الذاكرة

ربما يكون من الصعب فهم وظائف الذاكرة البشرية التي هي من أدهش وظائف الدماغ البشري ، وأحد أسباب ذلك ، وهو أننا بدون شك نعتبر الذاكرة شيئا مسلما به لا يحتاج إلى فهم وبالتالي نميل إلى تجاوز النظر إلى قوتها وطاقتها ، والسبب الآخر هو أن الذاكرة لا تعمل وفقا لنظام معين ، فنجد في بعض الأحيان أن استذكارنا للحوادث والأماكن يكون في بعض الأحيان حيا وحادا وفي أحيان أخرى مشوشا .

لكن الذاكرة تبقى إحدى أقوى الطاقات في حيانتا منذ الحظة ولادتنا ، فالطفل يتعلم كلمات جديدة بمعدل عشر كلمات في اليوم ، ومع وصوله إلى سن الرشد قد يجمع في ذاكرته أكثر من مئة ألف كلمة ، تاريخيا كان أفراد القبائل الأسكندنافية يعرفون بل يحفظون في ذاكرتهم أكثر من 300 ملحمة شعرية مما ساهم بشكل حيوي في نقل تراث هذه الشعوب إلى أجيال أخرى عبر التاريخ .

ووفقا للنظريات السائدة تعمل ( آليات عمل ) الذاكر عبر ( واسطة ) كيميائية من الجزيئيات البروتينية أو مجموعات كبيرة من الخلايا العصبية المسماة بالعصبونات Neurons يتكون العصبون أو الخلية العصبية الواحدة من بدن الخلية Cell body وشعيرات متشعبة تسمى بالزوائد المتشجرة أو تفرعات الخلية العصبية dendrites وجذع طويل يسمى المحوار العصبي axon ، وللإتصال بخلية عصبية أخرى يٌطلِق بدن الخلية العصبية إشارة كهربائية هي عبارة عن ( جهد كامن ) عبر المحوار العصبي تؤدي بدورها إلى إطلاق جزيئيات كيميائية ناقلة للرسائل العصبية neurotransmitter molecules وتنتقل هذه الإشارات عبر فجوة تسمى نقطة الاتصال أو الاشتباك العصبى synapse وصولا إلى المتقبلات العصبية receptors الموجودة في الزوائد المتشجرة لكن تخزين الذاكرة للمعلومات التي تمر عبر الخلايا العصبية للدماغ يبقى أمرا عامضا ، ويظن العلماء اليوم أن المعلومات التي تحصل عليها حديثا تخزن في منطقة في الدماغ تسمى قرين آمون hippocampus وهي عبارة عن بنيان يقع عميقا ضمن الدماغ ويظن أنه متعلق إلى حد بعيد بالمشاعر البشرية بينما تلعب قشرة الدماغ cortex ، التي هي الطبقة الخارجية للدماغ ، دورها في تخزين الذكريات القديمة ، وهي ضرورية أيضا لعمل ما يسمى بالذاكرة الناشطة ، ولا يمكننا بدون هذه القشرة من إجراء أي محادثة أو مخاطبة لأنها تمكننا من الإمساك مؤقتا ( بالمواد الانتقالية ) الخاصة بالمحادثة في رأسنا وبالتالي فهم الجمل المعقدة وهذا الجانب من الذاكرة ينشط أيضا وفقا للحاجة لخفظ رقم هاتفي مثلا لفترة قصيرة قبل تدوينه .

ولقد نجح العلماء المختصون بعلم نفس الأعصاب في تحديد ثلاثة أجزاء ذهنية في الذاكرة الناشطة أولها العُروة الصوتية الكلامية phonological loop وهي الآلة التي تمكننا من حفظ سلسلة أرقام أو حروف أو كلمات ، وثانيها ( الدفتر البصري المكاني ) الذي هو نوع من العين الداخلية التي تسمح لنا بتأدية وظائف ذهنية مثل استقلاب الأشكال في رأسنا أو تذكر أمور مرئية بسيطة ، وثالثها ( الإدارة المركزية التنفيذية ) التي تسمح لنا بتأدية مهما كثيرة تشمل التفكير المنطقي والعقلاني من ناحية والحسابات الذهنية من ناحية أخرى .

والذاكرة في الواقع هي مثل المبنى المشيد بأحجار كثيرة يحتوي كل منها على نواة من المعلومات تنتج عن عمليات تعليم مختلفة .

فعلى سبيل المثال ، تتحكم الذاكرة اللغوية اللفظية semantic memory بمعرفتنا باللغة وبالعالم المحيط بنا ، أما الذاكرة الظرفية episodic memory فهي عبارة عن استذكار للظروف والحوادث التي تؤثر في حياتنا اليومية ، أما عملية الإشراط conditioning فهي الطريقة التي تبلغنا بواسطتها الذهن مع منبه محدد بما يُعرف بانعكاس بافلوف ولقد أظهرت الاختبارات أن هذا النوع من الذاكرة مرتبط بعمل المُخيخ الذي يقع في مؤخرة الدماغ .

وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن طريقة تخزين المعلومات في الدماغ تعتمد على طريقة تعلم أو اكتساب هذه المعلومات منذ البداية فالذاكرة القصيرة الأمد ، وهي أبسط وعاء لتخزين المعلومات في الدماغ ، تعمل للإمساك بالمعلومات التي نرغب أو لا نرغب في الاحتفاظ بها ، بينما الذكرة البعيدة الأمد فهي خزان غير محدود من حيث السعة والمدة الزمنية .

ولانتقال المعلومات من الذاكرة القصيرة الأمد إلى الذاكرة البعيدة الامد لا بد من أن تكون لهذه المعلومات أهمية محددة أو ارتباط معين بوظائف دماغية أخرى أو بمعلومات مخزنة سابقا ، مثلا إذا نظرنا بسرعة إلى سيارة ورقم لوحتها قد ننسى رقم اللوحة بسرعة ، لكن إذا شاهدنا السيارة ذاتها في مشهد مثير قد نتذكر هذا الرقم مدى الحياة .

تعليقات