حقوق الإنسان في الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ

مّنَ الطّيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَىَ كَثِيرٍ مّمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً

صدق الله العظيم (الإسراء ، 70)

حقوق الإنسان فى الإسلام

مقدمة

بداية نجد أن التشريع الإسلامى قد وضع ميثاقاً عاماً وشاملاً لكل عصر وزمان، بما يتعلق بحقوق الإنسان العامة مع مراعاته لقضايا الحقوق والواجبات التى تكفل سلامة الفرد وحريته، وتوافقه مع مجتمعه.

ولا يغيب على الأذهان أن القرآن الكريم وهو المصدر الأول للتشريع فى الفقه الإسلامي قد وضع دستورا شاملا لحقوق الإنسان، ثم أتبعه الحديث الشريف لتأكيد لغة المساواة والحرية والتوافق بين أفراد المجتمع، وقد تجلى ذلك أيضاً فيما بعد من تطبيق كامل لهذه الحقوق ومبادئها السمحة بين أفراد المجتمع في مختلف الدول الإسلامية التي توالت بعد ذلك.

كما إن للإنسان في سنة النبي عليه الصلاة والسلام شأنٌ وأي شأن ومكانةٌ وأي مكانة، فهو صانع الحضارات وسيد الكون ولذا نجد في سنته عليه السلام ما يؤكد تقديس هذا الإنسان بما قرره له الشرع الحنيف من الحقوق، والواجبات التي تبدأ أولاً في حقه في الحياة التي وجبها الله تعالى له، فهي أمانة يجب الحفاظ عليها بمعنى أنه لا يجوز له أن يهدرها أو يلغيها ولو على سبيل التمني النفسي، كما حدد النبي صلى الله عليه وسلم حقوقاً كثيرة بين الإنسان وأخيه الإنسان ابتداء من والديه، ومروراً بأرحامه، وانتهاء بالآخرين من أفراد المجتمع.

وسوف نتعرض في هذه المحاضرة لعدة نقاط يظهر من خلالها التأصيل الإسلامي الواضح لتلك الحقوق الإنسانية في الإسلام وتتبلور فيما يلي:

حق الحياة

لقد جاء الإسلام الحنيف والعالم كله يعيش في ظلام دامس وجهل واضح وعقائد محرفة، فبدل ظلام الحياة نوراً ، ومحا بذلك تلك الأنظمة البالية التي كانت تحط من قدر الإنسان وآدميته ، واعتبر حق الحياة من الحقوق الأساسية التي يجب أن يتمتع بها كل فرد لذا كان واجباً على الدولة والمجتمعات والأفراد صيانة هذا الحق وتوفير الحياة الكريمة لكل مواطن . والمراد بـ " الحياة " هنا العيش الكريم المصان في إطار من الأمن والسلام ، وذلك من غير إيذاء ولا اعتداء على الإنسان بمختلف صور العنف والعدوان .

فالقرآن ينص على أن إزهاق الروح الإنسانية جريمة ضد البشرية كلها ، والعكس صحيح أيضاً أي تنجيتها من الهلاك نعمة على البشرية كلها ، حيث قال تعالى : "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً" (سورة المائدة، الآية 32) . وتوكيداً لحق الحياة حتى لا يؤذي فيها أحد فعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم ". رواه مسلم .

لقد أحاط القرآن الكريم النفس البشرية بسياج قوي يحفظ حياتها من جميع صور الإيذاء لأن الحياة الكاملة مصونة والاعتداء عليها بالقتل جريمة ، وكذلك التعدي على جزء منها وتعريضه للتلف أو التشويه ، فالإعتداء على النفس البشرية وقتلها بغير حق جريمة شنيعة لا تساويها جريمة، فلقد شهدت الأرض أول جريمة قتل ببني البشر عندما اقتتلا ابني آدم ، إذ قال عز وجل: " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)(سورة المائدة).

إنها الجريمة المزلزلة ... كيف ..؟! لأن قتل النفس المطمئنة بغير حق غاية في الظلم والعدوان ، ففي القرآن والسنة المشرفة ما يثير الرعب في النفس عن أخبار القتلة المجرمين الذين يقتلون الأبرياء بغير حق ، وفي ذلك يستوي ما لو كان القتيل صغيراً أو كبيراً ، عظيماً أو صعلوكاً ، عاقلاً أو مجنوناً ، رجلاً أو امرأة ، مسلماً أو غير مسلم ، ويعتبر إزهاق روح هذا الإنسان وهو بريء قمة الظلم الفادح الذي تضطرب وتهتز له الدنيا ، ولأن الجزاء من جنس العمل فلم يجد الإسلام غير القصاص كعقوبة لردع الجاني ولتأمين السلامة المطلقة بين الناس ، ولذا قال ربنا سبحانه وتعالى: " وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " (سورة البقرة، الآية 179).

ونبين هنا بعض النماذج من النصوص لبيان مدى الاستنكار الذي ينادي به الإسلام في وجوه القتلة الفجرة ، فقال عز وجل : " إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (22) " (سورة آل عمران)، وفي بشاعة القتل العمد ما أعد الله لهم من حساب من إلقاء القتلة في جهنم فضلاً عن غضبه الشديد ولعنته التي يلحق بهم جزاءاً وفاقاً لهول ما جنوه وما ارتكبوه في دنياهم ، وفي ذلك يقول الله عز من قائل: " وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا " (سورة النساء، الآية 93)، ومن رحمة الإسلام أنه أقر للمرأة حق الحياة فقد انكسر وأد البنات أي قتلهن أحياء مخافة للعار، حيث قال تعالى: " وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9) " (سورة التكوير)، فكان تحريم القرآن للتعدي على حياة المرأة بمثابة توكيد الحياة لها، ونهى الإسلام أيضاً عن قتل الأبناء وهم في أرحام أمهاتهم وهذا ما يسمى "بالودأ الخفي" مخافة الرزق ناسين أن الرزاق حي لا يموت كما قال عز وجل: " وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا " (سورة الإسراء، الآية 31).

ولشمولية هذا الدين الحنيف لم ينسى التحذير من الانتحار فنهى عن إقدام المرء العاقل البالغ على قتل نفسه عمداً ليتخلص من حياته ، فلا شك أن نعمة الحياة مهداة من البارئ عز وجل كنعمة تفوق دونها كل النعم لأنها النعمة الكبرى التي تنبثق عنها الحياة الدنيا، فقال الله جلت قدرته وعظمته: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا (30)(سورة النساء).

وهنا يبين لنا القرآن العظيم عن نهي العدوان على النفس بقتل صاحبها لها ففي ذلك عدوان لا يقدم عليه إلا شقي تعيس ألقي بنفسه في الجحيم ، وهذا يوضح لنا بصدق كبير مدى تكريم الإسلام للإنسان ، ووصل أحكام التشريع في حفظ حق المسلم في الأمن على نفسه من القتل سواء عمداً أو خطأ أو الترويع ، أنها شرعت له ما يقيه لأن الإسلام حرم كل عمل ينتقص من حق الحياة الكريمة إذا كان العمل تخويفاً أو إهانة أو ضرباً أو اعتقالاً أو تطاولاً ، فإن حياة الإنسان المادية والأدبية محل الرعاية والاحترام . وعن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أشار المسلم على أخيه المسلم بالسلاح فهما على جرف جهنم فإذا قتله خرا جميعاً فيها " رواه النسائي.

وأوصانا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أيضاً بحرمة دم المسلم وماله وعرضه ورهبنا في نشر الفتن والوشايات لإيذاء الآخرين طمعاً في الحصول على دنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار " رواه البخاري . ذلك هو الإسلام العظيم بتصوره ونظامه وتشريعه يقرر للإنسان خير حياة في سلام وأمن وطمأنينة ليكون من الكائنات في ذروة الدرجات والمعالي .


حق المساواة

من المعلوم جلياً أن الإسلام يكرم الإنسان في عمومه ، ومن ثم يرفض التفرقة العنصرية في أي لون أو منزع بين بني البشر ويؤمن بمبدأ المساواة في الاعتبار الإنساني والكرامة الإنسانية. فقد أقر الإسلام مبدأ المساواة كقاعدة من أهم قواعد البناء الاجتماعي للشعوب انطلاقاً من الوحدة الإنسانية بين أبناء البشر جميعاً، والشاهد العام في قوله تعالى: " يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (سورة الحجرات، الآية 13). والمتأمل في تلك الآية يستنتج أن الإشارة إلى وحدة الأصل مع التكريم للناس جميعاً تعطي الدلالة الكاملة على أن الإسلام الحنيف يريد أن يغرس في النفوس البشرية مبدأ المساواة، ولقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ وتلك القاعدة في أحاديث متعددة منها على سبيل التالي لا على سبيل الحصر؛ "من خطبة الوداع" :

(أيها الناس إن ربكم واحد وإن إياكم واحد وكلكم لآدم وآدم من تراب وليس لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى ألا هل بلغت اللهم فشهد ألا فيبلغ الشاهد منكم الغائب) .

ولقد كانت هذه النصوص القرآنية وتلك الأحاديث النبوية بمثابة ثورة اجتماعية بدلت الأوضاع الاجتماعية المنحرفة في العالم كله ، ووجد المستضعفون في ظلها التكريم والاحترام وشعروا بآدميتهم وإنسانيتهم بعد أن قاست البشرية من جراء هذا الظلم الاجتماعي ما قاست مما جعل قضية المساواة بين البشر هي آخر قضية في تاريخ العالم القديم والحديث على حد سواء .

ومن هذا المنطلق شرع الله تعالى المساواة بين الناس جميعاً في الحقوق الإنسانية والتي من أبرز ما فيها ما يلي :

أولاً : المساواة في الحقوق القانونية والقضائية :

عندما قدس الإسلام مبدأ المساواة بين البشر إنما يهدف بذلك أن يُعلم الإنسان المؤمن أن يعيش لرسالة كبيرة ، ويعمل لهدف رفيع ، ويحيا في ظل مُثل عليا يعيش لها ويموت عليها، وأساسها معرفة حرمة النفس البشرية التي خلقها الله سبحانه وكرمها على سائر المخلوقات ، وأن هناك مساواة في حق المسئولية الجنائية وهو أن يتحمل الإنسان عقوبة فعله الغير مشروع، فلا عقوبة تتم إلا بنص شرعي يتبين فيه مدى مشروعية العمل ، وعلى العكس إن أي عقوبة تتم على غير نص شرعي فهذا انتهاك للحق الإنساني ومخالفة للشرع السماوي .

فإذا لم يتساوى الناس في حقوقهم برغم اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأعراقهم ، يحدث هنا خلل جسيم في نظام المساواة والعدل الذي شرعه الله من سبع سماوات فقال تعالى: "إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدّواْ الأمَانَاتِ إِلَىَ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ" (سورة النساء، الآية 58) .

فلهذا فإن القضاء هو الواحة الخضراء التي يستظل المواطنون بها باحثين عن حقوقهم بكل نزاهة وحق ، وفى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أراد حِب حب رسول الله "إسامة بن زيد" أن يشفع لإمرأة مخزومية سرقت لتعفى من الحد ، فثار الرسول وقال صلى الله عليه وسلم وقال: " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ". رواه البخاري ومسلم وأبو داود، فهل يوجد هناك قضاء نزيهاً مثل هذا القضاء .

ولا ننسى مقولة أبى بكر الصديق عقب توليه خلافة المسلمين: " ألا إن أضعفكم عندي القوى حتى أخذ الحق منه ، وأقواكم عندي الضعيف حتى أخذ الحق له " . والتي جسدت أيضاً المساواة التي يجب أن تكون بين الحاكم والمحكوم في ساحة القضاء وغيرها فلا يعطي الحاكم أي إمتيازات في المعاملة أو إستثناءات في الأحكام لكونه حاكم .

ثانياً : المساواة في الحقوق والواجبات المدنية :

إن إصلاح المجتمعات هو المهمة المقصورة على إرساء مبدأ المساواة بين البشر جميعاً، ومن هنا تضافرت نصوص القرآن والسنة على تشريع المبادئ القوية التي تربي المجتمع البشري على هذا الأساس المتين في الإسلام، بحيث لا يُقبل إطلاقاً من أحد إغفال هذا المبدأ ليحتقر الآخرين ، ولذلك يجب تكافؤ الفرص أمام جميع الأفراد بلا استثناء فكل فرد في المجتمع له حق العمل والإنتاج والتملك والتعليم والرعاية الصحية ... إلى آخر جميع صور الحقوق المدنية ، فعلى الحاكم أن يوفر هذه الحقوق لكل الأفراد بلا تفريق بينهم ، فقد أشار القرآن الكريم إلى ظلم الحكام في قصة الطاغية فرعون: " وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ " (سورة البقرة، الآية 49).

ولقد حفلت السنة النبوية بالكثير والكثير من التوجهات التي تحث على هذا المبدأ وتُعلي من شأنه، فمثلاً عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته " أخرجه البخاري.

ثالثاً : المساواة بين الرجل والمرأة :

عندما أشرق نور الإسلام على وجه الأرض أشرقت معه الحياة معلنة عن ميلاد عهد جديد للمرأة. فقد جاء الإسلام ليساوي بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات غير ناكراً لحقها ولا لفضلها بل كرمها كأم وزوجة ومربية أجيال لها حق الاحترام والتقدير.

قال تعالي: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (سورة الحجرات، الآية 13).

ولما تحدث الإسلام عن الشئون المدنية ساوي بين حق الرجل والمرأة فأعطي له مثل ما أعطي لها . فمن حقها إذا بلغت أن تتعاقد وتتحمل الالتزامات وتملك العقارات وتتصرف فيما تملك فلا يحق لوليها أن يتصرف بدلاًَ منها إلا إذا هي وكلته بإجراء عقد قانوني ينوب عنها أو أي إنسان شاءت إذا وكلت .

ومن جمال الإسلام أن المرأة المسلمة بعد زواجها تحتفظ بإسمها واسم عائلتها وبجميع حقوقها المدنية فهي قادرة على إجراء العقود من شراء وبيع ورهن ووصية وهبة ولها الحق في التملك تملكاً مستقلاً ولها ثروتها الخاصة المستقلة عن زوجها وليس للزوج حق أن يأخذ من أموالها شيئاً إلا بمحض رضاها، قال تعالي: "وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا" (سور البقرة، الآية 229). ولا يحق للزوج أن يتصرف في شيء مما تملك إلا إذا وكلته بإجراء عقد قانوني بالنيابة ينوب به عنها ولها الحق أيضاً أن تلغي وكالته متي تريد. فالإسلام الحنيف لم يحقر من عقل المرأة ولا من رأيها كم زعم الغرب . فلا يستطيع أحداً أن يرغم المرأة على الزواج ممن لا ترضي به بل يحذر من أن تزوج البالغة العاقلة بدون موافقتها فهذا دليل قاطع على أن هناك مساواة بين الرجل والمرأة في الأهلية الاجتماعية، قال تعالي: "وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" (سورة البقرة، الآية 232).

ولم ينكر الإسلام حق المرأة في التعليم والثقافة فقد ضرب معلم البشرية محمد (ص) أروع مثل في هذا الحق ما فعله مع زوجة أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها فقد روى أن الشفاء العدوية وهي سيدة من بني عدى رهط عمر ابن الخطاب كانت كاتبة في الجاهلية وكانت تعلم الفتيات وأن حفصة بنت عمر أخذت عنها القرأة والكتابة قبل زواجها بالرسول ولما تزوجها الرسول (ص) طلب إليها أن تتابع تثقيفها، وأن تعلمها تحسين الخط وتزيينه كما علمتها أصل الكتابة، ولم يمانع الإسلام في حقها في العمل ولكن بضوابط شرعية فإلينا مثلاً السيدة أسماء بنت أبي بكر كانت تقوم بكثير من الأعمال الواجبة لزوجها داخل البيت وخارجه وفي ذلك تحكي هي "كنت أخدم الزبير خدمة البيت كله وكنت أسوس فرسه وأعلفه وكنت أخرز الدلو وأسقي الماء وأحمل النوى على رأسي من أرض له ثلثي فرسخ". وقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في شئون المسئولية والجزاء في الدنيا والآخرة وهذا يتبين في قوله تعالى عز من قائل: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" (سورة النحل، الآية 97).

وتقرر الشريعة الإسلامية المساواة بين الرجل والمرأة في سائر أنواع العقوبات والحدود وهذا ما يدل عليه في قوله تعالى: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ" (سورة النور، الآية 2).

حق الحرية

الحرية فطرة الإنسان التي فطره الله عليها وهذه الحرية حق طبيعي للإنسان وهي أغلى وأثمن ما يحرص عليه لأن تحقيقها رمز للكرامة والعزة في المجتمع الذي تحقق فيه. ولقد حرصت الشريعة الإسلامية على تحقيق الحرية للإنسان بصورة شاملة وكاملة بعيداً عن الشعارات والأكاذيب وجاءت التعاليم الإسلامية واضحة في ضرورة الالتزام بها حتى عُد المعتدي على حرية الآخرين معادٍ لدين الله تعالى ولذلك قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عندما كان والياً على مصر وحين اعتدى ابنه على أحد أقباط مصر قال له عمر "متى استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.

فالتأمل في مبدأ الحرية في الإسلام يجد أنها تتشعب إلى شعب عديدة فهناك حرية الرأي وحرية الاعتقاد وحرية التعليم وحرية التملك وغيرها من الحريات المقررة عقلاً ومنطقاً للإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى.

أولاً: حرية العقيدة:

ليس هناك شريعة على وجه الأرض استطاعت أن تقرر حرية العقيدة كشريعة الإسلام التي نادت بحرية العقيدة من منطلق ما يتلاءم مع الشخصية الإنسانية بلا قهر ولا جبر.

فالعقيدة في الإسلام لا تغرس بالقوة والقهر والإجبار لأنها انفعال النفس وميول القلب بأفكار ومبادئ معينة وهذا كله لا يكون إلا بالاقتناع والحرية فلهذا كان يجب على الداع أن يكون رحيماً هادئ الطبع. ومما يؤكد حرية العقيدة في منظور الإسلام الكثير من الآيات القرآنية في هذا المضمار ومن ذلك على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، قوله الله تعالى: " فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ" (سورة الكهف، الاية 29)، وقوله عز وجل: "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ" (سورة آل عمران، الآية 159).

فالعقيدة الإسلامية تقوم على الاختيار الحر لأنها في جوهرها عملية نفسية، ومن المعلوم أن تلك العمليات لا يتصور معها إكراه أو جبر أبداً ومن المستحيل عقلاً أن يؤمن إنسان بشيء ما رغم أنفه لأن النفس البشرية لا تؤمن إلا بما تصدق به وأقصى ما يصنعه الإكراه على العقيدة أن يظهر المرء كأنه معتقد بينما هو بعيد تمام البعد على الإيمان الصادق والعقيدة الصحيحة. فقد اتهم الإسلام أنه انتشر بحد السيف وهذا افتراء عليه فقد شرع الله القتال لإعلان كلمته ونصره شريعته. قال تعالى: "وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ" (سورة البقرة، الآية 190)

ثانياً: حرية الفكر والرأي:

إن من أبرز ملامح الإسلام الحنيف الحث على حرية التفكير والتعبير من غير حجر أو ضغط أو إرهاب في جميع ما يحيط بالإنسان من أمور وما يقع تحت إدراكه من ظواهر. ولذا دعا الإسلام الإنسان إلى التأمل في كون الله الفسيح ليستنتج هذا الإنسان بفعله ما يرى. قال تعالى: " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (سورة العنكبوت، الآية20). فهذه هي حرية التفكير الذي دعانا الله إليها حتى تستنير العقول وةتقدر على إبداء الرأي السليمة ومن هنا نستنتج أن حرية الرأي نابعة عن حرية الفكر فمن صح تفكيره صح رأيه ومما يؤكد حرية الرأي في القرآن، وهو قول الله عز وجل: " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (سورة البقرة، الآية

260). وهذا الاستشهاد يبين لنا ما حدث عندما سأل سيدنا إبراهيم عليه السلام ربه في أدب عن كيفية إحياء الموتى وكان سؤاله للاطمئنان وليس بدافع الشك، فاستجاب له رب العزة وأمره أن يأخذ أربعة من الطير مختلفة الأنواع ويذبحهن ثم يقطعهن إلي أجزاء صغيرة ويخلط هذه الأجزاء ببعضها البعض ثم يقسمها إلي أربعة أقسام ثم يضع على كل جيل منهم جزاء ثم ينادي عليها فيحييها الله بقدرته وهذا ما فعله الخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام . فهذه الآية برهان على أن هناك حرية في إبداء الرأي.

وضرب لنا خير الأنام محمد (ص) أروع الأمثلة لحرية الرأي والفكر فعندما جاءت خولة بنت ثعلبة إلي الرسول الكريم لتجادل في أمر زوجها الذي ظاهرها أصغى إليها الرسول وسمع الله تحاورهما من سبع سموات ونزلت الآيات القرآنية الكريمة: " قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ" (سورة المجادلة، الآية 1).

وبعد وفاة الرسول (ص) صار الصحابة على خطى المدرسة المحمدية في حرية الرأي والفكر فيروى أن علي كرم الله وجهه أراد أن يولي نفسه الخلافة بعد وفاة الفاروق عمر بن الخطاب تمسكاً بحريته في الرأي ولأن الأمر شورى فانتهت المشاورات إلى أن يحسم الأمر الصحابي عبد الرحمن بن عوف فدعا الناس إلى المسجد وكان الأمر قد صار بين علي وعثمان بن عفان من يتولى منهما الخلافة فبُيع عثمان بن عفان خليفة للمسلمين ولم يتضايق علي بهذا الأمر بل بايعه علي أن يعمل لكتاب الله وسنن رسوله المختار.

ولقد أقر الإسلام حرية المرأة في التعبير عن رأيها فقد أعطى لكل من الرجل والمرأة نفس الحق في حرية الفكر والرأي فصارت المراة المسلمة سيدة نفسها تقول ويسمع لها. تفكر ويأخذ برأيها ففي عهد عمر بن الخطاب اعترضت امرأة الفاروق وهو يتحدث في جمع من الناس عن تحديد مهر الزوجة قائلة له. "أيعطينا الله وتحرمنا أنت؟" لأن الله تعالى يقول: "وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً 20 وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا 21" (سورة النساء)، فلا يجد عمر غير أنه خضع للحق وقال مقولته الشهيرة "أصابت إمرأة وأخطأ عمر" .

ثالثاً: حرية التنقل وحق اللجوء:

سخر الله الأرض وما عليها من اجل خدمة الإنسان وأعطى له حرية التنقل من مكان لأخر ولم يأذن لأي سلطة أن تمنع الإنسان من ممارسة هذا الحق مادام لا يستهدف أي أغراض عدوانية أو أن يتعرض للناس بالأذى. وأيضاً لم يسمح الإسلام بإجبار أي شخص على الرحيل من موطنه بدون أي سبب شرعي. قال تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ" (سورة المُلك، الآية 15)، وقد أعطى الله عز وجل الإنسان حرية حق اللجوء إلى موطن آخر إذا شعر بإعدام الأمان والاضطهاد في موطنه، قال تعالى: "أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا"(سورة النساء، الآية 97)، ومن هذا نعلم أن الإسلام أباح للإنسان حرية الحركة في الأرض ما لم يَضِر ولم يُضر فإن الأرض كلها لله يورثها من يشاء من عباده، قال تعالى: " قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" (سورة الأعراف، الآية 128).

حق الملكية

يُقصد بحق الملكية في الإسلام هو ما يتعلق بالحرية المدنية وهي تلك الحالة التي تجعل الشخص أهلاً لإجراء العقود وتحمل الأعباء والالتزمات وتملك الأشياء الدنيوية والتصرف فيها كيفما يشاء ، أما الأرض وما فيها فهي ملك لخالقها، فقد قال الله تعالى: " لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (سورة المائدة، الآية 120).

فقد أقر الإسلام حق الملكية الفردية ، فيستطيع الفرد أن يتملك ما يريد بقدر ما اكتسب من جهده وعمله ، فهذا دافع له لزيادة طاقته الفكرية والإنتاجية . وبذلك منح الإسلام هذا الحق لجميع الأفراد سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً ، وسواء كانت المرأة متزوجة أم غير متزوجة حيث تحتفظ المرأة بكامل حقوقها المدنية وبأهليتها في تحمل الالتزامات وإجراءات كافة العقود من بيع وشراء ووصية وغير ذلك .

كما أقر الدين الإسلامي الحنيف حق الملكية الاجتماعية بحيث يتولى ولي الأمر استثمارها في مصلحة الأمة بالضوابط الشرعية بلا إهمال أو تفريط ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بالنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة".

وقد دعا الإسلام إلى العمل والسعي في الأرض من أجل الكسب الحلال ، ويسر للإنسان سبل التملك والحصول على المال ، وحرم جميع الطرق الغير مشروعة للكسب من أجل الثراء، حيث قال عز وجل: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (33) " (سورة الأعراف). كما نهى أيضاً رسول الله (ص) عن أكل أموال الناس بالباطل وذلك بإجراء العقود القائمة على الغرر الذي يستند فيها على الظن والاحتمال بما يؤدي إلى الخصام والشجار بين المتعاقدين، كما نهى عليه الصلاة والسلام أيضاً عن الغش بكافة صوره، فقال: " ليس منا من غش " رواه مسلم .

وكذلك نهى الإسلام عن الإحتكار لأنه يأتي على حساب طبقة المطحونين من الناس ويثري طبقة أخرى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحتكر إلا خاطئ " رواه مسلم. كما لا ننسى هنا تحريم الله عز وجل للربا وما أعد للمرابين من جزاء، "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " (سورة البقرة، الآية 275)، وأيضاً يعتبر القمار من وسائل الكسب الغير مشروع التي حرمها الإسلام والتي تعتمد على الحظ ، فقد قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " (سورة المائدة، الآية 90).

ومن هنا فقد ألزم الإسلام الجميع بإحترام حق الملكية وعدم الإعتداء عليه بدون وجه حق: " وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ" (سورة البقرة، الآية 188)، ونص العقوبات لتحريم كل من سولت له نفسه الإعتداء على ملكية الأخرين: "وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (سورة المائدة، الآية 38)، وتعتبر حرمة الإعتداء على الملكية العامة من أعظم الحرمات حيث تبلور تعدي سافر على حق المجتمع كله وخيانة للمال العام، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من استعملناه منكم على عمل فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة " رواه مسلم .

إن كل ما تم ذكره أعلاه من أمثله يؤكد بكافة السبل والإتجاهات أن الإسلام الحنيف قد أحاط الملكية بسياج قوي من الحماية ليحفظ حق الإنسان في التملك.

حق التعليم

إن المتأمل في شريعة الإسلام يجد أن الدعوة إلى العلم والتعليم قد صاحبت الدعوة الإسلامية ذاتها منذ اللحظة الأولى وبذلك من قوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ (3) الّذِى عَلّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)"، (سورة العلق)، بل وإن طلب العلم مفضل في الإسلام على الإنقطاع للعبادة وحدها بل وأكثر من ذلك أن الإسلام يعتبر السعي لطلب العلم من أعلى درجات العبادة، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة" رواة البخاري. وكذلك يحث النبي عليه السلام على طلب العلم بقوله: "من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع"، أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك، كما يرفع الله سبحانه وتعلى العلماء ويجعلهم في درجات أعلى من بقية الناس، "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" (سورة الزمر، الآية 9).

فقد وهب الله الإنسان نعمة العقل وزينه بالعلم فصار تاج العقول ، فعقل بلا علم كجسد بلا روح لذا تتسابق الدول بالإهتمام بطلبة العلم وتوفير المناخ المناسب لهم حتى يعم النور على سطح الأرض وتنعم البشرية بالتقدم العلمي والتكنولوجي.

حق العمل

إن العمل هو أزكى وأفضل وسائل كسب المال في منظور الإسلام ولذا تفرد الإسلام ببيان منزلة العمل بجعله أساس الخير للإنسان سواء في الحياة الدنيا أو الفوز بالآخرة وذلك في كمال وتوازن يحقق له أي للإنسان سعادتي الدنيا والآخرة، فما كان من نبي إلا وعمل أما في الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو غير ذلك، فالحبيب محمد صلى الله عليه وسلم عمل بالتجارة تارة، ويرعى الأغنام تارة أخرى، وهذا يرفع من قدر العمل ويعظم شأنه. وقد قال رب العزة في كتابه الكريم: "هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النّشُورُ" (سورة المُلك، الآية 15)، وقوله أيضاً: "فَإِذَا قُضِيَتِ الصّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللّهِ" (سورة الجمعة، الآية 10).

ولقد حفلت السنة النبوية بالأحاديث التي تحث على العمل وترفع من قدر وشأن العامل المُجد الذي يكسب قوته بالحلال مبتغياً مرضاة الله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أحد يأكل من عمل يده وأن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" رواه البخاري.

فقد أقر الإسلام بحق العمل الذي يُقصد به حرية الإنسان في اختيار العمل الذي يناسبه ويتلائم مع قدراته وطاقاته، وفي مقابل ذلك ينال الأجر العادل من هذا العمل الذي يوفر له ولأسرته الحياة الكريمة، فقد قال عز وجل: "وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَاءَهُمْ" (سورة الأعراف، الآية 85). كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعط أجره". كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" رواه ابن ماجه.

وكما ذكرنا أن على العامل اختيار العمل المناسب له، وكذلك على القائمين بالعمل أيضاً توفير المناخ المناسب له حتى يستفرج كل طاقته ويعمل باخلاص وتفاني، فعليهم توفير الحماية للعامل وتحديد ساعات العمل وتوفير الخدمة الصحية له والتأمينات أيضاً كي يطمئن ويشعر بالأمان وحتى يزيد الإنتاج ويعم الرخاء على كلا الطرفين العامل وصاحب العمل، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق"، وحدثني مالك أنهم بلغهم أن عمر بن الخطاب كان يذهب إلى العوالي كل يوم سبت فإذا وجد عبداً في عمل لا يطيقه وضع عنه منه، أخرجه مالك.

وبالرغم من حث الإسلام على العمل واهتمامه بالعمال وحقوقهم، نجد أن ظاهرة التسول قد انتشرت في كثير من مجتمعاتنا، وللإسلام موقف واضح في معارضة هذا الأمر، فهو يكره البطالة ويرفض الذين يعيشون عالة على حساب الأخرين مع قدرتهم على العمل والإنتاج، فعن مسعود بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى برجل ليصلي عليه فقال: "كم ترك"، قالوا: "دينارين أو ثلاثة"، قال: "ترك كيتين أو ثلاث كيات"، فلقيت عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر رضي الله عنه فذكرت ذلك له فقال: ذلك رجل كان يسأل الناس تكثراً"، رواه البيهقي. وقد رفض الرسول الكريم أن يصلي عليه لأنه تسول في دنياه ورفض العمل.

ومن هذا نقول أن من كرس عمره للخير فيضرب في الأرض فهو عابد مجاهد وكل قطرة عرق تنزل منه هي حسنات تكتب له، فطوبى لمن نالت يده شرف العمل، قال تعالى: " وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ " (سورة القصص، الآية 77).

حق الرعاية والضمان الإجتماعي

إن الإسلام الحنيف من أهدافه العليا ومقاصده الشريفة إقامة المجتمع القويم المترابط بين أفراده ولذا أقرت نصوص الشريعة الإسلامية حق الإنسان في التكافل الاجتماعي في نطاق المجتمع الذي يعيش فيه، ومعنى التكافل الاجتماعي التزام كل فرد قادر في المجتمع بأن يعيش المحتاج والضعيف وبمعنى أدق التزام السلطة القائمة بضمان حق الكفاف لكل مواطن وأسباب المعيشة وضروريات الحياة.

هذا المعنى هو ما نطقت به نصوص القرآن والسنة المطهرة حيث يقول سبحانه : "وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (سورة المائدة، الآية 2). وقوله صلى الله عليه وسلم: " الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه " .

فالتكافل الاجتماعي في الإسلام يختلف عن التكافل في الأنظمة الأخرى حيث تنظر الأنظمة الوضعية إلى هذا الأمر نظرة آلية أي حركة إصلاحية ترى أن هذا التكافل جزء من منهج حركتها الإصلاحية فقط أما التكافل في الإسلام فهو جزء من فطرة الإنسان المسلم الذي ينظر إلى هذا التكافل على أنه طاعة لله سبحانه وعبادة له بصرف النظر عن كون هذا الضعيف قدم معروفاً مسبقاً يستحق على أساسه أن يتكافل معه المجتمع أم لا ولذا جاء في الحديث: " افعلوا ما عليكم واسألوا الله الذي لكم "، وجاء أيضاً افعل الخير مع أهله وغير أهله فإن صادف أهله فهو أهله وإن لم يصادف أهله فأنت بهذا العمل أهله".

وكما أن من جوانب الرعاية الاجتماعية الضمان الاجتماعي أن يهيئ للإنسان العمل المشروع الحلال الذي يفي باحتياجاته في الحياة مادام قادراً على العمل فإذا لم يكن للإنسان ما يكفيه كان على أقاربه الموسرين أن يحملوه لأنه فرد منهم يتقوى بهم وتشتد سواعدهم به أيضاً وإن لم يكن له أقارب أغنياء وجبت كفايته من الزكاة التي فرضها ربنا تعالى لحاجات الفقراء. لقوله تعالى: " إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " (سورة التوبة، الآية 60)، فهذا المنهج الرباني جاء ليسبق جميع الحضارات في ميدان حقوق الإنسان مؤكداً حق الإنسان في الرعاية الاجتماعية والضمان الاجتماعي ويتفرع عن هذا الحق حقوق أخرى منها:

أ ) حق ذوي الأرحام:

المسلم يعامل أقاربه وذوي رحمه بنفس الآداب التي يجب أن يعامل بها أبويه وولده وأخوته فكل من جمعتهم وإياه رحم واحد من مؤمن وكافر اعتبرهم الإسلام من ذوي الأرحام الواجب صلتهم وبرهم والإحسان إليهم فيوقر كبيرهم ويرحم صغيرهم ويواسي منكوبهم ويعود مريضهم ويعزي مصابهم ويصلهم إن قطعوه .

وكل ذلك أمر الله به كتابه وعلمه المصطفى صلى الله عليه وسلم لأصحابه قال تعالى : "وَاتّقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إن الله كان عليكم رقيباً" (سورة النساء، الآية 1)، وكذلك قوله عز وجل: "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ " (سورة البقرة، الآية 215). وعن انس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من سره أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له أثره فليصل رحمه " أخرجه البخاري .

ب) حق اليتيم:

إن من الحقوق الأساسية التي أكدتها نصوص الشريعة الإسلامية التي جاءت رحمة للعالمين حق اليتامى، ولا شك أن التوصية الإسلامية بحقوق اليتامى والإحسان إليهم والتحذير من ظلمهم والإساءة إليهم إنما ينبع من رحمة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول سبحانه: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (سورة الأنبياء، الآية 107)، ولا شك أيضاً إن الإسلام عندما يقدس حق اليتيم في الحياة إنما يهدف إلى صبغ المجتمع بقوة تحمى أفراده من الانحدار وارتكاب المنكرات والموبقات .

- فمن هو اليتيم ؟؟ هو ذلك الطفل الذي فقد أحد والديه أو فقدهما معاً وهو طفل صغير مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ولد يتيماً فقد مات أبوه وأمه حُبلى به وكذلك ماتت أمه بعد ستة أعوام من ولادته ولذا يمن الله سبحانه على رسول صلى الله عليه وسلم في سورة الضحى: "وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) ...".

والإحسان إلى اليتيم يكون بالقول والفعل فهو يشمل إكرامه وكفالته ونصحه وتعليمه وتأديبه ورعاية ماله وحقه ، والإساءة إليه تكون أيضاً بالقول والفعل وتشتمل أكل ماله وظلمه وإهانته وهذا من الموبقات لقوله تعالى: "وَآتُواْ الْيَتَامَىَ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىَ أَمْوَالِكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً" (سورة النساء، الآية 2). وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله وما هن ؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا واكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"، أخرجه أبو داود.

ج) حق المحتاجين في الصدقة:

لقد ظل القرآن الكريم في العهدين المكي والمدني يخص المؤمنين بأساليب متعددة إلى الإنفاق والصدقات للوفاء بحق المحتاجين لهذه الصدقات وعندما فرض ربنا تبارك وتعالى فريضة الزكاة لم يجعلها لهوى الإنسان إن شاء أخرجها وإن شاء أمسكها بل جعلها إلزامية إجبارية فهذا الحق أوجبه الله تعالى في مال الأغنياء لحق المحتاجين في الصدقات قال تعالى: "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) "، (سورة المعارج).

فكان حقاً على الإمام أن يجمع حقوقهم ويوزعها عليهم بالعدل والقسط بلا إفراط ولا تفريط، فحق المحتاجين في الصدقة أوجبه الله على القادرين والأغنياء ويلتزم بأدائه لهم بيت المال أو السلطة التنفيذية في الدولة، قال تعالى : " لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) " ، (سورة البقرة). وحفاظاً على مشاعر وكرامة الفقراء والمحتاجين أمر الله المتصدقين بأن ينئوا بصدقاتهم عن المن والأذى وذلك لقوله: " قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ "، (سورة البقرة، الآية 263)، فحق المحتاجين في الصدقة كما يراها الإسلام ضرورة اجتماعية وإنسانية وسياسية في آن واحد .

د) حق ضعفاء العقول في الرعاية:

من النعم التي غفل الإنسان عن شكرها هي نعمة العقل ولا يستشعر هذه النعمة إلا من حُرم منها. فقد أوصى الله خيراً بهؤلاء من حرموا هذه النعمة أن على أولياء أمورهم أن يهتموا بهم ويوفروا لهم الجو النفسي الملائم وعدم التعرض لهم بالسب أو الإهانة ويحفظوا أموالهم وحقوقهم، إذ قال تعالى: "وَلاَ تُؤْتُواْ السّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مّعْرُوفاًً" (سورة النساء، الآية 5). فالآن المجتمعات تهتم برعاية ضعفاء العقول وإنشاء مراكز لإعادة تأهيلهم واستخراج مواهبهم وقدراتهم ليشعروا بدورهم كأفراد في المجتمع لهم قدرة على الإنتاج والإبداع .

حق الأمن

أعطى الإسلام الإنسان حق الأمن والأمان في حياته بدون ترويع ولا إرهاب لأن الإنسان لا يحسن ولا يستشعر الحياة بكرامة بدون أمن ولذا قرن ربنا تبارك وتعالى الأمن في الحياة مع الإطعام الذي هو أساس الحياة فقال سبحانه ممتناً على قريش قوله: "الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ" (سورة قريش، الآية 4)، فيحب الإسلام أن تعم السكينة والطمأنينه أرجاء المجتمع بحيث يحظى الفرد المسلم أو الغير مسلم نصيباً موفوراً من الأمن والأمان، فوفر الإسلام حق الأمان هذا في البيت؛ فلا يدخل على الفرد أحد بدون إستئذان كما في قوله تعالى: "يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّىَ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىَ أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ" (سورة النور، الآية 27).

وأما بالنسبة للمجتمع الكبير فنجد نص العقوبات التي تروع من الاعتداء على حرمة النفس بقتلها أو تعذيبها بغير جرم أرتكب وذلك لأن حق المسلم على المسلم أن يصونه في نفسه وماله وعرضه، ففي حق النفس قال تعالى: " وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا " (سورة النساء، الآية 93)، وأيضاً قال تعالى: "وَالّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً" (سورة الأحزاب، الآية 58). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً "، رواه أبو داود.

وعن الحفاظ على حق المال أخبرنا سيد الأنام محمد عليه السلام عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: " ألا أخبركم بالمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب" أخرجه أحمد.

وعن الحفاظ عن حق العرض قال الحبيب محمد علية أفضل الصلاة والسلام عن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كف لسانه عن أعراض الناس أقاله الله عثرته يوم القيامة ومن كف غضبه عنهم وقاه الله عذاب يوم القيامة " أخرجه أحمد. ومن عدل الإسلام أنه نهى عن السخرية من الأخرين والغيبة والنميمة ومناداة الناس بما يكرهون من ألقاب مهينة وألفاظ بذيئة لأن لسان المسلم يجب ألا يخرج إلا طيباً؛ فقال عز وجل: "يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىَ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مّن نّسَآءٍ عَسَىَ أَن يَكُنّ خَيْراً مّنْهُنّ وَلاَ تَلْمِزُوَاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ وَمَن لّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ" (سورة الحجرات، الآية 11)، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هل تدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة ويأتي قد شتم عرض هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا فيقعد فينقص هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" أخرجه مسلم في البر والصلة.

فمن المعلوم أن الإسلام الحنيف مجموعة من الفضائل الكريمة التي مكنت له في الأرض وساعدت في أنتشاره في العالم شرقاً وغرباً، فالإسلام دين المعاملة،

فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فعندما يتحلى االمسلم بحسن الخلق وبالمنهج الذي أقره وأمر به الله ورسوله يكون بذلك سفيراً عن دينه ويفهم العالم كله ما هو الإسلام الصحيح.


حقوق الأسرة

اعتنى الإسلام ببناء الأسرة المسلمة بناءاً قوياً متماسكاً وهي لبنة قوية في هيكل المجتمع واعتبر صلاحها سبباً في صلاحه والعكس صحيح أيضاً، كما يعتبر حصول الإنسان على حقوقه داخل هذه الأسرة من الأهمية بمكان إذ هي المدرسة الأولى التي يتعلم فيها المواطن معنى الحقوق والواجبات، ومن هنا وضع لها نظاماً محكماً متكاملاً وأعطاها من الحقوق ما يكفل لها السعادة والاستقرار مثل حقوق الزواج وحقوق الزوجين وحقوق الوالدين وحقوق الأبناء، وسنتحدث عن هذه الحقوق في الفقرات التالية:

أولاً: الحق في الزواج وتكوين الأسرة

يعتبر الإسلام الزواج من العبادات، ومن الطبيعي أنها عبادة مطلوبة ممن تتوافر فيهم دواعيه الوظيفية والمالية، فهو الأساس الشرعي لوجود الأسرة في المجتمعات حيث تشكل عماد المجتمع، ومن هنا كان الإسلام يرغب في الزواج ويحث عليه، إذ قال تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لّتَسْكُنُوَاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مّوَدّةً وَرَحْمَةً إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ" (سورة الروم، الآية 21).

كما حث النبي صلى الله عليه وسلم الشباب القادرين على الزواج كي يحصنوا فروجهم ويغضوا من أبصارهم، فعن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " ، رواه البخاري. كما قال صلى الله عليه وسلم أيضاً: " إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي "، رواه البيهقي.

ولقد يسر الإسلام كل السبل لإتمام الزواج دون تعسير وعمل على تذليل العقبات في طريق الراغبين للدعوة إليه وعدم المغالاة في المهور. وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو القدوة في هذا الأمر، ويؤكد ذلك ما رواه ابن عباس أنه قال: " لما تزوج عليُّ فاطمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطها شيئاً، قال: ما عندي شيء، قال: أين درعك الحطمية؟ قال: هي عندي، قال: فأعطها إياها"، رواه البخاري.

كما اعتبر الإسلام الأولاد هم الثمرات المرجوة للزوجين وللمجتمع يمّن الله تبارك وتعالى بها على عباده، قال تعالى: "وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً" (سورة النحل، الأية 72)، ومن شدة حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أهمية إنجاب الأبناء وصلاح أمورهم، نبه لذلك بقوله: "... تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم "، رواه أبو داود والنسائي والحاكم.

ثانياً : حقوق الزوجين

أقام الإسلام العلاقة الزوجية على أساس من المودة والرحمة وفرض لكل من الزوجين حقوقاً على الآخر، والتمايز في الحقوق ليس لأن أحدهما أقل شأناً من الآخر، وإنما بسبب الاختلاف الطبيعي والفطري بين الطرفين، ومن أمثلة ذلك أن الإسلام لم يفرض على المرأة المشقة والانفاق على الأسرة لأن هذا يتنافى مع طبيعتها الأنثوية الضعيفة، بل جعل هذا الأمر من إختصاص الرجل ولذا أعطاه الله عز وجل القوامه على الأسرة، وأيضاً نظر الإسلام إلى المرأة على أنها نبع الحنان والرقة، فأباح لها ما يتفق مع أنوثتها كلبس الحرير والذهب، في الوقت الذي حرم ذلك على الرجل.

· حقوق الزوج:

1- حق الطاعة:

أوجب الإسلام على المرأة (الزوجة) طاعة زوجها في غير معصية الله تعالى فإن أمرها بمعصية فلا طاعة له، قال تعالى: "فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً" (سورة النساء، الآية 34)، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها فلتدخل من أي أبواب الجنة شاءت "، رواه أحمد والطبراني وابن حيان، كما أن طاعة الزوجة لزوجها تجلب السعادة والاستقرار، وكذلك جعل الإسلام طاعة المرأة لزوجها تعدل الجهاد الذي هو من أجلّ الأعمال بعد الإيمان بالله عز وجل.

2- حق القوامه وولاية التأديب:

أعطى الله سبحانه وتعالى الرجل (الزوج) حق القوامه على الزوجة، فالقوامه محصورة في مصلحة البيت والاستقامة، فقد قال تعالى: "الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَآءِ بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ" (سورة النساء، الآية 34)، وذلك لقيادة الحياة الأسرية إلى بر الآمان لما للزوج من مقدرة أقوى على التحكم في العواطف والانفعالات بخلاف المرأة، وفي إطار هذه القوامه كان للزوج على زوجته حق ولاية التأديب، ويتم ذلك عند مخالفة الزوجة لأمر زوجها أو إرتكابها معصية دينية أو محاولتها النشوز فعندئذ يستعمل حقه للإصلاح وليس للإنتقام، قال تعالى: "وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنّ سَبِيلاً إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً" (سورة النساء، الآية 34).

3- حق الحفاظ على عفافها:

تعد العفة صمام الأمان لسعادة الأسرة والسياج الذي يحفظ العرض، فعفاف المرأة في الأسرة هو الركن الأول الذي تتوطد عليه دعائم التربية والسبيل الأقوم الذي تصل به الفضيلة إلى قلوب أفرادها، قال تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ" (سورة المؤمنون، الآية 5)، فعلى المرأة أن تحفظ نفسها وتصون عرضها بمختلف الوسائل ومن بينها الالتزام باللباس الشرعي، قال تعالى: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ وَلاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الاُولَىَ" (سورة الاحزاب، الآية 33). وأن تحفظ المرأة نفسها وعرضها فى غيبة زوجها لقوله تعالى: "فَالصّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ" (سورة النساء، الآية 34)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيراً له من زوجة صالحة، إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرّته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله" أخرجه ابن ماجه والطبراني.

· حقوق الزوجة:

يجب علينا إدراك أن الحقوق بين الزوجين لا تنفصل عن بعضها البعض ومقابل الحق يكون هناك الواجب، وكما إن للزوج حقوقاً فإن للزوجة عليه حقوقاً أيضاً ومنها:

1- حق المهر:

قرر الإسلام للمرأة عند الزواج بها حق المهر من قبل الزوج، وليس له أو لوليها سلطان على هذا المهر، يقول الله سبحانه وتعالى: "وَآتُواْ النّسَآءَ صَدُقَاتِهِنّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مّرِيئاً" (سورة النساء، الآية 4)، ويتم عرض هذا المهر على المرأة برضى منها لقبولها بقوامة الرجل عليها، قال تعالى: "الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَآءِ بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ" (سورة النساء، الآية 34)، وعند آداء هذا المهر يكون الزواج مصوناً عن الابتذال، فلا يملك الرجل (الزوج) الاستمتاع بالمرأة مجاناً، فإن الشيء الذي يملكه الإنسان دون مقابل لا يكون عظيماً عنده؛ وقد حذر الإسلام الرجل من عاقبة حرمان المرأة من حقها في المهر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل تزوج إمرأة على ما قلّ من المهر أو كثر وليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها، لقي الله يوم القيامة وهو زان، وأيما رجل استدان ديناً وهو لا يريد أن يؤدي إليه حقه خدعه حتى أخذ ماله لقي الله وهو سارق" رواه الطبراني.

2- حسن المعاشرة:

إن أول ما يجب على الزوج فعله لزوجته هو إكرامها وحسن معاشرتها ومعاملتها بالمعروف، ويتجلى حسن المعاشرة هذا في كل ما يباشره الزوجان من أمور الحياة، فعلى الزوج حفظ كرامة زوجته والابتعاد عن إهانتها، لقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا " (سورة النساء، الآية 19).

ولقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في ذلك، فلقد كان رفيقاً بأزواجه حليماً بهن فهو القائل: " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهله "، رواه ابن حبان.

3- النفقة الزوجية:

تعتبر النفقة حق واجب للزوجة على الزوج وهي تشمل توفير ما تحتاج إليه الزوجة من طعام ومسكن وكسوة، قال تعالى: "أَسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مّن وُجْدِكُمْ" (سورة الطلاق، الآية 6)، أما في السنة النبوية فهناك أحاديث كثيرة توجب النفقة للمرأة منها ما روي عن معاوية القشيري أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل رجل: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن يُطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا إكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبّح ولا تهجر إلا في البيت"، رواه أحمد وابن ماجه.

4- الرعاية الدينية وحُسن التوجيه:

ينبغي على الزوج تعليم زوجته أمور دينها وإرشادها إلى العقيدة الصحيحة والعبادة والأخلاق الحميدة وحثها على أداء حق الله تعالى وأن يذكرها دائماً بالآخرة وما فيها من أهوال لقوله عز وجل: "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا" (سورة طه، الآية 132)، وكذلك قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " (سورة التحريم، الآية 6).

5- العدل بين الزوجات:

لقد أوجب الإسلام على الرجل أن يعدل بين زوجاته في حالة التعدد وذلك في شئون المأكل والمشرب والنفقة والمبيت وما إلى ذلك، وسند ذلك قوله تعالى: "فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً" (سورة النساء، الآية 3)، وكذلك نجد السنة النبوية كيف تحذر من عدم العدل بين الزوجات، فعن أبي هريره رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كانت له إمرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل" أخرجه أصحاب السنن، فتعدد الزوجات حسبما جاء في الشريعة الإسلامية إنما هو رحمة من الله تؤخذ بحقها، وخاصة عندما يتعرض الناس أمماً وأفراداً لحالات لا تستقيم فيها حياتهم إلا بهذه الرخصة.

ثالثاً : حقوق الوالدين

لقد أوجب الإسلام على الأبناء بر الوالدين جزاء بما قدماه من معروف وإحسان، ويكفي أن رضا الله تعالى من رضا الوالدين، وسخطه تعالى في سخط الوالدين، وكثيراً ما يقرن سبحانه وتعالى بين عبادته والاحسان إلى الوالدين لقوله عز وجل: " وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" (سورة النساء، الآية 36)، وكذلك: " وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " (سورة العنكبوت، الآية 8).

فعلى الأبن طاعة الوالدين والإلتزام بأوامرهما واجتناب نواهيهما بما يرضي الله عز وجل واحترامهما، وكذلك تقديرهما بالقول والفعل، فلا يتأفف ولا يتضجر ولا يرفع صوته عليهما، ولا يسبقهما في المشي ولا يجلس قبلهما، كما تتضاعف حقوق الوالدين في كبرهما فيتجنب الأبناء كل ما يؤدي إلى المضايقة النفسية أو الإساءة إليهما، وبجانب توفير سبل الراحة النفسية لا بد من واجب تأمين النفقة عليهما.

ولا تسقط هذه الحقوق كون الوالدين مشركين بالله إلا أن يأمراه بمعصية وعندها لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وترغيباً في آداء تلك الحقوق عند الله عز وجل من يقوم بها بالثواب العظيم والفوز بالجنة، قال تعالى: "قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرّمَ رُبّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً" (سورة الأنعام، الآية 151)، وكذلك: "وَقَضَىَ رُبّكَ أَلاّ تَعْبُدُوَاْ إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً" (سورة الإسراء، الآية 23).

وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن بر الوالدين هو الذي يتوقف عليه دخول أبواب الجنة أو النار للأبناء، فعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود ضي الله عنه قال: سألت النبي (صلى الله عليه وسلم) أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال صلى الله عليه وسلم: " الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟، قال: الجهاد في سبيل الله "، رواه البخاري ومسلم.

رابعاً : حقوق الأبناء

يعتبر الأبناء نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان، وقد وصفهم بأنهم زينة الحياة الدنيا، قال تعالى: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا" (سورة الكهف، الآية 46) ، وقد وضحت الشريعة الإسلامية مكانة وحقوق الأبناء كما يلي:

أ ) حق الرضاعة:

شرع الله سبحانة عز وجل للطفل حق الرضاعة، فعلى الأم أن تمكن وليدها من لبنها ولا تحرمه منه، قال تعالى: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمّ الرّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوَاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلّمْتُم مّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" (سورة البقرة، الآية 233)، والذي يظهر من تفسير الأيات أن للطفل حق الرضاعة وذلك سواء كانت أمه في عصمة أبيه أو مطلقة، كما يستمر هذا الحق لمدة حولين كاملين وهي الفترة المثلى من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل.

ب) حق النفقة:

إن النفقة على الأبناء ضرورة حتمية يفرضها الشرع الإسلامي كي لا يضيع الأبناء ويتعرضوا للتشرد، فللطفل الحق في مستوى معيشي ملائم للنمو البدني والعقلي والديني والاجتماعي، ويثبت هذا الحق للطفل على أبيه بقوله سبحانه وتعالى: "لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمّآ آتَاهُ اللّهُ لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ مَآ آتَاهَا" (سورة الطلاق، الآية 7)، وعن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار على عياله، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله"، قال أبو قلابه: بدأ بالعيال، ثم قال أبو قلابه: أي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم أو ينفعهم الله به؟، رواه مسلم.

ج) حق الميراث:

يتبع حق الطفل في النفقة حقه في الميراث، حيث يتمتع الطفل بأهلية وجوب كاملة فيكون له بذلك حقوق في الميراث والوصية والوقف والهبه، قال تعالى: "لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنّسَآءِ نَصِيبٌ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمّا قَلّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مّفْرُوضاً" (سورة النساء، الآية 7)، وهذا الحق ثابت للطفل وإن كان جنيناً في بطن أمه كما نص على ذلك الفقهاء.

د) حق النسب إلى الأباء:

للطفل الحق في الإنتساب إلى أبيه وأمه، ولا يجوز نسبهم لغير أبائهم مهما كانت الدوافع، فحق النسب غير قابل للإنكار أو الإسقاط عملاً بقوله عز وجل: "ادْعُوهُمْ لاَبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ فَإِن لّمْ تَعْلَمُوَاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ" (سورة الأحزاب، الآية 5).

هـ) حق التربية والتعليم:

يختص هذا الحق للأبناء على الوالدين بضرورة تنشئتهم على العقيدة الصحيحة والعبادات والسلوك السوي والعلوم النافعة عملاً بقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " (سورة التحريم، الآية 6)، وقد سأل عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية، فقال: يا رسول الله نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟ فقال عليه السلام: " تنهونهم عما نهاكم الله، وتأمرونهم بما أمركم الله" ، كما يدعونا رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) إلى تأديب أولادنا فيقول: " ما نحل والد ولداً من نحل أفضل من أدب حسن ".

فالتربية والتعليم مسئولية مشتركة تقع على عاتق الأسرة والدولة، وذلك بتوفير حق التعليم لكل طفل بمساواة تامة وتكافؤ الفرص أمام الجميع، كما يتطلب ذلك توفير المؤسسات التعليمية والمناهج التربوية المتنوعة والتي تتفق مع ميول الأطفال، ورغباتهم مع التأكيد على ربط التعليم الذي تقدمه الدولة بالتربية ليكون أكثر تأثيراً في المجتمع.


حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي

الإسلام الحنيف هو دين العدالة والتسامح والرحمة والحرية لأنه يقوم على عقيدة واضحة تنبثق منها نظمه وأحكامه وأخلاقه وكذا يقيم الإسلام العلاقة بين أبنائه من المسلمين وغير المسلمين على العدالة والمساواة والرحمة، وهي أسس لم تعرفها البشرية جمعاء قبل الإسلام، وأساس هذه العلاقة مع غير المسلمين قوله تعالى في سورة الممتنحة: "لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ(8) إِنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىَ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلّهُمْ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ(9)" (سورة الممتحنة).

فالعدل والبر والقسط أمور مطلوبة من المسلم للناس جميعاً حتى ولو كانوا غير مسلمين ما لم يقفوا في وجه الإسلام أو يضطهدوا أهله ومما يؤكد أن الإسلام يحترم الآخر ويقر حقوقه أنه يبيح مؤاكلة أهل الكتاب والأكل من ذبائحهم كما أباح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم المحصنات قال تعالى : " وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ " (سورة المائدة، الآية5).

أولاً: حقهم في حرية العقيدة

إن الإسلام يعطي الحرية للإنسان في اعتقاده وتعبده بدون إجبار ولا ضغط من أحد والشاهد في ذلك قوله : "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ" (سورة البقرة، الآية 256)، وقوله: "وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ " (سورة يونس، الآية 99). والإيمان عند المسلمين ليس مجرد كلمات جوفاء أو مجرد طقوس بالأبدان بل أساسه إقرار القلب وتسليمه ولهذا لم يعرف التاريخ شعباً مسلماً حاول إجبار أهل دين آخر على الدخول في الإسلام لأن الإكراه على الدين يتنافي مع حقيقة الإيمان الصادقة في القلب والوجدان ولذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم، فلم يمنع الكتابيين من ممارسة طقوسهم الدينية فقد سمح معلم البشرية محمد صلى الله عليه وسلم لوفد نجران النصراني بأداء العبادة على طريقتهم في جانب في المسجد النبوي لما روي لنا بن كثير، وهذا موقف الفاروق عمر بن الخطاب من أهل إيلياء (القدس): " هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان : اعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملتها لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من خيرها ولا من صليبها ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهن على دينهم ولا يضار أحد منهم ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود "، كما رواه الطبري .

وأكبر ما يؤكد حق غير المسلمين في حرية العقيدة ما قاله غير المسلمين أنفسهم فقد قال العلامة الفرنسي "جوستاف لويون" في كتاب حضارة العرب رأينا القرآن التي ذكرناها إنما أن فسامحه محمد لليهود والنصارى كانت عظيمة إلى الغاية وأنه لم يقل بمثلها مؤسسو الأديان التي ظهرت قبله كاليهودية والمصرانية على وجه الخصوص وسيرى كيف سار خلفاؤه على سننه وقد اعترف بذلك التسامح بعض علماء أوروبا المرتابون أو المؤمنون القليلون الذين امضوا النظر في تاريخ العرب .

ثانياً: حقهم في العدل

إن العدل في الإسلام أساس واضح من الأسس التي قام عليها الإسلام نظامه السياسي ومبدأ العدل هذا يشمل المسلم وغيرالمسلم فهو يعني إعطاء كل ذي حق حقه: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ " (سورة المائدة، الآية 8)، ولقد أعطى الإسلام لغير المسلمين في المجتمع المسلم هذا العدل الذي يحميهم من الظلم الداخلي ولذا يشدد الإسلام على هذا العدل ويحذر المسلمين من أن يمدوا أيديهم بالظلم إلى غير المسلمين أو ما يطلق عليهم أهل الذمة وجاءت الأحاديث الكثيرة في هذا المضمار منها قوله صلى الله عليه وسلم: "من ظلم معاهداً أو انتقصه حقاً أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة " رواه أبو داوود .

ثالثاً: حقهم في الأمن عن النفس والمال والعرض

تقرر أحكام الشريعة الإسلامية لغير المسلمين أن يتمتعوا في المجتمع الإسلامي بالأمن على حياتهم وأموالهم وأعراضهم لأن حق الحماية المقرر في الفقه الإسلامي يتضمن لأهل الذمة وهم غير مسلمين حماية دمائهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فدمائهم وأنفسهم مصونة في المجتمع الإسلامي وقتلهم جناية يحرمها الإسلام .

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ألا من قتل معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله فقد خفر ذمة الله ولا يرح رائحة الجنة وأن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً " أخرجه الحاكم.

وكما حمى الإسلام أنفس غير المسلمين، كذلك حمى أموالهم من الضياع والهلاك، عن أبي الدرداء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أخذ أرضاً بجزيتها فقد استقال هجرته ومن نزع صغار كافر من عنقه فجعله في عنقه فقد ولي الإسلام ظهره"، رواه أبو داود، ولقد جاء من شروط "عمرو بن العاص" رضي الله عنه التي أعطاها لأهل مصر أنهم لا يخرجون من كنوزهم ولأراضيهم. قال عبيد الله بن أبي جعفر : سألت شيخاً من القدماء عن فتح مصر فقلت له :

- فهل كان لهم كتاب ؟

- فقال نعم كتب ثلاثة .

- قلت له: أفتعلم من كان من الشروط ؟

- قال نعم ستة شروط .

"لا يخرجون .... ولا كنوزهم ولا أراضيهم ... " ، وكما حمى الإسلام أنفس غير المسلمين وأموالهم جاء أيضاً ليحمي أعراضهم وكرامتهم من الهتك فلا يجوز أن يتهموا بالباطل أو يشنع عليهم الأكاذيب.

يقول الفقيه الأصولي المالكي شهاب الدين القرافي في كتاب (( الفروق )) : " إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقاً علينا لأنهم في جوارنا وفي حمايتنا وذمتنا وذمة الله تعالى وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودين الإسلام فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام" .

رابعاً: حقهم في المساواة مع المسلمين في الحقوق المدنية والضمان الاجتماعي

لقد وسّع الإسلام نطاق المساواة بين الناس والحقوق والواجبات والضمان الاجتماعي حتى شملت غير المسلمين في ظل المجتمع المسلم. فالإسلام ضمن لغير المسلمين في ظل دولته كمالة المعيشة لكل المواطنين الذين يعيشون في كنفها وظلها سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين شريطة أن يراعي غير المسلمين مشاعر المسلمين وعدم الاعتداء عليهم أو إعانة غيرهم عليهم .

فالإسلام بهذا يقرر كرامة النفس البشرية ويعطي حق المساواة للمجتمع بصرف النظر على الجنس والعقيدة على نطاق القاعدة الأصولية التي تقرر: "لهم مالنا وعليهم ما علينا"، وكذلك عمومه قوله: "لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىَ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلّهُمْ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (9)" (سورة الممتحنة).

وبينت السنة المطهرة أن غير المسلمين يتساوون مع المسلمين في الديات فعنه صلى الله عليه وسلم قال: " دية الذمي دية المسلم " ، أخرجه عبد الرزاق والطبراني. ولهم الحق في العمل والكسب الحلال إما بالتعاقد مع غيرهم أو العمل الخاص لحساب أنفسهم ومزاولة أي لون من ألوان النشاط الاقتصادي مثلهم مثل المسلمين .

ولقد قال آدم ميتنر في كتابه ((الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)): "ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدر الأرباح الوافرة فكانوا صيارفة وتجاراً وأصحاب ضياع وأطباء بل أن أهل الذمة نظموا أنفسهم بحيث كان معظم الصيارفة الجهابذة في الشام مثلاً يهوداً على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده ..... ".

وأيضاً حق الضمان الاجتماعي شمل أبناء المجتمع الواحد جميعاً مسلمين وغير مسلمين حيث لا يجوز أن يحرم أحد من المأكل والمشرب والملبس والمأوى لدينه فالكل يتساوى في هذا فقد ورد موقف الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع شيخ يهودي يسأل الناس وموقفه أيضاً مع المرضى من النصارى بالجابية من أرض الشام فقد أمر بالإنفاق عليهم من بيت مال المسلمين. "عن عمر أنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب المساجد فقال ما أنصفناك أن كنا أخذنا منك الحرية في شيبتك ثم ضيعناك في كبرك ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه "، أخرجه الطبري .


الخاتمة

لقد كانت الشريعة الإسلامية شاملة لكافة الجوانب الإنسانية مانعة لأي تدخل بشري قاصر جديد وعاشت البشرية دهراً من الزمن تتمتع برعاية كاملة لتلك الحقوق لدرجة إنها تناولت أمورًا لم تتناولها العقود، والمواثيق التى جاءت فيما بعد والتى وجدت نفسها فى الوقت الحالى عاجزة أمام ما حققته الشريعة الإسلامية منذ أكثر من أربعة عشرة قرنًا، فقد عمل الإسلام على تحرير الإنسان من جميع قيوده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية حين ساوى بين الناس جميعًا من ذكر وأنثى وعربى وأعجمى وأبيض وأسود فلم تكن تلك الفروقات بين الناس تصلح مقياسًا للمفاضلة بينهم فى الإسلام بل أصبحت القاعدة العامة هى في قوله عز وجل: "يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (سورة الحجرات، الآية 13).

وعلى مستوى الحقوق الاجتماعية وضع الإسلام منهجا متكاملا للعلاقات بين أفراد المجتمع الإسلامى كافة رجالاً ونساءاً، فمثلما أعطى للرجل كافة حقوقه، وحدد له واجباته، فإنه اعطى كذلك للمرأة كافة حقوقها وحدد لها واجباتها.

كل هذه الأمور تبرز لنا بعضًا مما تضمنه الإسلام من أحكام دقيقة ونصوص محكمة يعجز أى تشريع دنيوي عن الإحاطة به.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها