بحر الكامل والرباعية من بحر الوافر,, وتأكد لي أني شاعر,, وبدا لي أن عليّ ان أنمي هذه الموهبة أو الملكة وأصقلها وكأني أحسست أني بدأت أتلمس الطريق الى معرفة ذاتي وبدأت من جديد أعيد كتب اللغة والقواعد الى مكتبتي وبدأت أكثف على قدر ما يسمح لي وقتي من حجم ونوع قراءاتي,, ثم بقوة ظهرت على السطح في الوسط الأدبي وقدمت نفسي أو قدمني التلفزيون الوحيد في المملكة بالظهران قدمني كشاعر وتداولت قصيدتي الصحف ولحنت القصيدة وذاعت وشاعت في مجتمعنا وبدأت أحاول أن أكتب شعرا لكي أظل في الصورة باستمرار فقد استهوتني تلك الأضواء,, ولم أكن أدري أني كنت أذبح نفسي فلقد كنت أنظم شيئا لا روح فيه,, لأن جل ذلك الذي كتبته في تلك الفترة لكي أظل تحت الأضواء مزقته بعد ان نضجت واكتشفت ضحالته وبعده عن روح الشعر ومناخه ومنذ ذلك الوقت انتابني هذا المرض الأسطوري والسؤال الأزلي الذي عايشني مدة طويلة من عمري ما هو الشعر وما هو النظم ولماذا هناك قصائد حتى لدى كبار الشعراء كالمتنبي وأبي تمام تحملك الى القمة حيوية وشفافية وأخرى تأخذك الى الحضيض ضحالة وركاكة لا روح ولا ماء ولا حس فيها,, غرست رأسي داخل كتب التراث العمدة والصناعتين والشعر والشعراء الوساطة والممتع في الشعر وغيرها كثير ووجدت اجدادي واسلافي هم أنفسهم لا يقلون حيرة عني,, صحيح أنهم اهتدوا واصطلحوا على تسمية الشاعر الذي يبدع فيحرك المشاعر ويدغدغ الأحاسيس بأنه شاعر مطبوع كما أسلفت، أما لماذا يحدث هذا فذلك مالم أجد له تعليلا في كتب التراث,, ورأيت ان افضل شيء يجب على ان أفعله هو أن أراقب نفسي ثم اعود للقصائد الحية والمليئة بالحيوية لدى الشعراء الكبار وابحث عن أسباب هذا الكم الكبير من الروح والحس والانفعال الذي يميزها، أخذت أشهر قصائد المتنبي ميميته:
واحر قلباه ممن قلبه شبم
وراجعت ظروف القصيدة متى قيلت وأسبابها وكل القصص التي كتبت عنها ودارت حولها ثم قصيدته.
عيد بأية حال عدت يا عيد
ثم رجعت لكل الذي كتبته أنا من قصائد والذي مزقته لعدم قناعتي به فاستخلصت الأتي:
1 ان الشاعر الحقيقي يخلق شاعرا بفطرته وهناك شيء ما في طينته وتركيبته وتكوينه يميزه عن الآخرين هل هي خلية كتلك الخلية التي اكتشفها تشومسكي أم هي ذات الخلية ولكنها أكثر توهجا ونضوجا في الشعراء وأعمق حسا ورسوخا وسبب التساؤل ان الشاعر الحقيقي المطبوع ليس في حاجة الى علم العروض لكي يهتدي به في بناء قصيدته لأن ملكته هي التي تهديه الى وزن الشعر وموسيقاه والدليل على ذلك هذا العدد الضخم من الرعيل الأول قبل الفراهيدي وعلم عروضه,, أولئك الشعراء الذين كانوا يقولون على فطرتهم وبتوهج طبعهم وقرائحهم,, حتى ان الفراهيدي أخذ عنهم علم العروض قياسا على ما وجده أمامه من أشعارهم وبعد الفراهيدي جاء أبوالعتاهية وقال شعرا ليس له اساس من علم العروض وقيل له في ذلك فقال ما مضمونه أنا أقول بطبعي وفطرتي وعلى الفراهيدي أن يأخذ عني .
2 أنه حتى الشاعر الحقيقي المفلق المطبوع اذا تكلف الشعر فإن شعره يأتي ممجوجا لا طعم له ولا يحرك ويهز حس وشعور المتلقي وأصدق مثل على ذلك الفحل العريق أبوتمام ,, وحتى أبوالشعر المتنبي فانك تجده مثلا في ميميته عندما انفعل وغضب نفَّس عن انفعاله وغضبته بقصيدته الميمية تلك التي عاشت حية في قلوب الناس على مر العصور وكذلك قصيدته عيد بأية حال عدت يا عيد وقس على ذلك الكثير من قصائده لكن هناك ايضا بعضا من قصائده لم يكن منفعلا بموضوع القصيدة فخرجت قصيدته باردة لا روح ولا انفعال ولا حس فيها ويأتي ذلك كثيرا عندما يتكلف مدح من لا يؤمن بأهليته لمدحه مثل كافور الذي كان يحتقره في أعماقه ولكن كان يمدحه طمعا في أن يوليه ولاية من مدن مصر,.
3 إذن فالسر يكمن في الحدث الذي يولد الانفعال في ذات الشاعر ذلك الانفعال الذي يظل يتفاعل في دواخل الشاعر حتى يتفجر شعرا على الورق,, لكن هل من الضروري ألا تقول شعرا إلا اذا كان هناك حدث هناك انماط مختلفة من الشعر كشعر الوصف مثلا أو المدح أي شيء يمكن ان يحدث لكي يجعلك تقول شعرا وصفيا مطبوعا مليئا بالحيوية والحس,, انه القناعة والحس والانفعال بما ترى وتصف والاحساس به احساسا صادقا ذلك هو السبيل الوحيد الذي يجعلك تصف شيئا ويكون شعرك قويا وجميلا يدخل الى أعماق المتلقي ويحركه، مثلا أنت لا تستطيع ان تصف منظر الغروب لمجرد أن أستاذك في الجامعة طلب منك وصفه شعرا,, انما اذا رأيت المنظر بعينيك وخلب لبك وحرك أحاسيسك وهز مشاعرك عندها فقط يمكنك ان تصور هذا المنظر شعرا وتبدع فيه,, فالسر هو في الانفعال والتفاعل مع الحدث أو المنظر أو الانفعال والاعجاب الحقيقي بشخصية الممدوح وذلك بالنسبة لشعر المديح والدليل يتضح ويبدو ظاهرا في شعر المتنبي الذي كان معجبا حقا بشجاعة وفتوة سيف الدولة لذلك كانت مدائحه فيه قوية رائعة مليئة بالحس والحيوية بينما لم تكن كذلك في مدح سواه إلا من انطبقت عليه ذات القاعدة من حيث الاعجاب الصادق بشخصية الممدوح,, وهذه القاعدة تنطبق على كل حالات المدح,, خذ مثلا حسناء رائعة رأيتها فهزك جمالها حتى النخاع لا شك انك اذا أردت ان تكتب شعرا فيها فانها سيجيء شعرا مطبوعا مليئا بالروح والحس والانفعال والعاطفة وهذه الأخيرة العاطفة لها دور كبير بل هي تكاد تكون الأساس فشعر بلا عاطفة هو كألفية ابن مالك,, نظم بلا شعر,, وعندما قلت عن شعر أكبر شاعر في وطني انه ليس شعرا بل نظما تصدى لي من الكتاب الكثيرون كبارا وصغارا كان منهم ناقد ظل يكتب نقدا على مدى اربعين عاما وكان تساؤله الذي صعقني هو,, هل هناك شعر وهناك نظم وما هو الفرق بين الشعر والنظم,,
وبدأ كثير من الأدباء الذين كانوا في الساحة ما عدا الذين يحترمون أنفسهم بدؤوا ينتقدون ويتندرون كعادة أهل بلدي عندما لا يفهمون شيئا فانهم يجعلونه محل سخريتهم وهزئهم بل ان بعضهم تجاوز ذلك ولكن عندما كتبت مجموعة مقالاتي ردا على الكبار المرموقين فقط الذين هاجموني وخطأوني صمت الجميع,,
صمت المتهافتون الصغار والمرموقون الكبار,, وادركوا اني اتحدث عن تجربة قد خضتها وان الموضوع ليس زوبعة افتعلها لأكسب مساحة أكبر في الساحة,,
وأنا الآن اضحك في سري كثيرا لأني ارى البعض منهم نفس الناس ونفس الأقلام أراهم في الأيام الأخيرة بدؤوا يتحدثون عن النظم البارد الذي لا علاقة له بالشعر وبدؤوا يسهبون في ذلك وينظرون نفس الفئة المتهافتة الذين كانوا يسخرون ويتعجبون مما أقول وكان الأولى ان يؤازروني أو يؤيدوني لو كانوا فعلا يعرفون أو يدركون ما كتبت أو ما قلت في ذلك الوقت وهذه هي الحياة بسلبياتها وايجابياتها ولابد ان نعيشها ونعايشها ونأخذها كما هي.

تعليقات