العولمة


أولاً: ماذا يقصد بالعولمة
لقد تزامنت نهاية القرن العشرين مع بزوغ ظاهرة العولمة التي تتحدد مجالاتها في الاقتصاد والمال والتجارة وتقنية التواصل، ويسرى مفعولها على حياة الإنسان بجميع أبعادها المجتمعية والثقافية، كما تخلق معادلة جديدة في علاقاتها بالزمان والمكان، ويراد من كل هذا اختزال العالم في "قرية صغيرة".ويعتقد البعض أن هذه الظاهرة ليست حديثة، ذلك أن ازدياد العلاقات المتبادلة بين الأمم، سواء المتمثلة في تبادل السلع والخدمات، أو في انتقال رؤوس الأموال، أو في انتشار المعلومات والأفكار، أو في تأثر أمة بقيم وعادات غيرها من الأمم.. كل هذه الأمور عرفها العالم منذ عدة قرون.فالعولمة هي إذن نظام أو نسق ذو أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد، كما أنها نظام عالمي يشمل المال والتسويق والمبادلات والاتصال ويشمل أيضاً مجال السياسة والفكر والإيديولوجيات.فالعولمة من "العالم" وتعني نقل اختصاصات الدولة وسلطتها في المجالين الاقتصادي والإعلامي، ومن ثم في السياسة والثقافة أيضاً إلى مؤسسات عالمية. وللإمبراطورية العالمية الجديدة ركائز ثلاث :- الشركات والمؤسسات المتعددة الجنسية التي تتولى التسيير والتوجيه والقيادة عبر العالم، وهى بذلك تحل محل الدولة في كل مكان.- أبناء البشر في كل مكان من الكرة الأرضية،القادرون على الاستهلاك،والذين يوحّد بينهم ويجمعهم ما تلقيه إليهم العولمة من سلع وبضائع ومنتجات إلكترونية تخلق فيهم ميولاً وأذواقاً ورغبات مشتركة، إنها "الأممية" في عصر العولمة، أما غير هؤلاء من الذين لا تتوفر لهم القدرة المالية على الاستهلاك فهم لا يدخلون في عداد "أمة العولمة". ولذلك فهم منبوذون مهمشون سيتم التخلص منهم عن طريق "اصطفاء الأنواع" الذي يتوج المنافسة التي أصبحت تعنى أكثر من أي وقت مضى: "أكثر ما يمكن من الربح بأقل ما يمكن من المأجورين".- "القضاء السيبرنيتى" وهو بحق "وطن" جديد لا ينتمي إلى الجغرافيا ولا إلى التاريخ، هو "وطن" بدون حدود وبدون ذاكرة وبدون تراث، إنه "الوطن" الذي تبنيه شبكات الاتصال المعلوماتية الإلكترونية (الفضاء السيبرنيتى Cyberspaceنسبة إلى السيبرنتيك وهى العلم الذي يدرس طرق سيلان المعلومات ومراقبتها عند الكائنات الحية داخل الأجهزة الآلية والمنظومات الاجتماعية. والاقتصادية
إن العولمة أي (Mondialisation) بالفرنسية تعنى جعل الشيء على مستوى عالمي. أي نقله من المحدود المراقب إلى اللامحدود الذى ينأى عن كل مراقبة، والمحدود هنا هو أساساً الدولة القومية التي تتميز بحدود جغرافية.وبمراقبة صارمة على مستوى الجمارك تنقل البضائع والسلع، إضافة إلى حماية ما بداخلها من أي خطر أو تدخل خارجي، سواء تعلق الأمر بالاقتصاد أو بالسياسة أو بالثقافة، أما اللامحدود فالمقصود به (العالم) أي الكرة الأرضية، فالعولمة إذن تتضمن معنى إلغاء حدود الدولة القومية في المجال الاقتصادي (المالي والتجاري)،وترك الأمور تتحرك في هذا المجال عبر العالم وداخل فضاء يشمل الكرة الأرضية جميعها.أما المصطلح الإنجليزي (Globalization) فقد ظهر في أمريكا ليفيد تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل الكل، ومعنى هذا أن الأمر يتعلق بالدعوة إلى توسيع النموذج الأمريكي وإفساح المجال له ليشمل العالم كله، وهكذا إلى جانب كونها نظاماً اقتصادياً، تعد العولمة أيضاً إيديولوجيا تعكس هذا النظام وتخدمه وتكرسه.ويطلق البعض على العولمة "تسمية الكوكبة" ويعرفها بأنها: التداخل الواضح في أمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والسلوك، دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة، أو الانتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة، ودون حاجة إلى إجراءات حكومية.ويرى باحثون آخرون أن هناك أربع عمليات أساسية للعولمة وهى المنافسـة بين القوى العظمى، والابتكار التقني، وانتشار عولمة الإنتاج، والتبادل والتحديث، يبدو إذن أن مسألة تحديد مفهوم العولمة تتأثر أساساً باتجاهات الباحثين وانحيازاتهم الإيديولوجية.

ثانياً: العولمة والاقتصاد:
لقد ظهر مفهوم العولمة أولاً في مجال الاقتصاد للتعبير عن ظاهرة اتساع فضاء الإنتاج والتجارة ليشمل السوق العالمية بأجمعها، أية سوق تعمل على توفير نفس المنتجات والمصنوعات في كل مكان وبأسعار متقاربة، وبالتالي توحيد الاستهلاك وإيجاد عادات استهلاكية على نطاق عالمي.
وبعدما كان الاقتصاد سابقاً محكوماً بمنطق الدولة القومية، أصبح في ظل العولمة خاضعاً للمقاولات والمجموعات المالية والصناعية الحرة – مع مساعدة دولها – وذلك عبر شركات ومؤسسات متعددة الجنسية، لقد كان عدد هذه الشركات في السبعينيات محدداً في حوالي 100 شركة، لكن حالياً تصاعد هذا العدد ليتجاوز 40.000 شركة. لقد اتسع حجم عولمة الاقتصاد مع بداية التسعينيات نتيجة الترابط الذى أحكم بين رؤوس الأموال العالمية من جهة، وبين أسواق المنتجات والخدمات العالمية من جهة ثانية، وبفضل تسارع الدول التي لم تلتحق بمنظمة التجارة (الجات) إلى الانخراط فيها والالتزام باتفاقية التجارة العالمية، وازداد حجم عولمة الاقتصاد اتساعاً بعد جولة "أورجواي" الثانية التي انبثقت عنها منظمة عالمية جديدة باسم المنظمة العالمية للتجارة عوضت منظمة (الجات).وبما أن عملية المنافسة والاندماج التي تحكم هذا النوع من النشاط الاقتصادي تعمل على التركيز والتقليص من عدد الفاعلين، فإن النتيجة الحتمية هي تركز شبكات الثروة العالمية في أيدي أقلية من الأثرياء، وهناك ما لا يزيد على 15 شبكة عالمية مندمجة هي التي تشكل الفاعل الحقيقي في مجال السيطرة على السوق العالمية، وأصحاب هذه الشبكة هم "السادة الفعليون" للعالم الجديد أي عالم العولمة، فأول مظاهر العولمة هو التركيز وبالتالي تهميش الباقي أو إقصاؤه بالمرة.
ويبدو هذا التركيز في كون خمس دول هي أمريكا واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، تقتسم فيما بينها 172 شركة من أصل 200 شركة من كبريات الشركات العالمية، وهذه الـ 200 شركة هي التي تسيطر على الاقتصاد العالمي (ما بين 1983، 1992م ارتفعت استثماراتها في جميع أنحاء العالم أربع مرات في مجال المبادلات العالمية). وحسب تقرير الأمم المتحدة هناك 358 شخصاً من كبار الأثرياء في العالم يساوى حجم مصادر ثروتهم النقدية حجم المصادر التي يعيش منها ملياران و 30 مليون شخص من فقراء العالم، كما أن 20% من كبار أغنياء العالم يقتسمون فيما بينهم 80% من الإنتاج الداخلي الخام على الصعيد العالمي، والنتيجة الاجتماعية لهذا التركيز المفرط للثروة على الصعيد العالمي هي تعميق الهوة بين الدول، وبين شرائح المجتمع الواحد، فالعولمة أنتجت الفقر بشكل عام وذلك بسبب تعميق التفاوت، ونتج عن العولمة وربيبتها انتشار البطالة وتسريح العمال والموظفين (في العقد الأخير من القرن الـ 20 قامت 500 شركة كبرى في العالم بتسريح 400 ألف عامل في المتوسط كل سنة، وذلك رغم ازدياد أرباحها)، فإذا كان النمو الاقتصادي في الماضي يخلق فرص العمل، فإن النمو الاقتصادي في إطار العولمة يؤدى إلى تخفيض عدد فرص العمل، فبعض القطاعات في مجالات الإلكترونيات والإعلاميات والاتصال، لا تحتاج إلا إلى عدد قليل من العمال. وفى إطار العولمة نشطت حركة انسياب رؤوس الأموال وتشجيع الاستثمارات بشكل كبير، فقد تعددت منابع تصدير الأموال على عكس ما كان يلاحظ قبل السبعينيات عندما كانت أمريكا تعتبر المصدر الأساسي وأحياناً الوحيد للأموال. لقد حدث تجميع لمصادر الأموال في أمريكا واليابان والبلدان الأساسية للاتحاد الأوربي، ومن جانب آخر تميز عهد العولمة الجديدة بتحرير الأنشطة الاقتصادية في العالم، فعندما ساهم التقليص التدريجي لحقوق الجمارك في توسيع المبادلات من خلال مختلف مفاوضات الجات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، جاءت جولة "الأورجواى"، والتي انتهت باتفاقية مراكش لتقر بإزالة الحواجز الجمركية في مجال التجارة الدولية،وتطبيق مقتضيات التحرير على تبادل الخدمات.
وقد ترتب على ذلك الدعوة إلى تجاوز التقنيات المنظمة قطرياً للعديد من القطاعات وخصوصاً المتعلقة بتدبير الحياة المصرفية وصفقات المؤسسات والنقل والمواصلات السلكية واللاسلكية.وقد انخرط التطور التقني ضمن تطور الاقتصاد العالمي ليعطى دفعة قوية لمسلسل العولمة، فالطفرة التكنولوجية المصاحبة للعولمة تمتاز بإحداث تواصل عضوي بين مختلف آليات التطور التقني والإلكتروني، وقد أدى التداخل بين ثلاثة عوامل التدفقات المالية المتشابكة، تحرير المبادلات والحد من التقنيات، وكونية الطلب، إلى تصعيد حدة المنافسة من خلال بروز تعددية الأقطاب الإنتاجية. وقد تجلت مظاهر العولمة في الثمانينيات من خلال توسيع الكتلة المالية، مما أدى إلى إزالة الحواجز بين الأسواق المالية ،وتفعيل التداخل بين شبكات التواصل، والارتقاء لدرجة المنافسة، وتغيير بني الأسواق. كل هذه التحولات فرضت على المشروعات القيام بمجهودات حتى تتمكن من التلاؤم مع مستلزماتها، الشيء الذي كان له أثر على أنماط التسيير ومنظومات التدبير، لقد التهمت المبادلات في العالم خمس الخيرات والخدمات، ومبلغ حجمها محدد في 7000 مليار دولار، أي ما يساوى الدخل القومي الأمريكي. وإذا كانت حركة الرأسمال والصادرات العالمية قد تضاعفت قيمتها خلال الـ 20 سنة الماضية، فإن قطار الاندماج الاقتصادي ترك معظم الدول الفقيرة على الرصيف، فبعض العملات لدول آسيا فقدت قيمتها بشكل كبير (في التايلاند، كوريا، إندونيسيا..إفلاس بمعنى الكلمة). ومن الناحية الاجتماعية ترتب على ذلك فقدان 13 مليون شخص لوظائفهم في هذه البلدان، وتم تقليص ميزانيات التربية الوطنية والصحة، كما اتسع مجال الإجرام والعنف والبغاء، وهذه الأزمة انتقلت عدواها كذلك إلى روسيا والبرازيل، كما تقلصت صادرات العديد من دول أفريقيا إلى الدول الآسيوية بسبب ظروف الأزمة كوجه سلبي للعولمة.
لقد أبانت العولمة عن تطور كبير عُرِفَ بالاتصال بين الثقافات، فالهاتف (المحمول) وشبكات الأقمار الصناعية، ودمج الإعلاميات و التواصلات، خصوصاً من خلال الإنترنت كلها أدوات جديدة لهذا الاندماج الكوكبي. فلم يحدث أن تطورت بسرعة أداة تواصلية مثلما حدث بالنسبة لشبكة الإنترنت، هكذا في الثمانينيات كان العالم يتوافر على عدد محدود من الحواسب، وفي عام 1998م أصبح هذا العدد 36 مليون جهاز، وهناك أكثر من 14 مليوناً من الأشخاص انخرطوا.

ثالثاً: العولمة والتواصل
في الإنترنت عام 1999م، وهذا العدد سيتجاوز 700 مليون بعد عامين أي عام 2004م.إن الإنترنت شبكة الشبكات للحاسبات أصبحت في عصرنا تلعب دوراً كبيراً في تحرير الشركات من ضغوط الزمان والمكان، بحيث إن مزاياها على مستوى السرعة والكلفة باتت متعددة، فمن أجل بعث وثيقة من 40 صفحة من مصر إلى ساحل العاج عن طريق البريد العادي كانت تأخذ 5 أيام وكلفة 75 جنيهاً، أما عن طريق المراسلة الإلكترونية فإن ذلك يتطلب دقيقتين وبثمن لا يذكر.هذه بعض جوانب الوجه الإيجابي للإنترنت، فما هو وجهه السلبي؟ هل الإنترنت وسيلة للتضامن؟ هل ستؤدى إلى عولمة عادلة أم إلى قطبية جديدة، ففي عام 1998م في الدول المصنعة التي يقطن بها أقل من 15% من سكان العالم نجد أن 85% منهم مرتبطين بالإنترنت، وأكثر من 50% من هؤلاء يتمركزون في أمريكا الشمالية. وتحتل أمريكا المرتبة الأولى عالمياً من حيث عدد الحواسب التي تتوافر عليها، وولوج الإنترنت نجم عنه التمييز بين متعلمين وأميين، رجال ونساء، أغنياء وفقراء. ففي الصين مثلاً نجد أن 60% من مستعملي الإنترنت يتوافرون على دبلوم جامعي، أما في البرازيل فإن 75% من المنخرطين هم من جنس الرجال، كذلك نجد أن حوالي 80% من مراكز الإنترنت يعتمد فيها على اللغة الإنجليزية، في حين أن أقل من شخص من عشرة في العالم يتقن لغة شكسبير، وحاسوب واحد يمثل أجرة مواطن بنغالي لمدة أكثر من ثماني سنوات، مقابل شهر واحد بالنسبة لمواطن أمريكي، وسبب هذه الفوارق يعود إلى ضعف بنيات التواصل في البلدان الفقيرة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرية الأنساق العامة: إمكانية توظيفها في الممارسة المهنية للخدمة الاجتماعية

ملخص الأدب مدرسة الإحياء و البعث (الاتباعية - الكلاسيكية الجديدة)

السيميائية :أصولها ومناهجها ومصطلحاتها