مرحلة الحروب الصليبية

تمثل المرحلة الصليبية فترة مظلمة في تاريخ العلاقات بين أوربا والعالم الإسلامي ، مرحلة مليئة بالعنف والحروب والنهب والمذابح الوحشية وتدمير المدن ، وتصاعد الحقد والكراهية وعدم الاستقرار . من جانب آخر كانت مناسبة لاكتشاف كل طرف الطرف الآخر عن قرب ، وعبر التعامل المباشر . يعلق الباحث نورمان دانييل Norman Daniel على المزاعم المسيحية فيقول : «لقد اعتبر المسيحيون الحروب الصليبية حرباً مقدسة War Holy من أجل انتزاع الأرض التي تعود للمسيحيين . ولا زالوا يعتقدون بأنهم الأمة الوحيدة التي نهب منها ثلث أفضل ممتلكات الكنيسة بعد ظهور الإسلام» [1][1].
بدأت الخطوة الأولى من الحروب الصليبية ، عندما وجه الإمبراطور البيزنطي الكسيوس كومونيس Communes Alexius (حكم 1081 ـ 1118م) نداءات متكررة طالباً مساعدة بابوية لمواجهة احتلال الأتراك السلاجقة جزءاً من أراضي الإمبراطورية، ليس بعيداً عن العاصمة القسطنطينية. ورداً على استغاثته ، ألقى البابا وأربان الثاني II Urban (1088 ـ 1099م) خطاباً في عام 1095 ، جنوب فرنسا ، قريباً من الحدود الإسلامية لإسبانيا . وكان خطابه مليئاً بالإشاعات عن وحشية المسلمين وفظاعتهم ، ملمحاً إلى الأطماع الشخصية ومؤكداً على أتباعه «في دخول الطريق إلى الضريح المقدس ، وانتزاعه من العنصر الشرير ، ووضعه بأيديهم» [2][2]. ورفع شعاراً دينياً يبرر الحملات المرتقبة ويشجع الناس عليه ، فكان شعار (هذه مشيئة الله) هو القادر على تعبئة الجماهير . وسرعان ما انتشرت دعوة البابا مثل النار في الهشيم من فرنسا إلى بقية الأوربيين ، غني وفقير ، شاب وكهل . فقد تبنى التبشير بالحركة الصليبية بطرس الناسك الذي كان يتمتع بالفصاحة والقدرة على التأثير ، فطاف أقاليم فرنسا ليخرج منها بخمسة عشر ألف متطوع معهم نساؤهم وأطفالهم .
وبحلول عام 1097 كان هناك 000ر150 محارب صليبي قد وصلوا القسطنطينية ، معظمهم قدم من فرنسا والنورمان .
وهناك عدة أسباب داخلية وخارجية مهدت الأجواء لتنامي الحملات الصليبية وهي :
1 ـ يدعي الباحث أرنست باكر Barker Ernest أن السلاجقة قد احتلوا القدس عام 1071 ، وهم قوم قساة ، لا يعرفون التسامح مثل الحكام المسلمين السابقين ، أي الفاطميين . فكان المسيحيون يواجهون صعوبات كثيرة أثناء رحلتهم إلى حج القدس [3][3] . «فأدرك المسيحيون في الغرب ما يعترض طريقهم ، ويمنع حركتهم الطبيعية نحو منبع ديانتهم ، فكان من الطبيعي أنه لا بد لهم آخر الأمر أن يبذلوا جهدهم في تمهيد طريقهم».وهذا السبب الذي يعرضه باكر مبالغ فيه لأن طريق القدس بقي مفتوحاً أمام المسيحيين في كل العصور ، وحتى في المرحلة الصليبية وما بعدها مما يشير إلى التسامح الإسلامي الفريد من نوعه . ومتناسياً أنه عام 1021 م أصبح الإشراف على الأماكن المقدسة ، مثل كنيسة القيامة وبيت لحم والمؤسسات الملحقة بها كالمستشفى والمدرسة ، من قبل الإمبراطورية البيزنطية ، بعد أن كانت حتى ذلك الوقت برعاية الكنيسة اللاتينية الرومانية . ويعترف باكر أن «البيزنطيين لم يحرصوا على أن يجعلوا طريق الحجاج هيناً سهلاً . وكان لزاماً على البابا فكتور الثاني أن يجأر بالشكوى إلى الإمبراطورة تيودور ، بسبب ما لجأ إليه موظفوها من ابتزاز الحجاج وإهانتهم» [1][4].
2 ـ إن البحث عن وسائل جديدة مباشرة للاتصال بطرق التجارة الشرقية ، يعتبر من الأغراض التي انطوت عليها الحروب الصليبية ذاتها . وأدت إلى ما يصح تسميته اكتشاف آسيا في القرن الثالث عشر [2][5] .
فالمدن الإيطالية التي اشتهرت بتجارتها كانت تبحث عن طرق مباشرة لشراء المنتجات الشرقية من الهند والصين ، دون وساطة العرب المسلمين . فالطرق البحرية كانت غالية ومحفوفة بالمخاطر .
3 ـ كان الأمراء الأوربيين يبحثون عن ثروات وأراض جديدة . فكانت الأطماع متوجهة نحو الشرق ، حيث الكنوز والثراء والتجارة والذهب والحرير والجواري . فهذه الأحلام لعبت دوراً في تأجيج الحماسة .
4 ـ كان الناس العاديون في أوربا يعيشون في أوضاع مزرية من الفقر وتكرر المجاعات والأوبئة التي فتكت بعشرات الآلاف . ففي عام 1094 انتشر الطاعون من الفلاندرز Flanders إلى وبهيميا Bohemia. وفي عام 1095 حدثت مجاعة في منطقة اللوردين Lauren بفرنسا . وتعرضت الكثير من الأراضي الزراعية للخراب نتيجة غزوات الفايكنغ والبرابرة ، فقلّت الأقوات في الوقت الذي ازدادت أعداد السكان . ثم أن الحروب والمنازعات بين الأمراء والإقطاعيين أسهمت في الإخلال بالأمن وتعريض أرواح الناس للهلاك وممتلكاتهم للنهب ، مما جعل الغالبية العظمى من أهالي غرب أوربا يعيشون في حالة يرثى لها من الفقر والحرمان والخوف ، دون أن يجدوا أي ضمان لحماية أرواحهم وممتلكاتهم وأرزاقهم [3][6] .
فاعتقد هؤلاء البسطاء أن مشاكلهم ستحل بهجرتهم إلى الشرق . ففي عام 1096 نجح الصليبيون بتجنيد خمسة جيوش من هؤلاء المعدمين .
5 ـ كان هناك عدد كبير من المغامرين ، المفلسين مثل الزعيم الصليبي والتر المفلس ، وقطاع الطرق ، والعبيد الهاربين والرهبان المستاءين. لقد كانت هناك دوافع كثيرة للبحث عن مناجم الذهب الموعودة في الشرق .وعلى الرغم من أن الجنود الأوربيين كان يحملون علامات الصليب ، دليلاً على الدافع الديني للحملات الصليبية ، لكن الدين كان آخر سبب وراءها . فخلال عبورهم هنغاريا ثم أراضي الدولة البيزنطية ، نسيت الجموع أنهم يخترقون بلاداً مسيحية ، فأخذوا ينهبون ويسلبون ويعتدون على الأهالي الآمنين [4][7] . وأثناء انتظارهم العبور إلى الجانب الآسيوي من الإمبراطورية البيزنطية ، كان تجمع الصليبيين أمام أسوار القسطنطينية يثير مخاوف الدولة ومتاعبها ، إذ أخذ الصليبيون يواصلون نهب القرى والضياع المجاورة ، ويعتدون على الأهالي ويسلبونهم أقواتهم وأمتعتهم ، بل أن الكنائس لم تسلم من اعتداءات أولئك الرعاع فأسرع الإمبراطور الكسيوس إلى نقلهم إلى الشاطئ الآخر . واستمر ذلك السلوك الوحشي بمهاجمة القرى المسيحية والمزارع والمواشي والكنائس [1][9] .
وعندما احتل الصليبيون مدينة القدس ، لم يرحموا أحداً «وحتى إخوانهم في الدين لم يوفروهم ، وكان من أول ما اتخذوه من تدابير أنهم طردوا من كنيسة القيامة جميع الكهنة من الكنيسة الشرقية ، روماً وجيورجيين وأرمنيين وأقباطاً وسرياناً ، والذي كانوا يقيمون القداسات معاً تبعاً لمذهب كان جميع الفاتحين قد احترموه حتى ذلك الحين .وإذ ذهل وجهاء الطوائف المسيحية أمام هذا القدر من التعصب ، فقد عزموا على المقاومة ، ورفضوا أن يكشفوا للمحتل عن المكان الذي خبأوا فيه الصليب الحقيقي الذي مات عليه المسيح .وإذ قبض الأوربيون على الكهنة المكلفين بحراسة الصليب ، وأخضعوهم للتعذيب فقد تمكنوا من انتزاع سرهم والحصول منهم بالقوة على أغلى ما يملكون من ذخائر» [2][10].
وقد ذبح الصليبيون آلاف المدنيين الأبرياء من سكان القدس دون سبب ، فقط لمجرد الانتقام من المسلمين. ففي يوم 15 تموز 1099 دخل الصليبيون المدينون المقدسون وارتكبوا مذابح فظيعة . يصف أحد المؤرخين اللاتينيين المشاهد المريعة فيقول «كانت أكداس الرؤوس والأيدي ترى من بعيد في الساحات والشوارع» [3][11].
ويصف مؤرخ آخر ذلك اليوم العصيب فيقول «ولا يزال النازحون يرتجفون كلما تحدثوا بذلك وتجمد أبصارهم وكأنهم لا يزالون يرون بأعينهم أولئك المقاتلين الشُّقر المدرعين المعتمرين الخُوَذ وقد انتشروا في الشوارع شاهرين سيوفهم ، ذابحين الرجال والنساء والأطفال ، ناهبين البيوت ، مخربين المساجد . وعندما توقفت المذبحة بعد يومين لم يكن قد بقي مسلم واحد داخل الأسوار . فقد انتهز بعضهم فرصة الهرج فانسلوا إلى الخارج من الأبواب التي كان المحاصِرون قد خلعوها . وأما الآخرون فكانوا مطروحين بالآلاف في مناقع الدم عند أعتاب مساكنهم أو بجوار المساجد ، وكان بينهم عدد كبير من الأئمة والعلماء والزهاد المتصوفين الذين كانوا قد غادروا بلادهم وجاؤوا يقضون بقية أيامهم في عزلة في هذه الأماكن المقدسة . ولقد أُكرِه من بقوا على قيد الحياة على القيام بأشق الأعمال : أن يحملوا جثث ذويهم فوق ظهورهم ويكدسوها بلا قبور في الأراضي البور ثم يحرقوها قبل أن يُذبحوا بدورهم أو يباعوا في أسواق النخاسة» [4][12].أما المؤرخ والدبلوماسي المسلم أسامة بن منقذ (488 ـ 584 هـ /1091 ـ 1188م) الذي عاصر الحروب الصليبية ، فقد كتب في مذكراته عن تلك الأحداث ووصف تفاصيلها . فكان قد شاهد الأحداث عن قرب لأنه كان كاتباً (سكرتيراً) لدى صلاح الدين الأيوبي [5][13] . وأورد إبن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) بعض جرائم الصليبيين ، إذ ينقل الحادثة التالية التي تعبر عن الوحشية والقسوة . فقد هاجم الصليبيون
مدينة المعرة في سوريا ، «وعند الفجر وصل الفرنج ، إنها المذبحة ، فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام فقتلوا ما يزيد على مائة ألف وسَبَوا السبي الكثير» [1][14]. ويصف أحد المؤرخين الصليبيين ، راول دي كين ، المرافق للجيش الذي دخل المعرة فيقول «كان جماعتنا في المعرة يغلون وثنيين بالغين في القدور ، ويشكون الأولاد في سفافيد ويلتهمونهم مشويين» [2][15].
ويرى أرنست باركر أن الحروب الصليبية ، أصلاً ، مشروع فرنسي . فقد زرعت بذورها في أرض فرنسية ، بلدة كليرمون Clermonte، وكان أول مبشر بها هـو بابا فرنسي الأصل ، أوربان الثاني . وأنها والمملكة التي أقامها الصليبيون في الشرق كانت في جـوهـرها مملكـة فرنسية ، في لغتها وعاداتها ، وفي فضائلها ورذائلها [3][16] . ولعل ما يؤيد ذلك أن العرب كانوا يسمونهم بالفرنجـة ، وهـو لقب يخص الفرنسيين ، ولكـن استخدامـه يعم كل الغربيين . من جانب آخـر لا تتحدث المراجع العربية عن (حروب صليبية) بل عن حروب وغزوات ضد الفرنجـة . إن مصطلـح (صليبي) هـو ما أطلقه الأوربيـون على أنفسهم في تلـك الفتـرة ، لإسباغ البعد الديني على حروبهم ، ويمثل الصليب المسيحية ، إذ صار شعاراً لها .
رغم المقاومة التي أبداها المسلمون في الدفاع عن أنفسهم ، إلا أن الحركة الحقيقية بدأت بعد قرن ونصف من وصول الصليبيين . فقد تمكن زنكي ، وهو تركي يحكم الموصل ، عام 1144 م أن يستعيد مدينة الرها Edessa. وأكمل إبنه نور الدين حركة التحرير ، إنطلاقاً من عاصمته دمشق . إذ بدأ بعمليات عسكرية ومناوشات ضد القوات الصليبية . وبلغت المقاومة الإسلامية ذروتها حين وصل صلاح الدين إلى عرش مصر بعد الفاطميين . إذ استطاع صلاح الدين أن يوحد مصر وسوريا تحت هيمنته ، فوضع الصليبيين بين حجري الرحى ، سوريا شمالاً وغرباً ، ومصر جنوباً وغرباً . وحقق صلاح الدين انتصارا كبيراً في معركة حطين في 4 تموز 1187 م ، حين هزم الملك الصليبي غي دو لوزينيان Guy de Lusignan، ملك القدس ، وتمزق جيشه البالغ 000ر20 محارب ، ووقع الملك أسيراً . ودخل صلاح الدين القدس دون مقاومة ، فأكرم الأسرى وأطلق سراحهم ، وعامل المسيحيين بالإحسان والتسامح.بعد فشل الحروب الصليبية ، بقي الأوربيون يبحثون عن أرض جديدة قادرة على استيعاب طموحاتهم وأطماعهم . فبدأت حركة استكشافات جغرافية واسعة . لقد كانوا يبحثون عن خيار آخر غير أوربا التي ضاقت بهم ، وضاقت إمكاناتها فأصبحت الحروب هي لغة التعامل في التنازع على الثروات والموارد الطبيعية والأراضي . أصبح البحث عن أرض جديدة بمثابة الحل الأمثل للمشاكل التي تعانيها القارة الأوربية ، الصراعات السياسية ، الأزمات الاقتصادية ، الخلافات المذهبية والاضطهاد الديني . في عام 1492 م تم اكتشاف أميركا ، واكتشفت أستراليا عام 1606 م فكانتا الحل الذي انتظره الأوربيون قروناً . فأخذت موجات المهاجرين تتدفق على الأرض الجديدة ، لكنهم لم يجدوا حضارة مزدهرة كما في الشرق ، بل قبائل بدائية وشعوباً متأخرة ، سرعان ما أبادوها ، وليقيموا فيها إلى الأبد .

تعليقات