الفاعل الجمعوي والتنمية: أي فاعل؟ لأية تنمية؟ وبأية مقاربات؟

تعد التنمية إحدى أهم القضايا الراهنة التي تفرض نفسها على بلدان العالم الثالث بشكل عام والمغرب بشكل خاص. وفي هذا السياق فإن الفاعل الجمعوي، خاصة المحلي منه، يجد نفسه بحكم ارتباطه الوثيق بقضايا مجتمعه ملزما بأن يكون أحد أهم أعمدة الفعل التنموي إن لم يكن أهمها. لكن واقع الحال يقول إن أغلب الجمعيات، سواء من خلال قناعاتها أو من خلال ممارساتها، تضل بعيدة عن القيام بهذا الدور على أحسن ما يرام؛ ويتجلى ذلك بوضوح في طريقة تصورها للتنمية مما يؤثر على مقارباتها واستعداداتها لرفع الرهان التنموي وهذا ما دفعنا إلى تقديم هذه الأفكار لتكون أرضية موجهة للفعل التنموي للجمعيات في مجتمعنا المغربي المسلم.

وسأقوم بذلك من خلال إجابات مركزة لخمس أسئلة مرتبطة بالموضوع هي:

1. عن أي عمل جمعوي نتحدث؟

2. أي مفهوم للتنمية؟

3. أي دور للجمعية في التنمية؟

4. بأية مقاربة نمارس العمل التنموي جمعويا؟

5. ما هي أهم متطلبات العمل التنموي على مستوى المؤسسات والبيئة المحيطة؟

عن أي عمل جمعوي نتحدث؟

إن العمل الجمعوي الذي نتحدث عنه هو العمل الجمعوي في الواقع المغربي كما يجب أن يكون، نابعا من هذا الواقع ويتعاطى معه ويسعى لخدمته وتغييره بما لا يصطدم وهوية أهله بل بما يدعمها وينميها هي أيضا. إنه ذلك الفعل المؤسسي الذي:

- ينطلق من الإسلام باعتباره هوية الشعب وركيزة كينونته ورأسماله الحقيقي.

- ذو رؤية إستراتيجية واضحة تجعله يهتم بالقضايا المصيرية أكثر من تلك الأنشطة التكتيكية التي لا تنتظم ضمن مشروع مجتمعي واضح ودقيق.

- يستهدف خدمة الأمة والدفاع عن قضاياها وتحقيق طموحاتها. إنه ليس ذلك الفعل الانتهازي الذي يسعى القائمون به لتحقيق مصالح ذاتية أو حتى حزبية سياسوية محضة لا تستحضر المصلحة العليا للأمة.

يتعلق الأمر إذن بفعل جمعوي واع بمهامه وأهدافه تحكمه رؤية إستراتيجية واضحة وأهداف دقيقة بمثابة صوى ومنارات يسترشد بها وله قيم ومبادئ توجهه وتمنعه من الانحراف عن تلك السبيل الواضحة كما تحمي مؤسساته من التحول إلى مؤسسات للاسترزاق وتحقيق المصالح الذاتية والحزبية بعيدا عن مصالح الأمة. إنه بذلك فعل يستلزم تربية القائمين عليه تربية إسلامية حقيقية.

أي مفهوم للتنمية؟

إن التنمية التي نحن بصدد الحديث عنها ها هنا ليست مجرد تقديم خدمات ظرفية أو مناسباتية كما أنها ليست العمل على خلق مؤسسات صناعية وإقامة مشاريع ضخمة لتشغيل الشباب والنساء وعموم العاطلين عن العمل. كلا إن واقع الجمعيات لا يسمح بذلك كما أن رسالتها وطبيعتها لا تتطلب ولا تحتمل منها أن تقوم بذلك الدور الذي هو في الحقيقة منوط بمؤسسات أخرى في المجتمع خاصة مؤسسات الدولة وشركات القطاع الخاص فهي المعنية والملزمة بسد هذه الثغرة.

إنها كذلك ليست عملا تلفيقيا يكتفي بالقيام بمجرد روتوشات هنا وهناك وإن كان التخصص سمة الرشد في المؤسسة الجمعوية.

إن مقصودنا بالتنمية هو ذلك الفعل الذي يهتم بالإنسان بما هم الناس الثروة الحقيقية للأمم؛ وليس معنى هذا مجرد تنمية للموارد البشرية باعتبارهم وسائل محورية في تنمية الإنتاج. كلا ففي ذلك تقزيم لإنسانية الانسان واستلاب لماهيته. إنها فعل تكريمي للإنسان كما أراد تعالى حين قال: ﴿ ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا﴾ . إن التنمية بهذا المفهوم هي ذلك الفعل الذي يهتم بتنمية الحريات الموضوعية المُمَكِّنة للإنسان في الحياة من حرية سياسية واقتصادية وحق متاح فعلا في المشاركة في تقرير مصيره ومصير أمته إلى جانب اهتمامه بالقدرات الأساسية للوجود والحياة الإنسانية من قدرة على الولوج السلس إلى الخدمات الصحية والتعليمية والخلاص من الفقر وكل مظاهر الحرمان.

أي دور منتظر من الجمعيات في التنمية وفق هذا التصور؟

إن هذا التحديد لمفهوم التنمية ومضمونها يستدعي بالتبعية التساؤل عن دور الفاعل الجمعوي فيها وما يمكن أن يقدمه في هذا الإطار. وذلك ما يمكن إجماله في نقاط ثلاث هي:

1. استنهاض الأمة للقيام بما يلزم لتحقيق فعل التنمية، كما سبق تفصيله بحكم المسؤولية الأخلاقية والمعرفية للقائمين على المؤسسات الجمعوية، والتي تتحدد أساسا في معرفتهم بالمهام المنوطة بهم من جهة وما يتعين على عموم أفراد الأمة القيام به من أجل جعل التنمية واقعا معيشيا في حياة الأمة من جهة ثانية.

2. توحيد الجهود وتوجيهها بحكم كون الجمعيات، أو على الأقل ينبغي أن تكون كذلك، مؤسسات ذات رؤية واضحة لما يجب أن يتم وكيف يجب أن يتم؛ فالجمعيات، خاصة المحلية منها، بما هي تعبير عن القربية المتناهية المشار إليها في قوله تعالى واصفا اهتمام النبي عليه أفضل الصلاة والسلام بأمر أمته وهمومها: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمزمنين رؤوف رحيم" ، معنية بقيادة جهود المحيط الذي تشتغل فيه وتوجيهها وتنسيقها وفق رؤية واضحة نابعة من تحليل صادق لما يكتنف هذا المحيط من ظروف وما يتطلبه النهوض بأمره من أعمال وواجبات.

3. تيسير تنفيذ المبادرات التنموية الهادفة من خلال العمل على ضمان عدم التعارض بينها وبين قيم وهوية المجتمع المعني بهذه المبادرة بما تملكه من معرفة بهذا المجتمع وهويته.

إن هذه الأدوار تتطلب من المؤسسات الجمعوية أن تتوفر على الخبرة اللازمة بمحيط اشتغالها والمعايشة الدقيقة لتفاصيل الحياة اليومية ووعيا بالذات وهويتها كما تستلزم تنظيما محكما للجهود واستثمارا ناجحا للطاقات المحلية وغير المحلية وفق مقاربات واستراتيجيات واضحة. فما هي أهم هذه الاستراتجيات وأيها يجب تبنيه؟

بأية مقاربة نمارس العمل التنموية جمعويا؟

يمكن إجمال أهم المقاربات التي تتبعها المؤسسات الجمعوية في ممارستها للفعل التنموي في ثلاث هي:

1. المقاربة الإحسانية: وتتجلى هذه المقاربة في العمل على تقديم وتوزيع مساعدات وخدمات جاهزة لمجموعة من الفئات في وضعيات صعبة. هذه المقاربة رغم أنها تجد أصولها في القيم الإسلامية الداعية إلى التكافل والتصدق على الفقراء إلا أنها تظل عاجزة عن الوفاء بكافة متطلبات الحياة الكريمة، علاوة على أنها تستهدف فقط الحاجيات الأساسية وبشكل موسمي أيضا وهو ما يجعلها قاصرة على تحقيق المطلوب بل إنها أحيانا، وهذا ما أثبتته التجربة، تربي في النفوس القعود عن طلب الكسب واقتحام العقبات لتحقيق المطالب كما أنها تستلزم وجود أرصدة مالية هائلة لدى المؤسسات التي تتبناه وهو ما يخالف حال أغلب الجمعيات إن لم نقل كلها. إنها في الحقيقة مقاربة لاستجداء أصوات المستهدفين وتعاطفهم عندما يحين أوان ذلك؛

2. مقاربة الترافع وهي مقاربة قوامها الضغط بمختلف الوسائل والاستراتيجيات على المؤسسات العمومية والخصوصية ومختلف المعنيين بالتنمية من أجل القيام بأدوارهم تجاه الانسان المواطن بما يكفل له الكرامة الآدمية ويفتح له الآفاق لعمارة الأرض وتحقيق مهمة الاستخلاف المنوطة به. هذه المقاربة مهمة ولاشك أنها قد تحقق الكثير غير أنها وحدها غير كافية وهو ما يستلزم وجود مقاربات أخرى تغطي جوانب النقص فيها.

3. المقاربة التشاركية وقوامها العمل على تنسيق وتوجيه جهود مختلف المتدخلين في الأفعال التنموية بما يضمن مشاركة الجميع بشكل فعال في الجهد التنموي. وتقوم هذه المقاربة على مبدأ تقاسم السلطة وتقاسم المعرفة وتقاسم المسؤولية بين مختلف هؤلاء المتدخلين بما يضمن المشاركة الفعالة والمتفاعلة مع المشاكل الحقيقية التي يعيشها الإنسان والتي تعوق انطلاقه في عمارة الأرض وتحقيق الخلافة المنوطة به فيها.

إن العمل التنموي وفق التصور الذي قدمناه لا يمكن تحقيقه باعتماد مقاربة واحدة من هذه المقاربات بل بحسن دمجهما؛ فإذا كانت للمقاربة الإحسانية عيوب من قبيل تربية المجتمع على القعود فإنها رغم ذلك تظل ضرورية لمعالجة بعض القضايا المستعجلة التي لا تحتمل

الانتظار إلى حين تحقيق نتائج ملموسة من خلال المرافعة أو تنفيذ برامج تشاركية غالبا ما يتطلب تحقيقها وقتا قد يطول أو يقصر.

لكن ما هي المتطلبات الضرورية لتبيني هكذا مقاربات على مستوى المحيط كما على مستوى المؤسسات الجمعوية؟

متطلبات الفعل التنموي

يتطلب تحقيق التنمية، وفق المقاربات التي أوردناها للتو، توفر مجموعة من المتطلبات على صعيد المؤسسات الجمعوية وأخرى على صعيد المحيط الذي تشتغل فيه وهي:

1. على صعيد الجمعيات:

- وجود إدارة قوية ذات رؤية واضحة.

- أطر محترفة ذات تكوين وخبرة في مجال العمل الاجتماعي وإلمام بمختلف المقاربات والتقنيات المرتبطة بها.

- استقرار مالي يضمن دوام العمل وتحقيق الأهداف المسطرة.

- تخصص في العمل ضمن مشروع مجتمعي واضح المعالم والأفاق.

2. على صعيد المحيط:

- وعي حقيقي بأهمية وجدوى المشاركة وإرادة حقيقة لتبني المقاربة التشاركية.

- بيئة قانونية مساعدة وغير معرقلة.
- دعم مؤسساتي للفعل الجمعوي باعتباره تعبيرا عن نبض الأمة وفعلا من أهم أفعالها.

تعليقات