مــا هـي الحـريــة؟

في اللغة العربية نجد أن تاريخ هذا المصطلح ليس واضحاً بما فيه الكفاية رغم أنه بمعناه المجرد كان شائعاً في استعمال العرب قبل الإسلام..
كانت كلمة الحر تعني: النبيل(2)، وقد كان استعمال حر بمعنى (شريف حسن) شائع الاستعمال في اللغة العربية في بواكيرها..
وفي الأدب العربي شاع استخدام الكلمة مصطلحاً وصفياً يتضمن قيماً سائدة مثل: (حر الكلام) تعني كلاماً بالغ الفصاحة(3) .. وقد تعني كلمة حر أحياناً كل ما تتضمنه كلمة (سيد)..
وتأكيداً لهذا البعد الأخلاقي لكلمة (حر) نجد أنها تستعمل أحياناً جنباً إلى جنب مع كلمة (كريم) أو ما شابهها فـ(الحر الكريم) هو السيد الحقيقي..
ويعود اصل هذا الاستخدام لكلمة (حر) إلى ذلك الميل الإنساني العام إلى نسبة كل الصفات القبيحة للرقيق وقدره السيئ في أن يحظى الإنسان الحر ـ قانوناً ـ بنسبة كل الصفات الطيبة إليه..
وهنا حين تظهر كلمة (حر) فإن المقابل الطبيعي لها هو كلمة (عبد) وحتى في الموت فالحر لا يرضى إلا بموت يليق بمكانته كما في قول مسلم بن عقيل الذي رفض الاستسلام دون قتال وأنشد:
أقسمت لا أقتل إلا حراً وإن رأيت الموت شيئاً نكرا(4)
فالخيار هنا ليس بين الحرية والموت ولكنه الخيار بين موت كريم هو موت الأحرار وآخر وضيع هو موت العبيد..
أما المقابل العبري للكلمة فهو قريب من المقابل العربي لها وكان يعني (النبل) و(السؤدد) في أوساط الطبقات العليا في مجتمع ما(5)..وأما التعريفات الصوفية للحرية فنستطيع أن نلاحظها في كتاب التعريفات للجرجاني حيث يعرفها كما يلي: (الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار وهي على مراتب: حرية العامة عن رق الشهوات، وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق، وحرية خاصة الخاصة عن رق الرسوم والآثار لانمحاقهم في تجلي نور الأنوار)(6).
والحرية ـ كما في موسوعة السياسة ـ مفهوم سياسي واقتصادي وفلسفي وأخلاقي عام ومجرد ذو مدلولات متعددة ومتشعبة ويمكن تمييز ثلاثة مستويات مختلفة في تعريف الحرية..
المستوى الأول: هو المستوى اللغوي والعادي والمتعارف عليه والذي يعني انعدام القيود القمعية أو الزجرية، ويرتبط هذا المستوى بشبكة معقدة من المفاهيم مثل المسؤولية القدرة على اتخاذ القرار، القدرة على تنفيذ مشروع أو هدف الإرادة..
المستوى الثاني: يقع في نطاق التفكير الأخلاقي السياسي وهي في هذا المستوى ذلك الشيء الذي يجب أن يكون ولم يتحقق بعد.. ويرتبط هذا المستوى بشبكة أخرى من المفاهيم مثل القانون، الشريعة، والقاعدة والمؤسسة والسلطة السياسية.
المستوى الثالث: هو مستوى الفلسفة الخالصة حيث يطرح السؤال التالي : كيف ينبغي أن يكون تكوين الواقع في كليته حتى يصبح من الممكن أن يشتمل على شيء ما يشبه الحرية؟ إن هذا السؤال هو سؤال عن ماهية الحرية وجوهرها يربط وجودها بمجموعة من المفاهيم والتعابير مثل السببية، الحتمية، الاحتمال، الإمكان، تتعلق كلها بصيغ الوجود وطرقه.. (7)
هذا الوجود البشري لا يتقوم إلا بامتلاك المعرفة التي هي وحدها الموصلة إلى قيم الخير وابتعاداً عن الشر وبالتالي الوصول إلى الحرية المنشودة.
(ليس من أحد شريراً بمحض إرادته ذلك أن كل شيء لدى الإنسان يأتي من نقص في المعرفة، المعرفة تحرر وتوصل إلى الحقيقة والحقيقة سيدة مطلقة تأبى لمن وصل إليها أن يعود إلى عبودية الأهواء والنزوات)(8) كما يقول سقراط..
الحرية هنا إذن عملية انعتاق من الجسد وتحرر من كل ما يشدنا نحو ارتكاب الشر وهي في النهاية التزام دائم بالخير..
عند ديكارت فإن الحرية الحقيقية ليست قدرة التردد بين اختيار شيء ونقيضه بل هي الإرادة التي استعانت بالمعرفة واختارت الحق أي أنها الإرادة التي تتحكم فيها البواعث والحوافز الخيرة، ومن هنا فإن المعرفة الطبيعية والنعمة الإلهية تزيدان الحرية ولا تنقصانها تقويانها ولا تضعفانها.. كلما ازدادت معرفتي للحق والخير كلما ازدادت حريتي.. الحرية إذن تمر عبر علمية التحرر من الخطأ وهي في نهاية المطاف مع الخير المطلق(9).
أما التعريف الفلسفي والذي يقع ضمن التقليد الأخلاقي.. ووفقاً لهذا الفيلسوف فإن حرية النفس تعني أن النفس إما ألا تكون تائقة بغريزتها إلى الأمور البدنية وإما أن تكون تائقة، فالتي تكون تائقة هي الحرية وإنما سمينا هذه الحالة بالحرية لأن الحرية في اللغة تقال على ما يقابل العبودية ومعلوم أن الشهوات شيء مستعبد.. وأما التائق إلى الأمور البدنية فإنه سواء تركها أو لم يتركها فإنه لا يكون حراً بل التائق التارك أسوأ حالاً من التائق الواجد في الحال، من حيث أن التوقان مع الحرمان قد يشغل النفس عن اكتساب الفضائل، وإن كان أحسن حالاً منه في المآل لأن عدم وجدانه لها في الحال واشتغاله بغيرها ربما يزيل عنها ذلك التوقان في ثاني الحال.. فظهر مما قلنا: أن الحرية عفة غريزية للنفس لا التي تكون بالتعويد والتعليم وإن كانت تلك أيضاً فاضلة وهي معنى قول أرسطو: (الحرية ملكة نفسانية حارسة للنفس حراسة جوهرية لا صناعية..).وبالجملة فكلما كانت علاقة النفس بالبدن أضعف وعلاقتها العقلية أقوى كلما كانت أكثر حرية ومن كان بالعكس كان بالعكس والى هذا أشار أفلاطون بقوله: (الأنفس المرذولة في أفق الطبيعة وظلها والأنفس الفاضلة في أفق العقل وضوئه)(10).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها